الجمعة، 29 مايو 2015

حدث في الحادي عشر من شعبان

في الحادي عشر من شعبان من عام 734 توفي في القاهرة، عن 63 سنة، أبو الفتح فتح الدين ابن سيد الناس، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد اليَعْمَرِي الربعي، الحافظ المؤرخ الأديب الشاعر، واليعمري نسبة إلى قبيلة تدعى يَعْمَر.
ولد فتح الدين ابن سيد الناس في القاهرة سنة 671 لأسرة إشبيلية الأصل، من بيت رئاسة فيها، وولد والده ببجاية سنة 645، وكان جده محمد أحد الحفاظ المحدّثين المشهورين، وبه خُتم هذا الشأن بالمغرب، وتوفي سنة 659، وكذلك كان والده محدثاً حافظاً، ورحل من الأندلس إلى الديار المصرية وبصحبته نسخه المعتمدة من أمهات الكتب الحديثية مثل مصنف ابن أبي شيبة ومسنده، ومصنف عبد الرزاق، والمحلى لابن حزم، والتمهيد والاستيعاب والاستذكار، وتاريخ ابن أبي خيثمة ومسند البزار، وكان عالماً باللغة والعربية وله نظم، وولي مشيخة المدرسة الكاملية وتوفي سنة 705، عن 60 سنة، وقد آلت كتبه النفيسة هذه إلى ابنه فتح الدين.
والطريف أن الأب، وهو محمد بن محمد، كان له أربعة أولاد سماهم كلهم محمد، وهم أبو سعد، وأبو سعيد ، وأبو القاسم، ثم أبو الفتح صاحبنا في هذه المقالة، وكان حريصاً على أن يسير أولاده على درب العلم والتعلم، فأحضرهم مجالس التحديث، ولهم جميعاً مشاركة في العلم والحديث، رحم الله الجميع.
وسار بفتح الدين والدُه في طلب العلم وهو رضيع، فقد أتى به في سنة مولده إلى المحدث نجيب الدين عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، المولود سنة 587 والمتوفى سنة 672،  فقبله وأجلسه على فخذه وكناه أبا الفتح، وسمع ابن سيد الناس من أخيه عز الدين الحراني، عبد العزيز بن عبد المنعم، مسند الديار المصرية، المولود سنة 594 والمتوفى سنة 686.
وأحضره والده وهو في الرابعة ليسمع على قاضي القضاة شمس الدين المقدسي الحنبلي، محمد بن إبراهيم بن أبي السرور المولود بدمشق سنة 603 والمتوفى بالقاهرة سنة 676، وسمع على شهاب الدين ابن الخيمي، محمد بن عبد المنعم الأنصاري اليمني ثم المصري، المتوفى سنة 685 عن أكثر من 82 سنة، وكان من أهم مروياته جامع الترمذي، وكان صاحب علم وأمانة، معروفاً بالأجوبة المسكتة والحلم البالغ، وإلا أن الأدب والشعر غلبا عليه فصار الشاعر المقدم في شعراء عصره.
وسمع ابن سيد الناس كذلك على قطب الدين القسطلاني،  المولود سنة 614 والمتوفى سنة 686، شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة إلى أن توفي، وعلى عز الدين الحراني، عبد العزيز بن عبد المنعم، مسند الديار المصرية، المولود سنة 594 والمتوفى سنة 686.
ودرس ابن سيد الناس النحو على الشيخ الأمام العلامة الحجة بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم ابن النحاس، شيخ العربية بالديار المصرية، المولود بحلب سنة 627 والمتوفى بالقاهرة سنة 698، وأتقن أبوالفتح ابن سيد الناس كتابة الخط العربي على القاعدة المغربية والمشرقية، وذلك دون أن يأخذه عن أحد، قال تلميذه الصفدي: ولم أر فيمن عاصرته مَن كَتَب النُسَخ وخرّج التخاريج والحواشي أحلى ولا أظرف ولا آنق من الشيخ فتح الدين بن سيد الناس... كان خطه أبهج من حدائق الأزهار، وآنق من صفحات الخدود المطرز وردها بآس العذار... سريع الكتابة، كتب ختمة في جمعة، وكان يكتب السيرة التي له في عشرين يوماً وهي مجلدان كبيران.
وكان ابن سيد الناس ماهراً في التجليد وترميم الكتب القديمة، قال عنه الصفدي: ولم أر مثل الشيخ فتح الدين بن سيد الناس من يحكم ترقيق الأجزاء وترميمها.
ورحل أبو الفتح ابن سيد الناس إلى دمشق في سنة 690 ليسمع من محدث كبير معمر هو فخر الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن قدامة المقدسي، المولود سنة 596، ويعرف بابن البخاري نظراً لأن أباه أقام ببخارى مدة في طلب العلم، فلما دخل دمشق في ثالث ربيع الآخر ذهب إلى قاضي القضاة شهاب الدين ليسلم عليه، وقال: قدمت للسماع من ابن البخاري. فقال: أول أمس دفناه. فتألم لموته وفواته السماع منه، لعلو إسناده بالسماع المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الذهبي: وهو آخر من كان في الدنيا بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ثقات. ولكنه لم يفته السماع من محدث معمر آخر هو مسند الشام تقي الدين الواسطي، إبراهيم بن علي، المولود سنة 602 والمتوفى سنة 692.
والتقى كذلك بالإمام المقرئ عز الدين الفاروثي، أحمد بن إبراهيم، المولود بفاروث بواسط في العراق سنة 614 والمتوفى بواسط سنة 694، والذي جاور بمكة فترة ثم انتقل منها إلى دمشق سنة 691، فروى بها الكثير وأقرأ القراءات، قال ابن سيد الناس عنه: الشيخ الإمام شيخ المشايخ، ومن له في كل فضل اليد الطولى والقدم الراسخ... كان ممن قرأ القرآن بالحروف، وازدحم الناس على القراءة عليه، والفوز بما لديه، وطلب الحديث قديما، ولم يزل لذلك مديما، وللسنة النبوية خديما. ثم يقول عن أناشيد شيخه العراقية: وكان في التذكير مقدما، وبالمواعظ الحسنة معلما، تنسلي إليه معاني الأدب في مواعظه وغيرها من كل حدب، سجية عراقية تمازج النسيم، وتعطر أسحارها من أشجارها على كل شميم، يرتجلها كيف يشاء، ولا يؤجل الأشياء، ناولته يوما استدعاء إجازة ليكتب عليه، فكتب مرتجلا:

أجزت لهم رواية كل شئ ... سماعا كان لي أو مستجازا
وما نوولته ايضا إذا ما ... توخوا في روايته احترازا
وما قد قلته نظما ونثرا ... فقد أضحى الجميع لهم مجازا

والتقى فتح الدين في هذه الرحلة بالإمام الحاقظ المزي، جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي، المولود بظاهر حلب سنة 654 والمتوفى بدمشق سنة 742، ودله على اللقاء بشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم  ابن تيمية، المولود سنة 661 والمتوفى سنة 742، قال ابن سيد الناس: ووجدت بدمشق من أهل العلم الإمام المقدم، والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي، بحر هذا العلم الزاخر، وحَبره القائل من رآه: كم ترك الأوائل للأواخر! أحفظ الناس للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصرا دون مصر، ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر...وهو في اللغة أيضا إمام...فكنت أحرص على فوائده لأحرز منها ما أحرز... وهو الذي حداني على رؤية شيخ الإسلام ابن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته.
والتقى الإمامُ الذهبي، المتوفى سنة 748، بابن سيد الناس وقال عنه في المعجم المختص: العلامة الأديب البارع المتفنن هو أحد أئمة هذا الشأن، كتب بخطه المليح كثيرا، وخرَّج وصنف وعلل، وفرَّع وأصَل، وقال الشعر البديع، وكان حلو النادرة، كيس المحاضرة، جالسته وسمعت بقراءته وأجاز لي مروياته، عليه مآخذ في دينه وهديه، والله يصلحه وإياي... وكان أثريا في المعتقد، يحب الله ورسوله.
وأخذ ابن سيد الناس علم الحديث عن الإمام ابن دقيق العيد القشيري القوصي، محمد بن علي، المولود سنة 625والمتوفى بالقاهرة سنة 702، والذي عدّه الإمام الذهيي أحد أربعة من أحفظ من رأى، وقال عنه: أفقههم في الحديث. ولازمه ابن سيد الناس فترة طويلة، وصار معيداً في درسه، وكان ابن دقيق العيد إذا ذكر أحداً من الصحابة والرجال في درسه قال: ايش ترجمة هذا يا أبا الفتح؟ فيأخذ ابن سيد الناس في الكلام ويسرد والناس سكوت والشيخ مصغ إلى ما يقول.
أما فتح الدين بن سيد الناس فيقول عن شيخه: لم أر مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلَّ منه فيمن رويت، قرأت عليه جملة من المحصول وكنت مستملي تصانيفه والمتصدر لإفادة طلبته بدار الحديث من جهته، وكان للعلوم جامعا، وفي فنونها بارعا، لا يشق له غبار، ولا يجري معه سواه في مضمار... كان حَسَن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، بلب يسحر الألباب، وفكر يفتح له ما يستغلق على غيره من الأبواب، مستعيناً على ذلك بما رواه من العلوم، ولم يزل حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه، ونفع نفسه على العلم وقصرها، ولو شاء العاد أن يحصر كلماته لحصرها، وله تخلق، وبكرامات الصالحين تحقق، وعلامات العارفين تعلق.
ولعل الانسجام بين ابن سيد الناس وشيخه ابن دقيق العيد كان لتشابههما في المزاج، فقد كان ابن دقيق العيد على جلالة قدره في العلم والفقه، خفيف الروح لطيف المعشر، شاعراً حاضر البديهة، نقادة للشعر وأساليب البلاغة، ومن طرف آخر كان لا يحرم نفسه من متع الدنيا الحلال، على نسك وورع.
وأخذ ابن سيد الناس كذلك الحديث عن الحافظ البارع شرف الدين الدمياطي، عبد المؤمن بن خلف الشافعي، المولود سنة 613 والمتوفى سنة 705،  وكان مليح الهيئة، حسن الأخلاق، بساماً فصيحاً، نحوياً لغوياً، مقرئاً، سريع القراءة، جيد العبارة، كثير التفنن، صحيح الكتب، مكثراً مفيداً، حلو المذاكرة.
وأصبح ابن سيد الناس من كبار المحدثين في عصره، ليس فقط لكثرة من روى عنهم وقد قاربوا الألف، بل لاجتهاداته وترجيحاته وتقعيداته وتعقباته في هذا العلم، وولي مشيخة دار الحديث الظاهرية بالقاهرة، ودرَّس صحيح البخاري فيها، وأخذ عنه الألوف من طلاب العلم والحديث في عصره، وممن أخذوا عنه وعُرفوا به الحافظ علاء الدين مُغْلَطاي، مغلطاي بن قليج بن عبد الله البَكْرَجي، المولود سنة 689 والمتوفى سنة 762، والذي حلَّ محل شيخه في مشيخة دار الحديث الظاهرية.
وممن أخذ كذلك عن ابن سيد الناس الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بدر الدين جنكلي ابن البابا الحنبلي، المولود سنة 697 والمتوفى سنة 741، والذي تخرج على يد الحافظ فتح الدين، وعنه أخذ معرفة الناس وأيامهم وطبقاتهم وأسماء الرجال، وكان أولاً قد اشتغل بمذهب أبي حنيفة، ثم إنه تمذهب للإمام أحمد بن حنبل، وله بيتان لطيفان:

بك استجار الحنبلي ... محمد بن جنكلي
فاغفر له ذنوبه ... فأنت ذو التفضل

وكان ابن سيد الناس يخالط أمراء المماليك، وبخاصة الصالحين من أهل العلم منهم، ولعل أكبرهم هو الأمير علم الدين الدواداري، المولود سنة بعد 620 والمتوفى سنة 699، والذي كان مهيبا، حسن الخَلق والخُلق، عالما فاضلا، حافظا لكتاب الله، دارساً للفقه، وحصل له عناية بالحديث، فسمع الكثير، وكتب بخطه، وحصَّل الأصول، وكان إذا خرج إلى غزوة خرج وإلى جانبه شخص يقرأ عليه جزءا فيه أحاديث الجهاد، وكان الشيخ فتح الدين خصيصا به ينام عنده ويسامره، وكان سبب اختصاص فتح الدين به أن الأمير سأل الحافظ المحدث شرف الدين الدمياطي عن وفاة البخاري، فما استحضر تأريخها، ثم إنه سأل فتح الدين عن ذلك فأجابه فحظي عنده وقرَّبه، فقيل له: إن هذا تلميذ الشيخ شرف الدين، فقال: وليكن.
وكان ابن سيد الناس على علاقة طيبة بالأمير الكبير أرغون بن عبد الله الناصري نائب السلطنة في مصر ثم نائب حلب، المتوفى بها سنة 731، وله من العمر بضع وأربعون سنة، وكان عالماً بالفقه خطاطاً متقناً، جمّاعة للكتب، جمع منها جمعاً ما جمعه أحد من أبناء جنسه، وعلم الناس رغبته في الكتب فهرعوا إليه بها، وبلغ الأمير أرغون مرتبة الإفتاء في المذهب الحنفي، قال عنه ابن سيد الناس: كان أرغون يعرف مذهب أبي حنيفة ودقائقه، ويقصر فهمه في الحساب إلى الغاية. وكان الأمير معجباً بالشيخ ابن سيد الناس يسعى في مصالحه لدى الدولة.
والتقى بابن سيد الناس القاضي أبو البقاء البلوي، خالد بن عيسى، المتوفى بعد سنة 767، في رحلته من الأندلس إلى المشرق، وروى عنه بيتين في كتابه تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، هما:

بالله إن جزتَ بواد الأراك ... وقبلت عيدانُه الخضر فاك
فابعث إلى المملوك من بعضها ... فإنني والله مالي سواك

لابن سيد الناس تصانيف عديدة مفيدة، من أهمها: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسِير، وهو كتاب جامع لكل من سبقه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد لقيه العلماء بالاستحسان وصار من الكتب المتداولة المعتمدة في السيرة، وحيث ذكر فيه أسانيد الأخبار فإن الكتاب أصبح طويلاً على من لا يهتم بالسند، ولذلك اختصره استكمالا للفائدة منه وسماه نور العيون في تلخيص سيرة الأمين المأمون، وعلق على المختصر من بعده سبط ابن العجمي برهان الدين، إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي، المولود سنة 753 والمتوفى سنة 841، وسمى تعليقه: نور النبراس في شرح سيرة ابن سيد الناس. وجاء من بعده شمس الدين محمد بن يونس الشافعي، المتوفى سنة 845، فنظمه شعراً، ونظم عيون الأثر شعراً فتح الدين ابن الشهيد، محمد بن إبراهيم، المولود سنة 728 والمتوفى سنة 793، نظمها في بضعة عشر ألف بيت، وسماها الفتح القريب في سيرة الحبيب.
ولابن سيد الناس ديوان في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أسماه: بشرى اللبيب بذكر الحبيب، وله في الفقه: الدر النثير على أجوبة الشيخ أبي الحسن الصغير، وصنف كتاباً أسماه الفوح الشذى في شرح الترمذي، شرح فيه دون الثلث من كتاب الترمذي إلى كتاب الصلاة، قال ابن حجر: ولو اقتصر على فن الحديث من الكلام على الأسانيد لكمل، لكن قصده ان يتبع شيخه ابن دقيق العيد، فوقف دون ما يريد. ثم كمَّله الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي المولود سنة 725 والمتوفى سنة 806، وله كتاب المقامات العلية في الكرامات الجلية، وكما جمع في قصيدة ميمية أسماء ما يقرب من 200 ممن مدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم من رجال الصحابة ونسائهم، ثم شرحها في كتاب أسماه منح المدح. رتبهم فيه على حروف المعجم.
وكان من معاصري ابن سيد الناس الأديب المؤرخ صلاح الدين الصفدي، خليل بن أيبك، صاحب التاريخ العظيم، الوافي بالوفيات، المولود بصفد سنة 696 والمتوفى بها سنة 764، والذي لازم ابن سيد الناس في المدرسة الظاهرية قرابة سنتين، وأخذ عنه الأدب، واستفاد منه كثيراً في تراجم كتابه الوافي بالوفيات، وتبادل الأستاذ مع تلميذه مراسلات أدبية أوردها الصفدي في أكثر من 15 صفحة من كتابه ألحان السواجع، ولما ترجم له قال عنه: كان حافظا بارعا متفننا في البلاغة، ناظما مترسلا، حسن النمط جدا، حسن المحاورة، لطيف العبارة.
وذكر الصفدي أمراً كان يفعله ابن سيد الناس، قال: وأقمت عنده بالظاهرية قريباً من سنتين، فكنت أراه يصلي كل صلاة مرات كثيرة، فسألته عن ذلك فقال: خطر لي أن أصلي كل صلاة مرتين ففعلت، ثم ثلاثاً ففعلت وسهل علي، ثم أربعاً ففعلت، قال: وأشك هل قال خمساً. وعلق الشوكاني في البدر الطالع على هذه القصة تعليقاً موفقاً، قال: وهذا وإن كان فيه الاستكثار من الصلاة التى هي خير موضوع وأجمل مرفوع، لكن الأَولى أن يتعود التنفل بعد الفرائض على غير صفة الفريضة، فإن حديث النهي عن أن تُصلي صلاة في يوم مرتين، ربما كان شاملا لمثل صورة هذه الصلاة، ولعله جعله خاصا بتكرير الفريضة بنية الافتراض.
وطلب الصفدي في رسالة من ابن سيد الناس أن يجيزه، فكتب له الجواب بالإجازة، ونورد هنا جانباً منها لما ورد فيها من أدب وتواضع، ولإذنه له بالإصلاح والتغيير: فكأنما ألزمتَني أن أتجاوز حدي، لولا أن الإقرار بأن الرواية عن الإقران نهج مهيع، والاعتراف بأن للكبير من بحر الصغير الاغتراف وأن لم يكن مشرعه ذاك المشرع، فنَعَم قد أجزت لك ما رويتُه من أنواع العلوم على الشرط المعروف والعرف المعلوم، وما تضمنه الاستدعاء الرقيم، بخطك الكريم... من فنون الأدب التي باعك فيها من باعي أمدَّ، وسهمك في مراميها من سهمي أسد، وأذنت لك في إصلاح ما تعثر عليه من الزلل والوهم، والخلل الصادر عن غفلة اعترت النقل أو وهلة اعترضت الفهم، فيما صدر عن قريحتي القريحة من النثر والنظم، وفيما تراه من استبدال لفظ بغيره مما لعله أنجى من المرهوب، أو أنجع في نيل المطلوب، أو أجرى في سنن الفصاحة على الأسلوب، وقد أجزت لك إجازة خاصة يرى جوازها بعض من لا يرى جواز الإجازة العامة أن تروي عني ما لي من تصنيف أبقيته، في أي معنى انتقيته... تبركاً بالدخول في هذه الحلبة، وتمسكاً باقتفاء السلف في ارتقاء هذه الرتبة، واقبالاً من نشر السنة على ما هو أمنية المتمني، وامتثالاً لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام بلغوا عني.
وعلى خلاف أغلب علماء عصره لم يكن فتح الدين ابن سيد الناس على وفاق مع متصوفة عصره، وذلك لأن أغلبهم اتخذوا التصوف حرفة ومظاهر، وأصبحت الموالد التي يقيمونها مواسم للفساد والمعاصي، كما يذكرذلك المؤرخون، وله فيهم أبيات هجو مقذعة، ومما قاله يعيب عليهم الموالد:

يا عصبة ما ضرّ دين محمدٍ ... وسعى إلى إفساده إلا هيْ
دفٌ ومزمارٌ ونغمة شادن ... أرأيتَ قطّ عبادةً بملاهِ؟!

ويورد مؤرخو تلك الحقبة إلى أمور يأخذونها على فتح الدين ابن سيد الناس، وقد سبق قول الإمام الذهبي عنه: عليه مآخذ في دينه وهديه، والله يصلحه وإياي. وقال كمال الدين الأدفوي، المولود سنة 685 والمتوفى سنة 748، في البدر السافر: وخالط أهل السَفه وشُرَّاب الُمدام، فوقع في الملام، ورُشِق بسهام الكلام، والناس مقارن، والقرين يكرم ويهان باعتبار المقارَن... ثم قال بعد ذلك: ولم يخلف بعده في القاهرة ومصر من يقوم بفنونه مقامه، ولا من يبلغ في ذلك مرامه، أعقبه الله السلامة في دار الإقامة.
وهذه المزاعم لا تنسجم مع ما استعرضناه من علمه وفضله، ولعلها عائدة إلى اختلاطه ببعض الأمراء الذين يرى بعض العلماء الابتعاد عنهم بل مقاطعتهم، ولعلها عائدة إلى خروجه أحياناً عما يلتزم العلماء به من وقار ورزانة، لأن الصفدي يقول عنه: ولو كان اشتغاله بقدر ذهنه كان قد بلغ الغاية القصوى، ولكنه كان فيه لعب، على أنه ما خلف مثله لإنه كان متناسب الفضائل.
وقد جاء الجواب على هذه المزاعم عند وفاته رحمه الله، فقد وافته منيته دون أن يكون معروفاً عند ملك مصر آنذاك الملك الناصر محمد بن قلاوون، المولد سنة 684 والذي أمضى في الحكم بضعاً وعشرين سنة قبل ذلك، فقد روى المؤرخون أن الملك الناصر رأى جنازته حافلة، فسأل القاضي الشافعي جلال الدين القزويني عنه، فذكر له مقداره، وكان الأمير ناظر الجيوش يكره ابن سيد الناس، فقال للناصر إنه كان مع ذلك يعاشر الأمراء والوزراء قديماً، ويشرب عندهم. فذكر ذلك الناصر لجلال الدين القزويني وللقاضي المالكي تقي الدين الأخنائي، فبرآه من ذلك وشهدا بعدالته ونزاهته وعفته.
لا نجد في كتب التراجم المتوفرة ذكراً لزواج أو أولاد فتح الدين ابن سيد الناس، وهي تلم لماماً بذكر إخوته، ثم لا نجد بعده ذكراً لأفراد بارزين من أسرة ابن سيد الناس هذه في العلم أو الأدب أو السياسة، فكأنها انتهت بوفاته، ولله عاقبة الأمور.
كان ابن سيد الناس شاعراً بالبديهة، لم يدرس العَروض على شيخ، بل درسه بنفسه في أسبوع فتعلمه وألف فيه مصنفاً، وكان يتمتع بروح لطيفة ونفس شاعرية، ولذا كانت أشعاره رقيقة رائقة، منسجمة الألفاظ، مع جودة بديهته، وكان غزله أفضل من مديحه، ومن ذلك قوله في أول قصيدة مديح:

تعلَقها وما عقَدَ التمائم ... وشابَ وحبُها في القلب دائم
وطارَحَها الغرامَ بها فقالت: ... علمتُ، فقال: ماذا فعل عالم؟!

وقال أيضاً:

يا كاتم الشوق إن الدمع مبديه ... حتى يعيد زمانَ الوصل مبديه
أصبو إلى البان بانت عنه هاجرتي ... تعللاً بليالي وصلِها فيه
عصرٌ مضى وجلابيب الصبا قُشُب ... لم يبق من طيبه إلا تمنيه

وله في الغزل:

تمنيني الأيام منك بخلسة ... فكم عندها عما تمني عوائق
متى وعدت بالوصل فالوعد كاذب ... وإن وعدت بالهجر فالوعد صادق

وقال أيضاً:

صرفت الناس عن بالي ... فحبل ودادهم بالي
وحبل الله معتصَمي ... به علَّقت آمالي
فمن يسلو الورى طُراً ... فإني ذلك السالي
فلا وجهي لذي جاه ... ولا ميلي لذي مال

وقال في التعفف:

إن غض من فقرنا قوم وقد مُنحوا ... فكل حزب بما أوتوه قد فرحوا
إن هم أضاعوا لحفظ المال دينهم ... فإن ما خسروا أضعاف ما ربحوا

وله يناجي الله عزوجل:

فقري لمعروفك المعروف يغنيني ... يا من أرجيه والتقصير يرجيني
إن أوبقتني الخطايا عن مدى شرف ... نجا بإداركه الناجون من دوني
أو غض من أملي ما ساء من عملي ... فإن لي حسن ظن فيك يكفيني

توفي ابن سيد الناس بالقاهرة دون سابق مرض، وخرج في جنازته القضاة والأمراء والجند والفقهاء والعوام وتأسف الناس عليه، ودفن بالقرافة، وكان قد قال في ختام رسالة كتبها إلى تلميذه صلاح الدين الصفدي في صفد قبيل وفاته:

إن نعشْ نلتقي وإلا فما ... أشغل من مات عن جميع الأنام

ورثاه الصفدي بقصيدة طويلة منها:

ما بعد فقدك لي أنس أرجيه ... ولا سرور من الدنيا أقضيه
إن مت بعدك من وجد ومن حزن ... فحق فضلك عندي من يوفيه
ومن يعلِّم فيك الوُرْقَ إن جهلت ... نواحها أو تناسته فتمليه
أما لطافة أنفاس النسيم فقد ... نسيتُها غير لطف كنت تبديه
وإن ترشفتُ عذب الماء أذكرني ... زُلاله خُلُقاً قد كنت تحويه
يا حافظاً ضاع نشْرُ العلم منه إلى ... أن كاد يعرفه من لا يسميه
حفظت سنة خير المرسلين فما ... أراك تمسي مضاعاً عند باريه
وهل يخيب - معاذ الله - سعي فتى ... في سنة المصطفى أفنى لياليه
يكفيه ما خطه في الصحف من مدح النبي ... يكفيه هذا القدر يكفيه
يا رحمتاه لشرح الترمذي فمن ... يضم غربته فينا ويؤويه
من للقريض فلم أعرف له أحداً ... سواه رقت به فينا حواشيه
ما كان ذاك الذي تلقاه ينظمه ... شعراً ولكه سحر يعانيه
ومن يمر على القرطاس راحته ... فينبت الزهر غضاً في نواحيه
ما كل من خط في طَرس وسوَّده ... بالحبر تغدو به بيضاً لياليه
ولا تَخلْ كل من في كفه قلم ... إذا دعاه إلى معنى يلبيه
هيهات ما كان فتح الدين حين مضى ... والله إلا فريداً في معاليه

الجمعة، 22 مايو 2015

حدث في الرابع من شعبان

في يوم الجمعة الرابع من شعبان من عام 583 صلى السلطان صلاح الدين الأيوبي أول جمعة في المسجد الأقصى بعد استرداده من الصليبيين في 27 رجب، والذين كانوا قد استولوا عليها قبل 91 سنة؛ في شعبان سنة 492.
وأرسل صلاح الدين في آخر شعبان إلى الخليفة العباسي في بغداد الناصر لدين الله كتاباً كتبه القاضي الفاضل يخبره بالفتح المبين وعودة القدس إلى حوزة المسلمين، هذا نصه:
أدام الله أيام الديوان العزيز النبوي الناصري، ولا زال مظفر الجد بكل جاحد، غنياً بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكرٍ واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي إلا بنبل غويٍّ وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنواراً إلى المساجد، وبُعوث رعبه إلى الأعداء خيلاً إلى المراقب وخَيَالاً إلى المراقد.
كتب الخادم هذه الخدمة، تلو ما صدر عنه مما كان يجري مجرى التباشير بصبح هذه الخدمة، والعنوانِ لكتابِ وصف هذه النعمة، فإنه بحرٌ للأقلام فيه سبحٌ طويل، ولطف تحمل الشكر فيه عبءٌ ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله في إعادة شكره رضا، وللنعمة الراهنة به دوامٌ لا يقال معه: هذا مضى. وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبت عقائد أهله على أبين بصائرها، وتقلص ظل رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلما وقع الشرط حصل المشروط، وكان الدين غريباً فهو الآن في وطنه، والفوز معروضاً فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمر الحق وكان مستضعفا، وأهلَّ ربعه وكان قد عيف حين عفا، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشرك راغمة، فأدلجت السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوارٌ أبانت أن الصباح عندها حيان الحين، واسترد المسلمون تراثاً كان عنهم آبقا، وظفروا يقظةً بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفاً على النأي طارقا، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرةً كما تشفى بالماء غللهم.
ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود ببت عصمتها من الكافر بحربه، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النعمى، ولا يناجز من استمطله في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من تمادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة، والدعوة إلى سامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعَرَض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسنة ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيراً خاطر، ومن رام صفقةً رابحة تجاسر، ومن سما لأن يجلي غمرةً غامر، وإلا فإن القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فتعضها، ويضعف في أيديها مهر القوائم فتقضها، هذا إلى كون القعود لا يقضي فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حق الله في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي تطوقه الخادم من أئمةٍ قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وخلفاءٍ لله كانوا مثل هذا اليوم الله يسألون، لا جرم أنهم أورثوا سرورهم وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطلعتهم المنيفة، وعلوان صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم وبياض الصحيفة، فما غابوا لما حضر، ولا غضوا لما نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولاً، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولاً ومنه مقبولاً، وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنت به جُنوبها، وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكرٍ لا يزال الليل به سميرا، والنهار به بصيرا، والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدى نوراً من ذاته هتف به الغرب بأن وارِهْ، فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكرٌ لا تواريه أوراق الصحف.
وكتاب الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شفقاً، وطارت فرقه فرقاً، وفل سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عدداً وحصى، فكلت حملاته وكانت قدرة الله تصرف فيه العنان بالعيان، عقوبةً من الله ليس لصاحب يدٍ بها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخةً بالمنى أو راعفةً بالمنون، وأضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الكفر مهتومة، وطوائفه المحامية، مجتمعةٌ على تسليم البلاد الحامية، وشجعانه المتوافية، مذعنة ببذل المطامع الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في فناء الأفنية، لهم نصرة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
وقد كان الخادم لقيهم اللقاة الأولى فأمده الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرةً ما بعدها جبر، وصرعهم صرعةً لا يعيش معها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من فتكت به المناضل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسلاح والكفار، وعن أصناف يخيل بأنه قتلهم بالسيوف الأفلاق والرماح الأكسار، فنيلوا بثأر من السلاح ونالوه أيضاً بثار، فكم أهلة سيوف تقارض الضراب بها حتى عادت كالعراجين، وكم أنجم رماحٍ تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين، وكم فارسيةٍ ركض عليها فارسها السهم إلى أجلٍ فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه، وكان اليوم مشهوداً، وكانت الملائكة شهوداً، وكان الكفر مفقوداً، والإسلام مولوداً، وجعل الله ضلوع الكفار لنار جهنم وقوداً، وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدين وعلائقه، وهو صليب الصلبوت، وقائد أهل الجبروت، وما دهموا قط بأمر إلا وقام بين دهائمهم يبسط لهم باعه، ويحرضهم وكان مد اليدين في هذه الدفعة وداعه، لا جرم أنهم تهافت على نارهم فَرَاشُهم، وتجمع في ظل ظلامه خشاشهم، فيقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقاً يبنون عليه أشد عقدٍ وأوثقه، ويعدونه سوراً تحفر حوافر الخيل خندقه.
وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، وذهبت دهاتهم، ولم يفلت معروفٌ إلا القومص، وكان لعنه الله ملياً يوم الظفر بالقتال، ويوم الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف؟ وطار خوفاً من أن يلحقه منسر الرمح وجناح السيف، ثم أخذه الله بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدتهم فذالك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.
وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صِبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي وعزائم اوليائها، المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر، فافتتح بلد كذا وكذا، وهذه أمصارٌ ومدن، وقد تسمى البلاد بلاداً وهي مزارع وفدن، وكل هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحارٍ وجزائر، وجوامع ومنائر، وجموعٍ وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها، ويحصد منها كفراً ويزرع إيماناً، ويحط من منائر جوامعها صلباناً ويرفع أذاناً، ويبدل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبويء بعد أهل الصلبان أهل القرآن للذب عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلق النصر منه ومن عسكره بجارٍ ومجرور، وأن ظفر بكل سورٍ ما كان يخاف زلزاله وزياله إلى يوم النفخ في الصور.
ولما لم يبق إلا القدس وقد اجتمع إليها كل شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كل قريب منهم وبعيد، وظنوا أنها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلما نازلها الخادم رأى بلداً كبلاد، وجمعاً كيوم التناد، وعزائم قد تألفت وتألبت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصته، فزاول البلد من جانب، فإذا أوديةٌ عميقة، ولجج وعرةٌ غريقة، وسورٌ قد انعطف عطف السوار، وأبرجةٌ قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار، فعدل إلى جهةٍ أخرى كان للمطامع عليها معرج، وللخيل فيها متولج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها، وضربت خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه، ويزاحمه السور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليهم ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمها ضمةً ارتقب بعدها الفتح، وصدع أهلها فإذا هم لا يبصرون على عبودية الخد عن عتق الصفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدة، وقصدوا نظرةً من شدة وانتظاراً لنجدة، فعرفهم الخادم في لحن القول، وأجابهم بلسان الطَول، وقدم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيها وحبالها، وأوتر لهم قسيها التي تضرب فلا تفارقها سهامها، ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السور بأكنافه فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدم النصر نسراً من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوه إلى السماك، فشج مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها صُمَّ أعلاجها، ورفع مثار عجاجها، فأخلى السور من السيارة، والحرب من النظارة، فأمكن النَّقاب، أن يسفر للحرب النقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده، بأنياب معوله، وحل عقده بضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقبله، وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقاً فلن تبرح الأرض، وفتح في السور بابٌ سد من نجاتهم أبواباً، وأخذ نقبٌ في حجره، قال عنده الكافر ﴿يا ليتني كُنْتُ تُراباً فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرهم بالله الغَرور.
وفي الحال خرج طاغية كفرهم وزمام أمرهم ابن بارزان سائلاً أن يؤخذ البلد بالسلم لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسطوة، وألقى بيده إلى التهلكة، وعلاه ذل الملكة بعد عز المملكة، وطرح جبينه في التراب، وكان جبيناً لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغاً من القطيعة لا يطمح إليه طرف آملٍ طامح، وقال: ها هنا أسارى مؤمنون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحملت الحرب على ظهورهم الأوزار، بديء بهم فعجلوا، وثني بنساء الفرنج وأطفالهم فقتلوا، ثم استقلوا بعد ذلك فلم يقتل خصمٌ إلا بعد أن ينتصف، ولم يُسلَّ سيفٌ من يدٍ إلا بعد أن تنقطع أو ينقصف، وأشار الأمراء بالأخذ بالميسور، من البلد المأسور، فإنه إن أُخذ حرباً فلا بد أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمرٍ قد نيل من أوله المراد، وكانت الجراح في العساكر قد تقدم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق الحركات، فقبل منهم المبذول عن يدٍ وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم، فإنهم خذلهم الله حموها بالأسل والصفاح وبنوها بالعمد والصفاح وأودعوا الكنائس بها وبيوت الديوية والاستبارية منها كل غريبةٍ من الرخام الذي يطرد ماؤه، ولا يطرد لألاؤه، قد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديدٌ، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض لها من بياض الترخيم رقراق، وعمداً كالأشجار لها من التنبيت أوراق.
وأوزع الخادم برد الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمة من يوفيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شهر شعبان، فكادت السموات يتفطرن للسجوم لا للوجوم، والكواكب ينتثرن للطرب لا للرجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طرائقها مسدودة، وطُهرت قبورُ الأنبياء وكانت بينهم بالنجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها، وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها، وجهر باسم أمير المؤمنين في قطبه الأقرب من المنبر، فرحب به ترحيب من بر بمن بر، وخفق علماه في حفافيه، فلو طار به سروراً لطار بجناحيه.
وكتاب الخادم وهو مُـجِدٌّ في استفتاح بقية الثغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصدور، فإن قوى العساكر قد استنفدت مواردها، وأيام الشتاء قد دمرت مواردها، والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها. فهي بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجم ولا تستنفد، وينفق عليها ولا ينفق منها، وتجهز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرها، ويدأب في عمارة أسوارها ومرمات معاقلها، وكل مشقة فهي بالاضافة إلى نعمة الفتح محتملة، وأطماع الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعو دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع، ولن تزول أيديهم من أطواق البلاد حتى تقطع.
وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتلخص. فلذلك نفذنا لساناً شارحاً، ومبشراً صادحاً، ينشر الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرة من طليعته إلى ساقته.
وكان سقوط القدس ومعها المسجد الأقصى في سنة نتيجة طبيعية للضعف والفرقة التي دبت بالدول الإسلامية القائمة في تلك الفترة فجذبت الأطماع الكامنة في الفرنج الذين شنوا حملة
وكانت الدولة الإسلامية الموحدة قد تمزقت إلى جناحين شرقي عباسي في العراق والشام، وغربي فاطمي في مصر وليبيا وتونس، وكانت كلتاهما لا تخلو من المشاكل الداخلية، ففي مصر كانت الدولة الفاطمية في عصر ضعفها والخليفة صورة يتحكم بها الوزراء الذين تسموا بأسماء الملوك، وكان المستنصر الفاطمي، معد بن علي، المولود سنة 420 قد بويع له وهو طفل بعد موت أبيه سنة 427، وقام بأمره وزير أبيه أبو القاسم على بن أحمد الجرجرائى، ثم تغلبت أمه على الدولة، فكانت تصطنع الوزراء وتوليهم، ومن استوحشت منه أوعزت بقتله، فيقتل، ولهذا الضعف قطعت وقطعت الخطبة باسمه في إفريقية سنة 443، وقطع اسمه من الحرمين سنة 449 وذكر اسم المقتدى العباسي الخليفة في بغداد، ثم حدثت مجاعة استمرت 7 سنين حتى بيع رغيف واحد بخمسين دينارا،  وكان كالمحجور عليه في أيام وزيره بدر الجمالي وابنه شاهنشاه إلى أن توفي سنة 487.
وكان المستنصر قد عهد بولاية العهد لابنه الكبير نزار الملقب بالمصطفى لدين الله، والمولود سنة 437، ولكن الوزير الأفضل شاهنشاه الجمالي أبعد الكبير وأتى بالابن الصغير معد المولود سنة 469، والذي تلقب بالمستعلي، ليكون تحت سيطرته، وهرب نزار بعد موت أبيه إلى الاسكندرية، وفيها أنصار له بايعوه، وبايعه أهلها، وأتته بيعة قلاع الإسماعيلية وطوائف من بلدان أخرى، ولكن قائد الجيوش الأفضل الجمالي تبعه إليها وحاصرها، وكانت بينه وبين نزار والاسكندريين وقائع انتهت بفوز الأفضل سنة 488، وحُمل نزار إلى المستعلي فبنى عليه حائطا، أو جعله بين حائطين، إلى أن مات، ويزعم  بعض مؤرخي النزارية أنه فر من الإسكندرية لما دخلها الأفضل، ووصل إلى قلعة ألموت من نواحي قزوين، ومات فيها بعد أن أوصى بالإمامة إلى ابنه علي، وهذا أصل الانقسام في الطائفة الإسماعيلية بين مستعلية، ومنهم طائفة البُهرة في الهند، ونزارية الذي يتزعمهم الآغا خان.
وكان القدس الشريف مع الأمراء الأرتقيين، وهم بقايا من الدول التي خلفتها الدولة السلجوقية التي قامت في أواخر القرن الرابع الهجري، وتأسست على الجهاد المتواصل والذب عن الخلافة وأهل السنة، وامتد ملكها من أواسط آسيا إلى غربها، واستولت على بغداد والعراق، ثم تفتتت فيما بعد وانبثقت منها دويلات عدة، كان منها الدولة الأرتقية، وذلك نسبة إلى الأمير أرتق الذي كان أحد قواد السلاجقة، والذي ملك بيت المقدس زمناً ثم ملكها من بعده ابنه سكمان، فهاجمه الوزير الفاطمي الأفضل الجمالي في سنة 489 وانتزعه منه، وسار سكمان إلى الجزيرة الفراتية فملك بها ديار بكر وقلعة ماردين واستقر بها عام 491، وبقيت الدولة الأرتقية عدة قرون إلى القرن الثامن الهجري.
وكانت الحملة الصليبية الأولى قد بدأت في أواخر سنة 490 وحاصرت أنطاكية حتى أخذتها في منتصف 491، ثم سارت جنوباً فحاصرت بيت المقدس نيفاً وأربعين يوماً حتى أخذته في شعبان سنة 492، واستباح الفرنج البلد وقتلوا فيه ما يزيد على سبعين ألفاً من المسلمين دون رحمة بصغير أو امرأة أو عجوز.
وينحى المؤرخون باللوم على أمير الجيوش الأفضل الذي لم يستوعب أبعاد الخطر الداهم، ويرون أن الأرتقية كانوا أقدر من الفاطميين على الدفاع عنه لكونهم دولة تأسست على الكر والفر ولم تنس أصولها وبقيت محافظة على تقاليدها الجهادية، وهذا لا يعني أن الدولة الفاطمية لم تحاول استرجاع بيت المقدس فقد قام الأفضل بعد شهر من سقوطه بتجميع جيش في مصر اتجه شمالاً ولكن الصليبين فاجؤوه في عسقلان وهزموه هزيمة منكرة  لم يفكر بعدها في مهاجمتهم ثانية، فتوطدت أقدامهم في الأراضي المقدسية.
ولنستبين هزال الدولة الفاطمية نذكر أن المستعلي توفي في أوائل سنة 495، وأن الوزير الأفضل جاء بأبي علي المنصور ابن المستعلي البالغ من العمر 5 سنوات وجعله خليفة على البلاد، ولقبه الآمر بأحكام الله، ولم يكن في من تسمى بالخلافة قط أصغر منه، ولذا لا غرابة أن نجد أن الفرنج تابعوا توسعهم وأخذوا عكا في منتصف سنة 497 ثم طرابلس في آخر سنة 502 وتابعوا منها احتلالهم للسواحل الشامية.
أما استرجاع صلاح الدين للقدس، فقد أرسى أساساته نور الدين زنكي في جهاده الذي استمر 28 سنة دون كلل أو توقف، وتبينت عزيمته في ذلك عندما طلب قبل وفاته بسنوات من الصناع في حلب أن يصنعوا منبراً ليضعه في المسجد الأقصى بعد تحريره، وبعد وفاة نور الدين الشهيد في سنة 569 1174 ورث صلاح الدين دولته وتابع مسيرته التي دامت 14 سنة حتى تحريره المسجد الأقصى.
وتابع صلاح الدين خطة نور الدين في توحيد الدويلات الإسلامية تحت قيادته، واستمر في الجهاد الذي بدأه نور الدين ضد الفرنج، ولكن تأييد الأمراء الزنكيين في حلب والموصل للسلطان الجديد كان سلبياً في أغلب الأحيان وفاتراً في أفضل الأحوال، ولم يكن من الممكن معه خوض معركة كبيرة حاسمة مع الصليبيين، ولذا اتجه صلاح الدين  في أول سنينه للتحالف مع السلاجقة وأدخل حلب تحت سلطته في سنة 578 ثم أخضع الموصل بعدها بسنتين، وهكذا ضمن أنه لن يواجه أي تهديد محتمل من وراء ظهره، وزادت قواته العسكرية بضمه هاتين المدينتين الهامتين، واستخدم صلاح الدين في ذلك أسلوب نور الدين زنكي الذي هو مزيج من المفاوضات السياسة والدعاية الإعلامية ثم التحركات العسكرية، وقيض الله له أخاه الملك العادل وكاتبه القاضي الفاضل اللذان تحملا أعباء إدارة الدولة.
ولم يقتصر نشاط صلاح الدين على إمارتي حلب والمشرق، بل امتد إلى الدول الأخرى، فقد طلب من مدينتي البندقية وجنوة تحويل تجارتها إلى الإسكندرية ليحرم الفرنج من هذه التجارة ومن تأييد هذه المدن، وأقام اتصالات مع الإمبراطوربة البيزنطية التي كان إمبراطورها أندرونيكوس كومنينوس على عداوة تاريخية مع الصليبيين الذين كثيراً ما عانت منهم الإمبراطورية البيزنطية، وأثمرت هذه الاتصالات عن اتفاق جعل الصليبيين على توجس من بيزنطة.
وفي جانب الفرنج الصليبيين كانت هناك عدة عوامل داخلية ساهمت في تفرقهم واستفاد منها صلاح الدين استفادة كبيرة، ويمكن أن نصنف الفرنج  إلى قسمين: قسم صارت له جذور في المنطقة وعرفه أهلها ولغتهم وعاداتهم وتطبع بكثير منها، وقسم مغامر أتى بحثاً عن ثروة طارئة ومجد يحاوله.
وكان الكونت ريموند الثالث صاحب طرابلس البالغ من العمر 34 عاما، زعيم القسم الأول، فقد كان أسيراً لدى المسلمين فترة طويلة، فصار يعرفهم جيداً، ومارس معهم سياسة تراوح بين الصد وبين المصالحة، وعلى صعيد شخصي كان ريموند  يتميز برباطة الجأش البالغة.
وأما القسم الثاني من القادمين الجدد الذين يطمعون بالمغامرات والحصول على الأملاك، والذين لا يقيمون للمسلمين أي وزن أو اعتبار، فيمثله خير تمثيل الأمير رينولد شاتيون، ويسميه العرب أرناط، فقد جاء من فرنسا في سنة 541 وصار أمير أنطاكية في سنة 547 بزواجه من أرملة أميرها، ووقع في أسر المسلمين  في سنة 554 وبقي في الأسر حتى سنة 571،  ولما أطلق سراحه صار أمير الكرك بزواجه من أميرة أخرى، وكانت حماقة هذا القائد الصليبي مع صلاح الدين أحد العوامل التي عجلت بمعركة حطين، كما كانت حماقته مع أمراء الصليبيين أحد أسباب التخلخل والفرقة التي اعترتهم، رغم وقوفهم إلى جانبه عندما هاجمته قوات صلاح الدين مرتين في الكرك.
ففي أول سنة 583 هاجم أرناط خلال فترة سريان الهدنة قافلة عربية كانت في الطريق من دمشق إلى مصر، ولم يكن صلاح الدين ليسكت عن التهديد المستمر للطريق الرئيسي الذي يصل الشام بمصر ويمر عبر شرقي الأردن، وأعلن الحرب على أرناط الذي سبق وأنزل خمس سفن في البحر الأحمر حاصرت ميناء أيلة وهاجمت السفن المسلمة في البحر وهددت بمهاجمة مكة، واستمرت بذلك حتى جهز صلاح الدين أسطولاً قضى عليها.
وطالب صلاح الدين ملك القدس الصليبي بالدوين الرابع أن يكبح جماح هذا المارق ويعوض المسلمين عن القافلة المنهوبة، ولكن الملك كان أضعف من أن يأبه له أرناط الذي أجابه إن شرقي الأردن لم تدخل في الهدنة مع العرب، وأنه في هذه المنطقة الحاكم مثلما الملك في مملكته.
وقادت هذه المواقف إلى معركة حطين في 24 ربيع الآخر من عام 583=3 تموز/يوليو 1187، والتي واجه فيها جيش صلاح الدين بفرسانه البالغ عددهم 12.000 فارس جيش الفرنج الذي بلغ عدده 18.000 جندي منهم 5.200 فارس عديد منهم يرتدون الدروع الثقيلة، وكان لهم تأثير كبير في المعركة عندما تسنح لهم الفرصة للهجوم على المسلمين في صف متراص.
وكان الأسلوب الصليبي في مواجهة صلاح الدين قد قام منذ فترة على تفادي معركة طويلة معه، وذلك بالتحرك من موقع إلى موقع حتى يبدأ جنوده بالتذمر ويبدون رغبتهم في الرجوع إلى بلدانهم بسبب المواسم الزراعية، وكان هذا الأسلوب ناجحاً لأن جزءاً كبيراً من جنود صلاح الدين كانوا جنوداً موسميين يشبهون الاحتياطي الذي يستدعى في أيامنا هذه، ونجح هذا الأسلوب مع صلاح الدين بوجه خاص كذلك لاختلاف شخصيته في ليونته ورقة نفسه عن شخصية نور الدين الحازمة القاطعة.
ولكن صلاح الدين هذه المرة سعى لجر الفرنج للمعركة بسرعة من خلال مهاجمته طبرية، ورغم معارضة بعضهم لإنجاد طبرية إلا أن أغلبية الفرنج أصرت على ذلك، فساروا نحو طبرية عبر هضاب الجليل تحت أشعة الشمس المتوهجة، في معاناة شديدة من العطش، وتعرضوا لدخان الأحراش التي حرقها المسلمون، ولما وصلوا إلى حطين في المساء وعسكروا فيها، طوقهم جيش صلاح الدين وهزمهم هزيمة منكرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الدويلات الصليبية، ووقع عدد كبير من ملوكهم ورؤسائهم في الأسر، منهم أرناط  الذي أبر اصلاح الدين قسمه وضرب عنقه بيده.
وبعد هذه المعركة الحاسمة لم يبق لدى الصليبيين في المدن والحصون سوى حاميات قليلة العدد، وتساقطت المدن والحصون في يده الواحد تلو الآخر، ولما كان الفرنج يثقون بشروطه التي حددها للاستسلام، فقد سهل عليهم عملية التسليم، وهكذا سقطت عكا بعدها بأسبوع وتلتها بعد شهر عسقلان، واستسلمت القدس بعد حصار دام أسبوعين، وكان صلاح الدين مثال المنتصر الرحيم، فقد سمح لمن أراد الخروج من القدس مقابل أتاوة محددة بسيطة، وسامح من لم يكن لديه مال، وسمح لأربعة قساوسة من طائفة السريان، ذات الجذور المحلية، بأداء صلواتهم عند القبر المقدس.
وتابع صلاح الدين استثمار انتصاره في الساحل والداخل، وطهر الداخل تماماً من الصليبيين، ولكنه لم يستطع تحرير طرابلس وحصون الشاطئ السوري، وقاومه المركيز مونتفرات في صور مقاومة صلبة ناجحة ودمر أسطولاً أرسله صلاح الدين لحصار المدينة من البحر، وخرجت من يده عكا سنة 587 بعد أن اجتمع لحربه ملكا فرنسا وانكلترا بجيشيهما وأسطوليهما، وعقد الصلح بينه وبين الملك الإنكليزي ريتشارد قلب الأسد على أن يحتفظ الفرنج بالساحل من عكا إلى يافا، وأن يسمح لحجاجهم بزيارة بيت القدس، وأن تخرب عسقلان ويكون الساحل من أولها إلى الجنوب لصلاح الدين.
ومات صلاح الدين في 27 من صفر من سنة 589، عن 67 سنة، وأمنيته الكبرى التي ينقلها المؤرخ ابن شداد عنه: متى ما يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد، وأوصيت، وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائره، أتبعهم فيه حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.

الجمعة، 15 مايو 2015

حدث في السادس والعشرين من رجب

في السادس والعشرين من رجب من سنة 835، ولد في أدرنة السلطان محمد الفاتح بن السلطان مراد، الذي جاهد طوال سلطنته دون كلل أو توقف حتى أجهز على الإمبراطورية البيزنطية، ووطد الوجود العثماني في سواحل اليونان والأدرياتيكي، ليصبح بذلك أحد أعظم سلاطين الدولة العثمانية والفاتحين المسلمين، ويتلقب بالفاتح بعد فتحه القسطنطينية.
وكان الأمير محمد الابن الرابع لوالده السلطان مراد، ولما ولد كان قد مضى على والده 10 سنوات وهو على عرش السلطنة، وأمه هي هُما خاتون، وتوفيت بعد ولادته بثمانية عشر سنة، ودرس في قصر والده ثم في مدارس أبناء السلاطين في مغنيسا، وعاش محمد مع والده فترة 20 سنة شاهد فيها أحداثاً جليلة في تاريخ صعود الدولة العثمانية.
ولعل أول ما وعاه من أحداث هو الحملة السادسة التي قادها والده في سنة 841 إلى ترانسلفانيا واستيلائه على قلعة سمندره جنوبي بلغراد، ثم غزوه للمجر في سنة 843 وحصاره بلغراد، وكذلك عصيان قرمان أوغلو في سنة 841 على صهره السلطان مراد وتهديده الدائم من الخلف له.
وشهد الأمير الشاب التحالف المجري الهنغاري مع الصرب والذي انضمت إليه قوات من ألمانيا وبولندا وألبانيا، وأتيح له قائد فذ صلب المراس هو جانوس هونيادي، الذي درس أساليب العثمانيين في الحرب دراسة متعمقة، واستطاع هزيمة جيش السلطان مراد وانتزاع نيش Niš وصوفيا سنة 847 = 1443م، ثم هزمه هزيمة منكرة في جالواز Jalowaz سنة 848 = 1444م، اضطر على إثرها الوالد لتوقيع معاهدة سلام في أدرنه تنازل فيها عن ألبانيا وصربيا وأراضي المجر، والتزم بهدنة مدتها عشر سنوات.
وتولى محمد الثاني عرش البلاد في حياة والده وهو في الثالثة عشرة من عمره، فقد توفي في تلك الفترة أكبر أولاد السلطان واسمه علاء الدين، وكان مقرباً من والده وقائداً شجاعاً فحزن عليه والده حزنا شديدا، وأصيب باكتئاب فتنازل عن العرش لابنه محمد الثاني، وكانت خصاله القيادية قد ظهرت في تلك السن المبكرة، وذهب السلطان مراد إلى مغنيسا Magnisa في ولاية آيدين للخلوة والإقامة بعيدا عن هموم الدنيا وغمومها.
ولم تمض بضعة أشهر حتى خرقت القوى الأوربية الهدنة في سنة 848 = 1444م، مغترة بوجود شاب غَر على العرش، وشنت حملة صليبية رعاها البابا يوجين الرابع الذي أفتى ملك المجر فلاديسلاو الثالث Wladyslaw III - وأصله بولندي - بنقض الهدنة لأن عدم رعاية الذمة والعهود مع المسلمين لا تعد حنثا ولا نقضا، وأرسل مندوبه الكاردينال سيزاريني ليتابع الأمور عن كثب، فهاجم الجيش المجري فارنا على البحر الأسود بعد أن نقل أفراده وأمداده أسطول البندقية ، وقاموا، وهم الكاثوليك، بنهب كل المدن والقصبات والكنائس الأرثوذكسية التي صادفتهم.
واجتمع مجلس السلطنة في أدرنة وقرر أن لا بد من عودة السلطان مراد ليستطيع الجيش هزيمة العدو المتحالف، وبناء على هذا القرار أرسل محمد الثاني يدعو والده لتسنم العرش مرة أخرى، وفي البداية رفض السلطان مراد ذلك قائلاً إن من واجبات السلطان الدفاع عن دولته، وعلى محمد الثاني أن يقوم بذلك. ولكن محمد الثاني رد على خطاب والده قائلاً: إن كنت أنا السلطان فإني آمرك بالحضور لتقود جيشك، وإن كنتم أنتم السلطان، فتعالوا ودافعوا عن دولتكم.
وكان الأعداء المتحالفون يقدرون أن السلطان لن يجرؤ على ترك الأناضول والعبور إلى أوروبا، ولكن مراد خيب ظنهم وفعل ما لم يتوقعوه، وقام على رأس جيشه بمهاجمتهم في رجب سنة 848 وألحق بهم هزيمة فادحة، وقُتِل في المعارك ملك المجر فلاديسلاو الثالث والكاردينال سيزاريني، وكانت هذه آخر حملة صليبية رسمية على الدولة العثمانية.
وبعد هذا النصر في فارنا رجع السلطان مراد إلى عزلته لكنه لم يلبث فيها طويلاً بسبب فتنة داخلية، فقد ازدرى الإنكشارية ملكهم الفتى محمد الثاني وعصوه ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة، فرجع اليهم السلطان مراد الثاني في سنة 850 = 1448م وأخمد فتنتهم، واتجه إلى غزو اليونان وإخضاع ألبانيا التي ظهر فيها متمرد يدعى إسكندر بك.
وكان إسكندر بك ابن الأمير يوحنا كستريوتي أمير أماسيا، والذي قدمه رهينة ولائه للسلطان مراد، فأعلن اعتناقه للإسلام ودرس في المدرسة السلطانية في أدرنة، وأظهر الإخلاص للسلطان حتى قربه إليه، فمنحه رتبة بيك وجعله أميراً على ألبانيا، ولكنه بعد هزيمة السلطان مراد في نيش أعلن تمرده وارتداده عن الإسلام، وساعده البابا والتحالف الأوربي وانضم إليه القائد هونيادي، فجمع السلطان قواته والتقى الجيشان في كوسوفو في سنة 852 = 1448م وانتصر السلطان مراد انتصاراً باهراً، ولكن لم يتم القضاء على التمرد الألباني، وتوفي السلطان في أدرنه في سنة 855 = 1451م وهو يعد العدة لحملة جديدة لإخضاع ألبانيا.
وهكذا تولى محمد الثاني الحكم وقد تمهد الطريق أمامه ليسير في طور التوسع إلى الحدود الطبيعية للدولة العثمانية ثم لما بعدها، ويمكن أن نقول إن الحدود الطبيعية للدولة العثمانية في ذلك الوقت هي التي استوطتنها القبائل التركية المنتمية إلى أصل واحد، والتي تشمل أغلب الأناضول ثم تمتد منه شرقاً في وسط آسيا حتى تصل إلى تركستان الشرقية في الصين ، وكان والده كان قد بسط سلطانه على الجزء الأكبر من آسيا الصغرى، ولم يعد خارجاً عن سلطانه منها إلا بلاد إمارة القرمان في وسط وشمال الأناضول، أما الإمبراطورية البيزنطية فلم تحكم إلا رقعة صغيرة تقتصر على القسطنطينية وضواحيها إلى جانب ميناء سينوب ومملكة طرابزون على البحر الأسود، وكان تحت سلطانها كذلك إقليم المورة في جنوب اليونان وعدة إمارات صغيرة فيه يحكمها بعض الأمراء من سلالات أمراء الحملات الصليبية، أما البندقية فكان لها عدد من الموانئ في إقليم المورة والبحر الأدرياتكي وظيفتها الأساسية تسهيل التجارة التي كانت تقوم بها هذه الجمهورية الفريدة بين أوربا وبين بقية العالم، أما ألبانيا وصربيا فكانتا يحكمهما أمراء من أهلها ولكن تحت سيادة الدولة العثمانية.
ولما تولى محمد الثاني الحكم، نقل جثمان والده لدفنه في مدينة بورصة وفقاً للتقاليد السارية، وكان والده السلطان مراد قد تزوج من أميرة صربية اسمها ميرا، وذلك في إطار اتفاق للسلام مع الصرب، ولكنه قبل وفاته لم يكن على وفاق معها، فأمر محمد الثاني بإرجاعها إلى أهلها، ثم باشر على الفور في تنفيذ الترتيبات التي تتيح له مخططه الأول، وهو فتح مدينة القسطنطينة، ثم الاستيلاء على ما تبقى من بلاد البلقان ، وذلك لتبقى الأراضي العثمانية متصلة متحدة.
وكانت المحاولات السابقة لفتح القسطنطينية قد باءت بالفشل بسبب وصول الإمدادات البحرية لتنجد المدينة المحاصَرة ويصبح المحاصرِون أنفسهم تحت الحصار، وكانت أسوار المدينة من أمنع الأسوار في العالم، فقد كان ارتفاعها يتراوح ما بين 15 و17 متراً، وعرضها في أعلاها 4 أمتار، وأمامها خندق مليء بالماء يبلغ عرضه 18 متراً وعمقه 9 أمتار، وكانت الأبراج الدفاعية مكسية بالرصاص، وكان حسابات العسكريين البيزنطيين تقول إن المدينة لا يمكن فتحها إلا بحصار محكم يدوم 6 سنوات تنفد بعده المؤن المخزنة فيها، وكان حساباتهم قائمة على أن أي حصار للمدينة لن يدوم طويلاً لأن الدول الأوربية ستهب لنصرتها وتفشل الحصار.
وفي المقابل كانت خطة محمد الثاني تعتمد على منع النجدات الأوربية من الوصول إلى القسطنطينية وأن ينهي الاستيلاء عليها قبل أن تصل إليها القوات والأساطيل الأوربية، وللقيام بذلك أمر محمد الثاني ببناء قلعة روملي حصار للسيطرة على مضيق القسطنطينية وإحكام الرقابة على السفن المارة به، وبذلك لا تستطيع أية سفينة عبور البحر الأسود إلى البحر الأبيض أو العكس، إلا بإذن من القوات المرابطة على جانبي المضيق، وإلا فإن المدفعية ستغرقها بنيرانها المتقاطعة.
واختار محمد الثاني موقع قلعته على الجانب الأوربي في أضيق نقطة في المضيق حيث يبلغ عرضه 660 متراً، تقابلها قلعة أناضولي حصار التي شيدها جده بايزيد، وباشر فيها بعد أقل من سنة من توليه العرش وانتهى منها في قرابة 6 أشهر، وهو زمن قياسي إذا علمنا أنها تمتد مسافة 2000 متر، وتشتمل على 3 أبراج ارتفاعها قرابة 27 متراً، ولما انتهى من بنائها وترتيب استحكماتها وأسلحتها عاد محمد الثاني إلى عاصمته أدرنة في خريف سنة  856 ليتابع الشق الثاني من تحضيراته.
فقد أمر محمد الثاني مصانعه العسكرية بسبك المدافع بأقطار لم يسبق لها مثيل من قبل، فقام الصانع المجري الشهير أُوربان بعمل مدفع ضخم جرى تجريبه بحضوره السلطان، وكان يستطيع رمي كرة حجرية ثقيلة وزنها 2.000 كيلوغرام لمسافة ميل واحد، وبقوة تفتت حجارة الأسوار، وهكذا اكتملت لديه التحضيرات التقنية لبدء حملته على القسطنطينية.
ولم يكن خصمه الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر ضعيفاً أو غافلاً عما يدبره محمد الثاني، فقد كان هذا الإمبراطور البالغ من العمر قرابة 48 عاماً يتمتع بالشجاعة والمبادرة، وتولى الحكم قبل محمد الثاني بسنتين، ولكنه ورث تركة آيلة للسقوط صار من الصعب تدعيمها، وأدرك الإمبراطور ما يدبره محمد الثاني، وأن قواته الذاتية تقصر عن مواجهته، ففعل ما في وسعه ليحصل على أكبر قدر من المعونة من أوروبا، وناشد البابا مراراً لنجدته من الخطر الداهم، وفي الوقت ذاته عرض على السلطان محمد الثاني أن يدفع له جزية سنوية مقدارها 70.000 ذهبية إن هو فك الحصار، ونصح السلطانَ مستشاروه بقبولها وفك الحصار، وقال كبيرهم إن فتح القسطنطينية سيجلب علينا حرباً مع كل دول أوربا.
وفي البداية أعاقت العداوة التاريخية العميقة بين الكاثوليك وبين الأرثوذكس الاستجابة الفعالة لهذه المناشدات، فقد كانت أوروبا تطلب من الإمبراطور البيزنطي،وهو في منصبه العريق حامي الكنيسة الأرثوذكسية، أن يترك الأرثوذكسية ويعتنق الكاثوليكية، ومجاراة لهذه المطالب رضي الإمبراطور في آخر سنة 855 أن يقيم الكاردينال الكاثوليكي إيزيدور مراسم دينية في أياصوفيا، أكبر كنيسة في العالم، وفق الأصول الكاثوليكية، ولكن الجماهير البزنطية استهجنت ذلك الابتزاز، وفضلت أن تعيش تحت الحكم التركي ولا تتخلى عن ديانتها الأرثوذكسية، وقال نوراراس أكبر أمراء بيزنطة: إنني أفضل أن أشاهد عمامة الأتراك على أن أرى الكُمَّة الكاثوليكية! وقامت دول أوروبا بتوجيه من البابا فأرسلت السفن والإمدادات والجنود إلى البيزنطيين الذين قامت قواتهم بمحاصرة القلعة التي بناها محمد الثاني في شتاء سنة 856=1452.
ولإيصال 14 مدفعاً كبيراً من أدرنة إلى القسطنطينية أمر محمد الثاني بتمهيد الطريق ما بينها، ثم سار كل مدفع على عجلات يجرها 60 ثوراً ويحف بها 200 جندي من كل جانب حتى لا تحيد عن الطريق، وكان هذا المدفع لا يستطيع إطلاق أكثر من 7 مقذوفات في اليوم بسبب حاجته للوقت ليبرد ثم وضع المقذوفة التالية فيه، وإلى جانب هذه المدافع كان لدى العثمانيين مدافع أصغر وأربعة أبراج متحركة ومنجنيق بحجم لم يسبق له مثيل.
وبدأ الحصار في ربيع الأول من سنة 857= نيسان/أبريل 1453، وقامت البحرية العثمانية بالاستيلاء على جزر القسطنطينية وقرية طرابيا، وكان عدد القوات العثمانية حوالي 100.000 جندي، يقابلهم وراء الأسوار الحصينة في الجانب البيزنطي 15.000 جندي إضافة للمتطوعين، ويدعمهم أسطول يتكون من سفن بيزنطة وجنوة والبندقية والبابا، على أن يمده أسطول البندقية الذي كان أكبر أسطول في العالم، وكذلك القوات المجرية التي ستتقدم براً من جهة الشمال في أوكرانيا اليوم، وكان البيزنطيون قد أغلقوا خليج القسطنطينية بسلسلة غليظة جداً، توجد اليوم في المتحف البحري في استانبول، وتحول بين السفن العثمانية وبين الاقتراب من المدينة المحصنة أتم تحصين.
وخلال الحصار اكتشف المسلمون قبراً على أسوار القسطنطينية، وقال شيخ السلطان محمد بن حمزة الدمشقي ثم الرومي، المعروف بابن شمس الدين، إنه قبر أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فارتفعت همة المحاصرين وازدادت ثقتهم بالنصر وحماستهم لتحقيقه، وقد بنى السلطان محمد في مكانه مسجد أبي أيوب المعروف اليوم، وقد توفى أبو أيوب، خالد بن يزيد الخزرجي، سنة 52 غازياً على أبواب القسطنطينية في جيش يزيد بن معاوية، وتذكر الروايات الإسلامية أن الروم كانوا يحترمون قبره ويستسقون ببركته.
وبعد قرابة أسبوعين من بدء الحصار جاء رسل أوروبا إلى محمد الثاني وأعلنوا باسم العالم المسيحي أن جيوش أوروبا المتحدة سوف تهاجم تركيا وتحتلها إن لم يرفع السلطان حصاره عن البيزنطيين، وفعلاً أرسلت أوروبا أسطولا قوامه سفن من جمهورية جنوة يقودها الأدميرال جوستنياني، ونشبت بينها وبين السفن العثمانية معركة هائلة، مالت كفتها قليلاً لصالح جنوة، واستطاعت 5 سفن منها دخول الخليج بسبب ريح مواتية مكنتها من دخوله بسرعة غير متوقعة، ورداً على هذا الإنجاز أمر محمد الثاني مدفعيته بقصف السفن الراسية في خليج استانبول فأغرقت بعضها.
وأدرك السلطان أن لا بد من أن تكون له قوة بحرية في خليج القسطنطينية تساعده في إحكام الحصار على المدينة، وقدحت في ذهنه فكرة نقل السفن على البر ثم إنزالها في الماء، وبذلك يتجاوز السلسلة الموضوعة، وأمر بإعداد 70 سفينة صغيرة نسبية، ومهد طريق سيرها بأن رص فيه ألواح الخشب وصب عليها الشحوم حتى تنزلق عليها السفن، واستطاع في يوم واحد نقل كل السفن، وأدرك المحاصَرون أن النهاية صارت جد وشيكة.
وقدم السلطان محمد الثاني عرضه الأخير للإمبراطور قسطنطين الحادي عشر، بأن يستسلم ويسلم له البلد طوعاً، ويتعهد له السلطان بعدم استرقاق السكان أو التعدي على أملاكهم، وأن يجعله أميراً على جزر اليونان الجنوبية، ولكن الإمبراطور وقادته رفضوا العرض وآثروا الموت على تسليم المدينة.
وفي فجر يوم 20 جمادى الأولى من سنة 857=29 أيار/مايو 1453 بدأ الجيش العثماني هجومه واقتحم جنوده أسوار المدينة من الجهات المختلفة، وقضوا على القوات البيزنطية، وقتل الإمبراطور قسطنطين في المعركة، ثم بدأ الجنود في السلب والنهب وقتلوا عدداً كبيراً من أهالي البلد، ولما دخل السلطان محمد الثاني المدينة عند الظهر، أصدر أوامره بوقف كل التعديات، فساد الأمن  على الفور ثم زار كنيسة أيا صوفيا وأمر أن يؤذن فيها بالصلاة إعلانا بتحويلها إلى جامع البلد، وتلقب بالفاتح منذ ذلك اليوم.
وتماشياً مع التعاليم الإسلامية أصدر محمد الثاني إعلاناً عاماً بضمان حرية الدين المسيحي وممارسة شعائره، وحفظ أملاك النصارى، فعاد عدد كبير ممن هاجر منهم، وأعطاهم نصف الكنائس وجعل النصف الآخر جوامعاً، ثم جمع أئمة دينهم لينتخبوا بِطريقا لهم فاختاروا جورج سكولاريوس، ومنح السلطان موافقته على هذا الانتخاب، واحتفل بتنصيب البطرك بنفس الأبهة والنظام الذي كان يعمل للبطارقة في أيام البيزنطيين، وأعطاه حرسا من عساكر الإنكشارية، وجعله البطرك رئيسا لكل النصارى في سلطنته، وأنشأ مجلساً يرأسه البطرك وكبار موظفي الكنيسة، ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية المختصة بهم، وأعطى هذا الحق في الولايات للمطارنة والقساوسة، وإلى جانب ذلك فرض على المسيحيين الجزية مستثنيا الرهبان من ذلك.
ولم يكن للإمبراطور القتيل أولاد، وكان خلفاؤه هم أولاد أخيه الأكبر المتوفى، فقام السلطان بضمهم إلى بلاطه، وصار أحدهم قريباً جداً من السلطان الذي عينه فيما بعد نائب السلطنة في البلقان ،وصار الأخر قائد الأسطول العثماني ووالي جاليبولي ثم صار مرتين صدراً أعظماً في أيام بايزيد الثاني بن محمد الفاتح.
وبعد إتمام هذه الترتيبات وإعادة بناء أسوار المدينة وتحصينها، أمر محمد الفاتح بتأسيس ثمانية مدارس علمية شرعية في استانبول ثم توجه لشن حملة على الصرب لأن ملكها دوراد برانكوفيتش عقد تحالفاً مع المجر وما عاد يدفع الخراج بصورة منتظمة، واستمرت الحملة قرابة سنتين، من سنة 858 إلى سنة 860، استولى فيها على عدد من المدن الهامة وحاصر فيها السلطان منها ما لم يستطع فتحه، ووصل حتى العاصمة بلغراد، وبالطبع هرع الملك المجري هونيادي مع قواته لقتال العثمانيين، وسبقه إليها وقاد الدفاع عنها، فلم يتمكن السلطان من فتحها، ورفع الحصار عنها عائداً إلى أدرنة، وكان الإنجاز الكبير في هذه الحملة هو أن هونيادي أصيب بجراح بليغة أثناء الحصار ما لبث أن مات من جرائها بعد فك الحصار بعشرين يوماً.
ومات برانكوفيتش في سنة 862 واختلفت أرملته مع أولاده الثلاثة وقتل بعضهم بعضاً وانتهى الأمر أن عرضوا عرش الصرب على أمير بوسنوي دون استشارة السلطان الذي أرسل جيشه في سنة 863 واستولى على البلاد وأصبحت تابعة للسلطنة العثمانية.
أما بلاد المورة في جنوبي اليونان فكان يحكمها أخوا الإمبراطور القتيل؛ الأميران ديمتريوس وتوماس، والذين لم يرسلا له أية مساعدة أثناء حصار القسطنطينة، مما تسبب في ثورة الأهالي عليهما بعد سقوطها،  فاستنجدا بمحمد الفاتح لقمع التمرد، وعلى إثر ذلك أبدى عدد من أمراء المناطق الصغيرة خضوعه للسلطنة، ولكن الأخوين كانا مستبدين فاشلين في الحكم، ثم قاما بالتمرد على السلطان نفسه، فما كان منه إلا أن جاء إلى بلاد المورة في سنة 864  واستولى على كل المدن البيزنطية فيها بعد حملات دامت قرابة سنة.
وبعد حملته في اليونان اتجه محمد الفاتح لإخضاع مناطق البحر الأسود التي كانت لا تزال خارجة عن سلطانه، وبخاصة ميناء طرابزون الذي حاول والده فتحه قبل 18 سنة فلم يوفق، وكان ملكها البيزنطي الجديد يتآمر مع الدول الأوربية ضد السلطان، وبلغ به الغرور أن ثرثر بتخطيطه ليس لهزيمة محمد الفاتح بل والاستيلاء على القدس، وطالب محمد الفاتح بإعادة الجزية التي دفعها أخوه من قبل.
وجاءه الجواب في سنة 865 يحمله محمد الفاتح على رأس جيش كبير انطلق من بورصة يسنده أسطول بحري، وطلب من أمير ميناء سينوب الاسفندياري تسليم البلد، ففعل ذلك، ثم توجه إلى طرابزون ففاجأها بوصوله على حين بغتة وحاصرها قرابة شهر حتى استسلم ملكها فأرسله وأسرته إلى القسطنطينية، وعاد إليها ليبدأ حملته التالية على إقليم الأفلاق فيما يعرف اليوم برومانيا.
وكان العثمانيون يعتبرون الأفلاق منطقة تحجز بينهم وبين المملكة المجرية، وكانت بينها وبين الدولة العثمانية معاهدة ترجع إلى سنة 795 تعترف فيها بسيادة الدولة العثمانية عليها، وتتعهد بدفع جزية سنوية، مقابل بقاء البلاد في يد أمرائها يحكموها بمقتضى عادات وعُرف أهلها، وفي المقابل كانت هنغاريا تريد أن تضع الأفلاق تحت نفوذها وسيطرتها، وللحيولة دون ذلك أتى العثمانيون قبل عشر سنوات بالأمير الشاب فلاد الثالث الذي كان سجيناً لديهم وجعلوه على إمارة المنطقة، ولكن الملك الهنغاري هونيادي طرده ووضع محله أميراً آخر، ولما انشغل هونيادي بالدفاع عن بلغراد في سنة 860 انتهز فلاد الثالث الفرصة واسترجع عرشه من جديد.
وكان  فلاد الثالث ظالماً متعسفاً مع رعيته يتلذذ بعقوباتهم ويتفنن فيها، حتى لقبه المؤرخون فلاد الخازوقي! ودعاه الأتراك فلاد الشيطان، ولما عاد إلى العرش أرسل إليه محمد الفاتح رسلاً يدعونه إلى تنفيذ المعاهدة ودفع الجزية المتأخرة، فلما مثُلوا أمامه أمرهم برفع عمائمهم لتعظيمه، فأبوا ذلك لمخالفته لعاداتهم، فأمر أن تُسمر عمائمهم على رؤسهم بمسامير من حديد!
وأرسل محمد الفاتح حمزة باشا حاكم نيقوبولي رسولاً إلى فلاد الثالث للتوصل معه إلى حل سلمي أو القضاء عليه، ولكن فلاد كمن لحمزة باشا وقتل الجنود الذين معه، ووضعه وكبار بعثته على الخازوق، ثم عبر الدانوب في سنة 866 وأغار على بلغاريا فأمعن فيها نهباً وتخريباً وقتلا، وقال متبجحاً في رسالة كتبها إلى ملك هنغاريا: لقد قتلت المزارعين، رجالاً ونساء، كباراً وصغارا ... لقد قتلنا 23.884 تركي عدا عن أولئك الذين أحرقنا عليهم بيوتهم أو قطع جنودي رؤوسهم.
وكان السلطان محمد الفاتح في أثنائها يحاصر ميناء كورينت في المورة، فلما وصلت هذه الأخبار إليه، ترك الحصار وسار على الفور بجيشه ليعاقب هذا الأعمال، ولكن فلاد كمن له ليلاً وهاجمه وكبده كثيراً من القتلى والأسرى الذين وضعهم على الخوازيق ليراهم الجيش العثماني، وكاد محمد الثاني أن يقرر التوقف خشية أن يكون ذلك قد فت في عضد جيشه، ولكن قواده أكدوا له متانة المعنويات في الجيش وتطلعه للثأر، فتابع القتال وهزم فلاد وبدد جيوشه، والتجأ فلاد إلى ملك المجر، بعد أن قتل بظاهر بوخارست أغلب الأسرى الذين جاء بهم من بلغاريا، ونصب السلطان محمد الفاتح أميراً على البلاد الأمير راوول أخا فلاد الذي كان قد تربى في حضانة السلطان مند نعومة أظفاره، وأصبحت الأفلاق جزءاً من الدولة العثمانية.
ولانشغال السلطان في الأفلاق وبتحريض من المجر امتنع أمير البوسنة عن دفع الخراج، فشن السلطان حملة في سنة 866 أخضعت كامل البوسنة لسلطانه، وقتل أميرها وولده، وجعلت البوسنة ولاية عثمانية، وأسلم أغلب الأشراف من أهلها ودخل في جيش السلطان عدد كبير من شبابها.
واتجه السلطان محمد الفاتح لمواجهة القوة البحرية العظمى وهي البندقية، ولكن المواجهة في البداية لم تكن بحرية، فقد كان الأسطول العثماني أضعف من أن يواجه أسطول البندقية المنظم والمتمرس، فبدأ في سنة 867 في الاستيلاء على بعض الموانئ التابعة للبندقية في اليونان، وتحالفت البندقية مع هنغاريا لتقوم جيوشها بمهاجمة البوسنة في الوقت الذي ترسل البندقية أسطولها وجيشها للمورة، وبدأ البابا بيو الثاني في حشد جيش في ميناء أنكونا على البحر الأدرياتيكي ليقوده بنفسه، وبدأت البندقية مفاوضات مع منافسي العثمانيين من الأمراء المسلمين في شرق تركيا والقِرِم لتضمهم إلى الحملة المرتقبة.
وحقق جيشا البندقية والمجر بعض الانتصارات المبدئية، وألقت سفن البندقية مراسيها عند مدخل خليج الدردنيل متحدية بقوتها البحرية العثمانية، وكالعادة كان رد محمد الفاتح كان سريعاً وحاسماً، ذلك إنه أدرك أن يواجه تحدياً يختلف عن كل مواقعه السابقة، فقد كانت البندقية عدواً متمرساً في الدبلوماسية، عريقاً في البحرية، خبيراً بالحروب لا يعوزه المال والرجال.
وأرسل محمد الفاتح الصدر الأعظم محمود باشا على رأس جيش ليواجه البنادقة في المورة، وأمر بإنشاء دار لصناعة السفن في قادِرجا على الخليج الذهبي، وأنشأ حصنين لحراسة المضايق، وسار بعد ذلك على الفور على رأس جيش آخر ليردف محمود باشا، ولما كان في الطريق بلغه أن محمود باشا قد حقق انتصارات ساحقة على البنادقة، فحول خط سيره على الفور  شمالا إلى البوسنة، ولكنه لم يستطع استرجاع مدينة جاجي Jajce التي كانت عاصمتها واضطر للانسحاب أمام الجيش الهنغاري، ولكن وزيره محمود باشا كان قد جاء بجيشه واستطاعوا إجبار الهنغار على الانسحاب دون أن يستعيدوا العاصمة، وجاءت وفاة البابا في سنة 868 لتحل عرى الحملة الصليبية المزمعة.
واستمرت المعارك بين البندقية وبين جيش السلطان في المورة دون تحقيق نتائج حاسمة، ولما بدأت الكفة ترجح إلى الطرف العثماني وبخاصة بعد وصول أسطوله البحري، أرسل السلطان محمد الفاتح تلميحات إلى مجلس الشيوخ في البندقية برغبته في السلم، ولكن المجلس رفض ذلك لشكه في نوايا السلطان، وشن البنادقة بعد قرابة سنة، في منتصف سنة 870، حملة استطاعت انتزاع كثير من المواقع والجزر التي استولى عليها العثمانيون، ووصلت حتى أثينا ولكنها لم تستطع احتلالها فسارت عنها إلى مدينة باتراس وحاصرتها مدعومة بقوات يونانية، وبدا أن المدينة على وشك السقوط حين ظهرت قوة عثمانية من 12.000 خيال استطاعت بسهولة طرد القوات المحاصِرة وأسرت ثلثها وقتلت قائدها، ثم تابعت طردها حتى احتمت بمدينة نيغروبونت قاعدة البنادقة الأساسية في المورة، وفي سنة 874 قاد محمد الفاتح جيشه وحاصرها براً، وهزم أسطوله أسطول البندقية في البحر حتى فتحها وأنهى عملياً سيطرة البندقية على الأراضي اليونانية.
وكان أحد أسباب انتصارات البندقية في حملتها سنة 870 هو أن محمد الفاتح قد سار قبلها بقليل على رأس جيش كبير لإخضاع ألبانيا وأميرها إسكندر بك وإكمال ما لم ينجزه والده قبل 15 سنة، ولكن الشتاء حل دون أن يستطيع تحقيق نصر حاسم، وانتشر وباء الملاريا في المنطقة ومات من جرائه إسكندر بك، فتفكك تحالف الأمراء الألبان الذين كان يستقطبهم بشخصيته وإنصافه، وبقي أمراء المناطق يقاومون السيطرة العثمانية كل في منطقته، فتركهم محمد الفاتح إلى حين.
وجاء هذا الحين في سنة 878 حين شن حملة لاستكمال فتح المناطق والمدن الهامة في ألبانيا مركزاً جهوده على شقودره، ومرة أخرى لم يستطع جيشه فتحها، فقام هو شخصياً بحصارها في سنة 883، وبقيت عصية عليه بفضل صمود حاميتها من الألبان والبنادقة، فيمم السلطان وجهه شمالاً ومر بكرواتيا ومنطقة دالماسيا الساحلية منها، ودخل إقليم الفِريولي في إيطاليا وصار على مقربة من مدينة البندقية، فسارع البنادقة وأبرموا الصلح معه في معاهدة القسطنطينية التي تمت في 5 من ذي القعدة سنة 883= 1479، وتنازلوا له عن ألبانيا ومدينة شقودره، ودفعوا له مبلغ 100.000 دوقة ذهبية كتعويضات إضافة إلى مبلغ 10.000 دوقة سنوياً، وذلك مقابل المحافظة على امتيازاتهم التجارية في البحرين الأسود والأدرياتيكي، وهكذا استطاع السلطان محمد الفاتح تحييد أقوى دولة أوربية بحرية، لا يعادلها آنذاك إلا جمهورية جنوة.
وبعد هذا الإنجاز الكبير حول السلطان أنظاره لضم دولة القرمان في آسيا الصغرى، وهنا نقف قليلاً لنستعرض ما تم في تركيا بعد الفترة السلجوقية، حيث أصبح الأناضول موطناً لإمارات تركمانية عديدة، كان أقواها الإمارة القرمانية التي تمركزت في ما يسمى اليوم ولايتي قرمان وقونية، ولكن ما لبثت الإمارة بني عثمان أن اشتد عودها وسيطرت على غالب الأناضول فحدَّت من تأثير وهيمنة القرمانيين، وكان أميرهم إبراهيم قد أوصى بالحكم بعد موته إلى ولده الأمير إسحاق، وهو ابنه من إحدى جواريه، ولذلك نازعه أخوه أحمد واستولى على الحكم عند وفاة الأب في سنة 868، وعاد إسحاق إلى العرش بمساعدة أمير تركي آخر هو حسن الطويل، فاستغاث أحمد بالسلطان محمد الثاني الذي أغاثه وهزم إسحاق ووضعه مكانه، ثم عاد إلى أوروبا لمحاربة إسكندر بك، فانتهز الأمير إسحاق الفرصة وعاود الكرة على قونية لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من البلاد، فرجع إليه السلطان وهزمه وأعلن ضم إمارة القرمان إلى بلاده.
وبعد ذلك بقليل زحف حسن الطويل واحتل معظم الأناضول الشرقي، فجهز السلطان محمد الفاتح إليه جيشاً جراراً، ثم سار إليه السلطان بنفسه وهزمه هزيمة منكرة لم يعد بعدها يفكر في محاربة الدولة، وببقاء الأناضول موحداً تحت سلطة آل عثمان أصبح لدى السلطان محمد الفاتح خزان بشري من السكان الذين يستطيع تجنيدهم، ومن ناحية أخرى صار يستطيع التوغل في أوروبا دون أن يتلفت وراء ظهره.
وفي سنة 879 توجه السلطان محمد الفاتح لإخضاع مولدافيا التي نقض أميرها اسطفان الرابع اتفاقاً عقده سلفه مع الدولة العثمانية، ورفض الاعتراف بالسيادة العثمانية، ولقي أول جيش أرسله السلطان بقيادة خادم باشا هزيمة منكرة، فسار السلطان بنفسه في السنة التالية على رأس جيش جرار وضم الجيش فرسان التتار من القرم الذين تحالفوا مؤخراً معه، وبعد معارك ضارية لم تسفر عن نصر مبين، دخل السلطان بنفسه مع حرسه في معركة ضارية منها فحاقت الهزيمة بالمولدافيين، الذين انسحبوا ولكنهم لم يتوقفوا عن محاربة الجيش العثماني في مناوشات صغبرة، وفي النهاية انسحب الجيش العثماني دون أن يستولي على أي من البلدات الهامة، ولكن مولدافيا بعد هزيمتها ما عادت تمثل أي تهديد للسلطنة.
وفي سنة 879 عزم السلطان محمد الفاتح على فتح بلاد القِرِم التي كانت موانئها الهامة في يد جمهورية جنوة، بينما كانت هضابها في يد التتار الذي طلبوا مساعدة السلطان لانتزاع موانئها من الجنويين، فأرسل حملة بحرية إلى ميناء كافا ففتحته بعد حصار ستة أيام وبعده سقطت جميع الأماكن التابعة لجمهورية جنوة، وصارت جميع شواطيء القرم تابعة للدولة العثمانية، وأعطى السلطان الحكم الذاتي لتتار الداخل.
وفي سنة 884 أرسل السلطان حملة تمكنت في سنة 885 من احتلال مدينة أوترانتو في جنوب إيطاليا، ثم انسحبت مع الخريف إلى ألبانيا بسبب نقص الأطعمة، وسبب ذلك الذعر الشديد في أنحاء إيطاليا بسبب أن ذلك جاء بعد 28 سنة من سقوط القسطنطينية، فخشي الجميع أن تكون الحملة مقدمة لاحتلال روما عاصمة الكاثوليك، وبدأ البابا سيكستوس الرابع في وضع الخطط لإجلاء السكان عن روما، ودعا لحملة صليبية جديدة استجابت لها عدة مدن إيطالية إلى جانب هنغاريا وفرنسا، ولكن البندقية لم تتجاوب معها لارتباطها بمعاهدة سلام مع العثمانيين، وقام جيش يقوده الأمير ألفونسو الثاني ابن الملك فرديناند الأول ملك نابولي وتردفه قوات هنغارية بحصار المدينة في أوائل سنة 886، وجاءت وفاة محمد الفاتح بعدها بيومين والخلافات على وراثة عرشه، لتقطع المدد عن القوات العثمانية، وانتهى الأمر باتفاق على انسحابها بسلام إلى ألبانيا، وعادت المدينة إلى السلطة البابوية.
وفي الرابع من ربيع الأول من سنة 886 توفي السلطان محمد الثاني الفاتح الغازي عن 53 سنة بعد أن حكم السلطنة العثمانية 31 سنة أمضاها في جهاد دائب وحروب متصلة، ممهداً الطريق لخلفائه ليتابعوا مسيرته ويحققوا ما لم يتمكن من إنجازه، ولما وصل خبر وفاته إلى أوروبا قُرِعت أجراس الكنائس وعقدت الاحتفالات، ولعل أكبر اعتراف بمكانته جاء من جمهورية البندقية التي أعلنت الخبر تحت عنوان: مات النسر العظيم.
وإذا بدا من السيرة التي استعرضناها أن محمداً الفاتح كان قائداً عسكرياً عظيما، وقد كان، فإننا في الحقيقة لم نفه حقه، فلقد كان أكثر من ذلك بكثير؛ لقد كان سياسياً محنكاً وزعيماً بانياً وصاحب رأي ثاقب في بناء الدول وتشييد الحضارات، ولا يتسع المجال للحديث طويلاً في هذا الصدد ويكفي أن نشير أنه لولا هذا الخصال لاندثرت استانبول بل ولضعفت كثيراً الكنيسة الأرثوذكسية التي رد إليها اعتبارها بعد انتصاره، وكان كذلك عالماً مثقفاً ويزخر كتاب الشقائق النعمانية بأخباره مع العلم والعلماء في عصره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

 
log analyzer