الجمعة، 29 مارس 2013

حدث في السادس عشر من جمادى الأولى

في السادس عشر من جمادى الأولى من سنة 814 أمر السلطان المملوكي الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق بإعدام ثلاثة رجال من آل البيري يمتون بالقرابة لجمال الدين البيري الإستدار الذي كان قد أعدمه خنقاً قبل سنتين في 11 جمادى الآخرة من سنة 812، والمقتولون من أقارب البيري هم أحمد ابنه، وأحمد ابن أخته، وحمزة ابن  أخاه. وسنتناول هذه الواقعة بما يعطينا إطلالة على جوانب مضطربة من عصر الممماليك، بدا فيها التكالب على المال، والمبالغة في الظلم والمصادرات، والمسارعة إلى سفك الدماء، وتقلب الأحوال، وهي جوانب مظلمة تظهر على أشدها عندما يكون السلطان ولداً يافعاً أو شاباً متقلباً حائراً.
ونبدأ بالحديث عن منصب الإستدار، قال القلقشندي في صبح الأعشى: دار: لفظةٌ فارسية معناها مُمْسِك، وكثير من كتاب الزمان أو أكثرهم بل كلهم يظنون أن لفظ دار في ذلك عربي بمعنى المحلة، كدار السلطان أو الأمير ونحو ذلك، وهو خطأ كما سيأتي بيانه.
والمضاف إلى لفظ دار من من وظائف أرباب السيوف تسعة ألقاب: الأول - الإستدار. بكسر الهمزة وهو لقبٌ على الذي يتولى قبض مال السلطان أو الأمير وصرفه، وتمتثل أوامره فيه. وهو مركب من لفظتين فارسيتين: إحداهما إستذ، ومعناها الأخذ. والثانية دار، ومعناها المُمسِك كما تقدم، فأدغمت الذال الأولى وهي المعجمة في الثانية وهي المهملة فصار إستدار.
ثم نستعرض سريعاً سيرة السلطان الناصر فرج المولود سنة 791، وتوفي والده الملك الظاهر برقوق سنة 801 عن 63 عاماً، وبعد أن حكم مصر أتابكاً وسلطاناً قرابة 21 عاماً، وأوصى برقوق بالحكم لابنه الناصر فرج الذي كان في العاشرة، وامتنع نائب الشام عن الطاعة وانضم إليه نواب حلب وحماة وصفد وطرابلس وغزة، فخرج الناصر فرج لقتالهم سنة 802 فتلقوه في الرملة بفلسطين فهزمهم ودخل دمشق، فأعلن الامان، وهدأت الأمور، فعاد إلى مصر.

وما لبث تيمور لنك أن تقدم من المشرق لاحتلال حلب وحماة ودمشق سنة 803، فجاء الناصر فرج بجيش كبير من مصر ورابط في دمشق، وناوش طلائع تيمورلنك، ثم عاد فجأة إلى القاهرة وترك دمشق وغيرها فريسة لتيمورلنك وعساكره فأمعنوا فيها نهبا وحرقا وتعذيبا ومحوا.

وفي سنة 808  ضاق صدر الناصر فرج بسيطرة الأمراء عليه ومخالفتهم لقرارته، فخرج متنكرا، واختفى، فاجتمع الأمراء وأخرجوا أخا له صغيرا أيضا فبايعوه، وهو عبد العزيز بن برقوق، فلم يلبث أن ظهر الناصر بعد نحو شهرين من اختفائه، فقاتل من كانوا مع أخيه، وقتل أخاه، وعاد إلى السلطنة.

وانتظمت له الأمور إلى سنة 814، ولكنه أفرط في قتل مماليك أبيه خشية انقلابهم عليه، فخرج بعضهم إلى غزة وبلاد الشام، والتف حولهم كثيرون من جبل نابلس وغيره، واستفحل أمرهم، فقصدهم الناصر، وقاتلهم في اللجون من ضياع الشام، فكانت الدائرة عليه وانهزم، فدخل دمشق، فنادوا بخلعه، فأرسل إليهم يطلب الامان، فقيدوه وسجنوه في قلعة دمشق، ثم قتلوه في القلعة وعينوا مكانه الخليفة العباسي المستعين بالله.

أما الإستدار البيري، الذي أعدم بسببه أقاربه الثلاثة، فهو جمال الدين يوسف بن أحمد البيري، نسبة إلى البيرة وهي بلدة قرب نصيبين في جنوبي تركيا اليوم، ولد سنة 752 في البيرة، وكان والده خطيب البلدة، وتزوج والده أخت وزير حلب شمس الدين عبد الله بن يوسف بن سحلول، فنشأ في حلب في كنف خاله، وسلك سبيل طلب العلم على خطى والده، فحفظ القرآن وكتباً في الفقه والعربية،  وتزيا  بزي الفقهاء، ويبدو أنه لم يستطع أن يحصل قوت عيشه من وراء العلم في حلب، فارتحل على فاقة عظيمة إلى دمشق فتزيا بزي الجند وخدم بلاصياً عند الشيخ علي كاشف بر دمشق وغيره، ثم ارتحل إلى القاهرة وهو في الثامنة عشرة من عمره، فخدم إستداراً عند الأمير بجاس النوروزي نائب قلعة الجبل، وعمل معه فترة طويلة وتزوج ابنته وعُرِفَ به، فصار يدعى إستدار بجاس بعد أن كان يعرف بابن الحريري.

وصحب جمالُ الدين القاضيَّ سعدَ الدين إبراهيم بن غراب، وكان ناظر الجيوش وناظر الخاص، ثم صار إستدار السلطان، فنوه ذلك بذكر جمال الدين الذي عمل إستداراً عند الأمير سودون الحمزاوي خازندار السلطان.

وكان كبار الأمراء حول الملك الشاب كانوا موضع شك دائم لاحتمال أن ينقلبوا عليه ويتآمروا لتولية واحد منهم، وكان الملك الشاب في توجس دائم منهم، ولذا كان يقرٍّب هذا ويبعد ذاك ويسفك دم الآخر، وأغلب ذلك مبني على حلقة مفرغة من الظُّنة تفاقم في الشك وتزيد في التوتر، ويستغلها المتعادون للوشاية بخصوهم متقربين إلى الملك بذلك علَّ بطشه يخلصهم من هؤلاء الأعداء، وممن طالهم هذا الوباء الأتابك يشبك الشعباني، الذي كان بمثابة الوصي على الملك، فقد أراد إبعاد بعض الأمراء عن القاهرة، فقاتلوه وهزموه، وسجنه الملك الناصر فرج سنة 803 في الإسكندرية وحيث كان ابن غراب محسوباً عليه اختفى من الخوف، ثم طلب الأمان من السلطان والأمراء فلما جاءه عاد ابن غراب للقاهرة ونزل على صديقه جمال الدين البيري الذي استرضى السلطان عنه فأعاده إلى منصب ناظر الجيوش، واختص ابن غراب بالسلطان الذي عفى عن يشبك وأعاده إلى القاهرة.

وفي سنة 805 اعتقل السلطان إستداره سعد الدين ابن غراب، وعين محله ركن الدين عمر بن قايماز وكان إستدار الأمير بيبرس كبير الأمراء وابن أخت السلطان، الأتابك، فدعي البيري ليصير إستدار الأمير بيبرس مع بقائه عند الأمير سودون، فظهرت حسن مباشرته للوظائف الكبار، وعظم قدره ومحله، وأثرى وعمَّر الدور الكبار، ويقال أنه وجد في واحدة منها خبيئة للفاطميين، وأكد هذا المقريزي في المواعظ والاعتبار، منبهاً أن صلاح الدين لم يجد كثير مال للفاطميين لأنهم خبؤوه فوجد بعضه البيري.

وفي سنة 807 تخيل السلطان أن الأتابك يشبك يدبر أمراً، ولم يكن لذلك أساس في الواقع، وبلغ ذلك الشك مسامع يشبك فما عاد يصعد للقلعة خشية من أن يعتقله السلطان، وأدى هذا إلى أن يؤكد للسلطان شكوكه، وانتهى الأمر بيشبك أن هرب إلى الشام ومعه الوزير ابن غراب، فسجن السلطان بعضاً من أعوانهما ومنهم جمال الدين البيري، ثم أخرجه وعينه إستداراً للسلطان مكان عمر بن قايماز، وعاد ابن غراب فجأة للقاهرة ونزل على صديقه جمال الدين البيري الذي استرضى السلطان عنه فأعاده إلى منصب ناظر الجيوش، واختص ابن غراب بالسلطان ومازال به حتى عفى عن يشبك وأعاده إلى القاهرة.

واشتُهر جمال الدين بالمروءة وقضاء حوائج الناس، وصار مقصداً للملهوفين يقضي حوائجهم، ويركب معهم إلى ذوي الجاه، فتزايدت وجاهته، ونفذت كلمته، ومات قاضي الشافعية بحلب سنة 805، وكان شمس الدين محمد بن أحمد البيري، أخو جمال الدين، قاضي البيرة فنُقِلَ بمساعي أخيه ليصير قاضي حلب، ثم عزل فتوجه إلى مكة المكرمة فجاور بها.
واستمر نجم البيري في الصعود حتى أصبح في مقام الوزراء، وعرضت عليه الوزارة سنة 806 فحلف ألا يتولاها، وأشار عليهم بعلم الدين يحيى بن أسعد فأخذوا برأيه وعينوه في الوزارة.
وكان الأمير يلبغا السالمي من قدامى كبار أمراء الدولة، وقد ناله نصيب من تقلباتها وإهاناتها، وانتهى به الأمر في سنة 807 أن صار مشير الدولة، وكان منافساً لجمال الدين البيري في الاستحواذ على إدارة البلاد، وبدأ يتعرض له أمام السلطان والأمراء، وبحكم منصبه قام يلبغا مرتين بتغيير أسعار النقود تغييراً مجحفاً بالناس، وأخلَّ بنسبة الذهب والفضة فيما يسك من نقود، فتضعضت الثقة التجارية وارتفعت الأسعار، فانتهز ذلك البيري وسعى لدى السلطان حتى غيَّره عليه، فأمر بالقبض علي يلبغا السالمي، وسلمه لجمال الدين البيري فعاقبه وصادره، ثم نفي إلى الإسكندرية، وبقي فيها حتى لقي حتفه خنقاً بأمر السلطان في سنة 812.
وفي أوائل سنة 808 اختفى فجأة الملك الناصر فرج! ولم يُعرف له مكان أو يعثر له على أثر، فخلعه كبار أمراء الدولة وعينوا محله أخاه عبد العزيز وتلقب بالملك المنصور، ثم ظهر الملك الناصر بعد 70 يوماً من مخبئه بالقاهرة، حيث كان في بيت سعد الدين ابن غراب، وعاد إلى الملك وتعقب بالعقوبة من انكشفت له عداوته من أمراء المماليك، وألقى السلطان مقاليد الدولة في يد ابن غراب، وكان من الطبيعي أن يتوجس جمال الدين البيري من أن يتناوله ابن غراب بالإقصاء، رغم سابق صداقة بينهما، ولكن ابن غراب مرض مرضاً لم يمهله فمات وهو دون الثلاثين، فاستولى جمال الدين حينئذ على الأمور وتولى نظر الخاص.

وبعد وفاة سعد الدين ابن غراب عُزِل أخوه ماجد بن عبد الرزاق وسُلِّم إلى جمال الدين البيري لاستخلاص أمواله، فعاقبه أشد عقوبة وسجنه عنده، ثم سلمه إلى الوالي وحرضه عليه حتى مات تحت العقوبة.
وفي أول سنة 810 خرج السلطان الملك الناصر فرج إلى الشام، ولما وصل دمشق أمر باعتقال الأمير يشبك والأمير شيخ، نائب السلطنة بالشام، وسلمها إلى الأمير منطوق أمير قلعة دمشق، فاستمالاه حتى انضم إليهما وأطلق سراحيهما فهربا إلى حمص وبدأا في الإعداد للإطاحة بالملك الناصر الذي عاد إلى مصر، وهاجم الأميران دمشق بعد شهرين ففر من كان بها من الأمراء وملك شيخ دمشق، وقبض على جماعة، وولي وعزل، ونادى بالأمان، ولكن أمير حلب الأمير نوروز الحافظي الذي كان موالياً للسلطان جمع جيشاً كبيراً واتجه به نحو الشام، فكانت بينه وبين جيش يشبك وقعة قُتِل فيها يشبك وعدد من أمرائه وأسر فيها عدد آخر، وذلك في ربيع الآخر من سنة 810، فلما بلغ ذلك الأمير شيخ خرج من دمشق ودخلها نوروز دون قتال، وبعث بالخبر إلى السلطان، فسر بذلك سروراً كثيراً، ولكن الأمير شيخ بقي متمرداً على السلطان ومصدر قلق كبير له، لأنه كان من كبار الأمراء ويميل إليه كثير  منهم، ولذا اضطر السلطان إلى مهادنته بوساطة الأمير نوروز فأعاده نائباً على الشام في آخر سنة 810.
وبقتل يشبك خلا الجو لجمال الدين البيري، وصار عزيز مصر على الحقيقة، لا يعقد أمر إلا به، ولا تنفصل مشورة إلا عن رأيه، ولا يخرج إقطاع ولو قلَّ إلا بإذنه، ولا يَستخدم أحدٌ من الأمراء ولو عظم كاتباً عنده إلا من جهته، ولا تباع دار حتى تعرض عليه، ولا يثبت مكتوب على قاض حتى يستأذنه، ولا يباع شيء من الجوهر والصيني، ولا من آنية الذهب والفضة، ولا من الفرو والصوف والحرير، ولا من كتب العلم النفيسة، حتى تعرض عليه، ولا يلي أحد وظيفة ولو قلَّت، حتى نواب القضاة، إلا بأمره، ثم تجاوز ذلك حتى صار لا يتحكم أمير في فلاّحه حتى يؤامره، ولا تكتب وصية حتى تعرض عليه أو يأذن، فيها وخضع له الآمر والمأمور، وكثر تردد الناس إلى بابه، حتى كان رؤساء الدولة من الدوادار وكاتب السر فمن دونهما ينزلون في ركابه إلى منزله، ولا يصدر أحد منهم إلا عن رأيه، وجعل البيري ابنه أمير الحاج رُغم حداثة سنة وهوج وخفة فيه.
وزاد جمال الدين البيري نسبة كثير من الضرائب حتى وصل بعضها إلى الضعف، واستحدث بعضها، وشملت حتى ما صيد من سمك النيل الذي كان يحمل إلى دار السمك بالقاهرة، فيباع ويؤخذ منه مكس السلطان، فزاد جمال الدين فيما كان يؤخذ من الصيادين مكساً، فقلّ السمك بالقاهرة وغلا سعره.
ثم شرع في انتهاك حرمة الأوقاف، فحلها أولاً فأولاً، وكان قبل ذلك يتوقى في الظاهر، فربما رام استبدال بعض الأوقاف فيعسِّر عليه القاضي الذي مذهبه جوازه إلى أن تجتمع شروط الجواز، فيبادر هو فيدس بعض الفعلة إلى ذلك المكان في الليل، فيفسد في أساسه حتى يكاد يسقط، فيرسل من يحذر سكانه، فإذا اشتهر ذلك بادر المستحق إلى الاستبدال، ومن غفل منهم أو تمنع سقط فنقص من قيمته ما كان يدفعه له لو كان قائماً، ثم لم يعد محتاجاً إلى هذه الحيلة لما زاد تمكنه في الدولة، فقد تواطأ معه للأسف قاضيان فاسدان هما القاضي الحنفي كمال الدين عمر ابن العديم، والقاضي الحنبلي مجد الدين سالم بن سالم المقدسي الحنبلي، حتى أن ناظر الجيش كريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز رافق ابن العديم في جنازة، ففاتحه في انتهاك حرمة الأوقاف بكثرة الاستبدال، فقال له: إن عشت أنا والقاضي مجد الدين سالم لا يبقى في بلدكم وقف!

وكانت بينه جمال الدين وبين المقريزي المؤرخ صحبة، ومع ذلك فإن تقي الدين المقريزي، أحمد بن علي المولود سنة 766 والمتوفى سنة 845، قال في كتابه المواعظ والاعتبار وهو يستعرض أنواع الأوقاف:
الجهة الثانية تُعرف بالأوقاف الحكمية بمصر والقاهرة، ويلي هذه الجهة قاضي القضاة الشافعيّ، وفيها ما حُبس من الرباع على الحرمين وعلى الصدقات والأسرى وأنواع القُرَب، ويقال لمن يتولى هذه الجهة ناظر الأوقاف، فتارة ينفرد بنظر أوقاف مصر والقاهرة رجل واحد من أعيان نوّاب القاضي، وتارة ينفرد بأوقاف القاهرة ناظر من الأعيان، ويلي نظر أوقاف مصر آخر، ولكل من أوقاف البلدين ديوان فيه كتّاب وجباة، وكانت جهة عامرة يتحصل منها أموال جمة، فيُصرف منها لأهل الحرمين أموال عظيمة في كلّ سنة، تحمل من مصر إليهم مع من يثق به قاضي القضاة، وتفرق هناك صرراً، ويُصرف منها أيضاً بمصر والقاهرة لطلبة العلم ولأهل الستر وللفقراء شيء كثير، إلاّ أنها اختلت وتلاشت في زمننا هذا، وعما قليل إن دام ما نحن فيه لم يبق لها أثر البتة، وسبب ذلك أنه ولي قضاء الحنفية كمال الدين عمر بن العديم في أيام الملك الناصر فرج، وولاية الأمير جمال الدين يوسف تدبير الأمور والمملكة، فتظاهرا معاً على إتلاف الأوقاف، فكان جمال الدين إذا أراد أخذ وقف من الأوقاف، أقام شاهدين يشهدان بأن هذا المكان يضرّ بالجار والمارّ، وأن الحظ فيه أن يستبدل به غيره، فيحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم باستبدال ذلك، وشَرِهَ جمال الدين في هذا الفعل كما شَرِهَ في غيره، فحكم له المذكور باستبدال القصور العامرة، والدور الجليلة بهذه الطريقة، والناس على دين ملكهم، فصار كلّ من يريد بيع وقف أو شراء وقف سعى عند القاضي المذكور بجاه أو مال، فيحكم له بما يريد من ذلك، واستدرج غيره من القضاة إلى نوع آخر، وهو أن تقام شهود القيمة فيشهدون بأن هذا الوقف ضارّ بالجار والمار، وأن الحظ والمصلحة في بيعه أنقاضاً، فيحكم قاض شافعيّ المذهب ببيع تلك الأنقاض. واستمرّ الأمر على هذا إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه، ثم زاد بعض سفهاء قضاة زمننا في المعنى وحكم ببيع المساجد الجامعة إذا خرب ما حولها، وأخذ ذرية واقفها ثمن أنقاضها، وحكم آخر منهم ببيع الوقف ودفع الثمن لمستحقه من غير شراء بدل، فامتدت الأيدي لبيع الأوقاف حتى تلف بذلك سائر ما كان في قرافتي مصر من التُرَب، وجميع ما كان من الدور الجليلة، والمساكن الأنيقة، بمصر الفسطاط فكان ما ذكر أحد أسباب الخراب.

ومن التناقضات التي أشار إليها المؤرخون أن هؤلاء الأمراء على ظلمهم وعسفهم وجمعهم الأموال بالباطل، كانوا يبنون المساجد والمدارس والأربطة، وإلى الله ترجع الأمور، ويتكرر في ثنايا كتاب المواعظ والاعتبار ما اغتصبه جمال الدين وابن أخته الأمير الحاجب شهاب الدين من الأوقاف والمنشآت العامة ودروب وحوانيت وأملاك الناس وأوقافهم ليبني دوره ومدرسته وقيساريته وفندقاً للتجار يصطلح عليه بالوكالة، ولذا قال ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة: وأعجب من ظلمهم إنشاؤهم المدارس والربط، من هذا المال القبيح، الذي هو من دماء المسلمين وأموالهم! وهكذا رأينا جمال الدين البيري يبني مدرسة برحبة العيد بالقاهرة ويرتب فيها مدرسين على المذاهب الأربعة ودرس حديث، وافتتحها في منتصف سنة 811، ومدَّ فيها سماطاً هائلاً وملأ الفسقية بالسكر المكرر، واستمر حضور المدرسين، في كل يوم يحضر واحد ويخلع عليه عند فراغه، فلما كان بعد أسبوع جدد فيها درس تفسير يقوم به قاضي القضاة جلال الدين البلقيني،  ولم يمض وقت طويل إلا وقد وصلت أخبار المدرسة للسلطان، ونمَّ بعض الناس على جمال الدين بأنه عمل مدرسة وبالغوا في وصفها وما بها من الرخام والزخرفة، وأنه ما اكتفى بذلك حتى شرع في بناء مدرسة أخرى بباب زويلة، فاستفسر الملك الناصر منه عن ذلك، فأدرك ما قد كيد له، وفهم من أين أُتي، فقال على الفور للسلطان: إنما شرعت في عمل مسجد وفيه مدرس على اسم مولانا السلطان ليختص بثواب ذلك. فأرضاه بذلك وقد لزم غلطه فصيره له حقيقة.

ولم يزل نفوذ جمال الدين يتزايد ومكانته تعلو، وهو يحصل الأموال من كل طريق، ويداري بالكثير منها، ويمتن على الملك الناصر بكثير من الأموال التي ينفقها عليه، إلى أن كاد يغلب على الأمر، وفي الآخر صار يشتري بني آدم الأحرار من السلطان، فكل من عاداه أو شك في عداوته أو خشي من منافسته، استأذن السلطان في إهلاكه، واشتراه منه بمال معين يعجل حمله إلى الناصر، ويتسلم ذلك الرجل فيهلكه، فهلك على يده خلق كثير جداً.
وكانت بداية النهاية لجمال الدين البيري في رحلة قام بها السلطان أواخر سنة 811 إلى دمشق لمواجهة تمرد الأمير شيخ، فقد وشى الأمير يشبك الموساوي إلى السلطان أن الأمير شيخ قد خرج عن طاعته، وبلغ ذلك مسامع الأمير شيخ فاستدعى القضاة والأعيان، وكتب محضرا أخذ خطوطهم فيه ببطلان ما قيل عنه، وأنه باق على الطاعة السلطانية، وأرسل به قاضي دمشق إلى القاهرة يستعطف خاطر السلطان، فلم يقبل السلطان عذره، واشتد غضبه، وأمر بالاستعداد للخروج إلى الشام، لقتال الأمير شيخ، فبدأ شيخ بدوره في تجميع القوات وتجهيز الجيش، وأعلن تمرده على السلطان، واتجه السلطان إلى دمشق لقمع التمرد فلما عسكر بمرج اللَجون جنوبي طبرية في أول سنة 812، أتاه الأمير أقبغا وأخبره أن بعض مماليكه سيغدرون به ويقتلوه، فاستشار السلطان كاتب السر فتح الدين فتح الله والأمير جمال الدين البيري الإستدار بحضور الأمير أقبغا، وكانا من دون الناس موضع ثقة السلطان، فاستشارهما فيما يعمل، فاستقر رأيهم على أن يستدعي السلطان المتآمرين إلى عنده، ويقبض عليهم.

وكان  جمال الدين ميالاً للمتآمرين، فأخبرهم بما ينتظرهم، وبعث إليهم بمال كبير لهم، وللأمير شيخ نائب الشام، فهربوا في جنح الليل إلى جهة الشام حتى لحقوا بالأمير شيخ، واشتد قلق السلطان، وطلب السلطان جمال الدين وفتح الله لثقته بهما، ولا علم له بشيء مما فعله جمال الدين، فأشار عليه فتح الله بالثبات، وأشار جمال الدين بركوبه ليلاً، وعوده إلى مصر، يريد بذلك إفساد حال السلطان، فنازعه فتح الله وخاصةُ السلطان، وما زالوا بالسلطان يثبتونه ، فدخل دمشق دون مقاومة واستطاع في النهاية كسر الأمير شيخ في معركة عند مدينة صرخد في سهل حوران جنوبي دمشق، ومع ذلك ولاّه السلطان إمارة طرابلس، وكتب إلى أهل دمشق بذلك وأمرهم أن يقاتلوا الأمير شيخ إن هو قصد دمشق!

ولم يبلغ خبر هذا التواطؤ السلطان الملك الناصر إلا بعد أيام فلم يعد يثق به أبداً، وكان سبب كشفه أن السلطان لم يكن معه في هذه السفرة من الذهب إلا النزر اليسير، فطلب من جمال الدين مبلغاً فقال جمال الدين: ما معي إلا مبلغ هين. فاستغرب السلطان ذلك وقصه لفتح الله كاتب السر، فقال له فتح الله: قد رافق جمال الدين في هذه السفرة تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم كاتب المماليك، وأخوه مجد الدين عبد الغني مستوفي الديوان المفرد، فاسألهما وتلطف بهما تعلم ما مع جمال الدين من الذهب. فطلبهما السلطان وسألهما، فأعلماه بما فعله جمال الدين من إرسال الذهب للأمراء وإعلامهم بنية السلطان في اعتقالهم، حتى فروا ولحقوا بالأمير شيخ، واستشار السلطان الأمير الكبير تغري بردي، والد المؤرخ، في القبض على جمال الدين، فقال له: المصلحة تركه حتى يعود إلى جهة القاهرة، ويقبض عليه وعلى جميع أقاربه، حتى لا يفوت السلطان منهم أحد، وتكون الحوطة على الجميع معاً، فأعجب السلطان ذلك، وسكت عن قبضه بالديار الشامية.

وعاد السلطان قافلاً نحو القاهرة، فلما بلغ قريباً منها في يوم 9 جمادى الأولى أمر بالقبض على الأمير جمال الدين الإستدار وعلى ابنه الأمير شهاب الدين أحمد وعلى ابني أخته الأمير شهاب الدين أحمد وحمزة، وعامة حواشيه وأسبابه، وقيدوا، ومضى بهم الأمير الكبير تغري بردى إلى القاهرة، وأمر بالختم على حواصل جمال الدين ودوره، وأحيط بها، وتقدم فتح الله كاتب السر لحفظ موجوده.

والله يمهل ولا يهمل، ولذا شرب الأمير جمال الدين البيري من كأس طالما جرعها آخرين، وكان نصيبه العصر في رجليه حتى يعترف على ما لديه من أموال جمعها فيضمها السلطان إلى جملة ثروته، فأخرج عدة دخائر منها ذخيرة من حارة زويلة، وجدت مدفونة في التراب، ذهباً مصبوباً من غير وعاء، زنته تعاد اليوم 233 كيلاً، غربلت من التراب، ووزنت بحضرة قضاة القضاة الأربع، وذخيرة أخرى وجد فيها تسع قفاف مملوءة ذهباً، وحق فيه نفائس من الجوهر، وذخيرة ثالثة أخرجها ابنه أحمد بحضرة القضاة وكاتب السر من منزله، بلغت 202000 دينار، ثم خبيئة أخرى من داره، بلغت ستين ألف دينار، ومن السلاح والقماش وسائر الأصناف شيئاً كثيراً، فكان يحمل منه في كل يوم عدد كثير من الأحمال، ثم عصر ثانية عصراً شديداً، وعصر ابنه بحضرته، فاعترف الإبن بذخيرة وجد فيها 11300 دينار، ولم يعترف جمال الدين بشيء، وأنزل ابن أخته شهاب الدين أحمد الحاجب وأخيه حمزة من القلعة إلى بيت الأمير تاج الدين بن الهيصم الإستدار، فسلما إليه، فعاقب جماعة من أقارب جمال الدين، بل طال العذاب زوجته سارة بنت الأمير بجاس، ووضعت وهي حامل على دست نار فأَسقطت، ورأت من الذل ما لا يوصف، وماتت بعد ذلك قهراً.

ثم طلب السلطان مواجهة جمال الدين فأحضر محمولاً إلى بين يديه، لأنه من شدة التعذيب ما عاد يتمكن من المشي، فلما مثل جمال الدين أمام السلطان عنَّفه على ما كان منه، فاعترف بالخطأ، وسأل العفو، وقبل الأرض، ثم أعاده إلى موضع حبسه من القلعة، وأمر بمعالجته حتى يبرأ.

وبعد ذلك وجد لجمال الدين بمدرسته بيت فيه سبعمئة قفة فلوس، فكان مبلغ ما وجد له 964000 دينار، ثم نقل في النهاية على قفص حمال إلى بيت الأمير حسام الدين حسين الأحول، فعاقبه أشد العقوبة لإحن كانت في نفسه منه، ثم خنقه في 11 جمادى الآخرة من سنة 812، وقطع رأسه، وحمله إلى السلطان حتى رآه، ثم أعاد الرأس، فدفن مع جثته.

ومن غريب ما اتفق في ذلك أنه جمال الدين البيري كان قد أخذ من تَرِكة بعض الأكابر حاصلاً فيه ذهب وعلبة ملأى بالجواهر والأحجار النفيسة، فبلغ السلطان ذلك، فطلبه من الأمير جمال الدين فأنكره، وأودع ذلك عند جندي يقال له جلبان، فلما قُبِض على جمال الدين وأُمر بحمل ما عنده من الأموال ذكر أن له عند جلبان وديعة نحو عشرة قفف ذهباً، فطُلِبَ المذكور فغلب عليه الخوف فأحضر الذهب والعلبة التي فيها الجواهر، فسُرَّ الناصر بذلك سروراً شديداً، وبلغ ذلك جمال الدين فشق عليه مشقة شديدة.

وبعد قتل جمال الدين البيري عيَّن الملك الناصر فرج في منصب ناظر الخاص عبد الغني بن إبراهيم ابن الهيصم القبطي المصري، فاستمر أزيد من سنة في هذا المنصب ومات في سنة 813، وقد فتح هو كذلك من أبواب الظلم والمصادرات في هذه المدة اليسيرة الشيء الكثير.

ولكن ما لبث الانتقام أن لحق بأقارب جمال الدين البيري، فأُمْسِك ابنه الأمير شهاب الدين أحمد، وأخواه القاضي شمس الدين محمد، وناصر الدين، وابن أخته الأمير شهاب الدين أحمد الحاجب، وكان يشغل منصب إستدار الأملاك والذخائر السلطانية، وابن أخته حمزة، وزوج ابنة أخيه شرف الدين أبو بكر بن العجمي، وعوقبوا عقوبات شديدة، وألزموا بأموال كثيرة، فمات ناصر الدين أخو جمال الدين في العقوبة بعد ما أخذ منه نحو مئة ألف درهم، وأخذ من الأمير أحمد ابن أخته ستة آلاف دينار مصرية، ثم انتهى الأمر بقتل أحمد ابنه، وأحمد ابن أخته، وحمزة ابن  أخاه، وسلم من الموت أخوه محمد شمس الدين.

وكان محمد قد سلك طريق العلم كما سبق وذكرنا، وجاء من مكة إلى القاهرة في دولة أخيه فعظم قدره وولي خطابة بيت المقدس ثم قضاء مصر، ثم نزع أخوه جمال الدين مشيخة المدرسة البيبرسية ثم تدريس الشافعي من علي بن سيف الأبياري النحوي وأعطاهما له، ثم انتزعتا منه بعد مقتل أخيه، ثم أعيدت إليه البيبرسية في سنة 816، ثم قُرِّر في مشيخة سعيد السعداء سنة 820، واستمر بها حتى وفاته سنة 829، ه، وكان ساكناً وقوراً لين الجانب قليل الشر كثير الثروة.

وامتدت يد الملك الناصر فرج إلى المدرسة التي أنشأها الأمير جمال الدين يوسف الإستدار برحبة باب العيد، فقد حسن أعداء جمال الدين للسلطان أن يهدمها، ويأخذ رخامها، فإنه في غاية الحسن، ويسترجع الأملاك والأراضي الموقوفة عليها، فإنها تغل جملة كبيرة، فعزم على ذلك، وكادت أن تهدم، ولكن فتح الله كاتب السر عمل على صرف السلطان عن ذلك، ومازال به حتى تركها وقرر أن ينقض ما وقفه جمال الدين، ويجدد السلطان وقفها، فتصير مدرسته، فاشترى السلطان بناء المدرسة بعشرة آلاف دينار من ورثة جمال الدين، وكتب لها كتاب وقف على ما كان جمال الدين قرره فيها من الفقهاء والقراء وغيرهم، وأمر أن يمحي اسم جمال الدين ورَنْكه، أي شعاره، من المدرسة، ويكتب بدله اسم السلطان، فصارت تدعى بالمدرسة الناصرية، بعدما كان يقال لها الجمالية.

وما من يد إلا يد الله فوقها ... وما ظالم إلا سيبلى بأظلم

الجمعة، 22 مارس 2013

حدث في التاسع من جمادى الأولى

في التاسع من جمادى الأولى من سنة 705 جرت مناظرة بين شيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، المولود بحرّان سنة 661 والمتوفى بدمشق سنة 728، وفريق من المتصوفة الذين يتبعون الطريقة الأحمدية، والذين ابتعدوا في ممارساتهم عن تعاليم القرآن الكريم وتقاليد السنة المطهرة، نورد بعضاً مما جرى في تلك الواقعة، نقلاً عما أورده ابن تيمية نفسه، وقد كتب ابن تيمية بعد هذه المناظرة جزءاً أسماه: كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية.
وينبغي أن نقدم لذلك بأن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يكن معادياً للصوفية على إطلاقها، بل نرى منه الثناء الكبير على أئمة الصوفية كالشيخ عبد القادر الجيلاني وغيره، وكان ينكر على فريق منهم، كما سنرى، احترافهم للتصوف وبعدهم عن القرآن والسنة، وإتيانهم بأمور ومخاريق ليست من الدين وبساطته، لم ترد عن الرسول صلوات الله عليه ولا عن صحابته وتابعيهم، ولذا كان يسميهم ضلال الصوفية أو منحرفتهم أو باطنية الصوفية، تمييزاً لهم عن باقي المتصوفة المحافظين على منهج القرآن والسنة، فقد كان منهجه أقرب إلى الإنكار على من يغلو منهم في تعظيم الشيوخ وتقديسهم، أو يحترف التصوف، أو يدخل عليه مظاهر ومسالك لا تستقيم مع ميزان الشرع والسنة.
وقد يقسو رحمه الله في هجومه عليهم أحياناً بسبب جو المناظرة وطبعه الفطري، كما أشار إلى ذلك تلميذ ابن تيمية الإمام الذهبي في تاريخه فقال: وتألموا منه بسبب ما هو المعهود من تغليظه وفظاظته وفجاجة عبارته، وتوبيخه الأليم المبكي المنكي المثير النفوس، ولو سلم من ذلك لكان أنفع للمخالفين.
ونشير في هذا الصدد أن خال الشيخ ابن تيمية كان من المتصوفة، كما أورد ذلك تلميذ ابن تيمية الإمام الذهبي في تاريخه في وفيات سنة 698 فقال: علي بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن علي بن عبدوس، الشيخ أبو الحسن ابن الحلاوي الحراني، الزاهد، الصوفي، خال شيخنا ابن تيمية.
صحب المشايخ وتجرد وسافر، ولقي الكبار، وحفظ عنهم كثيراً من أخبار الصوفية وآدابهم، وأنفق ماله في وجوه الخير، واختل عقله مرة من الذكر والعبادة، وعولج ثم تماثل وكان مقيمًا بالخانكاه الأسدية.
ونورد كذلك ما أورده الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي، عبد الرحمن بن أحمد، المولود ببغداد سنة 736 والمتوفى بدمشق سنة 795، وذلك في كتابه ذيل طبقات الحنابلة حين ترجم لعماد الدين الواسطي الحزامي، أحمد بن إبراهيم، المولود سنة بواسط 657 والمتوفى بدمشق سنة 711، فقال:
الزاهد القدوة العارف، كان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، وألهمه اللّه من صغره طلب الحق ومحبته، والنفور عن البدع وأهلها، فاجتمع بالفقهاء بواسط وقرأ شيئاً من الفقه على مذهب الشافعي، ثم دخل بغداد، وصحب بها طوائف من الفقهاء، وأقام بالقاهرة مدة ببعض خوانقها، وخالط طوائف الفقهاء، ولم يسكن قلبه إلى شيء من الطوائف المحدثة. واجتمع بالإِسكندرية بالطائفة الشاذلية، فوجد عندهم ما يطلبه من لوايح المعرفة، والمحبة والسلوك، فأخذ ذلك عنهم، وانتفع بهم، واقتفى طريقتهم وهديهم.
ثم قدم دمشق، فرأى الشيخ تقي الدين ابن تيمية وصاحبه، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأحواله، وأذواقه وسلوكه، واقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وطرائقه المأثورة عنه في كتب السنن والآثار، واعتنى بأمر السنة أصولاً وفروعاً، وشرع في الرد على طوائف المبتدعة الذين خالطهم وعرفهم من الاتحادية وغيرهم، وبين عوراتهم، وكشف أستارهم، وانتقل إلى مذهب الإمام أحمد... وألف تآليف كثيرة في الطريقة النبوية، والسلوك الآثري والفقر المحمدي؛ وهي من أنفع كتب الصوفية للمريدين، انتفع بها خلق من متصوفة أهل الحديث ومتعبديها.
وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يعظمه ويجله، ويقول عنه: هو جنيد وقته. وكتب إليه كتاباً من مصر أوله: إلى شيخنا الإمام العارف القدوة السالك.
وكان معمور الأوقات بالأوراد والعبادات، والتصنيف، والمطالعة، والذكر والفكر، مصروف العناية إلى المراقبة والمحبة، والأنس بالله، وقطع الشواغل والعوائق عنه، حثيث السير إلى وادي الفناء بالله، والبقاء به، كثير اللهج بالأذواق والتجليات، والأنوار القلبية، منزوياً عن الناس، لا يجتمع إلا بمن يحبه، ويحصل له باجتماعه به منفعة دينية.
نعود إلى المناظرة التي قال عنها المؤرخون: وفي سنة 705 أظهر ابن تيمية الإنكار على الفقراء الأحمدية فيما يفعلونه: من دخولهم في النيران المشتعلة، وأكلهم الحيات ولبسهم الأطواق الحديد في أعناقهم، وتقلدهم بالسلاسل على مناكبهم، وعمل الأساور الحديد في أيديهم، ولفهم شعورهم وتلبيدها. وقام في ذلك قياماً عظيماً بدمشق، وحضر في جماعة إلى نائب السلطنة بدمشق الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، وعرفه أن هذه الطائفة مبتدعة، فجمع له ولهم الناس من أهل العلم، فكان يوماً مشهوداً كادت أن تقوم فيه فتنة، واستقر الأمر على العمل بحكم الشرع ونزعهم هذه الهيئات.
قال ابن تيمية:
أما بعد فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر  البطائحية، لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه...
وذلك أني كنت أعلم من حالهم أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ... فيوجد أيضا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام، والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول، والاستخفاف بشريعة الإسلام، والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الباطلة، وأكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد.
وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة، بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم، بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق: مثل ملابسة النار والحيات وإظهار الدم واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك، فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن أسترهم، فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة
 فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم، وهو وأتباعه معروفون بأمور، وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن ؛ فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة ودينا يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وإنه سيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم - أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه - خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع، وقلت هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة، ولا من المشايخ الذين يقتدى بهم ولا يجوز التعبد بذلك، ولا التقرب به إلى الله تعالى، لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال فالتشبه بأهل النار من المنكرات...
وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقا إلى الله وسببا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرا عند الله وقربة إليه، فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينا لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله ؛ ولا دين إلا ما شرعه الله...
إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم...
فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة، ومضت على ذلك مدة، والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة... وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه، وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم...
فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب، فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة ... مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرءوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردى وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال.
فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر وسأل عنهم فقيل له هم مشتكون فقال ليدخل بعضهم فدخل شيخهم وأظهر من الشكوى علي ودعوى الاعتداء مني عليهم كلاما كثيرا لم يبلغني جميعه ؛ لكن حدثني من كان حاضرا أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده، أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يُسلَّم إلينا، قال: فنسمع كلامه فمن كان الحق معه نصرناه، قالوا نريد أن تشد منا، قال: لا ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم. فكرروا ذلك، فأمر بإخراجهم، فأرسل إلي بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء، فلما علمت ذلك ألقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان...
فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته واستنصرته واستهديته وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك حتى ألقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك وأنها تكون بردا وسلاما على من اتبع ملة الخليل...
فلما أصبحنا ذهبت للميعاد... وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء وقالوا أنواعا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالا لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقا لا يعرفها أحد من العلماء، وأن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق وأشباه هذه الدعاوى ذات الزخرف والتزويق، وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار لهم في القلوب موقع هائل ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل.
وها أنا ذا أصف ما كان، قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا يجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم، فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشبًا طوالاً، وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزّة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض، وأخذوا منه مالاً كثيرًا، ثم انكشف له أمرهم.
قلت للأمير: وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم أوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه، بل من بعيد؛ لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه، وجذب الشعر؛ فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز.
وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة، وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك في المجلس العام كما سأذكره.
قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون: لنا هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع، فليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه سواء وافق الشرع أو خالفه، وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر البارنج وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق.
فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك، وأُلقيَ في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه، وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات، وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم، أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم.
فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر، وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه أنه قال: اليوم نرى حربًا عظيمًا، ولعل ذاك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.
وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق. وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر، فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن له فيهم ظنًّا حسناً، والله أعلم بحقيقة الحال... وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق، فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه...
فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يُسمي نفسه خليفة سيده أحمد ويركب بعلمين، وهم يسمونه عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك، وكان من مدة قد قدم عليَّ منهم شيخ بصورة لطيفة، وأظهر ما جرت به عادتهم من المسائلة، فأعطيته طِلْبته، ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا خفي عليَّ تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى عليَّ تلبيس أحد، بل أُدركه في أول الأمر، فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديمًا، فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.
فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح، والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة، فقلت: أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى في سورة غافر: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ﴾، هذه إلى جنب هذه، وقال تعالى في سورة الحجر: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ﴾، فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق، وذكر أن وهب بن منبه روى: أنه كان في بني إسرائيل عابد، وأنه جعل في عنقه طوقًا، في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت، فقلت: لهم ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر ابن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًّا ثم اتبعتموه وتركتمونني لضللتم!
فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا، ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى في سورة المائدة: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تُعلم صحتها، وما علينا من عباد بني إسرائيل؟ ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشِبْهه بكيفية قوية.
فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن قوم شافعية، فقلت له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية، ودعَوْتُه وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا؟ فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال، وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك.
فانتدب ذلك الشيخ عبد الله، ورفع صوته وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة، لا يوقف عليها، وذكر كلاماً لم أضبط لفظه ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمرًا لا يقف عليه أهل الظاهر، فلا ينكرونه علينا. فقلت له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذكرت هذا ونحوه.
فقال ورفع صوته: نحن لنا الأقوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها، فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها: أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار... لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع، وقشر النارنج وحجر الطلق، فضجَّ الناس بذلك... فأظهر الوهم على عادتهم فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال: حزمة حطب، فقلت: بل قنديل يوقد، وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك، تغير وذل وذُكِرَ لي أن وجهه أصفرَّ.
وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، ويمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا يعني: الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به! فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به! وتكلمت في هذا ونحوه، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح، وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.
فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه قول الله تعالى في سورة الأعراف: ﴿فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾... فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون، فرجعوا وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما يطلب منهم، فقلت: متابعة الكتاب والسنة.
فقالوا: نحن ملتزمون بالكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق؟ نحن نخلعها. فقلت: الأطواق وغير الأطواق، ليس المقصود شيئًا معينًا، وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزاماً عامًّا، ومن خرج عنه ضُرِبت عنقه، وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًّا في حق جميع الناس، فإن هذا مشهد عام مشهور، وقد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة وأهل الديوان والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الأمور، أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، فإن من هؤلاء من لا يصلي ومنهم من يتكلم في صلاته؛ حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا علي في عصر الجمعة، جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد شيء لله، وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله، ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهذا قد فُعل بالأمس بحضرة شيخهم، فأمَرَ قائلَ ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة، وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا، وهذا منكر يبطل الصلاة.
فقال: هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس، فقلت: العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب، ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم ويقدرون على دفعه.. وليسوا مغلوبين على ذلك كما يُغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها.
فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة، وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم، قلت له: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حالٌ يَرِد عليهم فقلت: هذا من الشيطان الرجيم! لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أحبه الله ولا رسوله، فقال: ما في السماوات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، فقلت له: هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن.
فقال: فبأي شيء تبطل هذه الأحوال؟ فقلت: بهذه السياط الشرعية! فأُعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية. وأمسكتُ سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يُقَرُّونَ ولا نُقَرُّ نحن؟ فقلت: اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته، فأُفحموا لذلك.
أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز، يعني أتباع أحمد بن الرفاعي، فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله؟! فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم، وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرًّا مع الله. فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسَّره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.
وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب، فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك أو يساوونهم أو يزيدون عليهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾.
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

الجمعة، 15 مارس 2013

حدث في الثاني من جمادى الأولى


في الثاني من جمادى الأولى من عام 1351 الموافق 16سبتمبر1931، قامت القوات الإيطالية المحتلة في ليبية بإعدام الشهيد عمر المختار، فصعدت روحه إلى بارئها عن عمر بلغ 75 عاماً، وجرى إعدامه شنقاً في مدينة سلوق جنوبي بنغازي في ليبية.

وقبل أن نتناول سيرة هذا المجاهد البطل ينبغي أن نبدأ باستعراض تاريخ الاستعمار في دول المغرب العربي، حيث كانت فرنسا قد غزت سواحل الجزائر سنة 1830، وقضت على مقاومة الأمير عبد الكريم الخطابي سنة 1847، واتجهت جنوباً لتحتل الصحراء الجزائرية، ثم بدأت بعد سنة 1870 في سياسة توطين الفرنسيين في الجزائر وأعلنتها جزءاً من فرنسا بعد أن كان تدعى الأراضي الفرنسية في أفريقية، ثم اتجهت فرنسا جنوباً في سنة 1899، بعد التفاهم مع بريطانيا، للسيطرة على تشاد التي كان جزء كبير منها يدين بالولاء الإسمي للسلطان العثماني، مثل واداي وتيبستي إلى بحيرة تشاد، وذلك امتداداً لوجود الخلافة الإسلامية في الولايات العثمانية في شمال أفريقية، ولقلة موارد الدولة العثمانية في مواجهة هذا التمدد الاستعماري أصدر السلطان عبد الحميد الثاني أوامره لقواته في ليبية بتعيم التدريب العسكري على الأهالي، وأنشأت منهم فرقاً من الفرسان الذين برز كثير منهم في فنون القتال والحرب، ولكن حكومة الاتحاد والترقي التي أطاحت بالسلطان عبد الحميد أهملت أمورهم وأمور طرابلس الغرب، فنزل عددهم إلى 5000 بعد أن وصلوا 40000 مقاتل، ولكن والي طرابلس المشير إبراهيم أدهم باشا كان مخلصاً واعياً أدرك الأطماع الإيطالية فوضع خططاً لحشد القوات وتخزين الذخائر للدفاع عن البلاد.

وتطلعت فرنسا للسيطرة على المغرب الأقصى كذلك، فأبرمت في سنة 1904 معاهدة سرية مع أسبانيا لتقاسم المغرب، واتفقت مع بريطانيا ألا تعارضها في احتلالها لمصر مقابل ألا تعارضها في احتلالها للمغرب، ولكن ألمانيا أصرت على أن يبقى المغرب منطقة مفتوحة أمام كافة الدول الأوربية، وقام الإمبراطور وليلم الثاني بزيارة طنجة في سنة 1905، وأعلن من على سفينته إصرار ألمانيا على بقاء المغرب موحداً ومستقلاً، وتلا ذلك عقد مؤتمر في أوائل سنة 1906 في أسبانيا اعترفت فيه القوى الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية باستقلال السلطان المغربي وتساويها في الامتيازات الاقتصادية، وإن كان المؤتمر منح فرنسا وأسبانية مهمة الحفاظ على الأمن في المغرب، ثم عقدت فرنسا وألمانيا اتفاقاً في عام 1908 أكدتا فيه استقلال المغرب مع الاعتراف بالمصالح السياسية المتميزة لفرنسا فيه مقابل الاعتراف بالمصالح الاقتصادية لألمانيا في شمال أفريقية، ثم عادت الأزمة لتنشب من جديد في منتصف عام 1911 فاتفقت الدولتان على أن تعطى فرنسا الحماية على المغرب مقابل إعطاء ألمانيا مناطق من الكونغو الفرنسي، واحتجت أسبانيا ثم وافقت بوساطة بريطانية مقابل تعديل الحدود الفرنسية الأسبانية في المغرب، وتقرر في هذا الاتفاق تدويل طنجة والمنطقة المحيطة بها.

ولم تكن إيطاليا بعيدة عن هذه الروح الاستعمارية التي سيطرت على سياسات الدول الأوربية حقبة طويلة من الزمن، وكانت في غنى عن ذلك لأن مصالحها التجارية في البلاد العربية والإسلامية كانت رائجة، وكانت لكونها لم تقم بأية أعمال عدوانية، تتمتع بصداقة كثير من الدول الإسلامية، وعلى رأسها الدولة العثمانية ومصر، واللتي منحتاها تسهيلات تجارية كبيرة، ولكن اللوثة الاستعمارية التي قادتها لتطمع في الاستيلاء على الحبشة واليمن، جعلتها تستسهل غزو ليبية لقربها، ولكون روما سبق وأن احتلتها أيام مجدها الغابر في ظل القياصرة، كما كان لدولة النورمان في صقلية غزوات وقواعد في الساحل الإفريقي بعد الفتح الإسلامي، ومهدت إيطاليا لسياستها بإنشاء المدارس الإيطالية في طرابلس وأنفقت عليها من خزينتها لتشيعَ اللغة الإيطالية بين عرب طرابلس، وتجذب إليها قلوبَ الأطفال والناشئة، كما أنشأ بنكو دي روما فروعاً في ليبية بل وأسس مطبعة وجريدتين للدفاع عن المصالح الإيطالية.

وفي سنة 1339 = 1911 انتهزت إيطاليا فرصة هذه المقايضات الاستعمارية، وقامت بغزو ليبية بحجة أوهى من خيط العنكبوت، وهي تضرر المصالح الإيطالية في طرابلس وبرقة، وفي 5 شوال 1329 الموافق 28 سبتمبر 1910 وجه رئيس الوزراء الإيطالي جيوفاني جيوليتّي (1842- 1928) إنذاراً للدولة العثمانية سلمه وزير الخارجية الماركيز أنتونيو سان جوليانو (1852- 1914)، ومما جاء في هذا الإنذار:

لبثت الحكومة الإيطالية منذ سنين تنبه الباب العالي لضرورة وضع حد لسوء النظام وإهمال الحكومة العثمانية في طرابلس وبنغازي، وهذا التغيير الذي يقتضيه التمدين، يجعل المصالح الحيوية بحسب ما تستلزمه مصلحة إيطالية في الدرجة الأولى؛ بالنظر لقصر المسافة الفاصلة بين تلك البلاد وشواطئ إيطالية... إن جميع مشروعات الطليان في تلك الأصقاع كانت تصادف دائمًا مقاومة لا تحتمل...

قد وردت الأخبار إلى الحكومة الملكية من قنصلها أن الحالة هناك خطرة جدا؛ بسبب التحريض العام ضد الرعية الطليان، التحريض الذي زاده الضباط وسائر موظفي الحكومة، فهذا النهج خطر شديد على الطليان وعلى سائر الأجانب على اختلاف جنسياتهم... ولهذا تضطر الحكومة الملكية أن تتخذ الاحتياطات اللازمة دفعاً للخطر الذي ينشأ عنه.

ولما وجدت الحكومة الإيطالية نفسها مضطرة إلى الحرص على شرفها ومصالحها، قررت أن تحتل طرابلس وبنغازي احتلالاً عسكرياً، وهذا هو الحل الوحيد الذي تعول عليه إيطالية، والحكومة الملكية تتوقع أن تصدر الحكومة السلطانية أوامرها بأن لا يصادف الاحتلال معارضة من رجال الحكومة العثمانية... وبعد ذلك تتفق الحكومتان على تقرير الحالة اللازمة التي تلي ذلك الاحتلال... ونرجو أن يبلغ جواب الباب العالي المنتظر في 24 ساعة لنا عن يد السفير العثماني في روما.

ويتحدث الإنذار عن الحكومة الملكية لأن إيطاليا كانت ملكية آنذاك يتربع على عرشها الإمبراطور فتوريو إيمانويل الثالث المولود سنة 1869 والمتوفى منفياً في الإسكندرية سنة 1947، حيث أقام له الملك فاروق جنازة رسمية ملكية.

وأجابت الدولة العثمانية على هذا الإنذار بجواب دبلوماسي عكس موقفها العسكري الضعيف قالت فيه: يصعب جدًّا على الباب العالي أن يجد ظرفاً واحداً ظهر فيه بمظهر العداء للمشروعات الطليانية في طرابلس وبنغازي ...وكانت تنقاد دائماً لإرادتها أن تحفظ صلات الصداقة والثقة مع حكومة إيطالية وفي أن تنميها، وهذه الإدارة الحسنة هي التي دفعتها مؤخراً إلى أن تقترح على السفارة الملكية اتفاقًا يكون أساسه الامتيازات الاقتصادية التي تفتح مجالاً واسعًا للنشاط الطلياني في تلك الأقاليم، على شرط أن يكون حد تلك الامتيازات كرامة السلطنة ومرافقها والمعاهدات النافذة.

أما ما يختص بالنظام والأمن في طرابلس وبنغازي؛ فإن الحكومة العثمانية تؤكد أنه لا يوجد أقل سبب داع للخوف على الطليان والأجانب النازلين هناك... ولا يوجد اضطراب ولا تهيج، ومهمة الضباط وغيرهم من موظفي الحكومة ضبط الأمن، وهم يقومون بمهمتهم خير قيام.

وبدأت إيطاليا هجومها في 6 شوال 1329 الموافق 29 سبتمبر 1911، وتكونت القوات الغازية من ثلاث فرق عددها 34000 جندي مزودين بأحدث الأسلحة الإيطالية من مدرعات ومدفعية ورشاشات، وبعض الطائرات، وأنزلتهم البحرية الإيطالية على شواطئ ليبية، ليواجههم على الطرف الآخر فيلق يتألف من 4000 جندي عثماني من المشاة والفرسان، قاوموهم بكل الإمكانيات المتواضعة لديهم ويساعدهم المجاهدون من السنوسيين، وقاد القوة العثمانية أنور باشا أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي والذي سيغدو فيما بعد وزير الحربية التركي، وألقت الطائرات الإيطالية في طرابلس الغرب  منشورا بالعربية من كارلو كانيفا قائد الحملة نورد بعضاً مما جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                والصلاة والسلام على كافة الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم أجمعين.                                                                                                                                                                                                                       

بأمر ملك إيطاليا المعظم فكتور عمنويل الثالث نصره الله وزاد مجده.

أنا الجنرال كارلوس كانيفا قائد العساكر الإيطالية الموكل إليها محو الحكومة التركية في طرابلس وبرقة والمقاطعات التابعة لها... إن العساكر الخاضعة لأمري، لم يرسلها جلالة ملك إيطاليا حماه الله لإضعاف واستعباد سكان طرابلس وبرقة والفزان... بل لتعيد إليهم حقوقهم وتقتص من المعتدين عليهم، وتجعلهم أحراراً يحكمون أنفسهم، وتحميهم من كل من يعتدي عليهم ... من الآن سيحكمكم رؤساء منكم، موكل إليهم أن يقضوا بينكم بالعدل والرأفة؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾... ويجب أن يكون ذلك مطابقًا للشريعة الغراء والسنة المحمدية السمحاء... وإني واثق بأنكم تقبلون هذا المنشور بسرور قلبي؛ لأنه سيكون قانوناً يجب أن يحفظ بأمانة واستقامة ضمير وشهامة من كلا الطرفين.

وإذا وجد من لا يحترم الشرائع... أو يقاوم أو يثور على إرادة العناية الإلهية التي أرسلت إيطاليا إلى هذه البلاد، فسيكون الانتقام منه عظيماً... اذكروا أن الله قد قال في كتابه العزيز: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾... وجاء أيضًا ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾... فإرادة الله ومشيئته قضتا أن تحتل إيطاليا هذه البلاد؛ لأنه لا يجري في مُلْكِه إلا ما يريد... فإيطاليا تريد السلام وتريد أن تبقى بلادكم إسلامية تحت حماية إيطاليا وملكها المعظم، ويخفق فوقها العلم المثلث الألوان إشارة إلى المحبة والإيمان...

أثار الغزو الإيطالي مفكري وشعراء العالم الإسلامي، ونكتفي بقصيدة لشاعر العراق معروف الرصافي قال فيها:

ألا انهض وشمِّر أيها الشرق للحرب ... وقبِّل غِرار السيف واسلُ هوى  الكتب

ولا  تغترر  أن  قيل  عصر تمدُّن ... فإن الذي  قالوه  من  أكذب الكذب

ألست  تراهم  بين  مصر وتونس ... أباحُوا حِمى  الإسلام  بالقتل والنهب

وما  يُؤخذ  الطليان بالذنب وحدهم ... ولكن  جميع  الغَرب  يؤخذ بالذنب

فإني  أرى  الطليان  منهم بمنزل ... يُعدّ  وهم  يُغرونه  منزلَ الكلب

فلولاهم  لم  يَنقُضِ  العهد ناقض  ... ولا ضاع حقٌّ في  طرابُلُس الغرب

بلاد غدت في  الحرب  تندب أهلها ... فتبكي وتستبكي بني  الترك والعُرب

قد  اغتالها  الطليان  وهي بمضجع ... من الأمن لم يُقضِض برعب على  الجنب

فأمست وأفواه المدافع  دونها  ... تمُجّ  عليها  النار  كالوابل السكب

غدت  ترتمي  فيها  عشيّاً وبُكرة ... فلا يابساً أبقت ولم تُبق  من رطب

يعزّ علينا أهل برقة  أنكم ... تدور  عليكم  بالدمار  رَحى الحرب

ويا أهل  بنغازي  سلام  فقد قضت ... صوارمكم  حق  المَواطن  في الذَبِّ

فإن  حشا  الإسلام  أصبح دامياً ... إلى  الله  يَشكو  قلبُه  شدة الكرب

ويا  معشر  الطليان  قُبّحت معشراً ... ولا كنت يا شعب المخانيث من  شعب

سترجع  عنها بالفضيحة  ناكصاً ... وتَذكرك الأيام باللعن والسَبّ

وما  دعوة  البابا  لكم  مستجابة ... فقد  أغضبت  طغواكم  غَيرة الرَبّ

أجل  إنكم  أغضبتم الله  فاتقُوا ... وإن رضِيَت تلك الحكومات في  الغرب

أيا  زعماء  الغرب  هل  من دلالة ... لديكم  على  غير  الخديعة والكذب

تقولون  إن  العصر  عصر تمدُّن ... أمن  ذلكم  قتل  النفوس  بلا ذنب؟

ألم  تُبصروا  القَتْلى  تمجّ دماءها ... على الأرض والجرحى يئنون في الحرب

كذبتم  فإن  العصر  عصر مطامع ... تُقَدّ  لها  الأوداج  بالصارم  العضب

فلا  تُغضِبوا  الإسلامَ  إن سيوفه ... مواضٍ كما قد كُنّ في سالف الحُقب

وتعليقاً على الغزو كتب السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار: لو أن مثل هذا العدوان وقع من الدولة العثمانية على بعض البلقان لقامت قيامة أوربة كلها، وجهزت أساطيلها، وصاحت جرائدها على اختلاف لغاتها: يجب على دول المدنية أن تطهر الأرض من هذه الدولة الإسلامية الباغية العادية المتعصبة المتوحشة، حفظًا للعهود والقوانين التي يرعاها البشر، ولا يتعدى حدودَها إلا الهمجُ والمتوحشون.

لقد انهتك الستر، وانكشف القناع، وأظهرت أوربة ما كانت تخفيه بالتمويه من قصد إزالة سلطان المسلمين من الأرض، والقضاء عليهم بالذل والعبودية، وأن يكونوا خدمًا وعبيدًا لأوربة؛ بعد أن تقتسم ما بقي من ممالكهم، وتقطع عليهم جميع طرق العزة والقوة، وتحرمهم إلى الأبد من إنشاء حكومة ذاتية.

لا يغرنكم انتقاد بعض جرائد لغدر إيطالية وعداونها، سواء كان صادرًا عن مخادعة وخلابة، أو عن استقلال في الانتصار للمعاهدات والقوانين، أو لأجل أن لا يناقض إقرارهن لإيطالية ما كان من إنكارهن على النمسة عندما اغتالت البوسنة والهرسك.

كذلك أثار العدوان الإيطالي واحتلال ليبية غضبة عارمة في أنحاء العالم الإسلامي واحتجاجات صاخبة ومقاطعة للبضائع الإيطالية وصلت آثارها إلى أفغانستان والهند وأندونيسيا، ولشاعر الإسلام محمد إقبال قصيدة حول طرابلس الغرب في ديوانه  بالأوردية نداء الرحيل، وقام فضلاء المصريين وكبار الأسرة الخديوية بجمع التبرعات والمعونات وإمداد المجاهدين بالسلاح، كما قام بذلك نادر شاه ملك أفغانستان رحمه الله تعالى.

ونتوقف هنا للحديث عن الطريقة السنوسية لارتباط ذلك بموضوعنا، فنقول: أسس الطريقة السنوسية أبو عبد الله محمد بن علي السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي، المولود بمستغانم في الجزائر سنة 1202=1787، والمتوفى في الجغبوب سنة 1276= 1859، وتعلم بفاس في المغرب الأقصى وتصوف على يد الشيخ عبد الوهاب التازي، وجال في الصحراء الكبرى يعظ الناس، ثم زار تونس وطرابلس وبرقة ومصر ومكة، وبنى زاوية في جبل أبي قبيس، ثم رحل إلى برقة شرقي ليبية سنة 1255، وأقام في الجبل الأخضر فبنى الزاوية البيضاء وكثر تلاميذه وانتشرت طريقته، وتوفي في واحة جغبوب، وله نحو 40 كتابا ورسالة، منها كتاب إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن، وكتاب الشموس الشارقة فيما لنا من أسانيد المغاربة والمشارقة.

وكان هدف السنوسي تطهير الدين من البدع والخرافات، وتوحيد الصفوف في العالم الإسلامي للنهوض بالدين الحنيف نهضة صحيحة قوية، وطريقته هي بناء مراكز أسماها الزاويا يرتبط بها أتباعه ويترددون إليها ويحضرون مجالس العلم بما أمكن، ويختمون القرآن الكريم كل شهر مرة في الزاوية، ويعظهم خلفاء السنوسي ويرشدونهم في أمور دينهم ودنياهم. وهذه الزوايا كذلك بمثابة فنادق مجانية للمسافرين على الطريق، يتلقى مشايخها كل من يفد عليهم بالترحاب، ويكرمونه على قدر استطاعتهم، ويقوم شيخ الزاوية بمصروفها مما يستغل من الأراضي التي حولها، ومما قد يقدمه المنتسبون للزاوية، أما زاوية الجغبوب، شرقي ليببة قرب الحدود المصرية، فهي مدرسة الشيخ السنوسي الكبرى للطلبة من جميع الأقطار، وليس ثمة شغل بغير العلم وإقامة السُّنة، ولا هناك بيع ولا تجارة ولا شيء يلهي عن ذكر الله.

واتسع نشاط الحركة السنوسية، وأسست الزوايا الممتدة على ساحل البحر الأبيض من الإسكندرية إلى الجزائر، وجنوباً من البحر المتوسط إلى تشاد وقلب أفريقية، وانضم إليها محمد شريف الذي كان سلطان واداي في وسط تشاد، وكان يشتري العبيد المسترقين ويعلمهم في الزوايا ثم يعتقهم ويبعث بهم إلى أهليهم لينشروا الإسلام في الزنوج والوثنيين.

ولما توفي السنوسي الكبير سنة 1276 = 1859 انتقلت الإمارة إلى ولده محمد المهدي المولود سنة 1260 = 1844، واشتُهِرَ بالصلاح والتقوى، وأخذ على عاتقه إتمام ما بدأه أبوه، فزاد عدد الزوايا، وقويت الطريقة في أيامه حتى انتشرت زواياها من المغرب الأقصى إلى الهند، ومن واداي إلى الآستانة، وأكثرها في الصحراء الكبرى وشمال إفريقية، وكان في كل زاوية خليفة يدير شؤونها ويعلم أولاد الناس ويقتنى الماشية ويشتغل بالزراعة، يساعده المريدون، وينفق على الزاوية، وما يفيض منه يرسله إلى الشيخ السنوسي، فأصبح أشبه بملك يُجبى إليه الخراج، وخاف السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عاقبة أمره، فشعر الشيخ بذلك فرحل سنة 1312 = 1894 إلى واحة الكفرة وانتقل منها إلى واداي في تشاد، وتوفى فيها سنة 1320 = 1902.

وكان العثمانيون من قبل يرون في السنوسية عامل خير واستقرار، واستعانوا بالسنوسي الكبير على بث روح الألفة بين الناس، ونشر السلام بين ربوع البلاد، وسار ولاتهم في ركابه كلما انتقل في البلاد.

وحيث كان ابنه محمد إدريس المولود سنة 1307حدثاً عمره 12 سنة، أوصى محمد المهدي أن يقوم بأمر السنوسية بعده ابن أخيه أحمد الشريف بن محمد بن محمد بن علي السنوسي المولود سنة 1284 = 1867، والمتوفى سنة 1351 = 1933، وفي سنة 1333 صار محمد إدريس بن المهدي زعيم الطائفة السنوسية، وصار فيما بعد ملك ليبية عند استقلالها سنة 1951 إلى انقلاب الفاتح من سبتمبر سنة 1969، وتوفي في المنفى بمصر سنة 1403 = 1983.

وكان عمر المختار زعيماً هاماً من قادة السنوسيين، يشارك المسلمين في تشاد مقاومة الاحتلال الفرنسي، فاكتسب خبرة جيدة في القتال وتكتيك حرب العصابات إزاء القوات الأوربية النظامية، وتجلت فيها خصائصه القيادية، فلما داهم الغزو الإيطالي أمره السنوسي بالعودة إلى ليبيا والتصدي للغزاة مع مجاهدي السنوسي والفيلق التركي.

ولد عمر بن مختار بن عمر الـمِنفِي، نسبة إلى قبائل المنفة من قبائل بادية برقة، في قرية جنزور الشرقية في بادية البطنان ببرقة سنة 1275 = 1858، ونشأ يتيماً برعاية الشيخ حسين الغرياني شيخ زاوية جنزور، ثم تعلم العلوم الشرعية في الزاوية السنوسية بالجغبوب، وكانت مركز قيادة الحركة السنوسية آنذاك، وكان حافظاً لكتاب الله مقرئاً له يختمه كل سبعة أيام، وأقامه محمد المهدي الإدريسي السنوسي شيخا على زاوية القصور بالجبل الأخضر بقرب المرج شمالي شرقي بنغازي، وهي ضمن منطقة قبيلة العبيد التي عرفت بالإباء وشدة الشكيمة وصعوبة المراس، فوفقه الله في قبولها له ورضاها بزعامته.

واستمرت القوات التركية في مقاومة الاحتلال قرابة سنتين إلى أن وقعت الدولتان اتفاقية لوزان في أكتوبر 1912 تتضمن إنهاء العمليات العسكرية، وتبادل أسرى الحرب، ومنح الحكم الذاتي للولايات الليبية مع بقاء ممثل ديني للخليفة في ليبية، وأن تدفع إيطاليا سنوياً للخزينة العثمانية مبلغاً يماثل ما كان يأتيها من قبل الحرب.

ولم يكن أمام حكومة الاتحاد والترقي خيار فقد كانت تواجه حرباً شنتها صربيا واليونان وبلغاريا، وما كان بإمكان أسطولها أن يمد قواتها المرابطة في ليبية، ولم تُجْدِ صرخاتها الاحتجاجية لدى الدول الأوروبية واستشهادها بالأعراف والمواثيق الدولية، فقد كانت روسيا وبريطانية تدعمان إيطاليا دعماً واضحاً، فيما لم ترتح فرنسا كثيراً لهذه الخطوة، في حين ساندت ألمانيا والنمسا الموقف التركي.

ولم يكن انسحاب القوات التركية نهاية المعارك، بل تابع السنوسيون الجهاد بقيادة أحمد الشريف بن محمد بن محمد بن علي السنوسي، الذي حقق نجاحات وانتصارات جعلت الوجود الإيطالي في برقة مقتصراً على بعض المواقع الساحلية، وكانت مصر أكبر مصدر يدعم السنوسيين بالمال والمواد والسلاح ما استطاع أهلها إلى ذلك سبيلا، فبقيت المقاومة مستمرة لا تمكن الإيطاليين من الاستقرار في ليبية التي ضموها إلى إيطاليا في سنة 1913، وطالت الحرب، وتتابعت المعارك، ومنطقة المختار ثابتة منيعة.

شارك عمر المختار في مقاومة الاحتلال من اليوم الأول للغزو، وكان قد بلغ من العمر 52 عاماً، مستفيداً من خبرته في مقاومة الفرنسيين في واداي، وتقدر المراجع الإيطالية عدد القوات السنوسية من 2000 إلى 3000 مجاهد، ولكن هذه الفئة القليلة استطاعت تقوم بهجمات ناجحة كثيرة أربكت الجيش الإيطالي وألحقت الخيبة به، وغنمت منهم السلاح والعتاد، حتى أن شاعر النيل حافظ إبراهيم قال هازئاً:

خبروا فكتور عنّا أنه ... أدهش العالم حرباً ونظاما

حاتم الطليان، قد قلّدتنا ... منَّة نذكرها عاماً فعاما

أنت أهديت إلينا عدّة ... ولباساً وشراباً وطعاما

وسلاحاً كان في أيديكم ... ذا كلال فغدا يفري العظاما

أكثروا النزهة في أحيائنا ... ورُبانا إنها تشفي السقاما

وفي سنة 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى، ووقفت الدولة العثمانية، أو بالأحرى حكومة الاتحاد والترقي، إلى جانب الألمان، ودعت المسلمين في العالم إلى محاربة البريطانيين، وأرسلت عدداً من الضباط الأتراك والألمان خلسة إلى ليبيا، فاستمالوا أحمد الشريف السنوسي وأعلن الحرب على بريطانيا، وهاجم القوات البريطانية في الصحراء الغربية المصرية، في أواخر سنة 1915 بجيش عدده 5000 يردفهم 1000 جندي تركي، واحتل بعض الواحات التي كانت في الأصل تتبع ليبيا.

وكان هذا من الأخطاء الرئيسة للشريف أحمد، ونصحه من حوله بألا يفعل، فما يمكن أن يقدمه للأتراك ضئيل جداً في ميزان الحرب، وهم أنفسهم قد تخلوا عن ليبيا قبل سنتين عندما وقعوا اتفاقية لوزان، ومن جهة أخرى كانت بريطانيا غير مرتاحة للاحتلال الإيطالي، ولذا غضت النظر عن تدفق المساعدات من مصر للمجاهدين في برقة، ولكنها بعد هذا الهجوم شعرت بخطر داهم، لأن أي نجاح يحققه السنوسيون قد يدفع البدو المقيمين على حدود مصر الغربية وفي داخل مصر نفسها إلى الثورة، ولذا قررت القضاء على المجاهدين في ليبيا من خلال قطع الإمدادات عنهم، وما أن أوقفت بريطانيا تقدم القوات الألمانية والتركية نحو قناة السويس، وأرغمتها على التراجع، حتى هاجمت المواقع التي احتلها المجاهدون الليبيون واسترجعتها في أوائل 1917، وشددت الرقابة على الإمدادات من مصر حتى كادت أن تقطعها تماماً.

وسلم الشريف أحمد الأمر إلى ابن عمه إدريس في سنة 1916، ورحل إلى إستانبول وتولى فيها تقليد السلطان محمد السادس السيف يوم ارتقائه العرش، ثم رحل إلى الحجاز في آخر الأمر ضيفا على الملك عبد العزيز آل سعود، إلى أن توفي بالمدينة سنة 1351=1933.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في سنة 1918، عقد الأمير إدريس السنوسي في سنة 1920 اتفاقاً مع إيطاليا بوساطة بريطانية اعترف فيه بالسيادة الإيطالية مقابل منحه لقب أمير وجعل ذلك وراثياً في ذريته، واستمرار سلطته على واحات الكفرة وجغبوب وجالو وأدجيلة وأجدايبة، ولكن الفاشيين لدى وصولهم للحكم في سنة 1923 نقضوا الاتفاق وغادر السنوسي ليبية إلى مصر، ودب الخلاف إثر الاتفاق الأول بين زعماء طرابلس وزعماء برقة، واستطاع الإيطاليون في بضع سنوات احتلال مقاطعة طرابلس الغرب ثم فزّان، وبقيت المعارك مستمرة بعد أن نفض الأدارسة يدهم منها، وسلموا أمرها لعمر المختار في الجبل الأخضر، وتلاحق به المجاهدون من أبناء القبائل، واتفق الرؤساء على أن يكون القائد العام والرئيس الاعلى للمجاهدين، واستقر عمر المختار بالجبل الأخضر في منطقة بنغازي لكونها المنطقة التي كان شيخ الزاوية فيها من قبل ولمناسبة تضاريسها لحرب العصابات، وفاجأ الإيطاليين بانتصاره في معارك متعددة وغنم منها آلات حربية ومؤنا غير قليلة، ومن أشهر هذه المعارك معركة الرحيبة.

ومع وصول الفاشيين إلى الحكم في إيطاليا بزعامة بنيتو موسوليني، تغيرت السياسة الإيطالية في ليبيا من الاحتلال إلى الاستيطان والتوطين، وشكل الحاكم العام الإيطالي أرنستو بومبللي قوة عسكرية متخصصة في حرب العصابات تتكون من جنود إيطاليين ومجندين أفارقة من مسيحي أرتيريا والصومال، وقام باحتلال الجغبوب في أوائل سنة 1926، وكانت أغلب الإمدادات المصرية تمر بها، وشن هجمات متكررة اعتمدت استهداف المدنيين غير المحاربين وإحراق المزروعات.

و في سنة 1927التي تكبد المجاهدون خسائر فادحة في معركة عقيرة الدم منها استشهاد والد زوجة عمر المختار، وأدرك المجاهد المخضرم المحنك مغزى هذه التغيرات، ونجح في تغيير تنظيم قواته وتكتيكاته تغييراً شاملا رغم المطاردة الإيطالية المستمرة، واعتمد عمر المختار على تشكيل قوات صغيرة العدد سريعة الحركة تقوم بهجمات خاطفة ثم تنسحب بسرعة إلى مكامنها في الصحراء، وتجنب عمر المختار الاشتباك مع القوات النظامية الكبيرة، وكانت أهدافه أهدافاً يسهل الانتصار عليها مثل المواقع المتقدمة للجيش الإيطالي أو قوافل الإمداد وخطوط الاتصالات.

وفي سنة 1930 أصدر موسوليني أوامره إلى الجنرال رودلفو غرازياني Graziani أن يجعل القضاء على المقاومة وزعيهما عمر المختار أول أهدافه، فقام غرازياني بوضع قرابة مئة ألف من سكان برقة في معسكرات اعتقال تحت أحوال سيئة في الغذاء والصحة، وأغلق آبار الواحات وسمم مياهها، وأنشأ حاجزاً طوله 270 كيلاً على امتداد الحدود المصرية الليبية، ثم استخدم الطيران بالقنابل الكيمائية الحارقة، وراقب الشواطئ بالمناطيد، وعن هذا يقول عمر المختار في رسالة بعثها في منتصف عام 1931 للأمير شكيب أرسلان الذي نافح عن ليبية ومجاهديها في محافل الغرب السياسية والشعبية:

من خادم المسلمين عمر المختار إلى أخينا في الله الأمير شكيب أرسلان -حفظه الله-:

قد قرأنا ما دبجه يراعكم السيال عن فضائح الطليان وما اقترفته الأيدي الأثيمة من الظلم والعدوان بهذه الديار، فإنني وعموم إخواني المجاهدين نقدم لمقامكم السامي خالص الشكر وعظيم الممنونية.

كل ما ذكرتموه مما اقترفته أيدي الإيطاليين هو قليل من كثير، وقد اقتصدتم وأحفظتم كثيراً، ولو يُذكر للعالم كل ما يقع من الإيطاليين لا توجد أذن تصغي لما يروى من استحالة وقوعه، والحقيقة - والله وملائكته شهود - أنه صحيح، وإننا في الدفاع عن ديننا ووطننا صامدون، وعلى الله في نصرنا متوكلون، وقد قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد سنة ونصف من هذه الحملة نزل عدد المجاهدين مع عمر المختار إلى 700 مقاتل مقابل حشد إيطالي ضخم بهدف الحسم وصل إلى مئة ألف جندي، وقد قال جرازياني عن هذه الوقائع التي خاضها المختار في هذه مرحلة: خاض عمر المختار 263 معركة في خلال عشرين شهرا وكان ذكياً يتمتع بحضور الذهن وعزيمة لا تلين، وعاش طيلة حياته متديناً وفقيراً رغم كونه أحد أكبر قادة السنوسية.

وفي 28 ربيع الآخر سنة 1350 الموافق 11 سبتمبر 1931، كان عمر المختار على رأس سرية من رجاله، نحو خمسين فارسا، بناحية سلُنطة بالجبل الاخضر، يستكشف مواقع العدو، فاكتشفتهم طائرة استطلاع إيطالية، فأمر المجموعة بالتفرق لئلا يحاط بها، وقاتل القوات المهاجمة، واستشهد أكثر من معه، وأصيب بجراح في ذراعه، وقتل جواده، فأسر وأخذ إلى سوسة على الساحل، وخشية من أن يخلصه المجاهدون، نقله الإيطاليون بحراً من سوسة إلى بنغازي على الطرّاد أورسيني.

وأجرى له الإيطاليون محاكمة شكلية، وسئل عن قيادته للمجاهدين ومحاربته للإيطاليين، فلم يتملص أو يتهرب بل أجاب بالايجاب، غير هياب، فحكموا عليه بالشنق أمام الناس، وقاموا بشنقه في مركز سلوق ببنغازي، في الثاني من جمادى الأولى من عام 1350 الموافق 16 سبتمبر 1931، وكانت آخر كلماته ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ قالها بيقين المؤمن الواثق الصامد لا بحسرة الجازع المتحسر.

وبمقتل عمر المختار انتهت المقاومة المسلحة للاحتلال الإيطالي في ليبية التي كلفت الإيطاليين قرابة 9000 قتيل، وتم توحيد طرابلس وبرقة وفزان تحت اسم ليبية، ومنحت إيطاليا جنسيتها لبعض سكان الساحل الليبي، وبدأت في تجنيدهم في فرقة ضمن جيشها الاستعماري، وتابعت سياستها في توطين الإيطاليين فبلغت نسبتهم 13% من السكان في عام 1939 تركزوا في طرابلس وبنغازي حيث بلغوا قرابة ثلث سكانهما.

ورثى أمير الشعراء أحمد شوقي عمر المختار في قصيدة تحمل معاني تستشف المستقبل ولا تزال ملموسة في بعض السياسات الغربية في الدول العربية والإسلامية، أشار فيها إلى التباين الكبير بين القوات الإيطالية ودباباتها وطيرانها، وبين المجاهدين على خيولهم، قال فيها:

رَكَزوا رُفاتَكَ في الرمال لواءَ ... يستنهِضُ الوادي صباح مساءَ

يا ويحهم نصبوا مناراً من دم ... يوحي إلى جيل الغد البَغضاءَ

ما ضَرَّ لو جعلوا العلاقة في غد ... بين الشُعوبِ مودة وإخاءَ

يا أيها السيفُ المجرَّد بالفَلا ... يكسو السيوفَ على الزمان مَضاءَ

خُيِّرتَ فاختَرتَ المبيت على الطَوى ... لم تَبنِ جاهاً أو تَلُمَّ ثراءَ

إنَّ البطولة أن تموتَ من الظَما ... ليس البطولةُ أَن تَعُبَّ الماءَ

في ذمة الله الكريم وحفظه ... جسدٌ ببُرقَةَ وُسِّدَ الصحراءَ

بَطَلُ البداوةِ لم يكن يغزو على ... تَنَكٍ ولم يكُ يركبُ الأجواءَ

لكن أخو خيلٍ حَمى صهواتها ... وأدارَ من أعرافِها الهيجاءَ

لَبّى قضاء الأرضِ أمسِ بمُهجة ... لم تخشَ إلا للسماء قضاءَ

إني رأيت يد الحضارة أولِعَت ... بالحقِّ هدماً تارة وبناء
شَرَعت حقوقَ الناس في أوطانهم ... إلا أُباة الضيم والضعفاءَ
يا أيها الشعب القريب أسامعٌ ... فأصوغُ في عمر الشهيد رِثاء

أم ألجمت فاكَ الخطوب وحرَّمت ... أُذنيكَ حين تخُاطبُ الإصغاء َ
ذهبَ الزعيمُ وأنت باق خالدٌ ... فانقُد رجالك واخترِ الزعماء
وأرِحْ شيوخَك من تكاليف الوغى ... واحمل على فتيانك الأعباء

 

 
log analyzer