الخميس، 17 يوليو 2014

حدث في التاسع عشر من رمضان

في التاسع عشر من رمضان من سنة 665 توفي في دمشق، عن 66 عاماً، شهاب الدين المقدسي، عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي، الملقب بأبي شامة، الإمام القارئ المحدث المؤرخ، وأحد أبرز علماء دمشق في القرن السابع الهجري. ولُقِبَ أبا شامة، لشامة كبيرة كانت فوق حاجبه الأيسر.
ولد أبو شامة في دمشق سنة 599 لأسرة أصلها من القدس، ونشأ ودرس في دمشق، وحفظ القرآن وهو دون العشر سنوات، ودرس القراءات في سنة 614 على الإمام السخاوي، علي بن محمد السخاوي المتوفى سنة 643، أول من شرح الشاطبية، وذكره أبو شامة في تاريخه فقال: شيخنا علم الدين علاّمة زمانه وشيخ أوانه، وكانت على جنازته هيبة وجلالة وإخبات، ومنه استفدت علوما جمة كالقراءات والتفسير وفنون العربية، وصحبته من شعبان سنة 614 وهو عني راض. ورحل إلى مصر فتلقى عن علمائها ومنهم في الإسكندرية أبو القاسم عيسى بن عبد العزيز اللخمي المتوفى سنة 629 عن 97 عاماً.
واتجه أبو شامة لرواية الحديث في سن متأخرة نسبياً، وحصل له في سنة بضع وثلاثين عناية بالحديث، وقد شجعه على ذلك أستاذه العلامة تقي الدين خزعل بن عسكر بن خليل، المصريّ، المقرئ، النّحويّ، اللّغويّ، المتوفى بدمشق سنة 623 عن 76 عاماً، قال أبو شامة: قرأت عليه عروض النّاصح ابن الدّهّان، وأخبرني به عن مصنِّفه، وكان يحثّني على حفظ الحديث، والتّفقّه فيه خصوصاً صحيح مسلم. ويقول: إنّه أسهل من حفظ كتب الفقه وأنفع - وصدق -، ويحثّ على مسح جميع الرأس احتياطاً؛ وقد بحث فيه، فأعجبني، واستقرّ في نفسي، فما أعلم أنّي تركته بعد. فأقبل أبو شامة بعد ذلك بفترة على رواية الحديث وقرأ بنفسه، وسمع أولاده.
وتفقه أبو شامة على الإمام عز الدين بن عبد السلام، ولازمه، وأحبه، وحفظ كثيراً من أخباره، وأخذ عن الإمام المحدث تقي الدين ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن المتوفى سنة 635 عن 58 عاماً.
ولي أبو شامة مشيخة دار الحديث الكبرى بالمدرسة الأشرفية في دمشق بعد وفاة القاضي عماد الدين عبد الكريم ابن الحرستاني سنة 562، وحضر أول درس له قاضي القضاة ابن خلكان، أحد بن محمد المتوفى سنة 681 عن 73 عاماً، وجماعة من القضاة والأعيان، وكان موضوع الدرس كتابه شرح الحديث المقتفي في مبعث المصطفى، فأورد خطبة الكتاب، وهي ما نسميه اليوم بالمقدمة، وأورد الحديث بسنده ومتنه وذكر فوائد كثيرة مستحسنة، ويقال إنه لم يراجع شيئا حتى ولا درسه، ومثله لا يستكثر ذلك عليه، فقال بعض الشعراء في ذلك:
العلم والمعلوم قد أدركته ... وسماعك البحر المحيط بمحدث
وبُعِثتَ في دار الحديث بمُعجِزٍ ... وأبان عنه لك افتتاح المبعث
مكثت له الألباب طائعة الندى ... والحسن من طرب به لم يمكث
وكانت في دمشق مدرسة هي مقر مشيخة القراء الكبرى أوقفتها ام الملك الصالح، وكان شرط الوقف أن يتولى المدرسة أعلم أهل البلد بالقراءات، وكان الإمام السخاوي شيخها بلا نزاع، فلما توفي رحمه الله سنة 643 وليها فخر الدين ابن المالكي ولم تطل مدته ولما توفي وليها شمس الدين أبو الفتح الأنصاري الدمشقي، محمد بن علي بن موسى، وكان أجلَّ أصحاب السخاوي، قرأ عليه السبع إفراداً وجمعاً، وقد نافسه في مشيختها الإمام أبو شامة، قال الراوي: لما خلت التربة وقع النزاع بين العلامة أبي شامة وبين الشيخ أبي الفتح، إذ من شروطها أن يكون أعلم أهل البلد بالقراآت، وحضرا عند ولي الأمر فقيل: من ينصف بينهما؟ فوقع التعيين على شيخنا الإمام علم الدين القاسم اللورقي فحضر وقال أنا أسألكما شيئاً فليكتب كل منكما عليه، فسألهما عن قول الشاطبي رحمه الله في باب وقف حمزة وهشام
وفي غير هذا بين بين ومثله ... يقول هشام ما تطرف مسهلا
قال فكتب عليه الشيخ أبو شامة ما يتعلق بالهمز في أصله وتقسيمه ومذاهب النحاة فيه وتعليل ذلك ثم ما يتعلق بالبيت المذكور من اللغة والإعراب والمعاني والبيان والبديع والعروض والقوافي وغير ذلك، قال وكتب عليه أبو الفتح ما يتعلق بالوقف على الهمز فقط، فلما وقف الشيخ علم الدين القاسم اللورقي على كلاميهما قال عن أبي شامة: هذا إمام من أئمة المسلمين، وقال عن أبي الفتح: هذا مقرئ. وكان لولي الأمر ميل إلى أبي الفتح فقال: ما المقصود إلا المقرئ، ثم رسم بها لأبي الفتح.
قال: فلما خرجوا خرج أبو شامة وهو ينفخ وقال للشيخ علم الدين: يا شيخ ذبحتني! فقال: والله ما قصدت لك إلا خيراً، وما علمت أنهم إلى هذا الحد من الجهل في فهم كلامي!
وصنف أبو شامة كتباً كثيرة، من ذلك شرحاً نفيساً للشاطبية سماه إبراز المعاني في حرز الأماني، واختصر تاريخ دمشق مرتين الأولى في خمسة عشر مجلداً والثانية في خمسة، وشرح القصائد النبوية للسخاوي في مجلد، وله كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية: دولتي نور الدين زنكي والسلطان صلاح الدين الأيوبي، وكتاب الذيل عليهما، وفي الكتابين تفاصيل كثرة عن الحياة العلمية والاجتماعية والعمرانية في دمشق في تلك الفترة، وتعليقاته على التراجم تنم عن قربه من علماء عصره وإدراكه للأمور.
ولأبي شامة كذلك كتاب شرح الحديث المقتفي في مبعث المصطفى، وكتاب ضوء الساري في معرفة الباري، والمحقق في علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول، والباعث على إنكار البدع والحوادث، وكتاب السواك، وكشف حال بني عبيد يعني حكام مصر من الفاطميين، والوصول في الأصول، ومفردات القراء، ومقدمة في النحو، ونظم مفصل الزمخشري في النحو،  وكتاب المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، ويتناول تفسير حديث نزول القرآن على أحرف سبعة وبيان صلته بالقراءات السبع، وكتاب مفردات القراء، ونزهة المقلتين في أخبار الدولتين: دولة علاء الدين السلجوقي، ودولة ابنه جلال الدين خوارزمشاه.
وأخذ عنه القراءات عدد كبير من القراء وطلبة العلم، وعده فقهاء عصره ممن بلغوا مرتبة الاجتهاد، ومن إخلاصه للعلم ورغبته في نشره، وقف رحمه الله كتبه ومصنفاته جميعها في الخزانة العادلية بدمشق، وأصاب الخزانة حريق فالتهم أكثرها.
ومن طرائف ما ذكره في تاريخه: ومن العجيب اجتماع ثلاث من قضاة القضاة لقب كل واحد منهم شمس الدين في زمن واحد، فقال بعض الأدباء شعراً:
بدمشقٍ آيةٌ قد ... ظهرت للناس عاما
كلما ازدادوا شموساً ... زادت الدنيا ظلاما
وقال غيره:
أهل دمشق استرابوا ... من كثرة الحكام
إذ هم جميعاً شموس ... وحالهم في ظلام
وكان ينظم الشعر على طريقة الفقهاء، ومن شعره في السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله:
إمام محب ناشئ متصدق ... وباكٍ مصل خائف سطوة الباسِ
يظلهم الله الجليل بظله ... إذا كان يوم العرض لا ظل للناس
أشرت بألفاظ تدل عليهم ... فيذكرهم بالنظم من بعضهم ناس
وله أيضاً في المعنى:
وقال النبي المصطفى إن سبعةً ... يظلهم الله العظيم بظله
محب عفيف ناشئ متصدق ... وباكٍ مصل والإمام بعدله
قال صلاح الدين الصفدي في ترجمته في كتاب الوافي بالوفيات: وقد نظم الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله تعالى قصيدة تناهز الأربعين بيتاً في زوجته، فسَمَجَ عفا الله عنه فيها ما شاء، وبَرَدَ رحمه الله ما أراد، أولها:
تزوجت من أولاد دنو عقيلة ... بها من خصال الخير ما حير العقلا
مكملة الأوصاف خلقاً وخلقة ... فأهلاً بها أهلاً وسهلاً بها سهلا
ولود ودود حرة قرشية ... مخدرة من حسنها تكرم البعلا
منها:
مطرزة خطالة ذهبية ... مفصلة خياطة تحكم الغزلا
تنقل في الأشغال من ذا وذا وذا ... وتفعل حتى الكنس والطبخ والغسلا
وكان أبو شامة مع كثرة فضائله وعلو مكانته، متواضعاً مطرحاً للتكلف، ربما ركب الحمار بين المداوير، ويكتب الخط المليح المتقن، ويسكن في دار بسيطة ظاهر دمشق، وفي سنة 565 أصابته محنة كاد يموت على إثرها، فقد كان الشيخ ساكناً بطواحين الأشنان في ظاهر دمشق، فحضر إليه ببيته إثنان جبليان في صورة مستفتيان، فضرباه ضرباً عظيماً كاد أن يموت منه، ولم يدر به أحد ولا أغاثه، ثم ذهبا، ولم يُعرَف من سلطهما
قال رحمه الله: جرت لي محنة بداري بطواحين الأشنان فألهم الله الصبر ولطف، وقيل لي: اجتمع بولاة الأمر فقلت: أنا قد فوضت أمري إلى الله وهو يكفينا. وقلت في ذلك:
قلتُ لمن قال أما تشتكي ... ما قد جرى، فهو عظيمٌ جليل
يقيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل
إذا توكلنا عليه كفى ... وحسبنا الله ونعم الوكيل
ويبدو أن القتلة عادوا إليه مرة ثانية وهو في منزله، فقتلوه في التاسع عشر من شهر رمضان، ودفن من يومه بمقابر باب الفراديس قرب مرجة الدحداح، رحمه الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer