الجمعة، 31 أكتوبر 2014

حدث في السادس من المحرم

 
في السادس من المحرم من عام 1389 الموافق 25 آذار/مارس 1969 استقال الرئيس الباكستاني محمد أيوب خان بعد فترة 11 سنة في حكم هذه الدولة الإسلامية الفتية، وجاءت استقالة الرئيس الثاني للباكستان إثر انتفاضة شعبية أطاحت بحكمه كان وراءها الأحزاب السياسية المعارضة وعلى رأسها ذو الفقار علي بوتو.
ولد أيوب خان سنة 1325=1907 في مقاطعة الحدود الباكستانية لأسرة بَشتونية، وكان والده ضابطاً في جيش الهند البريطاني، ودرس أيوب خان في جامعة عليكرة ثم قطع دراسته قبل إكمالها عندما قُبل في الكلية الملكية العسكرية في ساندهرست بإنجلترا، وخدم بعد تخرجه في جيش الهند البريطاني، وحارب في بورما في الحرب العالمية الثانية، وانضم إلى الجيش الباكستاني الوليد بعد استقلال الباكستان، وكان قائد جيش الباكستان الشرقية، ثم جرت ترقيته وتعيينه نائباً لرئيس الأركان السير دوجلاس جريسي، البريطاني الجنسية، وفي سنة 1951 انتهت خدمة رئيس الأركان البريطاني فقام رئيس الوزراء لياقة علي خان، المولود سنة 1313=1895 والمتوفى غيلة سنة 1371 =1951 بترقيته وتعيينه رئيساً لأركان الجيش الباكستاني، وتجاوز في هذا 3 ضباط أقدم من أيوب خان، وذلك بتأثير من وزير دفاعه اسكندر ميرزا، والذي كانت حجته في هذا التجاوز أن أيوب خان هو أقل الجنرالات طموحاً وأكثرهم إخلاصاً للحكومة!
وفي سنة 1954 أصبح أيوب خان وزيراً للدفاع في وزارة محمد علي بوكره، ثالث رئيس وزراء في الباكستان والمولود في البنغال سنة 1327=1909 والمتوفى سنة 1382=1963، وفي سنة 1374=1955 أقال الوزارة إسكندر ميرزا الذي أصبح الحاكم العام لباكستان، وهو منصب يعادل منصب الرئيس الذي سيستحدث فيما بعد، وعين رئيساً للوزراء شودري محمد علي، المولود سنة 1323=1905 والمتوفى سنة 1401=1980، وأبقى شودري أيوب خان في منصب وزير الدفاع.
ولم تدم وزارة شودري إلا 13 شهراً، فقد توالت الانشقاقات في حزبه؛ الرابطة الإسلامية، وكون المنشقون حزباً جديداً أسموه الحزب الجمهوري، وادعوا أن لديهم الأغلبية في المجلس النيابي، وهو ما كذبته الرابطة الإسلامية، وأرادت من شودري أن يقمع الحزب الجمهوري فرفض قائلاً إن ولاءه لمصلحة الأمة مقدم على ولائه الحزبي، ولما تفاقم الصراع استقال شودري من رئاسة الوزراء ومن الرابطة الإسلامية في سنة 1376=1956.
وفي هذه الأثناء جرى استحداث منصب الرئيس في أوائل سنة 1956، وتولاه إسكندر ميرزا الذي كان الحاكم العام من قبل، والمولود في البنغال سنة 1307=1889 والمتوفى سنة 1389=1969، فقرب العسكريين وبثهم في مناصب الدولة المختلفة، ونورد هنا نبذة عن حياته فنقول إنه كان أول ضابط هندي يتخرج من كلية ساندهرست العسكرية، وتولى من قبل منصب وزير الدفاع، ثم حاكم الباكستان الشرقية واتسم حكمه فيها بالشدة وقمع المعارضة السياسية.
وعين إسكندر ميرزا رئيساً جديداً للوزراء هو حسين شهيد سهروردي، المولود في البنغال سنة 1310=1892 والمتوفى سنة 1383= 1963، وكان سياساً محنكاً ذا شعبية في باكستان الشرقية، بنغلاديش اليوم، بدأ حياته السياسية عمدة لكلكتا أيام بريطانيا، وكان رئيس وزراء البنغال قبل الاستقلال، وكان له دور في توجيه الولايات البنغالية المسلمة للانضمام إلى باكستان، وبعد الاستقلال انشق في سنة 1952عن الرابطة الإسلامية ليساهم في تشكيل حزب الرابطة الشعبية، المعروف بحزب عوامي، ذي الميول اليسارية الطفيفة، والذي فاز فوزاً ساحقاً في باكستان الشرقية في انتخابات سنة 1954، وأبقي سهروردي أيوبَ خان في منصب وزير الدفاع.
وكذلك لم تدم وزارة سهروردي إلا 13 شهرا، أقالها بعدها الرئيس إسكندر ميرزا! ذلك إن سهروردي أراد تعميق النظام الفيدرالي في البلاد بواسطة منح المقاطعات صلاحيات أكثر، ولقيت خطته الاستحسان لدى الناس في باكستان الشرقية، ولكنها لقيت معارضة شديدة في باكستان الغربية من  الرابطة الإسلامية والأحزاب الإسلامية المختلفة، حتى اضطر سهروردي لتعديلها فخلت من مضمونها، وعلى الصعيد الاقتصادي أراد سهروردي إدخال فكرة الخطة الخمسية التي تجعل من الدولة موجهاً للاقتصاد، فعارضته في باكستان الغربية النخبة الاحتكارية ورجال الأعمال، فقد خشيت أن توجه كثير من المشاريع إلى الباكستان الشرقية التي كانت أقل تطوراً، وكان سهروردي لا يخفي عزمه على تقليل الفارق بين جناح بلاده الشرقي وبين الغربي.
وانتهز سهروردي فرصة قيام الرابطة الإسلامية بإعادة تنظيم صفوفها وتجديد قياداتها وأراد أن يتفاهم معها، وبدأ مناقشات للوصول إلى تفاهم مشترك على خطة سياسية تلم شمل البلاد، ولكن الرئيس إسكندر ميرزا، الرجل العسكري القوي الذي لم تعجبه الديمقراطية إلا إن تحكم بها، أدرك أن هذا أقوى تهديد يواجه سيطرته على مقاليد الأمور، وبخاصة أن سهروردي كان دائماً يتصدى لمحاولات الرئيس بسط نفوذه وتحكمه في الدولة، ولذا قرر أن يدفعه باتجاه الاستقالة، فرفض الاستجابة لطلبه دعوة البرلمان للانعقاد ومنحه الثقة، وهدده مراراً بالعزل، وحرك عليه صغار القيادين في حزبه ومنّاهم بالمناصب، فما كان من سهروردي إلا أن استقال في سنة 1377=1957.
وعين إسكندر ميرزا رئيساً جديداً للوزراء ينتمي لحزب الرابطة الإسلامية هو إسماعيل إبراهيم جندريجكار، على رأس وزارة ائتلافية تضم الحزبين الكبيرين وحزبين آخرين، ولكن الائتلاف فشل في الاتفاق على تعديل نظام الانتخابات، وبقيت الوزارة ضعيفة تراوح مكانها، وتزايد الغضب الشعبي عليها، فلم يدم جندريكار في منصبه سوى شهرين قبل أن يقدمه ميرزا قرباناً للجماهير الغاضبة، وبقي أيوب خان كذلك وزيراً للدفاع في هذه الوزارة.
وجاء إسكندر ميرزا برئيس جديد للوزراء ينتمي للحزب الجمهوري هو فيروز خان نون، وبقي أيوب خان وزيراً للدفاع في وزارة نون، ولكن التطورات السياسية لم تجر كما اشتهى ميرزا، ذلك إن نون وسهروردي تفاهما على أن يتعاضدا ويخوضا الانتخابات القادمة لمنصب الرئيس ورئيس الوزراء، كما أن الرابطة الإسلامية بزعامة قائدها الجديد عبد القيوم خان بدأت في العودة بقوة إلى الساحة السياسية، فما كان من الرئيس ميرزا إلا أن أقال الوزارة التي دامت قرابة 10 شهور.
وفي هذه المرة لم يعين الرئيس وزارة جديدة، بل قام بحل البرلمان ومجالس نواب المقاطعات، وأعلن لأول مرة في تاريخ باكستان الأحكام العرفية في 23 ربيع الأول 1378= 7 تشرين الأول/أكتوبر 1958، واستند في هذا الانقلاب إلى تأييد الجيش وأيوب خان له، وطلب ميرزا  من الجيش أن يتولى إدارة البلاد، وعين المشير محمد أيوب خان حاكماً عرفياً للبلاد، وألغى الدستور الذي جرى إقراره قبل سنتين، ووعد الأمة في بيانه الإذاعي أنه سيقوم على إعداد دستور جديد يكون أكثر انسجاماً مع عبقرية الأمة الباكستانية، فقد كان ميرزا يعتقد أن أن السياسيين بخربون البلاد، وأن الديمقراطية لا تصلح للباكستان التي يبلغ معدل الأمية فيها 85% إلا إن كانت ديمقراطية موجهة.
وتوهم إسكندر ميرزا أن يبقى متحكماً في البلاد والعباد، ولكنه سرعان ما تبين له أن الوحش الذي أطلقه من عقاله سيفترسه، فقد تصرف أيوب خان على أساس أن الجيش أصبح الحاكم الفعلي لباكستان، ولمس ذلك ميرزا على الفور وعبر عن ندمه بعد أسبوع من الانقلاب في مقابلة صحفية قال فيها: لم أكن راغباً في ما حدث... وسنحاول إجراء الانتخابات وإنهاء الأحكام العرفية في أقصر وقت ممكن.
وللخروج من موقفه الضعيف أصدر ميرزا أمره بتشكيل وزارة يترأسها أيوب خان ويتكون معظم وزرائها من غير السياسيين، وضمت ذا الفقار علي بوتو في أول منصب وزاري له؛ وزيراً للمياه والطاقة، ولكن ذلك لم يرق لأيوب خان الذي كان مطلق الصلاحيات في منصب الحاكم العرفي، وكان ميرزا قد بدأ كذلك في استمالة قادة الجيش والبحرية والطيران تمهيداً لتحرك يذهب بأيوب خان، ولكن هؤلاء أخبروا أيوب خان بما يحاك من مخططات، فقام أيوب خان بإجبار الرئيس ميرزا على الاستقالة، وعجل بإرساله إلى انجلترا منفياً حيث عاش فيها على راتب تقاعدي متواضع وعمل في مطعم باكستاني حتى وفاته إثر أزمة قلبية سنة 1389=1969، ورفض أيوب خان أن يسمح بدفنه في باكستان، فقام محمد رضا شاه إيران بإرسال طائرة خاصة أحضرت جثمانه إلى طهران، وأجريت له فيها جنازة رسمية، لم يحضرها حتى أقاربه الذين أعاقت الحكومة الباكستانية سفرهم حتى انتهت الجنازة.
وفي سنة 1960 أجرى أيوب خان استفتاءاً على حكمه صوت فيه قرابة 80.000 عضو مجلس بلدي، وصوت 96% منهم بنعم على سؤال: هل تثق بالمشير محمد أيوب خان؟ واعتبر هو نتيجة التصويت تفويضاً شعبياً ليشكل نظامه الجديد، وكانت هذه المرة الأولى من مرات كثيرة تالية تدخل فيها الجيش الباكستاني تدخلاً مباشراً في حكم البلاد ورسم سياساتها.
وفي سنة 1961 أصدر الرئيس أيوب خان قانون جديداً للأسرة، وضع ضوابط على تعدد الزوجات منها موافقة الزوجة الأولى وإنشاء مجالس توفيق زوجية تصدر ترخيصاً للزواج من الثانية، ومن صلاحياتها كذلك التوفيق والتحكيم بين الزوجين وتقرير مبلغ نفقة الزوجة والأولاد.
وفي سنة 1962 دفع أيوب خان بدستوره الجديد الذي لم ينص على أن الإسلام دين الدولة، وتضمن انتخاب الرئيس بواسطة 80.000 عنصر ديمقراطي، جرت زيادتهم إلى 120.000 فيما بعد، وادعى أيوب خان أنه استلهم هذا النظام من جمعية الناخبين التي يقوم عليها النظام الانتخابي الأمريكي، وأن ملهمه السياسي هو الرئيس الأمريكي الأسبق توماس جيفرسون، ثالث رئيس أمريكي، واستولت حكومة أيوب خان على الصحف الرئيسية المعارضة، وذراً للرماد في العيون تضمن دستوره وجود مجلس نيابي إلا أن صلاحياته كانت جد محدودة.
وفي سنة 1964 بلغت ثقة أيوب خان بشعبيته مقداراً جعله يقدم على الدعوة لانتخابات رئاسية، وشجعه أن المعارضة كانت تعاني من انقسامات حادة، ولكنه فوجئ أن الأحزاب الخمسة التي تشكل المعارضة الرئيسية تناست خلافاتها بسرعة واتفقت أن ترشح ضده السيدة فاطمة جناح أخت مؤسس باكستان محمد على جناح، والتي كانت تتمتع باحترام وشعبية كبيرين، وجرت الانتخابات في أول سنة 1965 وكانت نتيجتها فوز أيوب خان بنسبة 64% من الأصوات، وهي نتيجة افتقدت إلى المصداقية حيث جرت الانتخابات بطريقة لم تلتزم بالمعايير الدولية للانتخابات الحرة، وشابها كثير من الترهيب والترغيب.
كان أيوب خان مستبداً عسكرياً تتوفر فيه كل خصائص المستبد: فقد كان يرى أن الديمقراطية لا تصلح لبلاده، وكان يكره السياسيين والأحزاب السياسية، ومنح نفسه وسام باكستان؛ أعظم وسام في البلاد، ورقى نفسه إلى رتبة مشير أعظم، وكانت له علاقة وثيقة بدولة عظمى، هي أمريكا في هذه الحالة، والتي بدأت في أوائل الخمسينات عندما زارها أيام كان وزيراً للدفاع في وزراة لياقة علي خان، وكان له دور في إقناعها، أيام تولى إسكندر ميرزا منصب الرئيس في عام 1958، أن من الأفضل ألا تضغط على حكومته لإجراء انتخابات في ظل ظروف مواتية لفوز التيار اليساري، مما سيضعف موقف الجيش وبالتالي يزعزع استقرار الباكستان ويضر بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
وتابع أيوب خان بعد استيلائه على السلطة العلاقة مع أمريكا والغرب، وقدم لوكالة المخابرات المركزية تسهيلات سرية في قاعدة بشاور الجوية التي كانت طائرات التجسس الأمريكية يو-2 تنطلق منها للطيران على ارتفاعات عالية فوق أراضي الاتحاد السوفيتي قبل أن يتمكن الروس في سنة 1960 من إسقاط طائرة وأسر طيارها، وهو أمر ساهم في زيادة حنق روسيا وتوجهها لتعاون أوثق مع الهند.
وفي سنة 1962 قامت الصين الشيوعية بهجوم على شمالي الهند واستولت على آسام الشرقية التي طالبت بإعادتها للصين منذ استقلال الهند، وجاء ذلك في أوج الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي وبين المعسكر الرأسمالي، وتغيرت السياسة الأمريكية على إثر ذلك وتوجهت للتقارب مع الهند بل وتسليحها، وإزاء ذلك اتجه أيوب خان لتوثيق العلاقات مع الصين وبخاصة العلاقات العسكرية، ولا تزال السياسة الخارجية الباكستانية إلى يومنا هذا تعتبر العلاقة مع الصين ركناً ركيناً للتوازن مع الهند، وفي سنة 1963 عين أيوب خان ذا الفقار علي بوتو في منصب وزير الخارجية.
وكان لباكستان كذلك مطالب إقليمية مع الهند في القسم الذي بقي معها من ولاية كشمير ذات الأغلبية المسلمة، والذي أحاط بضمه للهند كثير من الخداع والتجاوزات القانونية، وفي أبريل 1965 قامت الباكستان بمناوشات اختبرت فيها المقدرات الدفاعية الهندية في السند وفي كشمير، وحققت فيها القوات الباكستانية انتصارات جيدة، ثم توقفت المناوشات بتدخل دول الكمونولث والأمم المتحدة، ولكن بوتو اعتقد أن الباكستان يمكن أن تحقق انتصاراً خاطفاً عبر المنطقة الضيقة من كشمير وتخنق القوات الهندية المتبقية فيها، وألح على شن هجوم آخر وافقه عليه الرئيس أيوب خان رغم معارضة وزراء آخرين.
وفي أغسطس 1965 شنت الباكستان هجوماً شاملاً على القسم الهندي من كشمير بغرض ضمه للباكستان، ولكن الحرب التي دامت أسبوعين لم تأت بالنتائج المرجوة، فقد شنت القوات الهندية هجوماً بالدبابات على 3 محاور استهدف لاهور وسيالكوت نجح في الاقتراب من لاهور، ووافق الطرفان على قرار للأمم المتحدة نص على وقف إطلاق النار وعودة القوات إلى مواقعها قبل الحرب.
وكانت نتائج الحرب سيئة للطرفين، فقد كانت خسائرهما بالغة، وكادت الذخائر عندهما أن تنضب بسبب حظر على تصدير السلاح فرضته بريطانيا والولايات المتحدة، وخسرت الباكستان مساعدات غربية مقدارها 500 مليون دولار كل سنة، وانتهت الأمور إلى عقد مؤتمر في يناير 1966 في طشقند برعاية الاتحاد السوفيتيي حضره أيوب خان ورئيس الوزراء الهندي شاستري، وتكلل بإعلان الطرفين عملهما على إعادة العلاقات الطبيعية والسلمية، وهو الاتفاق الذي لم يدم طويلاً فقد مات شاستري بنوبة قلبية في طشقند، وخلفته وزيرة إعلامه أنديرا غاندي التي سارت بالبلاد في الاتجاه المعاكس.
وعلى الصعيد الاقتصادي كانت سياسات أيوب خان رأسمالية بحتة، وتميز عهده بقيام عدد كبير من المصانع ومشاريع الري والزراعة، وأثمر ذلك في نمو سنوي جيد في باكستان الغربية، واكبه نقص سنوي مضطرد في باكستان الشرقية، وقد صاحب ذلك النمو في باكستان الغربية توزيع مجحف للثروة، فكان الأغنياء يزدادون ثراء فيما ينحدر الفقراء في العوز والبؤس، ويكفي أن نذكر أن 22 عائلة كانت تسيطر على 66% من المصانع و80% من البنوك وشركات التأمين.
ولاهتمامه بالجانب الاقتصادي خفض أيوب خان الإنفاق العسكري وميزانية هيئة الطاقة الذرية الباكستانية التي أسسها رئيس الوزراء سهروردي في سنة 1958، وهنا حادثة ينبغي إيرادها، ففي سنة 1965 طلب العالم النووي الباكستاني منير أحمد خان بصورة عاجلة مقابلة مسؤول باكستاني، فقابله في لندن ذو الفقار علي بوتو وزير خارجية أيوب خان آنذاك، وأخبره منير أنه بحكم عمله في وكالة الطاقة الذرية الدولية قد اطلع على أن الهند قد بدأت في إنشاء برنامج نووي، فجمعه بوتو على الفور على انفراد مع الرئيس أيوب خان، وشرح له العالم عواقب القوة النووية الهندية على الباكستان ،وأن لإسرائيل كذلك مشروع مماثل، وأنه ما من عائق - آنذاك -  يحول بين الباكستان وبين تأسيس قوة نووية، ولما سأله الرئيس عن تكلفة ذلك، قدرها منير بمبلغ 150 مليون دولار، وكان جواب أيوب خان أن الباكستان أفقر من أن تستطيع إنفاق ذلك على القنبلة النووية، وأنها لو احتاجتها فستشتريها جاهزة في المستقبل!
على أنه في جانب آخر استطاع عالم الفيزياء محمد عبد السلام، المولود سنة 1344=1926والمتوفى سنة 1417=1996، إقناع أيوب خان بإنشاء برنامج صواريخ باكستاني تحت اسم وكالة الفضاء الباكستانية، وتولى عبد السلام إدارة المشروع الذي حقق نجاحاً جيداً لا تزال آثاره إلى اليوم في الصواريخ العابرة للقارات، وإن كان تقليص النفقات قد ناله مع المشاريع العسكرية الأخرى.
وكما هو الحال مع أكثر المستبدين، جاء سقوط أيوب خان بسبب الاقتصاد، رغم ضعف شعبيته قبل ذلك، وبخاصة بعد اتفاق طشقند الذي استقال بسببه بوتو من وزارة الخارجية، واعتبره أغلب الشعب  الباكستاني خيانة لتضحياته وتنازلاً لا يغفر مقابل الهند.
فقد توالت الشائعات حول الفساد والثروة غير المشروعة التي جمعها ابنه جوهر، وكانت السياسة المركزية المطلقة التي سار عليها أيوب خان تظهر لأهل باكستان الشرقية أنه مع أكيد علمه بمعاناتهم لم يهتم بشؤونهم، وكانت أحوالهم الاقتصادية المتردية تزيد في شعبية حزب الرابطة الشعبية، عوامي، المنادي بالاشتراكية والذي ترأسه من قريب مجيب الرحمن، وتفاقمت النقمة إلى حد أنه تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة خلال زيارة له لباكستان الشرقية، وجاءت قاصمة الظهر عندما نجحت الاحتكارات في تخزين السكر والتلاعب بأسعاره لتزيد زيادة فاحشة، فهب الشعب كله في مظاهرات يطالب باستقالة أيوب خان، وكان ذو الفقار علي بوتو يؤجج الجماهير بخطبه المدوية المنددة بالطغيان والفساد، وينادي بالديمقراطية، ورد ساخراً على ادعاء أيوب خان أنها لا تصلح للباكستان مشيراً أن الهند الأفقر والأكثر جهلاً نجحت في اتخاذها طريقا للحكم وإدارة البلاد.
وتفاقمت الأزمة تفاقماً كبيراً، وبدا أن الجيش بدأ في الانفضاض من حول أيوب خان، فقرر هو أن الوقت قد حان للانسحاب من الساحة السياسية، وبدأ في التفاوض مع معارضيه باستثناء علي بوتو الذي استمر في الضغط عليه للاستقالة، وفي السادس من المحرم من عام 1389 استقال أيوب خان فجأة، ولكنه بدلاً من أن ينقل سلطاته إلى رئيس البرلمان كما يقتضي الدستور الذي وضعه هو، تذرع بأن الأوضاع أعقد من أن تستطيع حكومة مدنية معالجتها، وقام بتسليم السلطة إلى الفريق يحيى خان رئيس القوات المسلحة، والذي كان ساعده الأيمن الوفي، والذي كان قد عينه في هذا المنصب قبل 3 سنوات متجاوزاً 7 ضباط كانوا أحق بالمنصب منه، وهكذا أصبح الفريق يحيى خان ثالث رئيس لباكستان!
ولد يحيى خان في الهند سنة 1917، وعمل ضابطاً في جيش الهند البريطاني سنة 1938، وقاتل في ليبيا في الحرب العالمية الثانية حيث أسره الإيطاليون فأفلت من الأسر بعد محاولته الثالثة، وعاد يقاتل في صفوف الجيش البريطاني، ولما استقلت الباكستان اختار الالتحاق بها، ورقي إلى رتبة عميد وهو في سن الرابعة والثلاثين، وعُرف عنه ولعه بالخمر والنساء، وكان له دور كبير في دعم أيوب خان في انتخابات سنة 1965 فكافأه على ذلك بترقيته إلى لواء وتعيينه قائداً لفرقة المشاة السابعة، وهي الفرقة التي اخترق الجيش الهندي خطوطها في حرب 1965 والتقدم في الأراضي الباكستانية حتى أصبحت لاهور في مرمى دباباته.
ورغم هذا الإخفاق المشين رقاه أيوب خان إلى رتبة فريق، وبعد فترة من تعيينه نائباً لرئيس القوات المسلحة، جعله كما أسلفنا قائداً لها، وسط استياء عامة الشعب وكبار الضباط، ثم أتى به ليصبح رئيس جمهورية باكستان الإسلامية، ويظهر على التلفاز الباكستاني معلناً الاحكام العرفية وإلغاء الدستور وحل البرلمان والوزارة المدنية، ويهدد بأنه: لن يتساهل مع الفوضى، فليزم كل امرئ حدوده!
ووعد يحيى خان بإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن، ومما يذكر له أنه وفى بوعده، فباشر في الإعداد لها، وقام بإصلاحات في قانون الانتخابات والبرلمان أعادت الطابع الديمقراطي للانتخابات وللبرلمان الذي ستأتي به.
وأجرى يحيى خان انتخابات نزيهة في آخر سنة 1970، وكانت نتيجتها نتيجة سيئة أظهرت انقسام البلاد فعلياً، ففي باكستان الشرقية فاز حزب عوامي برئاسة مجيب الرحمن، ولكنه لم يحصل على أي مقعد في غرب البلاد التي كانت من نصيب حزب الشعب برئاسة ذي الفقار على بوتو، واستطاع أعرق الأحزاب الباكستانية؛ حزب الرابطة الإسلامية، أن يحصل على مقاعد في الشرق والغرب، ولكنها كانت 10 مقاعد لا تغني ولا تسمن.
وبدت نذر انقسام البلاد في الأفق واضحة جلية، فقد خاض مجيب الرحمن الانتخابات على برنامج أسماه النقاط الست، كان من الواضح أنه خطوة على طريق الانفصال، وعلمت الاستخبارات الباكستانية أنه قد التقى قبل الانتخابات في لندن برسميين هنود واتفق معهم على الانفصال عن باكستان، ولذا لم يكن عجباً أن تفشل المفاوضات بين بوتو وحزب الشعب وبين مجيب الرحمن وحزب عوامي على تشكيل حكومة باكستانية مشتركة تقوم بإصلاحات منها توسيع صلاحيات حكومة باكستان الشرقية.
وفي ظل هذا الجمود السياسي كانت الأعمال المسلحة في باكستان الشرقية تزداد كماً وكيفاً وجرأة، وانشق عن الجيش الباكستاني عدد من الجنود والضباط وبدأوا حرب عصابات في البنغال، وقرر يحيى خان القضاء على بؤر الانفصال العسكرية والسياسية في عملية عسكرية شاملة، ولكنها لم تحقق النجاح المتوقع، فقد كانت المقاومة البنغالية، ومن ورائها الدعم الهندي، أعتى مما توقعه العسكريون، واضطروا بعد شهر للتوقف بعد أن قتلوا عشرات الآلاف، وأعلن مجيب الرحمن استقلال البلاد فاعتقله  يحيى خان بتهمة الخيانة العظمى، وأصدرت محكمة عسكرية حكمها عليه بالإعدام، فزاد هذا في حنق البنغاليين الذين أعلنوا حرب تحرير انضمت إليهم فيها قوات هندية، وآلت في النهاية إلى هزيمة ساحقة واستسلام  مذل للجيش الباكستاني في آخر سنة 1971، وتسلمت البلاد حكومة مجيب الرحمن في أول سنة 1972، وتلا ذلك أعمال انتقام فظيعة من معارضي الانفصال وبخاصة ممن قاتلوا مع القوات الباكستانية.
ولم يكن مجيب الرحمن إلا مستبداً آخر ارتدى ثوباً بنغالياً، ورغم أنه نال الأغلبية الساحقة في انتخابات جرت عام 1973 إلا أن سار بالبلاد على طريق الاستبداد والفساد والمحسوبية، ونزلت بالبلاد مجاعة في سنة 1974 مات من جراءها 50.000 شخص، وما لبث الجيش أن قام في أواخر سنة 1975 أن انقلب على مجيب الرحمن وقتله مع أغلب أفراد أسرته.
نعود إلى يحيى خان، الذي خرجت الجموع في الباكستان تطالب باستقالته بعد أن بلغتها الهزيمة المنكرة في باكستان الشرقية، وبدأت الشائعات تتحدث عن انقلاب عسكري وشيك يقوم به صغار الضباط الذين آلمهم حال البلاد وفساد الحكام، فقام يحيى خان في ذي القعدة 1391= ديسمبر 1971 بالاستقالة وتسليم رئاسة الباكستان لذي الفقار علي بوتو بصفته زعيم الحزب الذي حاز أكثر الأصوات في الانتخابات الأخيرة، وأصدر ذو الفقار أوامره بوضع يحيى خان تحت الإقامة الجبرية، فبقي فيها سنوات، ثم وافته المنية في أواخر سنة 1980.
تلك صفحات من تاريخ باكستان، ولنا عودة إليها بعد حين.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
 

الجمعة، 24 أكتوبر 2014

حدث في التاسع والعشرين من ذي الحجة


في التاسع والعشرين من ذي الحجة من عام 1180، الموافق 28 أيار/مايو من عام 1767، وقع سلطان المغرب مولاي محمد بن عبد الله بن إسماعيل، المعروف باسم محمد الثالث، معاهدة صلح مع ملك فرنسا لويس الخامس عشر، وهذا نصها دون تغيير، وقد وضعت بعض التفسيرات الضرورية بين [حاصرتين]:
الحمد لله وحده
هذا ما صالح عليه مولانا الإمام المظفر الهمام السلطان الأعظم الأمجد المعظم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن إسماعيل - الله وليه ومولاه - ابن إسماعيل قدس الله سره، سلطان مراكش وفاس ومكناسة وسوس وتافلالت وغيرهم،  طاغيةَ جنس الفرنسيس ومن في حكمه لويز الخامس عشر من اسمه بواسطة الباشادور [السفير] المفوض إليه من قِبله وهو كونط دبرنيون، [comte de Breugnon]على شروط تذكر وتفصل بعد هذا، وتم هذا الصلح وانبرم في 29 ذي الحجة الحرام عام ثمانين ومائة وألف الموافق لتاريخ الروم لثمانية وعشرين من شهر مايه عام سبع وستين وسبع مائة وألف.
1- الشرط الأول: يؤسس هذا الصلح وينبرم على ما انبرمت عليه المصالحة بين السلطان الأعظم سيدنا ومولانا إسماعيل قدس الله سره وبين طاغية الفرنسيس في ذلك الوقت لويز الرابع عشر من اسمه والشروط المشار إليها هي هذه.
2- الشرط الثاني: إن لرعيتي الدولتين أن يذهبوا بتجاراتهم ومراكبهم حيث شاءوا برًّا وبحرا في أمن وأمان بحيث لا يتعدى أحدهما على الآخر ولا يمنعهم أحد من ذلك.
3- إذا التقت سفن سيدنا - نَصَرَهُ الله - الجهادية أو غيرها بقراصين الفرنسيس أو غيرها من سفنهم البازركانية [التجارية] حاملة لسنجق [علم] الفرنسيس، وعندهم بصابرط [من اللاتينية: باسبورت، وتعني: جواز سفر] من قِبل طاغيتهم على الوجه المصطلح عليه كما هو مرسوم آخر هذه الشروط فلا يتعرض لهم ولا يفتش فيهم، ولا يطالبون بغير إحضارها، وإن احتاجوا لما يقضونه لبعضهم على وجه الخير؛ قضوه من الجانبين، وكذلك السفن الفرنسيسية يفعلون مع سفن سيدنا - أيده الله - ما ذكر أعلاه إذا التقوا معهم، ولا يطالبونهم بشيء إلا بإظهار خط يد القونصوا [القنصل] الفرنسيسي المستوطن بإيالة سيدنا - نصره الله - على الوجه المصطلح عليه أيضًا كما هو مرسوم بآخر هذه الشروط.
ولا تطالب القراصين الفرنيسيسة الكبيرة بإحضار الباصابرط إذا التقت بهم سفن سيدنا - أيده الله - إذ ليس من عادتهم حملها، ويؤخر البحث عن الصغار لمضي ستة أشهر تأتي من تاريخه أولها يونية وآخرها نوفمبر الآتي. وفي هذه المدة يعطي طاغيتهم أمارة بالكتابة للسفن الصغار، وتأتي نسخة منها على يد القنصوا لتصاحب قراصين سيدنا في سفرهم بحيث إذا التقوا بهم يستظهر كل واحد بما عنده من ذلك العمل في نزول الفلوكة على ما وقع الشرط فيه بينهم وبين الجزيريين.
4- الشرط الرابع: إذا دخلت سفينة من سفن سيدنا الجهادية أو غيرها لمرسى من مراسي الفرنسيس أو بالعكس، فلا يُمنعون من حمل ما يحتاجون إليه من مأكول أو مشروب لهم ولمن معهم في سفنهم من الجانبين، وكذلك إن احتاجوا إلى آلة من آلات سفنهم فلا يمنعون من ذلك بالثمن الجاري بين الناس من غير أن يزاد عليهم شيء في جميع ذلك مراعاة للصلح الذي بين الرعيتين.
5- الشرط الخامس: لرعيتي الدولتين الدخول لأي مرسى شاءوا من مراسي سيدنا - أيده الله - أو من مراسي بلاد الفرنسيس والخروج منها سالمين آمنين، وأن يبيعوا ويشتروا ما شاءوا على حسب إرادتهم، وإن باعوا من سلعهم بعضا وأرادوا ردّ الباقي لمراكبهم فلا يطالبون بوظيف آخر، وإنما يطالبون بتعشير السلع أولاً عند نزولها فقط، ولا يدفعون في التعشير زيادة على غيرهم من الأجناس، ولتجار الفرنسيس التصرف في البيع والشراء في جميع إيالة سيدنا - نصره الله - كغيرهم، وإن تفضل سيدنا - أيده الله - على جنس من أجناس النصارى بنقص شيء من القُمرق أو من الصاكة وغيرها فهم من جملتهم.
6- إذا انتقض الصلح بين أهل تونس و الجزائر وأهل طرابلس وغيرهم وبين الفرنسيس ودخلت سفينة من سفن الفرنسيس أيًّا كانت لمرسى من مراسي سيدنا - نصره الله - وتبعتها سفينة حربية من سفن عدوّهم لتأخذها، فعلى أهل تلك المرسى منع سفينة الفرنسيس المذكورة من عدوّهم المذكور، ولو برميه بالمدفع ليبعد عدوّهم عنها، ويحبس المركب الطالب لها بالمرسى مدة حتى تبعد السفينة المطرودة عنها لئلا يتبعها في الحال حسبما هي العادة، وإذا التقت مراكب سيدنا الجهادية بعدوِّهم بكوشطة [ساحل] الفرنسيس فلا يأخذونهم إلا بعد تجاوز ثلاثين ميلاً.
7- الشرط السابع: إذا دخلت سفينة من عدو الفرنسيس لمرسى من مراسي سيدنا - أيده الله - وبها أسارى من الفرنسيس، فإن كانوا باقين بالمركب لم ينزل أحد منهم للبرّ فلا كلام معهم فيهم، وإن نزلوا للبر فهم مسرحون وينتزعون من يد الذي هم تحت أسره، وكذلك إذا دخلت سفينة من عدو سيدنا - نصره الله - لمراسي الفرنسيس وفيها أسارى من الإيالة المولوية يفعل بهم مثل ذلك، وإن دخل عدو للفرنسيس أيًّا كان لإيالة سيدنا بغنيمة أو دخل عدو سيدنا -أعزه الله - بغنيمة لمراسي الفرنسيس، فإن الجميع يُمنعون من بيع الغنيمتين بالإيالتين. وإذا وجد عدو إحدى الدولتين تحت سنجق الأخرى فلا يتعرض له ولا لماله من الجهتين، وإذا أخذت سفينة سيدنا - أيده الله - غنيمة ووجد فيها بعض الفرنسيس ركابًا فإنهم يسرحون بأموالهم وأثاثهم كله، وكذلك إذا غنم الفرنسيس سفينة لعدوه أيًّا كان ووجد فيها ركابًا من الإيالة المولوية فإنهم يفعل بهم مثل ذلك، وأما إن كانوا بحرية فلا يسرحون من الجانبين.
8- الشرط الثامن: لا يلزم رؤساء المراكب البازركانية بحمل ما لم يريدوه في سفنهم ولا أن يتوجهوا لمحل من غير إرادتهم.
9- الشرط التاسع: إذا انتقض الصلح بين وجاقات الجزائر ووجاقات تونس وطرابلس وبين الفرنسيس فلا يأمر سيدنا - نصره الله - بإعانة الوجاقات المذكورين بشيء أصلاً، ولا يترك أحدًا من رعيته يتسلح ويركب تحت سنجق أحد الوجاقات ليقاتل الفرنسيس، ولا يترك أحدًا يخرج من مراسيه ليقاتلهم، وإن فعل أحد من رعيته ذلك عاقبه وضمن ما أفسده، وكذلك يفعلون مع من عادى الجناب المولوي -أسماه الله- لا يعينونه ولا يتركون من يعينونه من رعيتهم.
10- الشرط العاشر: لا يكلف جنس الفرنسيس بدفع آلة الحرب من بارود ومدافع وغير ذلك مما يقاتل به.
11- الشرط الحادي عشر: لطاغية الفرنسيس أن يجعل بإيالة - سيدنا - نصره الله - من القونصوات ما أراد، وفي أي بلد شاء ليكونوا وكلاء له في مراسي سيدنا - أيده الله - ليعينوا التجار ورؤساء البحر والبحرية في جميع ما احتاجوا إليه، ويسمع دعاويهم، ويفصل بينهم فيما يقع بينهم من النزاع لئلا يتعرض لهم أحد من حكام البلد غيرهم. وللقونصوات المذكورين أن يتخذوا بدورهم موضعًا لصلاتهم وقراءتهم، ولا يُمنعون من ذلك، ومن أراد إتيان دار القونصوا للصلاة أو للقراءة من أجناس النصارى أيا كانوا فلا يتعرض لهم أحد ولا يمنعون من ذلك، وكذلك رعية سيدنا - أيده الله - إذا دخلوا بلاد الفرنسيس لا يمنعهم أحد من اتخاذ مسجد لصلاتهم وقراءتهم بأي مدينة كانوا. ومن استخدمه القونصوات المذكورون من كتاب وترجمان وسماسير وغيرهم فإنه لا يتعرض لمن استخدموه بوجه، ولا يكلفون بشيء من التكاليف أيًّا كانت في نفوسهم وبيوتهم، ولا يمنعون من قضاء حاجة القونصوات والتجار في أي مكان كانوا، ولا يدفع القونصوات ملزوما ولا وظيفا عما اشتروه لأنفسهم من مأكول ومشروب وملبوس، ولا يأخذ منهم العشر عما جاءهم من بلادهم من الحوائج المعدة للباسهم ومأكولهم ومشروبهم كيفما كانت، ولقونصوات الفرنسيس التقدم والتصدر على غيرهم من قونصوات الأجناس الآخرين، ولهم أيضا أن يذهبوا حيث شاءوا من إيالة سيدنا - أيده الله - برًّا وبحرًا من غير مانع لهم من ذلك، ويذهبون أيضا لسفن جنسهم إن أرادوا من غير مانع أيضًا, ودورهم موقرة لا يتعدى فيها أحد على آخر.
12- الشرط الثاني عشر: إذا وقع نزاع بين مسلم وفرنسيسيّ فإن أمرهما يرفع للسلطان - نصره الله - أو لنائبه حاكم البلاد، ولا يحكم بينهما القاضي في نازلتهما.
13 - الشرط الثالث عشر: إذا ضرب فرنسيسي مسلمًا فلا يحكم فيه إلا بعد إحضار القونصوا ليجيب ويدافع عنه، وبعد ذلك ينفذ فيه الحكم بالشرع، وإن هرب النصراني الضارب فلا يطالب به القونصوا لأنه ليس بضامن له، وكذلك إذا ضرب المسلم الفرنسيس وهرب فلا يطالب بإحضاره.
14- الشرط الرابع عشر: إذا كان لأحد من التجار دين على أحد من رعية الفرنسيس فلا يكلف القونصوا بخلاصه إلا إذا ضمن المال وكتب في ذمته فحينئذ يكون الخلاص عليه، وإن توفي أحد من النصارى الفرنسيس في جميع إيالة سيدنا نصره الله - فتسلم أرزاقه وأمتعته ليد القونصوا ليزممها ويختم عليها أو يتصرف فيها بما شاء، ولا يمنعه أحد من ذلك، ولا يتعرض له أحد من القاسمين ولا من أهل بيت المال.
15- الشرط الخامس عشر: إذا رمى الريح مركبًا من المراكب الفرنسيسية على سواحل إيالة سيدنا - نصره الله - أو جاء هاربًا من سفن أعدائه فليعط سيدنا أمره لجميع أهل سواحله أن من وقع عنده مثل ذلك يعينونهم على قدر طاقتهم إما بإخراج المركب للبحر إن أمكن، وإن حرّث أعانوهم على تخليص الأمتعة التي به وجميع آلاته، وكل ما خرج من المركب يتصرف به القونصوا القريب من ذلك المكان أو نائبه بما شاء ليخلص تلك السفينة بعد أن يعطي لمعينه أجرته، ولا يؤخذ عن تلك السلع حال التحريث عُشر إلا ما بيع منها فيؤخذ عُشره.
16- الشرط السادس عشر: إذا دخلت مراكب الفرنسيس القرصانية لمرسى من مراسي سيدنا - نصره الله - فليلتقوا بالبشر والبشاشة مراعاة للصلح الحاصل، ورؤساء هذه المراكب إن اشتروا بدرهمهم شيئًا من مأكول أو مشروب لا يطالبون بصاكة ولا بغيرها، وكذلك يفعل بمن دخل لمراسي الفرنسيس من سفن سيدنا - أيده الله - وهذا المأكول والمشروب المذكوران لأنفسهم ولأهل مراكبهم.
17- الشرط السابع عشر: إذا دخل قرصان من قراصين الفرنسيس لمرسى من مراسي الإيالة المولوية فإن القونصوا الحاضر في الوقت بالبلد يخبر حاكمها بذلك ليتحفظ على الأسارى الذين بالبلاد لئلا يهربوا للسفينة المذكورة، فإن هرب أسير وحصل المركب فلا يفتش عليه، ولا يطالب به القونصوا ولا غيره لأنه دخل تحت سنجق الفرنسيس ولاذ به، وكذلك من فعل من أسارى المسلمين أيًّا كانوا ذلك بمراسي الفرنسيس لا يفتش عليه لأن السنجق حَرَم.
18- الشرط الثامن عشر: ما نسي من الشروط يفسر ويشرح على وجه مفيد معتبر لكي يحصل منها خير كثير ونفع عام لرعيتي الدولتين ولأن بواسطتهما تشد عقود الموالاة والمصافاة.
19- الشرط التاسع عشر: إذا حصل خلل في الشروط التي انعقد عليها الصلح فلا يفسد الصلح بسبب ذلك، وإنما يبحث في المسألة ويرجع فيها للحق من أي إيالة كانت، ولا يتعرض لرعايا الدولتين الذين لا مدخل لهم في شيء من الأشياء ولا يباشر أحد من الرعيتين الخصومة والجدال إلا بعد مخالفة الشريعة والحق إعلانًا.
20- الشرط الموفي العشرين: إن قدر الله بنقض الصلح المنبرم فجميع من بإيالة سيدنا - نصره الله - من جنس الفرنسيس يؤذن لهم في الذهاب لبلادهم بأموالهم وأمتعتهم لمضي ستة أشهر.
***
ذكر الباصابرط المصطلح عليها
لكل مركب من المراكب الفرنسيسية البازركانية
من عند أمير البحر بكل مرسى من مراسي الفرنسيس لويس جان مري دبربون دك دبنطيور  [Louis Jean Marie de Bourbon, Duke of Penthièvre]أمير البحر بإيالة الفرنسيس
السلام على كل من ينظر هذه الأسطر،
نعلمه أنا دفعنا ونفذنا إجازة بالباصابرط هذه لفلان رئيس المركب المسمى فلانًا فيه من الوسق كذا، وأنه ذاهب إلى بلد كذا موسق بكذا مكاحلة ومدافعة كذا، رجاله كذا، وهذا بعد ما صار النظر والاطلاع الشرعي بما فيه، فشهادة على ذلك وضعنا إمضاءنا وطابعنا، وكتب بخط يده كاتب البحر فلان في مدينة باريز في شهر كذا سنة كذا
لويز جان مري دبوربون وتحت ذلك...... من جانب حضرته السمية...
.............................. غرامبرك مختوم
* * *
ذكر خط يد القونصوا المصطلح عليه الذي يكون عند سفن سيدنا أيده الله.
صورته:
كاتبه فلان قونصوا الفرنسيس بإيالة سيدنا - نصره الله - بثغر كذا.
نُعلم كل من رأى هذه الأحرف أن المركب المسمى كذا رئيسه فلان، وفيه كذا، وهو من ثغر كذا بأنه هو ومن معه من إيالة السلطان المنصور بالله سيدنا محمد بن عبد الله سلطان مراكش ومن انضاف إليه, رجاله كذا، مدافعه كذا، وشهادة على ذلك وضعنا اسمنا على هذه الورقة التي ختمناها بخاتمنا في بلاد كذا في شهر كذا من سنة كذا.
بعد إيرادنا للمعاهدة نتحدث عن أطرافها: ملك المغرب وملك فرنسا والسفير فيما بينهما:
السلطان محمد الثالث بن عبد الله الخطيب، الملقب بالمتوكل على الله، ولد بمكناس سنة 1134=1710 وتوفي فيها سنة 1204=1790، ودرس العلم الشرعي على يد جدته لأبيه الفقيهة خُناثة بنت بكار، المتوفاة سنة 1159، وحج معها وهو في التاسعة من عمره، ومارس الحكم في حياة والده عندما ناب عنه في مراكش سنة 1158=1750.
تولى المولى محمد الحكم بعد وفاة والده سنة 1171= 1757، وكانت البلاد مضطربة إذ كان والده جباراً سفاكاً للدماء، فزار البلاد واستأنس الرعية، وأخضع الممتنعين من القبائل، وأصلح الأحوال، وجمع حوله الفقهاء وجعلهم حاشيته وأهل شوراه، وكانت له معهم مجالس مذاكرة في الفقه والحديث.
ولما استتبت له أمور الداخل، وجه همته لاستعادة الثغور الهامة على المحيط الأطلسي التي تناوشتها الدول الاستعمارية، ولا زالت تطمع في مزيد، وأدرك أن عماد القوة في زمانه هو الأساطيل البحرية، تردفها القوات البرية المدربة والمجهزة، فوجه اهتمامه لبناء أسطول مغربي يردع المعتدين، فأنشأ في سلا دار الصناعة وبنى فيها السفن الكبيرة التي تستطيع مواجهة السفن الأوروبية، واستورد لها من أوروبا أسلحتها وذخائرها، إضافة إلى السفن التي كان يغنمها مجاهدو المغرب من ذوي الخبرة بالملاحة والبحر، وجلهم من أهل سلا والرباط، في غزواتهم البحرية التي كانت الدول الأوربية تعدها قرصنة.
وكانت السفن التجارية المبحرة جيئة وذهاباً من أوروبا إلى القارة الأمريكية، شماليها وجنوبيها، هدفاً ثميناً إذ كانت محملة بالذهب والفضة والبضائع النفيسة المفيدة من المستعمرات الأسبانية والفرنسية، وينبغي أن نذكر أن الخطر المغربي "المسلم" لم يكن الخطر الوحيد الذي يترصدها، بل كان قراصنة البحر الكاريبي أعتى وأشد، وبعضهم كان تحت حماية الدول البحرية الكبرى ما دام يستهدف سفن أعدائها.
وبعد انتهائها من حرب السنين السبع مع بريطانيا، وجهت فرنسا اهتمامها لمنع هجمات المغاربة على سفنها، وحاصرت في سنتي 1763 و1764 الشواطئ المغربية لمنع الهجمات على سفنها، ولكن تلك الحملة لم تحقق النجاح المطلوب، واستولى مجاهدو سلا على السفينة الفرنسية لا سيرين وحولوها إلى سفينة جهادية، وقرر الملك لويس الخامس شن حملة كبيرة للقضاء على الخطر المغربي قضاء لا تقوم له بعده قائمة، فكون حملة كبيرة حاصرت ثغر سلا وقصفته بالقنابل، ولما لم يفلح اتجه إلى ميناء العرائش، فهزم كذلك هزيمة منكرة رغم تفوق مدفعية سفنه التي قصفت المدينة أياماً متوالية، ذلك إن المغاربة استولوا على أحد المراكب الفرنسية وساقوه داخل الخليج، فأرسل الفرنسيون مجموعة من القوارب تقل 800 جندي لتقوم بإعادة المركب المأسور أو إحراقه فلا يستفيد منه المغاربة، وترك المسلمون هذه القوارب تتوغل في الخليج ثم سدوا طرق فرارها وانقضوا عليها وقتلوا 200 جندي وأسروا 48 آخرين.
ولجأت فرنسا إزاء هذا الفشل إلى فرض حصار بحري على المغرب وصارت تفتش السفن الأوروبية القادمة للمغرب وتصادر ما عليها من عتاد اشتراه الملك المولى محمد لأسطوله وجيشه، واعترضت فيما اعترضت سفناً من هولندا والدانمرك وأخذتها إلى ميناء طولون، ولم يكن للمولى محمد قبل بمواجهة مباشرة أو طويلة مع ثاني أقوى أسطول في العالم، فمال لعقد الصلح مع الفرنسيين، وكانت ثمرته الاتفاقية التي بدأنا بسرد شروطها، والتي يعدها المؤرخون نهاية الجهاد، أو القرصنة، البحرية المغربية، ذلك إن أسبانيا وقعت اتفاقية سلم وتجارة في تلك السنة، فتضاءل عدد السفن التي يمكن الهجوم عليها، ولعل آخر هجوم قام به المغاربة كان في سنة 1187=1773 حين هاجمت بعض السفن المغربية فرقاطة عائدة لمقاطعة توسكانيا في أيطاليا، فغرقت سفينة القائد المغربي بعد بضعة طلقات مدفعية وأسر قائدها، وهربت باقي السفن إلى ميناء العرائش.
واتجه السلطان مولاي محمد بعد الاتفاقية لتحصين الشواطئ والثغور المغربية فلا يطمع فيها طامع، وتخليص ما احتلته منها الدول الأوربية، فبنى ميناء الصويرة سنة 1178 جنوبي المغرب على الأطلسي، وجعل فيه قلعة حصينة ومرسى منيعا، واسترجع مازغان من البرتغال سنة 1182، واسترجع ثغر البريجة من البرتغال سنة 1182 بعد احتلالهم له قرابة 300 عام، ثم حاول استرداد مليلة من الأسبان في سنة 1188 فحاصرها ولكن المحاولة فشلت لأن البريطانيين الذين وعدوه بالمساعدة لم يفوا بوعودهم.
وكان لدى الأسبان والفرنسيين أعداد كبيرة من الأسرى المسلمين، من مجاهدي البحر أو من ركاب السفن من المسافرين، فكتبوا إلى المولى محمد يسألونه العمل على لإطلاق سراحهم، وأرسل في ذلك سفيره أحمد بن المهدي الغزال، المتوفى سنة 1191، ومما جاء في رسالته للملك كارلوس الثالث ملك أسبانيا: إننا في ديننا لا يسعنا إهمال الأسارى وإبقاؤهم في قيد الأسر، ولا حجة للتغافل عنهم ممن ولاه الله تعالى التصرف والأمن. وبلغ عدد الأسرى الذين افتكهم 48.000 أسير أنفق على فكاكهم أموالاً طائلة، ولم يكونوا كلهم من المغرب، بل كان منهم عدد كبير من طرابلس الغرب وتونس والجزائر.
وفي سنة 1191=1777 اعترف المولى محمد بالولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت استقلالها عن بريطانيا، وفي سنة 1200=1787 أرسلت الولايات المتحدة بعثة للتفاوض مع طرابلس الغرب و الجزائر والمغرب لكف سفنهم عن مهاجمة السفن الأمريكية، ورفض حكام طرابلس والجزائر الاتفاق، ولكن المولى محمد استجاب لطلب اللجنة ووقع معهم معاهدة على ذلك، فقد كانت سياسته الخارجية قائمة على تحسين علاقات المغرب بالدول، وبخاصة تلك التي لم يكن لها في المغرب مطامع أو سوابق استعمارية، وقد أرسل له الرئيس جورج واشنطون رسالة خطية يشكره على المعاهدة.
وكان المولى محمد الثالث مدركاً لأهمية الرابطة الإسلامية مخلصاً لها، ولذا كان شديد المراعاة للسلطنة العثمانية رغم تطلعها التاريخي لبسط نفوذها على المغرب، مثلما بسطته على دول المغرب العربي وتونس،  وفي سنة 1182 نشبت الحرب في القِرِم بين السلطان مصطفى الثالث وبين الملكة كاترينا، ووقفت فرنسا مع الدولة العثمانية، وكان لذلك وقعه عند محمد الثالث الذي قال في رسالة له إلى ملك فرنسا لويس الخامس عشر في منتصف سنة 1186: إننا معك على المهادنة والصلح التامَّين، والذي أكدَّ ذلك ما بلغنا عنك من ميل نفسك لجانب أخينا السلطان مصطفى نصره الله وانحياشك إليه ومحبتك لنصرته على جنس الموسكو دمره الله، وقد أعجبنا ذلك وزادك عندنا عهدا ومكانة، تولى الله هدايتك؛ آمين.
وبقي هذا منهج الملك محمد الثالث حتى وفاته، فقد ورد في منشور أرسله إلى كافة القناصل بثغر طنجة في سنة 1202: إن كل من هو على صلح مع السلطان العثماني فهو على صلح معنا... واليوم الذي يعقد فيه جنس الصلح مع السلطان العثماني، فقد عقده معنا... ونأمركم أن تعلموا بهذا جميع أجناس النصارى.
توفي المولى محمد في منتصف عام 1204=1790 بعد أن حكم المغرب 33 سنة، كان فيها مجدداً على الصعيد السياسي الداخلي والخارجي، ورائداً لنهضة علمية وفكرية، فكانت حقبته من الحقب الذهبية في تاريخ المغرب الأقصى.
أما الملك لويس الخامس عشر والذي ولد سنة 1710 وتولى الحكم في ظل وصاية بعد وفاة جده سنة 1715، ثم تولاه مستقلاً بعد بلوغه سن الرشد في سنة 1723، ولكنه كان تحت تأثير الكاردينال دو فلوري حتى وفاته سنة 1744، حيث تحرر الملك من نفوذه وبدأت يحكم وفقاً لنظرته ورأيه، ولكنه كان واقعاً في قراراته السياسية تحت تأثير بعض من محظياته العديدات، وفي سنة 1756 شكل تحالفاً مع النمسا ليخوض حرباً مع بريطانيا عُرِفت بحرب السبع سنوات، وكانت نتيجتها كارثية على فرنسا التي لم تكن كفؤاً لبريطانيا من حيث القوة البحرية أو الموارد البشرية، وخسرت عقبها فرنسا كل مستعمراتها في أمريكا الشمالية، وجاءت هذه المعاهدة عقبها ضمن محاولات لتقوية مركز فرنسا على الصعيد الدولي بعد خسارتها الساحقة إزاء بريطانيا، وبسبب من سياساته الخارجية الفاشلة وإصلاحاته الإدارية والمالية التي لم تلق القبول، مات لويس الخامس عشر في سنة 1774 وهو مكروه مذموم بين أبناء شعبه.
أما السفير الكونت دبرينون، واسمه بيير كلود هودِنو، فينحدر من عائلة نبلاء فرنسية خدمت في البحرية الفرنسية أبا عن جد، وولد في سنة 1717والتحق بالبحرية في سن السادسة عشرة، وترقى فيها حتى صار قائد فرقاطة، ثم جعله لويس الخامس عشراً سفيراً فوق العادة وأرسله في بعثة دبلوماسية إلى المغرب ضمت عدة سفن من الأسطول الفرنسي وكان هو على السفينة لو ينيون التي كانت مسلحة بأربعة وستين مدفعاً و450 رجلاً، وقابل السلطان في مراكش، ودارت المباحثات في أمر الاتفاقية 10 أيام وانتهت بتوقيعها، وعاد الكونت دبرينون إلى قصر فرساي وقدم تقريره للملك الذي أنعم عليه برتبة نائب أدميرال، وشارك دبرينون في سنة 1778 في الأسطول الذي أرسلته فرنسا لمساعدة الأمريكان في حرب الاستقلال عن بريطانيا، ولقي حتفه غيلة سنة 1792 في مجازر أيلول التي جرت بعد أيام من الثورة الفرنسية وإلغاء الملكية.

الجمعة، 17 أكتوبر 2014

حدث في الثاني والعشرين من ذي الحجة

 
في الثاني والعشرين من ذي الحجة من عام 798، 25 أيلول/سبتمبر 1396، وقعت معركة قلعة نيكوبوليس على نهر الدانوب، واسمها اليوم نيقوبول في بلغاريا، بين السلطان العثماني بايزيد وبين حملة صليبية قادها الملك سيجيسموند ملك هنغاريا وتكونت من نبلاء وقوات من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا وجمهورية البندقية، وانجلت عن انتصار العثمانيين وانتهاء الآمال الأوربية في هزيمة الأتراك أو استرجاع الأراضي التي احتلها الصليبيون سابقاً في المشرق العربي، ويعد  المؤرخون هذه المعركة آخر الحملات الصليبية في القرون الوسطى.
وكان السلطان مراد الأول الذي استشهد سنة 791، عن 65 سنة، بعد ظفره في معركة كوسوفو على  الصرب، قد مهد طيلة حكمه الذي دام 30 سنة لقيام الإمبراطورية العثمانية، فاستولى على كثير من مقاطعات الأناضول التي كان يحكمها أمراء متفرقون، ثم اتجه للاستيلاء على بلغاريا ومقاطعة الروم، وبعضها اليوم تركيا الأوروبية، ثم حاصر القسطنطينية واستولى على صربيا التي كانت هزيمتها في معركة كوسوفو قاصمة لم تقم لها بعدها قائمة.
وخلف مراداً ابنُه بايزيد، المولود سنة 761،  فتابع خطة والده، وعين الأمير اسطفان وهو ابن لازار ملك الصرب المهزوم المقتول حاكما على صربيا، وتزوج أخته اوليفيرا، وحتى يكسب الصربيين ولا يشغلوه عن مهامه الأخرى، لم يضم صربيا إلى الدولة ويجعلها ولاية كباقي الولايات، ثم استولى دون قتال يذكر على ما تبقى من مقاطعات في تركيا الآسيوية واحدة تلو الأخرى، ثم يمم السلطان بايزيد وجهه إلى التوسع في أوروبا والاستيلاء على القسطنطنية التي كانت في يد الإمبراطور البيزنطي مانويل باليولوج، المولود سنة 752=1350.
ويعتبر المؤرخون السلطان بايزيد، الملقب بالصاعقة، المؤسس الأول للدولة العثمانية على أساس من الشريعة الإسلامية والتقاليد العثمانية، وأنه هو الذي أعطاها لأول مرة صبغة الدولة المنظمة ذات المؤسسات المتخصصة بعد أن كانت أشبه بإمارة بسيطة قائمة على الغارات والفتوح.
وحقق السلطان بايزيد في أوائل سنة 798 انتصارات في سالونيك والمورة الواقعة اليوم في اليونان، وانتزع أغلبها من يد جمهورية البندقية التي كانت تحكم بعضها وتتحكم ببعضها الآخر، وووقفت قواته على حدود هنغاريا، مع إبقائه الحصار على على القسطنطينة التي لم يخف رغبته في أن يجعلها عاصمة مملكته.
وتأثرت بهذه الانتصارات مصالح دول أوروبية لها نفوذها وأهميتها، فسيطرة الأتراك على شبه جزيرة البلقان والموانئ التابعة للبندقية فيها سوف يطيح بنفوذها في بحري إيجة والأدرياتكي، وأما جمهورية جنوة فكانت في يدها قلعة غلطا الواقعة على خليج القرن الذهبي في القسطنطينية، وكانت تتحكم بالتجارة في البحر الأسود ونهر الدانوب، وكان من المحتم أن تطيح بتجارتها واحتكاراتها سيطرةُ الأتراك على الدانوب والمضائق التركية.
وكانت المؤسسة البابوية قد تعرضت لانشقاق نجم عنه وجود حبرين كل منهم يدعي أنه البابا الشرعي، وكانت الدعوة لحملة صليبية جديدة وسيلة قوية لدعم الشرعية، ورغم أن حرب المئة عام كانت مستمرة بين فرنسا وبين إنجلترا، إلا أن بدايات عام 1395 شهدت ملك فرنسا شارل السادس يوقع هدنة طويلة الأمد مع ريتشارد الثاني ملك بريطانية ويزوجه ابنته، وأما فيليب الثاني دوق بورجندي أقوى رجل في فرنسا بعد الملك شارل السادس، فأراد من وجوده على رأس حملة صليبية أن يزيد نفوذه ليصبح أقوى حتى من الملك.
ولذا استجاب كل هؤلاء للبعثة التي أرسلها الملك سيجيسموند ملك هنغاريا إلى أوروبا تناشد البابا وملوكها ونبلاءها أن يطردوا 40.000 تركي عاثوا فساداً في الأراضي المسيحية، فأعلن البابا بونيفاس عن حملة صليبية جديدة، وأرسل شارل السادس رسالة لسيجيسموند قال فيها إنه بصفته رئيس ملوك المسيحية فإنه مسؤول عن حماية النصارى ومعاقبة بايزيد، واستجاب نبلاء فرنسا بحماسة بالغة لفكرة شن حرب صليبية جديدة وانضم لها كبار قادتهم ومشاهير شجعانهم.
وجرى تسويق التحالف على أساس ديني ليكون الحملة الصليببية الأخيرة التي ستهزم العثمانيين وتوقف توسعهم في أوروبا، وتفك الحصار عن القسطنطينية، بل وستجوس بعدها خلال الأناضول حتى تصل إلى بيت المقدس وتنتزعه من المسلمين، وتزعم الحملة الملك سيجيسموند وانضم إليه فرسان النبلاء من فرنسا وبورجندي وإنكلترا وألمانيا وهولندا، وأرسلت البندقية أسطولاً يقوده توماسّو موسينيجو، الذي سيصبح دوق البندقية بعد 18 عاماً، ونقل الأسطول فرسانَ المعبد من جزيرة رودس عبر المضائق إلى البحر الأسود ثم إلى نهر الدانوب، دون أن يتعرض لأي هجوم من الجانب التركي الذي لم تكن لديه آنذاك  القدرة البحرية للتصدي للبنادقة.
ولم يكن الإمبراطور مانويل غريباً عن السلطان بايزيد، فقد ساعد السلطان مراد والدَه الإمبراطور يوحنا الخامس ومانويل نفسه في استرداد العرش من منافسيهما اندرونيقوس الرابع وابنه يوحنا السادس، ولذا كان البيزنطيون يؤدون الجزية للعثمانيين ويقدمون لهم المساعدة العسكرية عند الطلب، وكان مانويل قد عاش سنوات في البلاط العثماني ضمانة لتنفيذ الاتفاق، فلما بلغته وفاة والده سنة 793=1391، هرب من بورصة إلى القسطنطينة وجلس على العرش البيزنطي، وقام السلطان بايزيد على إثر ذلك بمحاصرة القسطنطينية، دون أن يستطيع اقتحام أسوارها المنيعة أو منع المدد والمؤن عنها من جهة البحر.
أما الملك سيجسموند، المولود سنة 769=1368 فكان من آل لوكسمبرغ المنتمين للأسرة الملكية الألمانية التي حكم أفرادها دول كثيرة في غرب أوروبا كانت واقعة تحت نفوذ أو ضمن ممتلكات الإمبراطورية الرومانية المقدسة، كما كانت تسمى هذه الإمبراطورية الألمانية، والتي كان والده شارل الرابع إمبراطورها، وتمت خطبته وهو طفل على ماريا ابنة الملك لويس الأول ملك هنغاريا وبولندا، ولما توفي والده وهو في العاشرة انتقل ليعيش معها، وتوفي والد زوجته في سنة 1382 فأصبحت زوجته ملكة هنغاريا وتوج هو شريكاً لها في سنة 788= 1387، ثم أصبح ملك هنغاريا عند وفاة زوجته سنة 1395، وسيصبح ملكاً لألمانيا في سنة 1411 ثم إمبراطوراً  في سنة 1433 قبل أن توافيه منيته في سنة 1437.
وتزعم القوات الفرنسية دوق بورجندي، الملقب جون الذي لا يخاف، والذي زوجه والده، وهو في الثالثة عشرة، من أميرة بافارية، وكانت سنه وقت المعركة 24 عاماً، وأرسل والده معه مجموعة من المستشارين والعسكريين منهم الجنرال جَيّ  لا ترمويل الجدُّ الأكبر لأسرة فرنسية عريقة من العسكريين.
وتتباين الأقوال في أعداد قوات الجانبين تبايناً ذريعاً، وهو تباين مألوف في مثل هذه المواطن لتبرير الهزيمة أو تمجيد الانتصار، فأحياناً يبالغ المهزوم في عدد قوات المنتصر ويقلل عدد قواته، ويفعل عكس ذلك المنتصر، وأحياناً يبالغ المنتصر في عدد قواته لإظهار العظمة واالفخر، ويقلل أعداد خصمه احتقاراً له واستخفافاً بأمره، وتتراوح أقوال المؤرخين في عدد القوات الصليبية من 12.000 إلى 35.000 إلى 200.000 جندي، وتتباين كذلك أقوالهم في عدد جيش بايزيد من  12.000 إلى 200.000 مقاتل، ويرجح الباحثون المعاصرون على ضوء بحوثهم المستقصية أن القوات الصليبية عدت قرابة 50.000 جندي، وأن القوات العثمانية كانت بين 20.000 وبين 25.000 جندي.
وتكون أغلب القوات الصليبية من القوات الفرنسية، يليها في الأهمية فرسان المعبد من جزيرة رودس، ويليها الجيش الهنغاري وأمراء وأفراد من أنحاء أوروبا، وتجمعت هذه القوات قرب بودابست قبل شهرين من المعركة، ولما اجتمع القادة لمناقشة خطط القتال القادم اختلفوا اختلافاً شديداً، إذ كان بايزيد قد توعد في السنة الماضية أنه سيهاجم هنغاريا في شهر أيار/مايو، وها هم بعد الموعد الذي ضربه بشهرين ولا أثر له، وأثار هذا حماسة الفرنسيين الذين اعتبروه جباناً يفر من المواجهة، وأن عليهم إنجاز ما جاءوا من أجله وتعقبه إلى عقر داره وهزيمته الهزيمة الأخيرة! وخالفوا رأي سيجيسموند، وهو الخبير بالأتراك، الذي قال لهم: إن بايزيد آت ولا بد، فلنبق هنا في انتظاره وجنودنا مرتاحة جاهزة بدلاً من أن نسير إليه.
وسارت الحملة الصليبية قرابة 800 كيلومتر على ضفاف الدانوب، ولما دخلت المناطق الخاضعة للأتراك نهب أفرادها الممتلكات وانتهكوا الأعراض رغم أن سكان هذه المناطق من المسيحيين، وحقق الصليبيون انتصارات مبدئية حين استولوا على فيدين التي كانت عاصمة بلغاريا الغربية، فقد سلمها أميرها البلغاري سلماً دون قتال، فقام الفرنسيون بقتل كل الجنود الأتراك فيها، وزاد هذا من شعورهم أن الأتراك أضعف من أن يفكروا بمواجهتهم في ميدان القتال.
وكان الهدف التالي قلعة راهوفا التي تبعد 120 كيلومتراً، والتي أراد الفرنسيون أن يجعلوا منها فرصة لإظهار بسالتهم  التي لم يتح لهم إظهارها حتى الآن، فأغذوا السير ليلاً ليصلوها قبل حلفائهم، وفاجأوا الأتراك ولكنهم لم يستطيعوا متابعة هجومهم واقتحام خندقها حتى وصل سيجيسموند فتمكنوا من الوصول إلى أسوار القلعة.
وفي اليوم التالي اتفق سكان راهوفا على التسليم للملك سيجيسموند لقاء الحفاظ على أرواحهم وأموالهم، وما أن دخلت القوات القلعة حتى ضرب الفرنسيون بالاتفاق عرض الحائط وقتلوا الأهالي ونهبوا الممتلكات مدعين أنها فتحت بحد سيوف فرنسا، وأخذوا 1.000 من سكانها الأتراك والبلغار رهائن، ثم أحرقوا البلدة، وكانت هذه إهانة ما بعدها إهانة للملك البلغاري، الذي اتهمه الفرنسيون أنه يحاول سرقة شرف الانتصار بحد السيف.
ووصل الصليبيون إلى حصن نيقوبوليس المنيع على نهر الدانوب في 8 ذي الحجة، والذي كان مدينة ذات سورين، على هضبة عالية صعبة المرتقى تتحكم بالدانوب الأسفل والطرق البرية، وكان القائد التركي دوغان بك قد استعد للصليبيين بأن أحكم تحصينها وشحنها بالمؤن والسلاح،  وكان على يقين أن السلطان بايزيد سينجده ويدحر الصليبيين، وفي المقابل كان الصليبيون يفتقدون آلات الحصار ومدافعه الثقيلة فقرروا القيام بحصار طويل إلى أن تنفد مؤن الحصن ويضعف مقاتلوه فيستسلموا أو يقتحموه بأقل الخسائر، ولم يتصوروا أبداً أن بايزيد سيصل على جناح السرعة ليقاتلهم.
وعلم السلطان بايزيد بنبأ الحصار، فترك قواته المرابطة على القسطنطينية وساق على جناح  السرعة إلى نيقوبوليس على رأس جيشه، وتواترت الأخبار بقدومه ولكن بعض القادة الفرنسيون اعتبرها مجرد إشاعات تثار لإضعاف الروح المعنوية لدى الصليبين، ونصب قائد فرنسي خرج يستطلع كميناً ناجحاً لفرقة تركية وأثخنها قتلاً، وعاد برايات الظفر إلى المعسكرات، فقوى هذا من اعتقاد الفرنسيين جبن وضعف الأتراك، وزادهم استهتارا بهم.
وشرح سيجيسموند، المقاتل المجرب، للفرنسيين أن الأتراك كانوا يقدمون أسوأ مقاتليهم لصد الهجمة الأولى حتى إذا أنهكوا المهاجمين شنت الخيالة التركية، وتدعى الصباهية، هجماتها الفتاكة، واقترح أن يبدأ الهجوم جنود المشاة من الأفلاق لخبرتهم السابقة في حرب الأتراك، ثم يتلوهم الفرسان الفرنسيون في حين يقوم الهنغاريون مع القوات الأخرى بالحيلولة دون أن تهجم خيالة الأتراك على جانب الفرسان.
واعتبر الفرنسيون اقتراحه إهانة كبيرة، فكيف يتركون الصفوف الأولى ويقاتلون وراء غيرهم، وإزاء إصرارهم على ذلك، تركهم سيجيسموند وشأنهم ورسم خططه الخاصة بقواته، وبعد بضع ساعات أخبرته طلائعه أن جيش بايزيد سيصل بعد 6 ساعات، فأرسل يخبر الفرنسيين ذلك، فدبت في صفوفهم الفوضى ولبس بعضهم الذعر، وقاموا بقتل كل الرهائن الذين أخذوهم من راهوفا.
وفي صباح يوم المعركة أرسل سيجيسموند كبير قادته ليقول إن جواسيسه يراقبون الطلائع التركية، وسأل تأجيل الهجوم ساعتين ريثما يعود جواسيسه بتقييم دقيق لعدد ومواقع قوات العدو، وأثار هذا شك بعض القادة الفرنسيين في أن تكون خدعة منه ليحرمهم من شرف المعركة، وبعد نقاش مستفيض قرر الفرنسيون مباشرة الهجوم على الهضبة.
وبدا للفرنسيين أول الأمر أنهم انتصروا فقد تشتت الخطوط الأولى من مشاة الأتراك، ولكن الخوازيق الخشبية كانت في انتظارهم فقتلت خيولهم واضطر كثير منهم للترجل والتخلي عن فرسه، ولما وصلوا أعلى الهضبة حيث كانوا يتوقعون أن يفتكوا بالقوات التركية المنهزمة، كان بايزيد كان ينتظرهم مع جماعة كبيرة من فرسانه يعضدهم 5000 فارس من الصرب فهاجمهم في الوقت الذي أصبحوا فيه منهكين من شدة القتال وتحت وطأة الدروع الأوروبية الثقيلة، وحاول سيجيسموند أن يهب لنجدتهم فدخل المعركة على عجل ولكن جنوده من الأفلاق وترانسلفانيا خذلوه وانسحبوا، ولم تكن قواته الهنغارية لتغني فتيلاً أمام الجيش التركي.
وأوقع الأتراك هزيمة منكرة بالصليبيين الذي قتل أكثرهم، ومن فاته القتل غرق في نهر الدانوب، وقتل عدد من كبار القادة الفرنسيين وأُسِر في المعركة جون الذي لا يعرف الخوف ومساعده جّي، واستطاعت قلة قليلة منهم سيجيسموند أن تنجو بأرواحها بعيداً عن ميدان القتال، فقد تعقب الأتراك الهاربين وقتلوهم أينما ثقفوهم، وقال سيجيسموند فيما بعد: لقد خسرنا المعركة بسبب غطرسة وكبرياء هؤلاء الفرنسيين، ولو أنهم اتبعوا نصيحتي لما كنا هزمنا هذه الهزيمة المنكرة.
وأمر السلطان بايزيد بفرز الأسرى إلى نبلاء ينتظر منه افتداء أنفسهم بمبالغ كبيرة، وعامة يحالون إلى أعمال السخرة في تركيا، ولكنه لما اكتشف جثث الرهائن القتلى غضب غضباً شديداً وأمر بقتل عدد من أسرى العامة أمام أعين النبلاء الأسرى، وساق كل بقية الأسرى إلى جاليبولي ثم اعتقل نبلاءهم في العاصمة بورصة في انتظار مفاداتهم.
ووصلت أخبار الهزيمة المنكرة إلى باريس بعد قرابة شهرين، واتهمت الحكومة ناقليها بتخريب الروح المعنوية وهددتهم بالتغريق، ثم ما لبث أن تأكد الأمر حين وصل أحد النبلاء الأسرى إلى فرنسا، أرسله بايزيد ليسعى في فدية أصحابه، فأقيمت المناحات على القتلى والمفقودين، وأعلنت الحكومة الحداد في سائر أنحاء فرنسا، وبدأت، تساعدها البندقية، المفاوضات مع السلطان بايزيد لإطلاق سراح هؤلاء التي مات بعضهم في الأسر وعاد بعضهم إلى فرنسا بعد قرابة سنة.
وبانتصاره في نيكوبوليس جعل بايزيد الأوربيين يفكرون ألف مرة قبل أن يشكلوا تحالفاً جديداً ضد الأتراك، وبعد هزيمة الصليبيين أصبح سقوط القسطنطينية مسألة وقت لا أكثر، فقد كان العثمانيون يحاصرونها من البر، وقال السلطان بايزيد في إحدى مراسلاته للإمبراطور مانويل: إن إمبراطوريتك لا تتعدى حدود أسوار مدينتك.
واقترح القائد الفرنسي بوسيكاوت على الإمبراطور مانويل أن يذهب شخصياً إلى العواصم الأوروبية ويتحدث شخصياً مع البابا والملوك لحشد التأييد والجيوش، وأمضى الإمبراطور سنتين في أوروبا لقي فيها الترحيب والإكرام والوعود وقليلاً من التنفيذ على أرض الواقع، فقد كانت هزيمة نيكوبوليس لا تزال في كل مخيلة، ولترغيب الكنيسة في دعمه عرض مانويل توحيد الكنيسة الشرقية مع الكنيسة الغربية وهو أمرٌ رفضه كثير من رعيته وقساوسته، فكانت خسارته منه أكثر من ربحه، ولكن الفرج أتى مانويل من حيث لم يحتسب؛ فقد أتته الأخبار وهو في باريس أن الزعيم المغولي تيمور لنك هزم السلطان بايزيد في معركة أنقرة في آخر سنة 804=1402 وأخذه أسيراً حتى مات في الأسر بعد بضعة شهور.
ولم يكن للغزو المغولي تأثير يذكر على المقاطعات العثمانية الأوروبية، واختلف أولاد السلطان بايزيد على خلافته فيها، واستعانوا في صراعهم بالبيزنطيين الذين تحولوا من أعداء إلى حلفاء، وأبرم سليمان بن بايزيد معاهدة سلام مع مانويل سنة 805=1403 أعاد إليه بموجبها سالونيك وأعفاه من دفع الجزية، بل وتزوج إحدى قريباته، وفي المقابل ساعده مانويل في نزاعه ضد أخوته، وبعد صراع قارب 10 سنوات رجحت كفة محمد بن بايزيد وقضي على أخيه سليمان، ولكن أخاه وساعده الأيمن موسى تغير عليه وسار إلى القسطنطينية ليستولى عليها لنفسه ويؤسس فيها مملكته، فاستغاث به مانويل فسار إليه محمد وقضى على موسى، واستقامت للسلطان محمد الأمور، وبقيت العلاقات مع العثمانيين ودية هادئة حتى سنة 824=1421 حين توفي السلطان محمد وخلفه ابنه مراد الثاني، وكذلك اعتزل مانويل الحكم ليتفرغ للتنسك، وجعل ابنه يوحنا الثامن شريكه على العرش.
ذلك إن يوحنا لم يقدر حق قدرها العلاقة الدقيقة التي نجح والده في رعايتها فتدخل في الشؤون الداخلية للسلطنة العثمانية وأيد مدعياً للمُلك يدعى مصطفى ضد الملك الشرعي مراد الثاني، فما أن قضى السلطان مراد على المدعي حتى حاصر القسطنطينة واسترجع بعض الأراضي اليونانية التي أعادتها المعاهدة، وأصبحت العلاقة علاقة حرب وعداء، فمهد هذا لفتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح سنة 1453.
 

 
log analyzer