الأحد، 27 يوليو 2014

حدث في التاسع والعشرين من رمضان

في التاسع والعشرين من رمضان عام 649 توفي في مالقا بشرقي الأندلس، عن 78 عاماً، محدث الأندلس علي بن محمد بن علي، أبو الحسن الغافقي الشارّي.
أصله من شارّة وهي بليدة قرب مُرسية Murcia جنوبي شرقي أسبانيا، انتقل أبوه منها سنة 562 إلى سَبْتة على ساحل البحر الأبيض المتوسط في المغرب، فولد عليٌ ونشأ فيها، وتعلم القراءات السبع، وروى الكتب الخمسة والموطأ ، وتفقه في علم الكلام وأصول الفقه، واللغة والنحو.
كان أبو الحسن الشاري محدثاً راوية مكثراً، عدلاً ثقة، ناقداً، ضابطاً عارفاً بالأسانيد والرجال والطرق، ذاكراً للتواريخ وأيام الناس، وأحوالهم وطبقاتهم، قديماً وحديثاً، ورحل إلى فاس فأجيز وأجاز وسمع عليه علماؤها صحيح البخاري.
وكان شديد العناية بالعلم، والرغبة فيه، جاعلاً الخوض فيه - مفيداً ومستفيداً - وظيفة عمره، قال أحد تلاميذه: كان يجلس لنا بمالقة نهاره كله إلا القليل، وكنت أتلو عليه في الليل لاستغراق نهاره، وكان شديد التيقظ مع شيخوخته وهرمه، ما امتنع قط عمن قصده ولا اعتذر إلا من ضرورة بينة. ولذلك كثر الوافدون عليه، المتعلمون على يديه، لقراءات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، حتى صار محدث المغرب والأندلس.
كان رحمه الله جمّاعةً للكتب، منافساً فيها، مغالياً في أثمانها، وربما أعمل الرحلة في التماسها، حتى اقتنى منها بالابتياع والانتساخ من الأعلاق النفيسة وأمهات الدواوين ما لم يكن عند أحد من أبناء عصره، وكان إذا ورد المغرب كتاب من المشرق مع احد طلبة العلم سعى إلى نسخه وإدراجه في مدرسته، وبنى هذه المدرسة بسبتة بقرب باب القصير، أحد أبواب بحر سبتة، وعين لها من خيار أملاكه، وجيد رباعه، وقفاً صالحاً، وانتقى من كتبه جملة وافرة فحبسها - أي أوقفها - في مدرسته،  سالكاً في ذلك طريقة أهل المشرق، وقعد بها بعد إكمالها سنة 635 لرواية الحديث وإسماعه، وكَثُرَ الأخذُ بها عنه، واستمر على ذلك مدة، فعاق عن ذلك إخراجه عن سبتة وتغريبه، وبقي كثير منها وعليه خطه في المدرسة.
وكان يحيى بن عبد الواحد الحفصي مؤسس الدولة الحفصية في تونس قد توسع سلطانه واستولى على الجزائر وتلمسان وسجلماسة وطنجة ومكناسة، ومال أمير سبتة وكبراؤها إلى الخضوع لسلطانه، فقال لهم الشاري: يا قوم خيرُ إفريقية - وكان الحفصي يدعى بصاحب إفريقية - بعيدٌ عنا وشرها بعيد، والرأي مداراة ملك مراكش. وكان ملك مراكش أبو الحسن السعيد الملقب المقتدر بالله.
فما هان رأيه على أمير سبتة أبو الحسن ابن خلاص، فهيأ مركِباً وأنزل فيه أبا الحسن الشاري وغرّبه إلى الأندلس سنة 641، وبقي بسبتة أهلُه ومالُه، ونزل المرية فبقي إلى سنة 648، ثم غادرها إلى مالقة قبل شهور من وفاته رحمه الله تعالى،  وكان يروم من مالقة، الرجوع إلى بلده، ويحوم عليه، فلم يقض له ذلك ووافته منيته.
وكان رحمه الله ذا شرف وحشمة ومروءة ظاهرة، سري الهمة، نزيه النفس، كريم الطبع، سمحاً، مؤثراً، يحب العلم وطلابه، سمحاً لهم بأعلاق كتبه، حسن الظن بالمسلمين، منافراً لأهل البدع، ومما يؤثر من نزاهته أنه لم يباشر قط ديناراً ولا درهماً، إنما كان يباشر ذلك وكلاؤه اللائذون به، وأعانه الله على مآثره الجليلة وأعماله النبيلة بالثروة المتمكنة، واليسار الواسع.
وقال المؤرخ ابن رشيد الفِهري السَبْتي، محمد بن عمر المتوفى بفاس سنة 721، في كتابه إفادة النصيح بالتعريف بإسناد الجامع الصحيح: أحيا الشارّي بسَبتة العلم حياً وميتاً، وحصّل الكتب بأغلى الأثمان، وكان له عظمة في النفوس رحمه الله.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer