الأحد، 31 أغسطس 2008

تمذهبتَ للنعمان بعد ابن حنبل

المبارك بن المبارك بن سعيد بن الدهان أبو بكر بن أبي طالب النحوي الواسطي الضرير الملقب بالوجيه والمتوفى سنة 612 عن ثمانين سنة. قرأ القراءات واشتغل بالعلم، كان حنبليا ثم تفقه على مذهب أبي حنيفة، وقيل انتقل إلى مذهب الشافعي، وفيه يقول أبو البركات بن التكريتي المؤيد الشاعر:

ومن مبلغ عني الوجيه رسالة * وإن كان لا تجدي لديه الرسائلُ
تمذهبتَ للنعمان بعد ابن حنبل * وذلك لما أعوزتك المآكل
وما اخْـتَرتَ رأي الشافعي ديانةً * ولكنما تهوى الذي هو حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر * إلى مالكٍ فانظر لما أنا قائل


ومالك خازن النار كما لا يخفى.

السبت، 30 أغسطس 2008

وبودي أني واحدٌ منكم

قدم الأمير محمد بن جعفر ولي عهد الخليفة العباسي المعتمد من الجبل إلى العراق سنة 278، وقد اشتد به وجع النِّقْرس، حتى لم يقدر على الركوب، فاتُخذ له سريرٌ عليه قبة، فكان يقعد عليه، ومعه خادم يبرّد رجله بالأشياء الباردة، حتى بلغ من أمره أنه كان يضع عليها الثلج، ثم صارت علةُ رجله داءَ الفيل وكان يحمل سريره أربعون حمالاً، يتناوب عليه عشرون عشرون، وربما اشتد به أحياناً فيأمرهم أن يضعوه، فقال لهم يوماً: قد ضجِرتم وبودي أني واحدٌ منكم أَحمِل على رأسي، وآكل، وأني في عافية، قد أطبق دفتري على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أقبح حالاً مني. ثم توفي عن 49 سنة.

الجمعة، 29 أغسطس 2008

يا رسول الله خويدمك

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أخذت أمي أمُ سليم بيدي، وقد أزرتني بخمارها وردتني ببعضه، فجاءت الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هذا أنس، غلام لبيب كاتب، يخدمك، قال: فقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى الإمام أحمد عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً أطيبَ، ولا مَسَستُ شيئا قطّ ديباجاً ولا خزاً ولا حريراً ألين مَسّاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ثابت: فقلت: يا أبا حمزة ألستَ كأنك تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنك تسمع إلى نغمته، قال: بلى، والله إني لأرجو أن ألقاه يوم القيامة، فأقول: يا رسول الله خويدمك.

قال أنس رضي الله عنه: خدمته عشر سنين بالمدينة، وأنا غلامٌ ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن يكون، ما قال لي فيها أفٍ، وما قال لي لِـمَ فعلت هذا أو ألا فعلت هذا.

الخميس، 28 أغسطس 2008

الأمل

قال الإمام أبو عثمان النهدي عبدالرحمن بن مل المتوفى سنة 100: بلغت ثلاثين ومائة سنة فما من شيء إلا قد عرفت فيه النقصان إلا أملي فإنه ‏كما هو.‏

الأربعاء، 27 أغسطس 2008

ويلك! العُمَرَين!

كان الرشيد يستقبح المدح بالكذب ويذم المادح به، قال يوماً لبعض ولاته: كيف تركتَ الناس؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أحسنتَ فيهم السيرة، وأنسيتَهم سيرة العُمَرَين. فغضب الرشيد واستشاط وقال: ويلك يا ابن الفاعلة: العُمَرَين! العُمَرَين! وأخذ سفرجلة فرماه بها فكادت تهلكه، وأُخرج من بين يديه.

والعمران أبو بكر وعمر رضي الله عنهما

الثلاثاء، 26 أغسطس 2008

أيسر الخطب

وقالوا لها هذا حبيبك معرضٌ * فقالت ألا إعراضُه أيسرُ الخطبِ
فما هي إلا نظرة بتبسمٍ * فتصطكَ رجلاه ويسقطَ للجنب

الاثنين، 25 أغسطس 2008

مناظرة في المنام

قال المؤرخ الحجة والأديب الماهر أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر المعروف بابن خَلِّكان، والمتوفى سنة 681 عن 73 سنة، في كتابه وفِياتُ الاعيان وأنباءُ أبناءِ الزمان في ترجمة الإمام النحوي أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي البصري المعروف بالمبَـرَّد النحوي والمتوفى سنة 286 عن 76 عاماً:

وكنت رأيت المُبَرَّد في المنام، وجرى لي معه قصة عجيبة، فأحببت ذكرها، وذلك أني كنت بالإسكندرية في بعض شهور سنة 636 - أي عندما كان في الثامنة والعشرين - وأقمت بها خمسة أشهر، وكان عندي كتاب الكامل للمبرد، وكتاب العِقد الفريد لابن عبد ربه، وانا أطالع فيهما، فرأيت في العِقدِ في فصلٍ تَرْجَمَهُ بقوله - أي جعل عنوانه - ما غُلِطَ فيه على الشعراء، وذكر أبياتاً نسبوا اصحابها فيها إلى الغلط وهي صحيحة، وإنما وقع الغلط ممن استَدرَكَ عليهم لعدم إطلاعهم على حقيقة الأمر فيها، ومن جملة من ذكر المبرد فقال: ومثلُه قولُ محمد بن يزيد المبرد النحوي في كتاب الروضة وردَّ على الحسن بن هانئ يعني أبا نواس في قوله

وما لبكر بن وائل عِصَمٌ * إلا بحمقائها وكاذبـها

فزعم أنه أراد بحمقائها هَبَنَّقة القيسي، ولا يقال في الرجل حمقاء، وإنما اراد دُغَة العجلية وعِجْلٌ في بكر، وبها يضرب المثل في الحمق. هذا كله كلام صاحب العقد، وغرضه أن المبرد نسب أبا نواس إلى الغلط بكونه قال بحمقائها، واعتقد أنه أراد هبنقة، وهنبقة رجل، والرجل لايقال له حمقاء، بل يقال له أحمق، وأبو نواس إنما أراد دُغة وهي امرأة، فالغلط حينئذ من المبرد لا من أبي نواس.

فلما كان بعد ليال قلائل من وقوفي على هذه الفائدة، رأيت في المنام كأني بمدينة حلب في مدرسة القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد، وفيها كان اشتغالي بالعلم، وكأننا قد صلينا الظهر في الموضع الذي جرت العادة بالصلاة فيه جماعة، فلما فرغنا من الصلاة قمت لأخرج، فرأيت في آخريات الموضع شخصا واقفا يصلي، فقال لي بعض الحاضرين: هذا أبو العباس المبرد، فجئت إليه، وقعدت إلى جانبه أنتظر فراغه، فلما فرغ سلمت عليه، وقلت له: أنا في هذا الزمان أطالع في كتابك الكامل، فقال لي: رأيتَ كتابي الروضة؟ فقلت: لا، وما كنت رأيتُه قبل ذلك، فقال: قم حتى أريك إياه، فقمت معه وصعد بي إلى بيته فدخلنا فيه، ورأيت فيه كتبا كثيرة، فقعد قدامها يفتش عليه، وقعدت أنا ناحية عنه، فأخرج منه مجلدا ودفعه إلي ففتحتُه وتركته في حجري، ثم قلت له: قد أخذوا عليك فيه، فقال: أي شيء أخذوا؟ فقلت: أنك نسبت أبا نواس إلى الغلط في البيت الفلاني، وأنشدتُه إياه، فقال: نعم غلط في هذا، فقلت له: إنه لم يغلط بل هو على الصواب، ونسبوك أنت إلى الغلط في تغليطه، فقال: وكيف هذا؟ فعرفته ما قال صاحبُ العقد، فعضّ على رأس سبابته، وبقي ساهياً ينظر إليّ وهو في صورة خجلان، ولم ينطق، ثم تيقظتُ من منامي وهو على تلك الحال، ولم أذكر هذا المنام إلا لغرابته.

الأحد، 24 أغسطس 2008

فِقه بُرد أضرُ علينا

كان بشار بن بُرْد يقول الشعر وهو صغير، وكان لا يزال قوم يشكونه إلى أبيه فيضربه، حتى رقَّ عليه من كثرة ما يضربه، وكانت أمه تخاصم أباه، فكان يقول لها: قولي له يكف لسانه عن الناس.

فلما طال ذلك عليه قال له ذات ليلة: يا أبت لم تضربني كلما شكوني إليك؟ قال: فما أعمل؟ قال: احتج عليهم بقول الله تعالى: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج.

فجاءوه يوماً يشكون بشاراً فقال لهم هذا القول، فقالوا: فِقه بُرد أضرُ علينا من شعر بشار.

السبت، 23 أغسطس 2008

وإن كان موسى الذي سألتني عنه

محمد بن الهذيل أبو الهذيل شيخ المعتزلة ومصنف الكتب في مذاهبهم، ولد سنة 135 وتوفي سنة 235.

قال أبو الهذيل: أول ما تكلمت كان لي أقل من خمس عشرة سنة، وكنت أختلف إلى عثمان الطويل صاحب واصل بن عطاء، فبلغني أن رجلاً يهودياً قدم البصرة وقد قطع - أي أفحم - عامة متكلميهم، فقلت لعمي: يا عم، امض بي إلى هذا اليهودي أكلمه، فقال لي: يا بني، هذا اليهودي قد غلب جماعة متكلمي أهل البصرة، أفمن جدك أن تكلم من لا طاقة لك بكلامه. فقلت: لا بد من أن تمضي بي إليه، وما عليك مني غلبني أو غلبته.

فأخذ بيدي ودخلنا على اليهودي، فوجدته يقرر الناس الذين يكلمونه بنبوة موسى، ثم يجحد نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول: نحن على ما اتفقنا عليه من صحة نبوة موسى إلى أن نتفق على نبوة غيره فنقر.

قال: فدخلت عليه، فقلت له: أسألك أو تسألني؟ فقال لي: يا بني أو ما ترى ما أفعله بمشايخك؟ فقلت له: دع عنك هذا واختر، إما أن تسألني، أو أسألك. فقال: بل أسألُ. أخبرني، أليس موسى نبي من أنبياء الله تعالى قد صحت نبوته، وثبت دليله، تقر بهذا أو تجحده فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن الذي سألتني عنه من أمر موسى عندي على أمرين، أحدهما: أني أقر بنبوة موسى الذي أَخبرَ بصحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمَرَ باتباعه، وبَشرَ به وبنبوته، فإن كان عن هذا تسألني فأنا مُقرٌّ بنبوته، وإن كان موسى الذي سألتني عنه لا يقرُّ بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرنا باتباعه، ولا بَشّرَ به، فلستُ أعرفه ولا أُقر بنبوته، بل هو عندي شيطان مخزى.

فتحير لما ورد عليه ما قلته له وقال لي: فما تقول في التوراة؟ قلت: أمر التوراة عندي أيضاً على وجهين، إن كانت التوراة التي أنزلت على موسى النبي الذي أقر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهي التوراة الحق، وإن كانت أنزلت على الذي تدعيه فهي باطل غير حق، وأنا غير مصدق بها.

فقال لي: أحتاج أن أقول لك شيئاً بيني وبينك، فظننت أنه يقول شيئاً من الخير، فتقدمت إليه، فسّارني وقال: أمُك كذا وكذا، وأمُ من علّمك، لا يُكَني. وقَدّر أني أثب به فيقول: قد وثبوا بي وشغبوا علي، فأقبلتُ على من كان في المجلس فقلت: أليس قد عرفتم مسألته إياي، وجوابي له؟ فقالوا: نعم. فقلت: أليس عليه أن يردَ جوابي؟ قالوا: نعم. قلت: إنه لما سّارني شتمني الشتمَ الذي يوجب الحد، وشتم من علمني، وإنما قَدّرَ أني أقوم أثبُ عليه، فيدعي أنّا واثبناه وشغبنا عليه، وقد عرفتكم شأنه بعد انقطاعه. فأخذته الأيدي والأكف بالنعال، فخرج هارباً من البصرة وقد كان له بها دين كثير، فتركه وخرج لما لحقه من الانقطاع.

الجمعة، 22 أغسطس 2008

واعقدن بالأنامل

روى الإمام أحمد والترمذي وابن أبي شيبة – ودخل من حديث بعضهم في بعض – عن هانئ بن عثمان الجُهَنِي عن أمه حُمَيْضَة بنت ياسر عن جدتها يُسَيْرَة، وكانت من المهاجرات، قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نساء المؤمنات عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس، واعْقِدْنَ بالأنامل، فإنهن يأتين يوم القيامة مسؤولاتٍ مستتنطَقات، ولا تَغفُلْنَ فتُنْسَيْنَ من الرحمة.

الخميس، 21 أغسطس 2008

استبقني لحربك، وزوجني أختك

كان الأشعث بن قيس الكندي في الجاهلية رئيساً مطاعاً في قومه، وكان في الإسلام وجيهاً في قومه، إلا أنه ممن ارتد عن الإسلام بعد النبي عليه السلام في خلافة أبي بكر الصديق، وأُتي به أبو بكر أسيراً. قال أسلم مولى عمر بن الخطاب: كأني أنظر إلى الأشعث بن قيس وهو في الحديد يكلم أبا بكر، وأبو بكر يقول: فعلتَ وفعلتَ حتى كان آخرَ ذلك، سمعت الأشعث يقول: استبقني لحربك، وزوجني أختك، ففعل أبو بكر وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة، وهي أم محمد بن الأشعث، وكان قد خطبها قبل أن يرتد.

خرج الأشعث مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما إلى العراق، فشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاونداً، واختط بالكوفة داراً في كندة ونزلها، وشهد التحكيم بين علي ومعاوية وكان آخر شهود كتاب التحكيم. مات رضي الله عنه بالكوفة سنة 42، وصلى عليه الحسن بن علي، وروى الأشعث أحاديث عن النبي عليه السلام.


روى إسماعيل بن أبي خالد قال: شهِدتُ جنازةً فيها جرير بن عبد الله البجلي والأشعث، فقدّم الأشعثُ جريراً، وقال: إني ارتدت ولم ترتد.

الأربعاء، 20 أغسطس 2008

مكايد البلاط

لم يكن أبو أيوب المورياني كاتب أبي جعفر المنصور ومتولي ديوان خراجه يأمن ناحية خالد بن برمك -المتوفى سنة 175 عن 75 سنة - وأن يرده أبو جعفر إلى كتابته وديوان الخراج، فكان يحتال عليه، وكان مما احتال به أن دس إلى بعض الجهابذة مالاً عظيماً وقال له: إذا سألك أمير المؤمنين على هذا المال فقل له إنه استودعينه خالد بن برمك، ثم دس من رفع إلى أبي جعفر في ذلك، فدعا أبو جعفر بالنصراني فسأله فقال: نعم عندي مالٌ لخالد بن برمك استودعنيه.

فبعث أبو جعفر إلى خالد فأحضره وسأله عن ذلك المال، فحلف أنه لم يجمع مالاً قط ولا ادخره، ولا رأى النصراني قط ولا عرفه، ثم قال: يا أمير المؤمنين ترسل إلى الجهبذ، وأكون في موضعي حيث يراني، فإن عرفني فقد صدق علي، وإن لم يعرفني فقد أظهر الله براءتي.

فبعث أبو جعفر إلى النصراني فقال: أصْـدِق أميرَ المؤمنين عن هذا المال، قال: يا أمير المؤمنين المال لخالد، وما قلتُ إلا حقاً، قال: أفتعرفُ خالداً إن رأيـتَه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أعرُفه إن رأيتُه، فالتفت أبو جعفر إلى خالد فقال: قد أظهر الله براءتك، وهذا مالٌ أصبناه بسببك، ثم قال للنصراني: هذا الجالس خالد فكيف لم تعرفه؟ قال: الأمان يا أمير المؤمنين، فأمنه فأخبره بالقصة، فأمره أبو جعفر بحمل المال إلى بيت المال، وكان بعد ذلك لا يقبل في خالد قولاً من أحد وازداد به ثقة وتقديماً.

الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

إلى بيتنا والله يذهبون به

قيل لعثمان بن دراج الطفيلي، وهو من مشاهير الطفيليين في زمن المأمون: كيف تصنع بالعرس إذا لم يدخلك أصحابه؟ فقال: أنوح على بابهم فيتطيرون من ذلك، فيدخلوني.

وقال يوماً: مررت بجنازة ومعي ابني، ومع الجنازة امرأة تبكي وتقول: يذهبون بك إلى بيت لا فراش فيه ولا وطاء، ولا ضياء ولا غطاء، ولا خبز ولا ماء، فقال ابني: يا أبت إلى بيتنا والله يذهبون به.

الاثنين، 18 أغسطس 2008

لو ترى الموت يشترى

لما أفضت الخلافة إلى المتوكل جعفر بن المعتصم بن الرشيد، أهدى إليه عبد الله بن طاهر من خراسان، هدية جليلة فيها جوارٍ، فيهن جارية يقال لها محبوبة، قد نشأت بالطائف، وبرعت في الأدب، وأجادت قول الشعر، وحذِقت الغناء، وقرُبت من قلب المتوكل وغلبت عليه، فكانت لا تفارق مجلسه، وزادت حظوة عنده، حتى كان من أمره ما كان وقُتِلَ سنة 247 وله 41 سنة ، فتفرق جواريه، وصارت محبوبة إلى وصيف الكبير، فما زالت حزينة باكية، فدعاها يوماً وأمرها أن تغني، فاستعفَتهُ فلم يقبل، وجيء بعود فوضع في حجرها، فغنت:


أي عيشٍ يَلَذُ لي * لا أرى فيه جعفرا
كلُ من كان في ضَنـّى * وسَقام فقد برا
غيرَ محبوبةَ التي * لو ترى الموت يُشترى
لاشترته بما حوته * يداها لتقبرا


ولبست السواد والصوف، وما زالت تبكيه وترثيه حتى ماتت رحمها اللّه تعالى.

الأحد، 17 أغسطس 2008

نور الدين الشهيد

ولد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في حلب عام 511، وانتقلت إليه إمارتها بعد وفاة أبيه عام 541، وامتدت سلطته في الممالك الإسلامية حتى شملت جميع سورية الشرقية وقسماً من سورية الغربية، والموصل وديار بكر والجزيرة، ومصر وبعض بلاد المغرب، وجانبا من اليمن، وخُطِبَ له بالحرمين.

كان معتنيا بمصالح رعيته، مداوما للجهاد، يباشر القتال بنفسه، وهو الذى حصّن قلاع الشام وبنى الأسوار على مدنها، وبنى مدارس كثيرة منها العادلية أتمها بعده العادل أخو صلاح الدين، ودار الحديث، وكلتاهما في دمشق، وهو أول من بنى دارا للحديث، وبنى الجامع النوري بالموصل، والخانات في الطرق.

كان متواضعا مهيبا وقورا، مكْرِما للعلماء، ينهض للقائهم، ويؤنسهم ولا يرد لهم قولا، عارفاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، ولا تعصب عنده. وسمع الحديث بحلب ودمشق ورواه، وكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام، يحضُرُ الفقهاء عنده، ويأمر بإزالة الحجاب حتى يصل إليه من يشاء، ويسأل الفقهاء عما يشكل عليه، ووقف كتبا كثيرة.

وكان يتمنى أن يموت شهيدا، فمات رحمه الله بعلة (الخوانيق) في قلعة دمشق سنة 569، فقيل له الشهيد وقبره في المدرسة النورية وكان قد بناها للأحناف بدمشق.

السبت، 16 أغسطس 2008

والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام

وفي سنة 558 جمع نور الدين محمود بن زنكي الشهيد عساكره ودخل بلاد الفرنج ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد - المعروف اليوم بقلعة الحصن - محاصراً له عازما على قصد طرابلس ومحاصرتها، فبينما الناس يوماً في خيامهم، وسط النهار، لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد، وذلك أن الفرنج اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهاراً، فإنهم يكونوا آمنين، فركبوا من وقتهم، ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم، وساروا مجدين، فلم يشعر بذلك المسلمين إلا وقد قربوا منهم، فأرادوا منعهم، فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال، فرهقهم الفرنج بالحملة، فلم يثبت المسلمون، وعادوا يطلبون معسكر المسلمين، والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معاً إلى العسكر النوري، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل، وأخذ السلاح، إلا وقد خالطوهم، فأكثروا القتل والأسر.


وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي، فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم، فلم يبقوا على أحد، وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه، ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله، فنزل إنسان كردي قطعها، فنجا نور الدين، وقُتِلَ الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلَّفيه، ووقف عليهم الوقوف.

ونزل نور الدين على بحيرة قدس - وهي بحيرة قطينة اليوم - بالقرب من حمص، وبينه وبين المعركة أربعة فراسخ، وتلاحق به من سلم من العسكر، وقال له بعضهم: ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا، فنؤخذ ونحن على هذه الحال. فوبخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام!

ثم أرسل إلى حلب ودمشق، وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل، فأعطى اللباس عوض ما أُخذ منهم جميعه بقولهم، فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة، وكل من قُتِل أعطى إقطاعَه - أي راتبه - لأولاده.

وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها.

ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خَرْجِه - أي نفقته - قال له بعضهم: إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء وغيرهم، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح؛ فغضب من ذلك وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم؛ كيف أقطع صلات قوم يدافعون عني، وأنا نائم على فراشي، بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني، بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟ ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح، فلم يجبهم، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم.

الجمعة، 15 أغسطس 2008

بِطانتان

روى النسائي وأحمد ، ودخل من حديثهما في بعض، عن ابن شهاب الزُهري عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من والٍ ولا أميرِ إلا له بِطانتان: بِطانةٌ تأمره بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبطانةٌ لا تألوه خَبَالاً، تأمره بالشر وتحضه عليه، ومن وُقِيَ شر بطانة السوء فقد وُقِيَ - يقولها ثلاثاً - وهو مع الغالبة عليه منهما.

الخميس، 14 أغسطس 2008

كم من حمارٍ على حمارِ

قال علي بن موسى الكاتب اتفقت أنا وأبو العيناء الضرير - أي التقينا صدفة - بمربعة الخرسي، فسلمت عليه، فقال لي: أحب أن تساعدني إلى سوق الدواب، فتوجهنا نقصدها فزحمه حمار عليه راكب، فأنشأ يقول:

يا خالق الليل والنهار ... صبراً على الذل والصَغَارِ
كم من جوادٍ بلا حمار ... ومن حمارٍ على حمارِ

الأربعاء، 13 أغسطس 2008

مهما شئت كُنْ

الوزير أبو القاسم المغربي الحسين بن علي بن الحسين، المتوفى سنة 418 عن 48 سنة، عُرف جده بالمغربي لأنه كان يختلف على ديوان المغرب، وكان عارفاً فضيلاً وبليغاً مترسلاً، ومفتَنـّاً في كثير من العلوم الدينية والأدبية والنجومية، ومشاراً إليه في قوة الذكاء والفطنة، وسرعة الخاطر والبديهة، ولما استوزره مشرف الدولة البويهي ببغداد تعظم وتكبر، ورهبته الناس، ودامت وزارته عشرة أشهر وأياما.

ولما نزل الوزير المغربي بواسط في درب الواسطيين مكث أياماً لم يحضر مسجدهم، فدخل عليه أبو بكر أحمد بن العباس الدونباي، فقال: يا شيخ، يا أستاذ، يا وزير، مهما شئت كُنْ، إن كنت تحضر مسجدنا هذا في الصلوات الخمس وإلا فانتقل عنا، فقال: السمع والطاعة أيها الشيخ، ثم انتقل عنهم من يومه.

الثلاثاء، 12 أغسطس 2008

أُنفِذُ من كتبك ما رأيتُ، وأقِفُ عما لا أرى

حدث مصعب بن عبد الله عن والده عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، المتوفى سنة 184 عن 73 سنة، فقال:

كان أبي يكره الولاية، فعرض عليه أمير المؤمنين هارون الرشيد ولاية المدينة، فكرهها وأبى أن يليها، وألزمه ذلك أمير المؤمنين الرشيد، فأقام بذلك ثلاث ليال يلزمه ويأبى عليه قبولها، ثم قال له في الليلة الثالثة: اغْدُ عليّ بالغداة إن شاء الله، فغدا عليه، فدعا أمير المؤمنين بقناة - أي برمح - وعمامة فعقد اللواء بيده، ثم قال: عليك طاعة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فخذ هذا اللواء، فأخذه وقال له: أما إذا ابتليتني يا أمير المؤمنين بعد العافية، فلا بد لي من اشتراطٍ لنفسي، قال له: فاشترِطْ لنفسك. فاشترَطَ خِلالاً منها أن مالَ الصدقات مالٌ قسمه الله بنفسه، ولم يَكِلْه إلى أحدٍ من خلقه، فلستُ أستجيز أن أرتزقَ منه، ولا أن أرزق المرتزقة، فاحْمِل معي رزقيَ ورزق المرتزقة من مال الخراج، قال: قد أجبتك إلى ذلك، قال: فأُنفِذُ من كتبك ما رأيتُ، وأقِفُ عما لا أرى، قال: وذلك لك.

قال: فولي المدينة، وكان يأمر بمال الصدقات يصير إلى عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وإلى آخر معه وهو يحيى بن أبي غسان الشيخ الصالح من أهل الفضل، فكانا يقسمانه، ثم ولّاه أميرُ المؤمنين هارون الرشيد اليمنَ، وزاد معها ولاية عَك، وكانت عَك إلى والي مكة، ورَزَقَه ألفي دينار في كل شهر، فقال يحيى بن خالد البرمكي وزير الرشيد: يا أمير المؤمنين كان رزقُ والي اليمن ألفَ دينار، فجعلتَ رزق عبد الله بن مصعب ألفي دينار، فأخاف أن لا يرضى أحدٌ تولية اليمن من قومك من الرزق بأقل مما أعطيت عبد الله بن مصعب، فلو جعلت رزقه ألف دينار كما كان يكون، وأعطيته من الألف الآخر مالاً تجيزه به، لم يكن عليك حجة لأحد من قومك في الجائزة، فصيّر رزقه ألف دينار، وأجازه بعشرين ألف دينار، فاستخلف على اليمن الضحاك بن عثمان بن الضحاك، وكلم له أميرَ المؤمنين فأعانه على سفره بأربعين ألف درهم، فأقام الضحاكُ خليفتَه حتى قدِمَ عليه.

الاثنين، 11 أغسطس 2008

قد رضي بك المسلمون

كان عليُّ بن داود بن عبد الله أبو الحسن الداراني المقرئ القطان المتوفى سنة 402 يؤم أهل داريا، ثم مات إمام الجامع الأموي بدمشق فخرج أهل دمشق إلى دارَيّا ليأتوا به للصلاة بالناس في جامع دمشق، فمنعهم أهل داريا من ذلك، وجرى بينهم كلام فيه جفاء، وحملوا السلاح، وكان فيمن خرج من أهل دمشق القاضي أبو عبد الله بن النصيبي الحسيني، فقال: يا أهل داريّا أما ترضون أن يُسمع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إلى إمام أهل داريا يصلي بهم؟ فقالوا: إنا رضينا، وألقوا السلاح، فقُدِمت له بغلةُ القاضي ليركبها فلم يفعل وركب حمارة كانت له، فلما ركب التفت إلى ابن النصيبي فقال: أيها القاضي الشريف، مثلي يصلحُ أن يكون إمام الجامع؟ وأنا علي بن داود كان أبي نصرانيا فأسلم وليس لي جَدٌ في الإسلام؟ فقال له القاضي: قد رضي بك المسلمون.

فدخل معهم وسكن في أحد بيوت المنارة الشرقية، وكان يصلي بالناس ويقرئهم في شرقي الرواق الأوسط من الجامع، ولا يأخذ على صلاته أجرا ولا يقبل ممن يقرأ عليه براً، ويقتات من غلة أرض له بداريا، ويحمل من الحنطة ما يكفيه من الجمعة إلى الجمعة، ويخرج بنفسه إلى طاحونة خارج باب السلامة فيطحنه ويعجنه ويخبزه ويقتاته طول الأسبوع.

وكان يقرأ عليه رجل مبخل له أولاد كانوا يشتهون عليه القطايف مدة وهو يمطلهم، فألقي في روع أبي الحسن بن داود أمرُهم، فسأله أن يتخذ له قطايف، فبادر الرجل إلى ذلك لأن أبا الحسن لم يكن له عادة بطلب شئ ممن يقرأ عليه ولا بقبوله، واشترى سكراً ولوزاً واتخذها في إناء واسع، ثم أكل منها فوجد لوزها مراً، فمنعه بخله من عمل غيرها، وحملها إلى ابن داود متغافلاً، فأكل منها واحدة ثم قال له: احملها إلى صبيانك، فجاء بها إلى بيته فوجدها حلوة فأطعمها أولاده.

الأحد، 10 أغسطس 2008

عبد الله بن المعتز

عبد الله بن محمد المعتز بالله ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد العباسي، أبو العباس: الشاعر المبدع، خليفة يوم وليلة.

ولد سنة 247 في بغداد، وأولع بالادب، فكان يقصد فصحاء الأعراب ويأخذ عنهم، وصنف كتباً، منها "الزهر والرياض" و "البديع" و "الآداب" و "الجامع في الغناء" و"الجوارح والصيد" و"فصول التماثيل" و"حلي الأخبار" و"أشعار الملوك" و"طبقات الشعراء".

جاءته النكبة من حيث يسعد الناس: توفي المكتفي بالله سنة 296 واتفق رجال البلاط على تولية أخيه المقتدر العباسي وسنه 13 عاماً، ثم استصغروه فخلعوه بعد أربعة أشهر، وأقبلوا على ابن المعتز، فلقبوه "المرتضي بالله" وبايعوه بالخلافة، فأقام يوما وليلة، ووثب عليه غلمان المقتدر فخلعوه، وعاد المقتدر فقبض عليه وأمر بقتله، وطالت خلافة المقتدر حتى قتل سنة 320.

قال عبد الله بن المعتز:

ما عابني إلا الحسود *** وتلك من خير المعائب
والخير والحساد مقر *** ونان إن ذهبوا فذاهب
وإذا ملكتَ المجد لم *** تملك مذمات الأقارب
وإذا فقدتَ الحاسدين *** فقدتَ في الدنيا الأطايب

قال عبد الله بن المعتز:

فما تنفع الآداب والعلم والحجى *** وصاحبها عند الكمال يموت
كما مات لقمان الحكيم وغيره *** فكلهم تحت التراب صَمُوتُ

السبت، 9 أغسطس 2008

لكن هو الدهر فالقَيه على حذر

كان الوزير القاسم بن عبيد الله، المتوفى سنة 258 عن 33 سنة، وهو من الكتاب الشعراء، قد تقدم عند وفاة المعتضد بالله سنة 289 إلى صاحب الشرطة مؤنس الخادم أن يوجه إلى عبد الله بن المعتز، وقصي بن المؤيد بالله، وعبد العزيز بن المعتمد، فيحبسهم في دار، ففعل ذلك، وقد حبسهم لأنهم من أبناء الخلفاء المؤهلين للحكم، فكانوا محبّسين خائفين، وكان المكتفي بالله وليُّ عهد المعتضد في الرقة عند وفاة المعتضد، فقام له القاسم بأعباء الخلافة وعقد البيعة له، ولما قدم المكتفي بغداد عُرِّفَ خبرَهم، فأمر بإطلاقهم، ووصل كل واحد منهم بألف دينار.

قال عبد الله بن المعتز: سهرت ليلة دخل في صبيحتها المكتفي إلى بغداد، فلم أنم خوفاً على نفسي وقلقاً بوروده، فمرت بي في السَحَر طيرٌ فصاحت، فتمنيت أن أكون مخلّىً مثلها، لما يجرى عليّ من النكبات، ثم فكرت في نِعَم الله عليّ، وما خاره لي من الإسلام والقُربة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أؤمله من البقاء الدائم في الآخرة، فقلت في الحال:

يا نفس صبراً لعل الخير عقباك *** خانتك من بعد طول الأمن دنياك
مرت بنا سَحَراً طيرٌ فقلت لها *** طوباك يا ليتني إياك طوباك
لكن هو الدهر فالقَيه على حذر *** فرب مثلك تنزو بين أشراك

 
log analyzer