الأربعاء، 30 أبريل 2008

لا يطيب العيش للمشتاق

الله يجمع بيننا في غبطة * ويزيل وحشتنا بقرب تلاق
ما طاب لي عيش فديتك بعدما * ناحت عليَ حمامةٌ بفراق
إن الإله لقد قضى في خلقه * أن لا يطيب العيش للمشتاق

الثلاثاء، 29 أبريل 2008

رحمة شاملة لجنس الإنس

وكان قد شاع الخبر بأن ملوك الفرنج واصلون، وهم حاشدون حافلون، فوصل ملك إفرنسيس فيليب في ثاني عشر ربيع الأول 587 في ست بطس – أي سفن تجارية - عظام، مملوءة بفوارس ذوي إقدام، فقلنا: ما أحمل الماء لأهل النار، وما أجلبه للدوائر إلى الديار، وكان عظيما عندهم من كبار ملوكهم، ينقادون له بحيث إذا حضر حكم على الجميع، وما زالوا يتواعدونا به حتى قدم.

وصحبه من بلاده باز عظيم عنده، هائل الخلق، أبيض اللون، نادر الجنس، وكان يعزه ويحبه حبا عظيما، فطار من يده حتى سقط على سور عكا، فاصطاده أصحابنا، وأنفذوه إلى السلطان، وبذل الفرنج فيه ألف دينار فلم يجابوا. ولقد رأيته وهو يضرب إلى البياض مشرق اللون ما رأيت بازيا أحسن منه.

وكان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام العدو، فيسرقون منهم حتى الرجال ويخرجون، فأخذوا ذات ليلة طفلا رضيعا له ثلاثة أشهر، فلما فقدته أمه باتت مستغيثة بالويل والثبور في طول تلك الليلة حتى وصل خبرها إلى ملوكهم، فقالوا لها إن السلطان صلاح الدين رحيم القلب، وقد أذِنا لك في الخروج إليه، فاخرجي واطلبيه منه فانه يرده عليك.

فخرجت تستغيث لليزك – أي طليعة الجيش - الإسلامي وأخبرتهم بواقعتها، فأطلقوها وأنفذوها إلى السلطان، فأتته وهو راكب على تل الخروبة، وأنا في خدمته وفي خدمته خلق عظيم، فبكت بكاءً شديداً ومرغت وجهها في التراب، فسأل عن قصتها فأخبروه، فَرَقَ لها ودمعت عينه، وأمر باحضار الرضيع، فمضوا فوجدوه قد بيع في السوق، فأمر بدفع ثمنه إلى المشتري وأخذه منه، ولم يزل واقفا رحمه الله حتى أُحضر الطفلُ وسلم إليها، فأخذته وبكت بكاء شديداً، وضمته إلى صدرها، والناس ينظرون إليها ويبكون، وأنا واقف في جملتهم فأرضعته ساعة، ثم أمر بها فحملت على فرس وألحقت بمعسكرهم مع طفلها. فانظر إلى هذه الرحمة الشاملة لجنس الإنس، اللهم إنك خلقته رحيماً فارحمه رحمة واسعة آمين.

الاثنين، 28 أبريل 2008

شجون الفقهاء: ناسخ الحديث ومنسوخه

قال الإمام محمد بن شهاب الزهري، المتوفى 124 هجرية ومن أول من دوّن الحديث: أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناسخه من منسوخه.

وكان الزهري لا يترك أحدا يكتب الحديث بين يديه، فأكرهه الخليفة هشام بن عبد الملك فأملى من حديثه على بنيه، فلما خرج من عنده دخل المسجد، فأسند ظهره إلى عمود من عمده ثم نادى: يا طلبة الحديث، فلما اجتمعوا إليه قال: إني كنت منعتكم أمراً بذلته لأمير المؤمنين آنفا؛ هلم فاكتبوا. فكتب عنه الناس من يومئذ.

قال الإمام مالك بن أنس: مات العلم يوم مات الزهري، وإن كتبه حملت على البغال.

الأحد، 27 أبريل 2008

عملته لله فما أريد به سواه جزاءً

كان الفرنج مذ نزلوا على عكا صمموا على الإقامة والحصر، فشرعوا في بناء الأبراج العظام العالية، ونقلوا في البحر آلاتها وأخشابها الجافية وأقطاع الحديد، وبنوا ثلاثة أبراج عالية في ثلاثة مواضع من أقطار البلد، فتعبوا فيها سبعة أشهر فلم يفرغوا منها إلا في ربيع الأول 586، فعلت كأنها ثلاثة أطواد قد ملئت طبقاتها بعدد وأعداد، وكل برج لا بد له في أركانه من أربع أسطوانات عاليات غلاظ جافيات، طول كل واحدة خمسون ذراعا، ليشرف على ارتفاع سور البلد، وبَسَطوها على دوائر العجل، ثم كسوها بعد الحديد والوثوق الشديد بجلود البقر والسلوخ، وكل يوم يقربونها ولو ذراعا على حسب التيسير في تسييرها، وسقوها بالخل والخمر وكشفوا من جوانبها الثلاثة سور البلد، وشرعوا في طم الخندق.

وجاء عوّام سباحة من عكا فأخبر السلطان صلاح الدين، فركب بالعسكر ولازمهم من الجمعة إلى الجمعة، يقاتلهم صباحا ومساء ليشغلهم، فافترقوا قسمين فريق للقتال وفريق آخر مع الأبراج، فأشفى البلد على السقوط، وبقي له رمق ضعيف، ورميت الأبراج بكل قارورة نفط فما أثرت.

وكان بعكا شاب من أهل دمشق يعرف بعلي ابن عريف النحاسين، وكان أبدا بجمع آلات الزراقين مولعا، ولتحصيل عقاقيرها متتبعا، وكل من عرفه عذله - أي عاتبه - وينكر عمله، وكان قد ألف منها مقادير وقدورا، وملأ بغيظٍ من أهل تلك الصناعة صدورا، ولم يكن النفط من صناعته، ولكن الله وفقه لسعادته، فجاء إلى الأمير قراقوش وهو مغتاظ، وأخلاقه فظاظ غلاظ، وقال: تأذن لي في تصويب المنجنيق، لأحرق البروج، والله ولي التوفيق. فزجره وزبره، ونهاه ونهره، وقال: صنّاع هذا الشغل قد خاروا وحاروا، وبعدما أنجدوا غاروا! فقال الناس: دعه وشأنه، وما يدريك أن الله وفقه وأعانه؟

فرمى ابن العريف البرج الأول قدورَ نفط خالية من نار حتى عرف أنه سقاه ورواه، ثم رماه بقدر محرقة، وأردفها بأخرى مزهقة، فتسلطت النار على طبقاتها، فأضرم على أهل السعير سعيرا، وكان يوما على الكافرين عسيرا، ثم أحرق الثاني والثالث، فاجتمع عليه الأصحاب يفدّونه – أي يقولون له فداك نفسي - ومن أولياء الله يَعُدُونه، وحملوه بعد ذلك إلى السلطان فلم يقبل عطاء، وقال: عملته لله فما أريد به سواه جزاءً.

السبت، 26 أبريل 2008

لئلا يعتادوا من الصغر سفك الدم

وفي تاسع ربيع الأول 587 بلغ السلطان صلاح الدين الأيوبي أن العدو يخرج منه طائفة للاحتشاش - أي جمع الحشيش - فأمر أخاه الملك العادل أن يكمن بالعسكر خلف التل الذي كانت فيه الوقعة المعروفة به، وسار هو فكمن وراء تل العياضية ومعه من أولاده الصغار والقاضي الفاضل، ونذر الفرنج – أي جاء من أنذرهم - فلم يخرج منهم أحد.

ووصل في أثناء ذلك اليوم خمسة وأربعون أسيرا من الفرنج أخذوا في بيروت، فيهم شيخ كبير هرم لم يبق في فمه ضرس، ولم يبق فيه قوة إلا مقدار ما يتحرك فسأله السلطان عن مجيئه، فقال: للحج إلى قمامة – أي كنيسة القيامة - وبيني وبين بلادي مسيرة أشهر، فَرَقَ له صلاح الدين وأطلقه، وأعاده إلى العدو راكبا على فرس، وطلب أولاد السلطان الصغار أن يأذن لهم في قتل أسير، فلم يأذن وسئل عن ذلك فقال: لئلا يعتادوا من الصغر سفك الدم ويهون عليهم.

الجمعة، 25 أبريل 2008

فإنه جنتك ونارك

روى الإمام أحمد والنسائي عن الحصين بن محصن الأنصاري، عن عمة له أنها أتت رسول الله صلى عليه وسلم لحاجة لها، فلما فرغت من حاجتها قال: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم. قال: فكيف أنتِ له؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه فأحسني، فإنه جنتك ونارك.

الخميس، 24 أبريل 2008

لم يخلف في خزائنه سوى سبعة وأربعين درهما

فلما كانت ليلة السبت 16 من صفر سنة 589، نزل بالسلطان صلاح الدين الأيوبي مرض، فأمر يوم السبت ولده الأفضل أن يجلس على الطعام، فجلس في موضع السلطان، واستمر السلطان في تزايد من المرض إلى ليلة الأربعاء 17 صفر، فاحتُضِر ومات بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء المذكور، فركب الأفضل ، ودار في الأسواق ، وطيّب قلوب العامة.

وكان صلاح الدين رحمه الله كثير التواضع، قريبا من الناس، كثير الاحتمال، شديد المداراة، محباً للفقهاء وأهل الدين والخير محسناً إليهم، مائلاً إلى الفضائل، يستحسن الشعر الجيد ويردده في مجلسه، ومَدَحه كثير من الشعراء، وانتجعوه من البلدان.

وكان شديد التمسك بالشريعة، سمع الحديث من أبي الحسن علي بن إبراهيم بن المسلم بن بنت أبي سعد، وأبي محمد بن بري النحوي، وأبي الفتح محمود بن أحمد الصابوني، وأبي الطاهر السِلَفي، وابن عوف، وجماعة غيرهم.

وكان كريماً: أطلق من الخيل بمرج عكا لمن معه اثني عشر ألف رأس ، سوى أثمان الخيل التي أصيبت في الجهاد، و لم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به ، وصاحبه ملازم في طلبه.

وكان ورعاً: رأى يوماً العماد الكاتب يكتب من دُواة محلاة بالفضة فأنكرها، وقال هذا حرام، فلم يعد يكتب منها عنده. وكان لا يصلى إلا في جماعة، وله إمام راتب ملازم، وكان يصلي قبيل الصبح ركعات إذا استيقظ، وكان يسوي في المحاكمة بين أكبر الناس وبين خصمه.

وكان شجاعا في الحروب، يمر في الصفوف وليس معه سوى صبي. وقرىء عليه جزء من الحديث بين الصفين، وهو على ظهر فرسه، وكان ذاكراً لوقائع العرب وعجائب الدنيا، ومجلسه طاهر من المعايب، رحمه الله وغفر له .

ولما مات جلس الأفضل للعزاء، وكثر بكاء الناس عليه، وغسّله الفقيه خطيب دمشق، أخرج بعد صلاة الظهر، وصلى الناس عليه أرسالا – أي أفواجاً - ودفن بداره التي مرض فيها بالقلعة، ثم نقل في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة إلى تربة بنيت له بجوار جامع بني أمية.

وكان عمر صلاح الدين يوم مات نحواً من سبع وخمسين سنة، ومدة ملكه اثنتان وعشرون سنة وأيام. وترك من الأولاد سبعة عشر ذكرا وبنتا واحدة صغيرة، ولم يخلف في خزائنه سوى سبعة وأربعين درهما، ولم يترك دارا ولا عقارا.

الأربعاء، 23 أبريل 2008

أظننت أن البلاد تباع؟

كان السلطان صلاح الدين الأيوبي - المتوفى سنة 589 هجرية عن 57 سنة - يعظم أخاه الملك العادل – وهو أصغر منه بسنتين، وتوفي سنة 615 هجرية - ويعمل برأيه في جميع أموره ويتيمن بمشورته، ولا يُعلم بأنه أشار على السلطان بأمر فخالفه، وكان السلطان يجمع الأمراء للمشورة فإن كان العادل حاضراً سمع من رأيه، وإن لم يكن حاضراً لم يقطع أمراً في المهمات حتى يكاتبه بجلية الأحوال ثم يسمع رأيه فيها.

فلما حصل العادل بمصر وبَعُدَ عن السلطان، صار السلطان يتكلف في مكاتبته بالأخبار، ويؤخر الأمور إلى أن يرد عليه جوابه، فيفوته بذلك كثير من المنافع الحاصلة للدولة وللجهاد، فلما حاصر صلاح الدين الكرك كاتَبَه بالحضور إليه بعياله وأمواله وجميع أصحابه، وولى مصرَ ابنَ أخيه الملك المظفر تقي الدين.

ولما حَصَلَ الملكُ العادل عند أخيه صلاح الدين بأمواله وأثقاله، كانت الأموال قد قلت على السلطان، وقد حصلت عنده عساكر عظيمة، فأحضر العادل ليلا وقال: أريد أن تقرضني مئة وخمسين ألف دينار إلى الميسور، فقال: السمع والطاعة، ثم قام وخرج من عنده وكتب إليه يقول: أموالي جميعها بين يديك، وأنا مملوكك، وأشتهي أن أحمل هذا المال إلى خدمة السلطان، ويكون عوضاً عنه مدينة حلب وقلعتها. فأجابه السلطان: إنني والله ما أقدمتك إلا لأوليك حلب، وإذ قد اقترحت ذلك فقد وافق ما عندي، فلما أصبح العادل أنفذ المال وسأل السلطان أن يكتب له بمدينة حلب كتاباً ويجعله ككتاب البيع والشراء، فامتنع السلطان وقال: إنما تكون حلب إقطاعا والمال علي له! فاعتذر العادل إلى السلطان عن طلبه، ولما اجتمعا قال له السلطان: أظننت أن البلاد تباع؟! أوما علمت أن البلاد لأهلها المرابطين بها، ونحن خَزَنة للمسلمين ورعاة للدين وحراس لأموالهم، أو ما علمت أن السلطان ملكشاه السلجوقي لما وقف طبرية على جامع خراسان، لم يحكم به أحد من القضاة ولا من الفقهاء!

ثم قرر السلطان ولاية العادل بحلب وأعمالها إلى رعبان إلى الفرات إلى حماة، وكتب له التوقيع، وقرر عليه مالاً يحمله برسم الزردخاناه وخزانة الجهاد ورجالة من الحلبيين، ورحل السلطان إلى دمشق، واستدعى ولده الظاهر من حلب، فلما حضر أمره بالعود إلى حلب وتسليمها إلى عمه العادل، ففعل وعاد إلى دمشق وسار العادل إلى حلب، فالتقيا بالرستن وباتا فيه، فكانت مدة ولاية الظاهر بحلب في هذه النوبة نحو ستة أشهر، ولما وصل الظاهر إلى دمشق أقبل على خدمة والده والتقرب إليه إلا أن الانكسار لخروج حلب من يده ظاهر عليه، وهو مع ذلك لا يظهر شيئاً إلا الطاعة لوالده والانقياد لمرضاته.

قال الملك الظاهر ابن صلاح الدين: لما بلغني أن السلطان ولى حلب للملك العادل، جرى علي ما قَدِمَ وما حَدِثَ، وأصابني من الهم ما لم أقدر على النهوض به، ووددت أني لم أكن رأيتها ولا دخلت إليها، لأن قلبي أحبها وقبلها وطاب لي هواؤها، ولما فارقتها كنت أحن إليها واشتاقها.

الثلاثاء، 22 أبريل 2008

تغلب على الفالج

علي بن أحمد بن الأثير الحلبـي الأصل المصري، ولد فى حدود الثمانين وستمائة، وتعانى الخِدَمَ الديوانية، وباشر الديوان، وكتب الإنشاء، كان كاتب سر السلطان الناصر محمد بن قلاوون في القاهرة، وبلغ عنده ما لم يبلغه غيره حتى كان يأمره أن يكتب إلى نواب الشام بأشياء يأمرهم بها عن نفسه، فعظم قدره جدا.

وباشر الوظيفة مباشرة جيدة، وكان يركب فى ستة عشر مملوكا من الأتراك، وكانوا يقومون بالديوان سماطين - أي صفين - ولا يتكلم مع أحد منهم إلا بالتركية وهم يترجمون عنه للناس، وكان يكتب خطاً قوياً منسوباً، وله اقتدار على إصلاح اللفظة وإبرازها من صورة إلى صورة، وما كان يخرج من الديوان كتاب حتى يتأمله، ولا بد أن يزيد فيه شيئا.

و
لم يزل في سعادته إلى أن حصل له مبادئ فالج، ثم تزايد به وظهر ذلك للسلطان، فصبر عليه إلى أن أراد يوما أن يقوم من بين يديه فسقطت الدواة من يده، فتألم له السلطان وأعفاه من الوظيفة، وعالجه الأطباء فلم ينجع بل تزايد إلى أن صار لا يتحرك منه شىء أصلاً إلا جفونه، فكان إذا أراد شيئاً قرأ له خادمه حروف المعجم، فإذا مر بحرف هو أول الكلمة أطبق جفنه، ثم يعود الى أن يتحصل له كلمة بعد كلمة فيعرف منها مراده، ولم يطل ذلك بل مات فى منتصف المحرم سنة ثلاثين وسبعمائة رحمه الله تعالى.

الاثنين، 21 أبريل 2008

يعيش مثلي لا يصفو له كدر

أخفي هواك وما يخفى له أثر * مَن دمعُ عينيه يجري كيف يستترُ
فإن أبـُح أخشَ من واشِ يَنمُ بنا * بين الورى حسداً منه فيبتهرُ
وإن كتمتُ أمُتْ في حبكم كمداً * يعيش مثلي لا يصفو له كدرُ

الأحد، 20 أبريل 2008

ترويض البغال

كان أبو الحسين بن أبي البغل عاملاً على أصبهان، فدخل إليه يوماً شيخ قدم من بغداد بكتب من وزير الوقت، ومن جماعة رؤساء الحضرة، وإخوان أبي الحسين بها، يخاطبونه بتصريفه – أي بتوظيفه – ونفعه، فسلم الرجل وجلس وأوصل الكتب، وصادف منه ضجراً وضيق صدر، وكانت إضبارة عظيمة فاستكثرها ابن أبي البغل ولم يقرأها جميعها.

فقال له الرجل: إن رأيت أن تقرأها، وتقف على جميعها. فصخب وتغيظ وقال: أليس كلها في معنى واحد؟ قد والله بُلينا بكم يا بطالين! كل يوم يصير إلينا منكم واحد يريد تصرفاً، لو كانت خزائن الأرض إليّ لكانت قد نفذت!

ثم قال للرجل: يا هذا مالك عندي تصرف، ولا لي عمل شاغر أرده إليك، ولا فضل في مالي أَبُـرُكَ منه، فدبر أمرك بحسب هذا.

قال: والرجل ساكت جالس، إلى أن أمسك ابن أبي البغل، فلما سكت ومضت على ذلك ساعة قام الرجل قائماً، وقال: أحسن الله جزاءك، وتولى مكافأتك عني بالحسنى، وفعل بك وصنع. قال: وأسرف الرجل في شكره، والدعاء له، والثناء عليه، بأحسن لفظ، وأجود كلام، وولى منصرفاً.

فقال ابن أبي البغل: ردوا من خرج. وقال له: يا هذا، هو ذا تسخر مني! على أي شيء تشكرني؟ على إياسي لك من التصرف؟ أو على قطع رجائك من الصلة؟ أو على قبيح ردي لك عن الأمرين؟ أوَ تريد خداعي بهذا الفعل؟

قال: لا، ما أردت خداعك، وما كان منك من قبيح الرد غير منكر، فإنك سلطان، ولَحِقَكَ ضجرٌ، ولعل الأمر على ما ذكرتَه من كثرة الواردين عليك، وقد مللت بمن حضر، ونحوسى أن صار هذا الرد القبيح والأياس الفظيع في بابي.

ولم أشكرك إلا في موضع الشكر، لأنك صدقتني عما لي عندك في أول مجلس، فعتقت عنقي من ذل الطمع، وأرحتني من التعب بالغدو والرواح إليك، وخدمة من أستشفع بهم عليك، وكشفت لي ما أدبر به أمري، وبقية نفقتي معي، ولعلها تقوم بتجملي الذي أتجمل به إلى بلد آخر، فإنما شكرتك على هذا، وعذرتك فيما عاملتني به، لما ذكرته أولاً.

قال: فأطرق ابن أبي البغل خجلاً، ومضى الرجل.

فرفع رأسه بعد ساعة، وقال: ردوا الرجل، فردوه. فاعتذر إليه، وأمر له بصلة، وقال: تأخذها إلى أن أقلدك ما يصلح لك، فإني أرى فيك مصطنعاً. فلما كان بعد أيام قلده عملاً جليلاً، وصلحت حال الرجل.

السبت، 19 أبريل 2008

ذهبت بحديثي إلى بني مروان!

ضاقت حال الإمام ابن شهاب الزهري ورهقه دين، فخرج إلى الشام في زمان عبد الملك بن مروان فجالس قبيصة بن ذؤيب، فبينا هو مع قبيصة ذات ليلة يسمر معه إذ جاءه رسول عبد الملك، فقال: أجب أمير المؤمنين.

فذهب إليه ثم رجع إلينا فقال: إن أمير المؤمنين أتاه شيء من أمهات الأولاد من ناحية المدينة - وكان عبد الملك قد سمع من سعيد بن المسيب فيه حديثاً، فلم يحفظه - من منكم يحفظ قضاء عمر في أمهات الأولاد؟ قال الزهري: قلت: أنا، فقال لي: قم.

فقمت معه فأدخلني على عبد الملك بن مروان فإذا هو جالس على نمرقة – أي وسادة - بيده مخصرة – أي عصا صغيرة - عليه غلالة ملتحف بسَّبَنِيَّة – ثوب غليظ من الكتان - بين يديه شمعة، فسلمت عليه فلما فرغت من سلامي قال: من أنت؟ فانتسبت له، قال: إن كان أبوك لنعاراً في الفتن -لأنه ممن خرج مع علي رضي الله عنه - قلت: يا أمير المؤمنين عفا الله عما سلف، قال: اجلس، فجلست قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: اقرأ من سورة كذا ومن سورة كذا، قال: فقرأت، قال فقال لي: أتفرض – أي تعلم تقسيم الفرائض والمواريث – قلت: نعم، قال: فما تقول في امرأة تركت زوجها وأبويها؟ قلت: لزوجها النصف، ولأمها السدس، ولأبيها ما بقي، قال: أصبت الفرض وأخطأت اللفظ، إنما لزوجها النصف، ولأمها ثلث ما بقي، وهو السدس من رأس المال، ولأبيها ما بقي، قال: فإن الفريضة على حالها، وهو رجل ترك زوجته وأبويه، فقلت: لزوجته الربع، ولأمه الربع، ولأبيه ما بقي، فقال لي: أصبت الفرض وأخطأت اللفظ، أليس هكذا الفرض؟ لزوجته الربع، ولأمه ثلث ما بقي، وهو الربع من رأس المال، وللأب ما بقي.

ثم قال: هات حديثك، قلت: حدثني سعيد بن المسيب – وكان عبد الملك قد جالسه ثماني سنين - أن فتى من الأنصار كان لزم عمر بن الخطاب وكان به معجبا وأنه فقده، فقال: ما لي لا أرى فلانا؟ فأرسل إليه فجاءه، فإذا هو بذ الهيئة، فقال: ما لي أراك هكذا؟ قال: يا أمير المؤمنين،خرجت من ميراثي من أبي بأمي، إن إخوتي خيروني بين أمي وبين ميراثي من أبي، فاخترت أمي ولم أكن لأخرجها على رؤوس الناس، فأخذتها بجميع ميراثي من أبي. قال: فخرج عمر مغضبا حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال: أما بعد أيها الناس، فمن كانت له أمة يطؤها فولدت له، فله أن يستمتع منها ما عاش، فإذا مات فهي حرة، فقال عبد الملك: هكذا حدثني سعيد بن المسيب، ما مات رجل ترك مثلك!

فقلت: يا أمير المؤمنين اقض ديني، قال: قضى الله دينك – كناية عن إجابة طلبه – قلت: ويفرض لي أمير المؤمنين –أي يعطيني راتباً – قال: لا والله ما نجمعهما لأحد. اذهب فاطلب العلم، ولا تشاغل عنه بشيء فإني أرى لك عينا حافظة وقلبا ذكيا، وائت الأنصار في منازلهم.

فخرجت فتجهزت حتى قدمت المدينة، فجئت سعيد ابن المسيب في مجلسه في المسجد، فدنوت لأسلم عليه فدفع في صدري وقال: انصرف! وأبى أن يسلم علي، قال: فخشيت أن يتكلم بشئ يعيبني به فيرويه من حضره، فتنحيت ناحية واتبعته ليخلو، فلما خلا وبقي وحده مشيت إلى جنبه، فقلت: يا أبا محمد ما ذنبي؟ أنا ابن أخيك ومن موديك – أي من له يد سبقت عندك - فما زلت أعتذر إليه وأتنصل إليه وما يكلمني بحرف، وما يرد على كلمة، حتى إذا بلغ منزله واستفتح ففتح له، فأدخل رجله، ثم التفت إلي فقال: أنت الذي ذهبت بحديثي إلى بني مروان!

الجمعة، 18 أبريل 2008

ما قالت طال عمرها؟

عن أبي الحسن مولى أم قيس بنت مِحْصَنٍ عن أم قيس قالت: توفي ابني فجزعت عليه، فقلت للذي يَغْسِلُهُ: لا تغسل ابني بالماء البارد فتقتلَهُ، فانطلق عُكَّاشَة بن مِحْصَنٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقولها، فتبسم صلى الله عليه وسلم ثم قال: ما قَالَتْ طَالَ عُمْرُهَا!

قال الراوي: فلا نَعْلَمُ امْرَأَةً عَمِرَتْ مَا عَمِرَتْ.

وعكاشة هو الذي ورد فيه الحديث: سبقك بها عكاشة.

الخميس، 17 أبريل 2008

حاجة الإمام محمد بن جرير الطبري إلى الخليفة

قال الخليفة المكتفي لوزيره العباس بن الحسن: إني أريد أن أقف وقفا يجمع أقاويل العلماء في صحته ويسلم من الخلاف. فأحضر محمد بن جرير الطبري وأجلس في دار يسمع فيها المكتفي كلامه، وخوطب في أمر الوقف، فأملى عليهم كتابا لذلك على ما أراده الخليفة، فلما فرغ وعزم على الانصراف، أخرجت له جائزة حسنة، فأبى أن يقبلها، فحرص به صافي الحرمي وابن الحواري لأنهما كانا حاضرين المجلس - وبينه وبين المكتفي ستر - وعاتباه على ردها، فلم يكن فيه حيلة.

فقيل له: مَن وَصَلَ إلى الموضع الذي وصلت إليه، لم يَحسُن أن ينصرف إلا بجائزة أو قضاء حاجة، فقال: أما قضاء حاجة فأنا أسأل. فقيل له: قل ما تشاء، فقال: يتقدمُ أمير المؤمنين - أي يأمر - إلى أصحاب الشُرَط – أي الشرطة - بمنع السّؤال – أي الشحاذين - من دخول المسجد يوم الجمعة إلى أن تنقضي الخطبة. فتقدم الخليفة بذلك وعظم في نفوسهم.

الأربعاء، 16 أبريل 2008

أنتم أعرف بمن تصدقون عليه

أرسل الوزير العباس بن الحسن إلى الإمام محمد بن جرير الطبري: قد أحببت أن أنظر في الفقه -أي أدرس الفقه - وسأله أن يعمل له مختصراً على مذهبه، فعمل له كتاب الخفيف وأنفذه إليه، فوجه إليه بألف دينار فردها عليه ولم يقبلها، فقيل له: تصدق بها، فلم يفعل، وقال: أنتم أولى بأموالكم وأعرف بمن تصدقون عليه.

الثلاثاء، 15 أبريل 2008

ما أريد غير ما وافقتني عليه

لما دخل الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى بغداد وكانت معه بضاعة يتقوت منها فسرقت، فأفضت به الحال إلى بيع ثيابه وكُمَي قميصه، فقال له بعض أصدقائه: تنشط لتأديب بعض ولد الوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى ابن خاقان؟ قال له: نعم.

فمضى الرجل فأحكم له أمره، وعاد إليه فأوصله إلى الوزير بعد أن أعاره ما يلبسه، فلما رآه عبيد الله قربه ورفع مجلسه وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر، فاشترط عليه أبو جعفرأوقات طلبه العلم والصلوات والأكل والشرب والراحة في حينها، وسأل إسلافه رزق شهر ليصلح به حاله ففعل ذلك به.

وأدخل أبو جعفر في حجرة التأديب – أي التدريس - فأُجلس فيها وكان قد فرشت بأثاث التدريس، وخرج إليه الصبي وهو أبو يحيى ومعه زملاؤه من أولاد القصر، فلما جلس بين يديه وكتب الولد على اللوح ما درسه الشيخ، أخذ الخادم اللوح، وذهب به في القصر مستبشراً، فلم تبق جارية إلا أهدت إلى أبي جعفر صينية فيها دراهم ودنانير فرد الجميع، وقال: قد شورطت على شيء، وما هذا لي بحق، وما آخذ غير ما شورطت عليه. فعرّفَ الجواري الوزيرَ ذلك فأدخله إليه وقال له: يا أبا جعفر سررتَ أمهات الأولاد في ولدهن فبررنك، فغممتهن بردك هداياهن. فقال له: ما أريد غير ما وافقتني عليه، وهؤلاء عبيد، والعبيد لا يملكون شيئا. فعظم ذلك في نفس الوزير.

وكان أبوجعفر ربما أهدى إليه بعض اصدقائه الشيء من المأكول، فيقبله اتباعا للسنة، ويكافئه لعظم مروءته أضعافا، وربما يجحف به، فكان أصدقاؤه يجتنبون مهاداته، ومما ينسب إليه:


إذا أعسرت لم يعلم شقيقي *** وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي *** ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي *** لكنت إلى الغنى سهل الطريق


وقد ولد الإمام ابن جرير الطبري سنة 224 بآمل طبرستان على ضفاف بحر قزوين الجنوبية، وتوفي في السادس والعشرين من شوال سنة 310 ببغداد، رحمه الله.

الاثنين، 14 أبريل 2008

تمنيت لو كنت أنا الميت

روى الإمام مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت النبي صلى اللهم عليه وسلم وصلى على جنازة يقول: اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نُزَله، ووسع مُدَخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقِهِ من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقِهِ فتنة القبر وعذاب النار.

قال عوف: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت لدعاء رسول الله صلى اللهم عليه وسلم على ذلك الميت.

الأحد، 13 أبريل 2008

وهى أيضا بالجَوَى تعرفني

رب ورقاء هتوف بالضحى * ذات شجو صدحت في فنن
فبكائي ربما أرقها * وبكاها ربما أرقني
ولقد أشكو فما أفهمها * ولقد تشكو فما تفهمني
غير أني بالجَوَى أعرفها * وهى أيضا بالجَوَى تعرفني

السبت، 12 أبريل 2008

لا تخبر بهذا أهل الحديث

قال مصعب بن عبد الله الزبيري: قرأ الشافعي علي أشعار هذيل حفظا ثم قال لي: لا تخبر بهذا أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا.

قال مصعب: وكان الشافعي يسمر مع أبي من أول الليل حتى الصباح ولا ينامان، قال: وكان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام الناس والأدب ثم أخذ في الفقه بعد.

وأقام الشافعي على العربية وأيام الناس عشرين سنة فقلنا له في ذلك فقال: ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه.

قال أحمد بن حنبل: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم الشافعي فبينها لهم.

الجمعة، 11 أبريل 2008

لا تجمعن جوعاً وكذباً "من خطبة الجمعة في مسجد طارق بتورنتو"

روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد: إِنِّي قَيَّنْتُ - أي جهزت - عَائِشَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جئته فَدَعَوتهُ لِجِلْوَتِهَا، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِهَا، فَأُتِيَ بِعُسِّ لَبَنٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا وَاسْتَحْيَت، قَالَتْ أَسْمَاءُ: فََقُلْتُ لَهَا: خُذِي مِنْ يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَأَخَذَتْ فَشَرِبَتْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطِي تِرْبَكِ – أي صاحباتك -

قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلْ خُذْهُ فَاشْرَبْ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوِلْنِيهِ مِنْ يَدِكَ. فَأَخَذَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ نَاوَلَنِيهِ، قَالَتْ: فَجَلَسْتُ ثُمَّ وَضَعْتُهُ عَلَى رُكْبَتِي، ثُمَّ طَفِقْتُ أُدِيرُهُ وَأَتْبَعُهُ بِشَفَتَيَّ لأُصِيبَ مِنْهُ مَشْرَبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ لِنِسْوَةٍ عندِي: نَاوِلِيهِنَّ، فَقُلْنَ: لا نشتَهِيه، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَجْمَعْنَ جُوعًا وَكَذِبًا.

قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه،ِ إِنْ قَالَتْ إِحْدَانَا لِشَيْءٍ تَشْتَهِيهِ لا أَشْتَهِيهِ يُعَدُّ ذَلِكَ كذِبًا؟ قَالَ: إِنَّ الكَذِبَ يُكْتَبُ كَذِبًا، حَتَّى تُكْتَبَ الْكُذَيبَةُ كُذَيبَةً.

الخميس، 10 أبريل 2008

رأيت الذنوب تميت القلوب

كان الإمام عبد الله بن المبارك يتمثل بهذه الأبيات:

رأيت الذنوب تميت القلوب * ويتبعها الذلَ ادمانُها
وترك الذنوب حياة القلوب * وخيرٌ لنفسك عصيانُها
وما أهلك الدين إلا الملوك * وأحبارُ سوء ورهبانها
وباعوا النفوس فلم يربحوا * ولم تغلُ بالبيع أثمانها
لقد وقع القوم في جيفة * يبـين لذي اللب إنتانها

الأربعاء، 9 أبريل 2008

كاد أن يكون قتالاً

روى محمد بن حميد ونوح بن حبيب: كنا عند الإمام عبد الله بن المبارك [المولود في مرو 118 والمتوفى 181 هجرية، والقصة حدثت غالباً في طرسوس في جنوب تركيا اليوم حيث كان مرابطاً بها] فألحوا عليه - أي طلبة العلم في قراءة الحديث عليه - قال: هاتوا كتبكم حتى أقرأ، فجعلوا يرمون عليه الكتب من قريب ومن بعيد، فكان رجل من أهل الري- أي طهران اليوم - يسمع كتاب الاستئذان، فرمى بكتابه فأصاب صلعةَ ابن المبارك حرفُ كتابه، فانشق وسال الدم، فجعل ابن المبارك يعالج الدم حتى سكن، ثم قال: سبحان الله كاد أن يكون قتالاً، ثم بدأ بكتاب الرجل فقرأه.

الثلاثاء، 8 أبريل 2008

إجعل تحت الستر ما تحب

قال رزيق الدلال: سمعت بشر بن الحارث يقول: اللهم استر، واجعل تحت الستر ما تحب، فربما سترت علي ما تكره. قال: ثم التفت إلي فقال لي: يا أخي بادر بادر فإن ساعات الليل والنهار تنتهب الأعمال.

الاثنين، 7 أبريل 2008

إن المحامد طووا كشحهم

جمعت الرحلة في طلب العلم بين الإمام محمد بن جريرالطبري والإمام المحدث محمد بن إسحاق بن خزيمة والإمام المحدث محمد بن نصر المروزي والمحدث محمد بن هارون الروياني الطبري بمصر، فأرملوا - أي افتقروا - ولم يبق عندهم ما يقوتهم وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة.

فاندفع في الصلاة فإذا هم بالشموع ورسول من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب فنزل عن دابته فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو هذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا: هوذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، ثم قال أيكم: محمد بن هارون؟ فقالوا: هوذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة؟ فقالوا: هوذا يصلي، فلما فرغ دفع إليه الصرة وفيها خمسون دينار، ثم قال: إن الأمير كان قائلا – أي نائماً القيلولة - بالأمس فرآى في المنام خيالا قال له: إن المحامد طووا كشحهم جياعا، فأنفذ إليكم هذه الصرار، وأقسم عليكم إذا نفدت فابعثوا إلي أُمدكم.

الأحد، 6 أبريل 2008

عوف بن محلم الخزاعي

أحد العلماء والأدباء والرواة الفهماء، والندامى الظرفاء والشعراء الفصحاء، وكان صاحب أخبار ونوادر، وله معرفة بأيام الناس، وأصله من حران، وهي اليوم سني أورفا في جنوب تركيا.
وكان طاهر بن الحسين بن مصعب نائب المأمون على خراسان قد اختصه لمنادمته واختاره لمسامرته. وكان لا يخرج في سفر إلا أخرجه معه، وجعله زميله وأنيسه وعديله، وكان يعجب به.
فبقي مع طاهر ثلاثين سنة لا يفارقه، وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه فلا يأذن له ولا يسمح به، فلما مات طاهر وخلفه ابنه ظن أنه قد تخلص وأنه يلحق بأهله ويرجع إلى وطنه.

فقربه عبد الله بن طاهر من نفسه وأنزله منزلته من أبيه، وكان عبد الله أديباً فاضلاً عالماً بأخبار الناس، فلما وقف على أدب عوف وفضله تمسك به وأفضل عليه حتى كثر ماله، وحسن حاله، وتلطف بجهده أن يأذن له عبد الله في العود إلى وطنه فلم يكن إلى ذلك سبيل، وحفزه الشوق إلى أهله وأهمه أمرهم.
فاتفق أن خرج عبد الله من بغداد يريد خراسان، فصير عوفاً عديله يستمتع بمسامرته، ويرتاح إلى محادثته إلى أن دنا من الري- وهي طهران اليوم - فلما شارفها سمع صوت عندليب يغرد بأحسن تغريد وأشجى صوت، فأعجب عبد الله بصوته، والتفت إلى عوف بن محلم فقال له: يا بن محلم، هل سمعت قط أشجى من هذا الصوت وأطرب منه؟ فقال: لا والله أيها الأمير، وإنه لحسن الصوت، شجي النغمة، مطرب التغريد، فقال عبد الله: قاتل الله أبا كبير حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضـر** وغصنك مياد ففيم تـنـوح؟
أفق لا تنح من غير شيء فإنني** بكيت زماناً والفؤاد صـحـيح
ولوعاً فشطت غربة دار زينب ** فها أنا أبكي والفـؤاد قـريح

فقال عوف: أحسن والله أبو كبير وأجاد ثم قال: أصلح الله الأمير إنه كان في الهذليين مائة وثلاثون شاعراً ما فيهم إلا مفلق، وما كان فيهم مثل أبي كبير فإنه كان يبدع في شعره، ويفهم آخر قوله وأوله، وما شيء أبلغ في الشعر من الإبداع فيه

قال عبد الله: أقسمت عليك إلا أجزت شعر أبي كبير؟(أي قلت شعراً على مثاله) قال عوف: أصلح الله الأمير، قد كبر سني، وفني ذهني، وأنكرت كل ما كنت أعرفه. قال عبد الله: سألتك بحق طاهر إلا فعلت؟ وكان لا يسأل بحق طاهر شيئاً إلا ابتدر إليه لما كان يوجبه له، فلما سمع عوف ذلك أنشأ يقول:

أفي كـل عـام غـربة ونـزوح ** أما للنوى من ونـية فـتـريح؟
لقد طلح البين المشـت ركـائبـي ** فهل أرين البين وهـو طـلـيح؟
وأرقني بالـري نـوح حـمـامة ** فنحت وذو البث الغـريب ينـوح
على أنها ناحت ولم تـذر دمـعة ** ونحت وأسراب الدموع سـفـوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهـمـا ** ومن دون أفراخي مهامـه فـيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حـاضـر ** وغصنك مياد فـفـيم تـنـوح؟
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ** فيلقي عصا التطواف وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقـه ** وعدم الغنى بالمقتـرين طـروح

فاستعبر عبد الله ورق له، وجرت دموعه وقال له: والله إني لضنين بمفارقتك، شحيح على الفائت من محاضرتك، ولكن والله لا أعملت معي خفاً ولا حافراً إلا راجعاً إلى أهلك، ثم أمر له بثلاثين ألف درهم، ثم ودع عبد الله وسار راجعاً إلى أهله فمات قبل أن يصل إليهم.

وقال يمدح عبد الله وأباه:

يا بن الذي دان له المشـرقـان*** وألبس الأمن به المـغـربـان
إن الثمانـين، وبـلـغـتـهـا قد*** أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلتني بالشطـاط الـحـنـا *** وكنت كالصعدة تحت السنـان
وعوضتني من زماع الفـتـى*** وهمتي هم الجبـان الـهـدان
وقاربت مني خطىً لم تـكـن*** مقاربات وثنت مـن عـنـان
وأنشأت بينـي وبـين الـورى *** عنانة من غير نسج العـنـان
ولم تدع في لمـسـتـمـتـع *** إلا لساني وبحسبـي لـسـان
أدعو به الـلـه وأثـنـي بـه *** على الأمير المصعبي الهجان
وهمت بالأوطان وجداً بـهـا *** وبالغواني أين مني الغـوان؟
فقربانـي بـأبـي أنـتـمـا *** من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعـاي إلـى نـسـوة *** أوطانها حران والـرقـتـان

 
log analyzer