الجمعة، 30 مايو 2014

حدث في التاسع والعشرين من رجب

في التاسع والعشرين من رجب من سنة 241 وصل إلى مكة المكرمة إسحاق بن سلمة الصائغ ومعه الصُّناع، مرسلاً من الخليفة العباسي المتوكل على الله ليقوم بعملية ترميم للكعبة المشرفة، وأعمال ترميم لمشاعر الحج بعد سيل اجتاحها قبل قرابة شهرين، وعمل حمايات لها تقيها في المستقبل خطر السيول.
وهاهنا وصف لما قام به هذا المهندس مستقى أغلبه من كتاب أخبار مكة للأزرقي، أبي الوليد محمد بن عبد الله، المتوفى نحو 250، فهو شاهد عيان واكب هذه الأعمال، ودونها في كتابه الماتع، وقد اجتهدت أن أحافظ على أسلوبه الكتابي.
وجرت هذه الأعمال في خلافة المتوكل العباسي، جعفر بن محمد المعتصم، المولود سنة 206 والذي تولى الخلافة بعد وفاة أخيه الواثق سنة 232، وكان جوادا ممدحا محبا للعمران، وتوفي سنة 247 مقتولاً بمؤامرة من ولده محمد المنتصر بالله، المولود سنة 223، والذي لم تطل خلافته سوى 6 أشهر، ومات مسموماً كما يقال في سنة 248.
وكان ولي العهد محمد المنتصر بالله هو المسؤول عن أمر مكة والحجاز في دولة والده، فكتب والي مكة إليه أني دخلت الكعبة فرأيت الرخام المفروش به أرضها قد تكسر وصار قطعا صغارا، ورأيت ما على جدراتها من الرخام قد تزايل تهندمه، ووهى عن مواضعه، وأحضرت من فقهاء أهل مكة وصلحائهم جماعة، وشاورتهم في ذلك، فأجمع ظنهم بأن ما على ظهر الكعبة من الكسوة قد أثقلها ووهنها، ولم يأمنوا أن يكون ذلك قد أضر بجدراتها، وأنها لو جُردت أو خفف عنها بعض ما عليها من الكسوة كان أصلح وأوثق لها، فأنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى رأيه الميمون فيه، ويأمر في ذلك بما يوفقه الله ويسدده له.
والوالي المذكور هو على الأغلب محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ويقال له الزينبي نسبة إلى أم جده محمد، وهي السيدة المعمَّرة زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس.
وكان للخلفاء رقباء على الولاة يدعون صاحب البريد أو صاحب الخبر، ينصبه الخليفة رقيباً على أكابر عماله، وعلى أصحاب الأطراف في مختلف أرجاء المملكة، يكتب إليه بكل ما يرى ويسمع، خيراً كان أو شراً، ولا واسطة بينه وبين الخليفة،  وعليه أن يوصل الأخبار بأسرع السبل وأعجلها.
وكتب صاحب البريد في مكة إلى أمير المؤمنين بمثل ما كتب به العامل بمكة من ذلك، وتواترت كتبهما به وتماليا في ذلك، وذكرا في بعض كتبهما أن أمطار الخريف قد كثرت وتواترت بمكة ومنى في هذا العام، فهدمت منازل كثيرة، وأن السيل حمل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجد إبراهيم نبي الله عليه السلام، المعروف بمسجد الخيف، فهدم سقوفه وعامة جدرانه وذهب بما فيه من الحصباء فأعراه، وهدم من دار الإمارة بمنى وما فيها من الحُجَر جدراناً وعدة أبيات، وهدم العقبة المعروفة بجمرة العقبة، وبركة الياقوتة وبرك المأزمين والحياض المتصلة بها، وبركة العيرة، وأن العمل في ذلك إن لم يتدارك ويبادر بإصلاحه كان على سبيل زيادة، وهو عمل كثير لا يفرغ منه إلا في أشهر كثيرة.
ولا بد من تنافس في الشرف وبخاصة إن كان الأمر يتعلق بأعمال الكعبة المشرفة لدى خليفة المسلمين، فأدلى جماعة من حجبة الكعبة بدلوهم، مناقضين بعض الشيء ما ذكره الوالي وصاحب الخبر، قال الأزرقي: فأرسلوا إلى أمير المؤمنين المتوكل رقعة ذكروا فيها أن ما كتب به العامل بمكة من ذكر الرخام المتكسر في أرض الكعبة لم يزل على ما هو عليه، وأن ذلك لكثرة وطء من يدخل الكعبة من الحاج والمعتمرين والمجاورين وأهل مكة، وأنه لا يرزأها ولا يضرها، وأنه ليس في جدراتها من الرخام المتزايل، ولا على ظهرها من الكسوة ما يخاف بسببه وهن ولا غيره.
ثم قدم الحجبة اقتراحاتهم الإضافية فقالوا: إن زاويتين من زوايا الكعبة من داخلها ملبَّستان ذهبا وزاويتين فضة، وأن ذلك لو كان ذهبا كله كان أحسن وأزين، وأن قطعة فضة مركبة على بعض جدرات الكعبة شبه المنطقة، أي شبه إطار، فوق الإزار الثاني من الرخام، تحت الإزار الأعلى من الرخام المنقوش المذهب في زيق في الوسط فيه الجزعة التي تستقبل من توخى مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك القطعة في الزيق مبتدأ منطقة كانت عملت في خلافة الأمين محمد بن الرشيد عملها سالم بن الجراح أيام عمل الذهب على باب الكعبة، ثم جاء خلع الأمين قبل أن يتم فوقف عن عملها، ولو كان بدل تلك القطعة منطقة فضة مركبة في أعلى إزار الكعبة في تربيعها كان أبهى وأحسن، وأن الكرسي المنصوب المقعد فيه مقام إبراهيم عليه السلام ملبس صفايح من رصاص، ولو عمل مكان الرصاص فضة كان أشبه به وأحسن وأوثق له.
ورفع الحجبة أيضا رقعة إلى أمير المؤمنين يذكرون له أن العامل بمكة، أي الوالي، إن تسلط على أمر ترميم الكعبة أو كانت له في المشروع يد لم يؤمن أن يعمد إلى ما كان صحيحا و يتعلل فيه فيخربه أو يهدمه، ويحدث في ذلك أشياء لا تؤمن عواقبها، يطلب بذلك ضررهم، وأنهم لا يأمنون ذلك منه.
وأصدر الخليفة المتوكل أمره بعمل كل هذه المقترحات، وأمر بإرسال كتاب إلى العامل بمكة في جواب ما كان هو وصاحب البريد كتبا به، أن أمير المؤمنين قد أمر بتوجيه إسحاق بن سلمة الصايغ للوقوف على تلك الأعمال، ورد الأمر فيها إلى إسحاق ليعمل بما فيه الصلاح والإحكام إن شاء الله تعالى.
وإسحاق بن سلمة الصائغ، الذي اختاره الخليفة مديراً لهذا المشروع، هو شيخ له معرفة بالصناعات ورِفق وتجارب، ووجه معه من الصناع من تخيرهم إسحاق بن سلمة من صناعات شتى من الصياغ والرخاميين وغيرهم من الصناع نيفا وثلاثين رجلا، ومن الرخام الألواح الثخان ليشق كل لوح منها بمكة: لوحين ومئة لوح، ووجه معه بذهب وفضة وآلات لشق الرخام ولعمل الذهب والفضة. وإرسال الخليفة اللوح ليشق في مكة لوحين، هو لوضع هذين اللوحين بجانب بعضهما، فيصبحان متناظرين ويبدوان كأنهما صفحتين متجاورتين في كتاب مفتوح، كما هو معمول به في كثير من المشاريع الهندسية الكبيرة والفخمة.
فقدم إسحاق بن سلمة الصائغ بمن معه من الصناع والذهب والفضة والرخام والآلات، ووصل مكة في التاسع والعشرين من رجب سنة 241، ومعه كتاب منشور، مختوم في أسفله بخاتم أمير المؤمنين إلى العامل بمكة وغيره من العمال بمعاونة إسحاق بن سلمة ومكانفته على ما يحتاج إليه من ترويح هذه الأعمال، وأن لا تجعلوا على أنفسهم في مخالفة ما أمروا به من ذلك سبيلا.
وباشر إسحاق بن سلمة عمله في شعبان، بعد قدومه مكة بأيام، فدخل الكعبة المشرفة ودخل معه العامل بمكة وصاحب البريد وجماعة من الحجبة، وناس من أهل مكة من صلحائهم من القرشيين، وجماعة من الصناع الذين قدم بهم معه، وأحضر منجنيقا طويل الصفة إلى جانب الجدر الذي يقابل من دخل الكعبة، وصعد عليه إسحاق بن سلمة ومعه خيط وسابورة، فأرسل الخيط من أعلى المنجنيق وهو قائم عليه، ثم نزل وفعل ذلك بجدراتها الأربعة، فوجدها كأصح ما يكون من البناء وأحكمه، فسأل الحجبة: هل يجوز التكبير داخل الكعبة؟ فقالوا: نعم. فكبر وكبر من حضره داخل الكعبة، وكبر الناس ممن في الطواف وغيرهم من خارجها، وخر من في داخل الكعبة جميعا سُجَّدا لله وشكرا، وقام إسحاق بن سلمة بين بابي الكعبة، فأشرف على الناس، وقال: يا أيها الناس احمدوا الله تعالى على عمارة بيته، فإنا لم نجد فيه من الحدث مما كتب به إلى أمير المؤمنين شيئا، بل وجدنا الكعبة وجدرانها وإحكام بنائها وإتقانها على أتقن ما يكون.
ولما اطمأن إسحاق بن سلمة إلى سلامة الكعبة من الناحية العمرانية، باشر في الأعمال التجميلية، وابتدأ عمل الذهب والفضة والرخام في الدار المعروفة بخالصة في دار الخزانة عند الخياطين ناحية أجياد، وعمل إسحاق الذهب على زاويتي الكعبة من داخلها مكان ما كان هنالك من الفضة ملبسا، وكسر الذهب الذي كان على الزاويتين الباقيتين وأعاد عمله، فصار ذلك أجمع على مثال واحد منقوشة مؤلفة ناتئة، وعمل نطاقاً من فضة وركبها فوق إزار الكعبة في تربيعها كلها، منقوشة مؤلفة جليلة ناتئة، عرض النطاق ثلثي ذراع، وعمل طوقا من ذهب منقوش متصلا بهذه المنطقة، فركبه حول الجزعة التي تقابل من دخل من باب الكعبة فوق الطوق الذهب القديم الذي كان مركبا حولها من عمل الوليد بن عبد الملك، وكره أن يقلع ذلك الطوق الأول لسبب تكسر خفي في الجزعة، فتركه على حاله لئلا يحدث في الجزعة حادث.
وقلع الرخام المتزايل من جدرات الكعبة، وكان يسيرا رخامتين أو ثلاثا، وأعاد نصبه كله بجص صنعاني كان كتب فيه إلى عامل صنعاء، فحمل إليه منه جص مطبوخ صحيح غير مدقوق اثنا عشر حملا، فدقه ونخله وخلطه بماء زمزم ونصب به هذا الرخام، وفي أعلى هذا المنطقة الفضة رخام منقوش محفور، فألبس ذلك الرخام ذهبا رقيقا من الذهب الذي يتخذ للسقوف، فصار كأنه سبيكة مضروبة عليه إلى موضع الفسيفساء التي تحت سقف الكعبة.
وغسل الفسيفساء بماء الورد وحُمَاض الأُترج، ونقض ما كان من الأصباغ المزخرفة على السقف وعلى الإزار الذي دون السقف فوق الفسيفساء، ثم ألبسها ثياب قَباطي أخرجها إليه الحجبة مما عندهم في خزانة الكعبة، وألبس تلك الثياب ذهبا رقيقا وزخرفه بالأصباغ.
وكانت عتبة باب الكعبة السفلى قطعتين من خشب الساج قد رثتا ونخرتا من طول الزمان عليهما، فأخرجهما وصير مكانها قطعة من خشب الساج، وألبسها صفايح فضة من الفضة التي كانت في الزاويتين التي صير مكانهما ذهبا ولم يقلع في ذلك باب الكعبة، وحرفا فأزيلا شيئا يسيرا، وهما قائمان منصوبان.
وكان في الجدر الذي في ظهر الباب يمنة من دخل الكعبة رزَّة وكُلاّب من صَفْر يشد به الباب إذا فتح بذلك الكلاب لئلا يتحرك عن موضعه، فقلع ذلك الصفر، وصير مكانه فضة، وألبس ما حول باب الدرجة فضة مضروبة.
ووجد إسحاق داخل الكعبة هلالين أرسلهما في سنة 101 الخليفة الأموي الوليد بن يزيد، ومكتوب عليهما: : بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبد الله الخليفة الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في سنة إحدى ومائة.
وكان الرخام الذي قدم به معه إسحاق رخاما يسمى المُسَيَّر، ولعل ذلك لوجود خطوط كالسيور فيه، وكان غير مشاكل لما كان على جدران الكعبة من الرخام، فشقه وسواه وقلع ما كان على جدران المسجد الحرام في ظهر الصناديق التي يكون فيها طيب الكعبة وكسوتها من الرخام، وقلع الرخام الذي كان على جدر المسجد الذي بين باب الصفا وبين باب السمانين، واسم ذلك الرخام البذنجنا، ونصب الرخام المُسَيَّر الذي جاء به مكانه على جدرات المسجد.
وأنزل المعاليق المعلقة بين الأساطين، ونفضها من الغبار، وغسلها وجلاها، وألبس عمدها الحديد المعترضة بين الأساطين ذهبا من الذهب الرقيق، وأعاد تعليقها في مواضعها على التأليف.
وأخذ إسحاق بن سلمة بتحسين مقام إبراهيم عليه السلام، فجعل الفضة على كرسي المقام مكان الرصاص الذي كان عليه، واتخذ له قبة من خشب الساج مقبوة الرأس بضِباب قد جعلها لها من حديد ملبسة الداخل بالأَدم، أي الجلد، وكانت القبة قبل ذلك مسطحة، ودخل في ذلك من الفضة آلاف الدراهم.
وكان إسحاق بن سلمة قد باشر كذلك أعماله في منى، وكان أولها عمل ضفيرة تتخذ ليرد سيل الجبل عن المسجد ودار الإمارة، فاتخذ هناك ضفيرة عريضة مرتفعة السمك وأحكمها بالحجارة والنورة والرماد، فصار ما ينحدر من السيل يتسرب في أصل الضفيرة من خارجها ويخرج إلى الشارع الأعظم بمنى، ولا يدخل المسجد ولا دار الإمارة منه شيء، وصار ما بين الضفيرة والمسجد، وهو عن يسار الإمام رفقا للمسجد وزيادة في سعته.
ثم هدم مسجد الخيف وما كان من دار الإمارة مستهدما وأعاد بناءه، ورمَّ ما كان مسترما، وأضاف إليه ست ظُلل، وأحكم العقبة وجدرانها، وأصلح الطريق التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى الشِعْب ومعه العباس بن عبد المطلب، الذي يقال له : شعب الأنصار، الذي أخذ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على الأنصار، وكانت هذه الطريق قد عفت ودرست.
وكانت الجمرة زايلة عن موضعها، أزالها جهال الناس برميهم الحصى، وغُفل عنها حتى أزيحت عن موضعها شيئا يسيرا منها من فوقها، فردها إلى موضعها الذي لم تزل عليه، وبنى من ورائها جدارا أعلاه، ومسجدا متصلا بذلك الجدار لئلا يصل إليها من يريد الرمي من أعلاها، وإنما السنة لمن أراد الرمي أن يقف من تحتها من بطن الوادي، فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، ويرمي كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده.
وعمل إسحاق بن سلمة عدداً من البِرك التي سير إليها الماء ليشرب منها الناس، وأحكم عملها، ومنها بركة عند ثنية الحصحاص على طريق التنعيم، وبنى حائطاً ليصرف ماء فخ إليها، وجعل لها مجرى من هذا التجمع ليصب فيها.
وفرغ إسحاق بن سلمة من أعمال الكعبة و أعمال منى، يوم النصف من شعبان سنة 242، وأحضر الحجبة في ذلك اليوم أجزاء القرآن، وهم جماعة فتفرقوها بينهم وإسحاق بن سلمة معهم حتى ختموا القرآن، وأحضروا ماء ورد ومسكا وعودا وسُّكا مسحوقا، فطيبوا به جدران الكعبة وأرضها، وأجافوا بابها عليهم عند فراغهم من الختمة، فدعوا، ودعا من حضر الطواف، وضجوا بالتضرع والبكاء إلى الله، ودعوا لأمير المؤمنين ولولاة عهود المسلمين ولأنفسهم ولجميع المسلمين، فكان يومهم ذلك يوما شريفا حسنا.
قال أبو الوليد الأزرقي: وأخبرني إسحاق بن سلمة الصائغ أن مبلغ ما كان في الأربع الزوايا من الذهب والطوق الذي حول الجزعة، نحو من ثمانية آلاف مثقال، تعادل 34 كيلو، وأن ما في نطاق الفضة وما كان على عتبة الباب السفلى من الصفايح وعلى كرسي المقام من الفضة، نحو من سبعين ألف درهم، تعادل 210 كيلو، وما ركب من الذهب الرقيق على جدرات الكعبة وسقفها، نحو من مائتي حق يكون في كل حق خمسة مثاقيل، تعادل 4.25 كيلو، وخلط إسحاق بن سلمة ما بقي لديه مع هذا الجص الصنعاني، وما قلع من أرض الكعبة من الرخام المتكسر مما لا يصلح إعادته في شيء من العمل، وثلاثة حقاق من هذا الذهب الرقيق، وجراب فيه تراب مما قشر من جدرات الكعبة، ومسامير فضة صغار، وتركه لدى الحجبة لما عسى أن يحتاجوا إليه لها، وانصرف بعد فراغه من الحج في آخر سنة 242.
قال إبراهيم عليه السلام: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع. فمكة المكرمة تقع في وسط جبال كثيرة فهي عرضة للسيول كلما هطل المطر الموسمي غزيراً، وهي ظاهرة تحدث كل بضع سنوات، والحرم المكي في وسطها، ولذا نجد المؤرخين يذكرون أنه في سنة 253 أي بعد حوالي 10 سنوات من هذا السيل الذي ذكرنا بعشر سنوات، جاء سيل فدخل المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة، وبلغ قريبا من الركن الأسود، ورمى بالدور بأسفل مكة، وذهب بأمتعة الناس، وخرب منازلهم، وملأ المسجدَ غثاءُ السيل وترابه، حتى جرَّ ما في المسجد من التراب بالعجل، وتولى ذلك من عمارته عيسى بن محمد المخزومي، وهو يومئذ والي مكة.
ولم يقتصر عمل إسحاق بن سلمة على الحرم المكي، بل إن الخليفة المتوكل أرسله من العراق في مهمة عمرانية شملت الحرمين المكي والمدني، وذلك لأن الكتب التي تتحدث عن تاريخ الحرمين تذكر أنه أمر إسحاق بن سلمة بأن يجعل للحجرة النبوية إزاراً من رخام، وأن يفرش محيطها كذلك بالرخام، وإن هذا الإزار استمر حتى سنة 548 عندما أمر الخليفة المقتفي بتجديده، فجدده جمال الدين الأصفهاني وجعل ارتفاع الرخام بمقدار قامة وزيادة.
ولم يكن هذا أول أعمال الترميم والتحسين في المسجد الحرام ومشاعر الحج، فقد تتابعت عليه من قبل جهود الخلفاء الأمويين والعباسيين، وتتابعت عليه من بعد من أعقبهم من الدول، وهو اليوم محط اهتمام الدولة السعودية في توسعته أضعافاً مضاعفة وتحسين عمرانه وتجميله، ليتسع للملايين المتزايدة من الحجاج والمعتمرين، ولتمكينهم من أداء مناسكهم في يسر وأمان.
ولا يفوتنا أن نذكر أن أول توسعة رئيسة كانت في سنة 161 بأمر الخليفة العباسي المهدي، ولما حج هو سنة 167 رأى أن التوسعة التي نُفِّذت بها تعويج، وأصبحت الكعبة في طرف من المسجد، وكانت تقديرات المهندسين الذي استشارهم بصعوبة بل استحالة ذلك بسبب السيول العارمة في مكة المكرمة ولكون الحرم في بطن الوادي، فقال لهم المهدي: لا بد لي من أن أوسعه حتى أوسط الكعبة في المسجد على كل حال، ولو أنفقتُ فيه ما في بيوت الأموال. وأمر بشراء دور كثيرة من جهة أجياد لتُدخل في الحرم، فاشتريت بثمن كثير، وتم إنجاز الأمر على ما أراد وأصبحت الكعبة المشرفة في وسط المسجد الحرام.
اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة

الثلاثاء، 27 مايو 2014

حدث في الثاني والعشرين من رجب



في الثاني والعشرين من رجب من سنة 1239، الموافق 23 آذار/مارس 1824، وقعت بريطانية مع هولندة اتفاقاً عرف بالمعاهدة الإنجليزية الهولندية لعام 1824، عالجتا فيها الخلافات الناجمة من تنفيذ المعاهدة الإنجليزية الهولندية التي وقعها البلدان سابقاً في عام 1814، ووقع الاتفاق وزير الخارجية البريطاني اللورد جورج كانينغ George Canning، والذي سيصبح فيما بعد رئيس الوزراء، والسفير الهولندي أنطون فالك Anton Falck.

ونتج عن المعاهدة أن اقتسم البلدان قسمة رسمية ومحددة مناطق النفوذ في الملايو وجاوة، وبشكل عام صارت الملايو تحت النفوذ البريطاني، وجاوة وسومطرة تحت النفوذ الهولندي، ورسمت الاتفاقية حدود دولتي ماليزية وأندونيسية في المستقبل.

ويعود الوجود الأوربي في الملايو وجاوة إلى سنة917=1511، حين جاء البرتغاليون وأسسوا مستعمرتهم في مالقة، وتحكموا بتجارة التوابل منها إلى أوربا، وكان البرتغاليون يوزعون توابلهم في شمالي أوربة عبر ميناء أنتورب، في بلجيكة اليوم، وكان يقع آنذاك ضمن هولندة التي كانت شبه مستعمرة أسبانية.

وثارت هولندة على الوجود الأسباني، وانجلى عام 1591 عن نجاح الثورة الهولندية وإعلان استقلال الجمهورية الهولندية، ودخولها الحرب مع أسبانية، وكانت إحدى العقوبات التي أوقعتها بها البرتغال، حليفة أسبانية، أن جعلت توزيع التوابل عبر التجار الألمان والأسبان والإيطاليين الذين كانوا يستخدمون ميناء هامبورج الألماني، فخسر التجار الهولنديون مصدر رزقهم من أربح التجارات في ذلك العصر.

ونتج عن إخراج التجار الهولنديين تقصير في توريد التوابل فارتفعت أسعارها، وصارت التجارة فيها مجزية ومغرية أكثر من ذي قبل، فقرر التجار الهولنديون أن يجلبوا التوابل من مصادرها الأصلية بأنفسهم وعلى سفنهم، وأرسلوا في سنة 1595 أربع سفن إلى جاوة لاستكشاف الوضع وشراء التوابل، وعادت السفن بعد سنة وقد خسرت بعض ملاحيها في اشتباكات مع البرتغاليين والسكان الأندونيسيين، ولكن حمولتها من التوابل كانت وفيرة الربح.

وتتابع إرسال السفن بين إخفاق ونجاح، وفي سنة 1599 قام أسطول صغير من ثمانية سفن بشراء التوابل مباشرة من الجزر متجاوزين الوسطاء الجاويين وحققت الواردات  أرباحاً بلغت أربعة أضعاف التكاليف.

وكان السكان المسلمون لا يفتؤون في مقاومة الوجود البرتغالي الكافر، فاتفقوا مع الهولنديين في سنة 1600 على أن يجتمعوا على طرد البرتغاليين من جزيرة أمبون الأندونيسية مقابل أن يحصروا مبيعاتهم من التوابل في الهولنديين فقط.

وفي تلك الأثناء تكونت في هولندة شركة الهند الشرقية الهولندية في سنة 1602 كشركة احتكارية تزاول التجارة في جنوبي شرقي آسيا، وذلك لأن شركة احتكارية أخرى، وهي شركة الهند الشرقية الإنجليزية، كانت قد تأسست في بريطانية سنة 1600، وأوشكت بقوتها وإمكانياتها أن تودي بالتجارة الهولندية التي كانت قائمة على عديد من الشركات الصغيرة، فسعت الحكومة الهولندية وجمعت التجار في شركة الهند الشرقية المتحدة، وأعطتها حق احتكار التجارة الآسيوية، وصدر مرسوم بتأسيس الشركة يخولها ببناء الحصون وتكوين الجيوش وعقد الاتفاقيات مع الحكام الآسيويين.

وأسست الشركة أول موقع تجاري دائم لها في أندونيسيا سنة 1603 في باتافيا، وفي سنة 1610 استحدثت منصب الحاكم العام ليدير شؤونها في آسية، وأنشأت مجلس إدارة ليراقب ويشرف على الحاكم العام، وفي سنة 1611 اشتبك أسطول الشركة المتحالف مع سلطان جوهور في جنوب الملايو مع البرتغاليين في مالقة في معركة عنيفة انجلت عن خسارة الهولنديين، ولكنها رفعت مكانتهم لدى سلطان جوهور ووطدت تحالفهم معه، فاستطاعوا تقليص الوجود البرتغالي شيئاً فشيئاً حتى أنهوه في سنة 1641.

وفي سنة 1611 أنشأت شركة الهند الشرقية الهولندية موقعا تجارياً آخر في جاكارتة، وهذه المواقع هي مستودعات ضخمة يتم فيها تخزين التوابل وفرزها وتنقيتها وتعليبها تمهيداً لشحنها، وكان للشركة مواقع أخرى على سواحل إيران والهند وسيلان والبنغال وجزر موريشوس.

ولم يكن الإنجليز بعيدين عن هذه التجارة المربحة، فقاموا بإنشاء مواقع تجارية لهم في جزر جاوة وسومطرة في سنوات 1611-1617، وهددوا بذلك احتكار الهولنديين الذين لم يخفوا عداءهم للمنافس العتيد، وفي سنة 1620 اتفقت الحكومتان في أوروبة على التعاون، إلا أن تنفيذ ذلك لم يستمر طويلاً في الجزر البعيدة، وقام الهولنديون في سنة 1623 بتدمير المعسكر البريطاني في أمبوينة وقتلوا عدداً من الإنجليز، ونتج عن ذلك في أوروبة فيض من رسائل الاحتجاج والاتهامات والردود عليها بين الخارجية البريطانية وبين الحكومة الهولندية، ولكن الإنجليز على أرض الواقع في أندونيسية انسحبوا بهدوء من كل مواقعهم خلا موقعاً في بانتام.

وتوسعت شركة الهند الشرقية الهولندية فشملت تجارتها الصين واليابان، وبحلول عام 1669 أصبحت أغنى شركة خاصة في العالم، فقد كانت تملك 150 سفينة تجارية، ولديها 50.000 موظف، و40 سفينة حربية يدعمها جيش من 10.000 جندي، ووزعت أرباحاً بلغت 40% من المبلغ المستثمر، وبلغت الشركة أوجها في سنة 1720 عندما أصبح أسطولها يضم 642 سفينة.

ولكل شيء إذا ما تم نقصان، وقد أدرك النقصان شركة الهند كذلك، لأسباب عدة منها ما يتعلق بالشركة وسياساتها التجارية والمالية، ومنها ما يتعلق بالأحوال السياسية والبلدانية من حولها، فأصبحت في حالة ضعف واضحة بحلول سنة 1780، ثم أصبحت على شفا الإفلاس فتدخلت الحكومة الهولندية وأممتها في سنة 1796، وكان نابوليون قد غزا هولندة في سنة 1795 وجعلها دولة تابعة لفرنسة، فقامت بريطانية التي كانت على حرب مع فرنسة باحتلال معظم مواقع هولندة التجارية في العالم، ومنها تلك التي في الملايو وجاوة، وقامت الحكومة الهولندية بتصفية شركة الهند الشرقية الهولندية في سنة 1800، وجعلت أملاكها في البلدان الشرقية جزءاً من أراضي الدولة الهولندية.

وفي سنة 1811 احتل البريطانيون جزيرة جاوة، ولما تحررت هولندة في سنة 1813 من الربقة الفرنسية، تفاوضت مع بريطانية  على إعادة هذه المناطق، وتوصلت الدولتان لاتفاق في سنة 1814، عرف بالمعاهدة الإنجليزية الهولندية لعام 1814، التي قضت أن تعيد بريطانية لهولندة ما احتلته من مناطق ومستعمرات باستثناء مستعمرة رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقية ومستعمرة جايانا في أمريكة الجنوبية، وتنازلت هولندة لبريطانية عن بعض مستعمراتها في الهند مقابل تعويض مالي، ومقابل تنازل بريطانية لها عن جزيرة بانكا في سومطرة.

وتابعت بريطانية توسعها في الملايو بواسطة شركة الهند الشرقية الإنجليزية، رغم المضايقات الهولندية لها، وكانت تعليمات إدارة الشركة لمندوبيها تقضي ألا يدخلوا في خصومة مع الهولنديين، ولكن مندوبها ستامفورد رافلز قام في سنة 1819 بتأسيس مرفأ في جزيرة سنغافورة التابعة للسلطان عبد الرحمن سلطان جوهور، وجرى ذلك بطريقة ينبغي ذكرها، فقد كان والي سنغافورة مستعداً لبيع الأراضي للشركة لتقيم عليها مرفأها ومستودعاتها، ولكنه لم يكن مخولاً بذلك من السلطان عبد الرحمن، وحيث إن السلطان كان خاضعاً للنفوذ الهولندي، فقد قرر رافلز أن ينصب سلطاناً آخر يتعاون معه، فجاء بأخ للسلطان يدعى حسين، وقع معه على اتفاق بيع الأراضي، واحتج الهولنديون على ذلك إلى إدارة الشركة في لندن، وأقرت الشركة أن رافلز قد خالف تعليماتها، ولكنها لم تنسحب من سنغافورة وبقيت الأمور كذلك حتى معاهدة لندن لعام 1824.

ونعود إلى معاهدة 1824، ونورد أهم ما اتفقت عليه بموجبها بريطانية وهولندة:

·        السماح لمواطني الدولتين بالاتجار في الهند وسيلان وجاوة وسومطرة والملايو، مع منحهم حق المعاملة الأفضل، وحددت المعاهدة الرسوم التي يمكن تقاضيها من تجار وسفن الدولتين.

·        اتفقت الدولتان على ألا تستخدما الوسائل العسكرية أو المدنية لإعاقة التجارة الحرة، وألا تقوم إحداها بعقد اتفاقات مع دول الهند الشرقية تتضمن استبعاد التجارة مع الدولة الأخرى، وأن تتعاونا على مكافحة القراصنة، وألا تقدما أية تسهيلات رسو أو حماية لهم، وألا تسمحا ببيع البضائع المسلوبة في المناطق الخاضعة لهما.

·        تنازلت هولندة لبريطانية عن كل مستعمراتها وموانئها في شبه القارة الهندية وسيلان وكل ما يتعلق بها من حقوق.

·        تنازلت بريطانية لهولندة عن كل مواقعها في جزر سومطرة وجاوة وبورنيو باستثناء شمال سارواك، وتعهدت ألا تقوم بتأسيس أية مواقع في الجزر الصغيرة التابعة لهذه الجزر.

·        تنازلت هولندة لبريطانية عن شبه جزيرة الملايو بما في ذلك مدينة وحصن مالقة، وتعهدت ألا تقوم بعقد أية اتفاقات مع حكام الملايو.

·        سحبت هولندة معارضتها لاحتلال بريطانية لجزيرة سنغافورة، كما سحبت بريطانية معارضتها لاحتلال هولندة لجزيرة بيليتون.

وهكذا نرى أن المعاهدة رسمت حدود 3 دول مسلمة هي أندونيسيا وماليزيا وبروناي، وفتحت الطريق أمام بروز سنغافورة كأقوى ميناء في المنطقة، لأن البريطانيين فتحوه أمام كل التجار والسفن دون تمييز أو تفضيل، بما في ذلك سفن شركة الهند الشرقية الإنجليزية.

وإضافة إلى سنغافورة قسَّم البريطانيون الملايو إلى قسمين من الناحية الإدارية: ولايات يتمتع السكان فيها بقدر من الحكم الذاتي، ومستعمرات تتبع حكومة الهند وتشمل سنغافورة ومالقة وبينانغ وديندينغ، وفي سنة 1867 جعلتها بريطانية من مستعمرات التاج البريطاني التي تديرها وزراة المستعمرات في لندن، وكانت هذه المستعمرات منافي لكثير من المجرمين والمنفيين من الهند.

وبعد اتفاقية 1824 خلا الجو للدولتين لمتابعة هيمنتهما على المناطق المقتسمة، فتابع الهولنديون توسعهم في سومطرة وجاوة، وفي سنة 1825 شن الأمير ديبونيغورو حرباً لإجلائهم من جاوة حققت انتصارات جيدة في البداية، ولما طال أمد القتال مدة 5 سنوات بدأ أنصاره ينفضون من حوله، وسقطت معاقله بأيدي الهولنديين، فلجأ إلى شن حرب عصابات استمر فيها حتى استسلامه  سنة 1830، وسقط في هذه المعارك 15000 جندي هولندي و200000 قتيل جاوي.

أما بريطانية في الملايو فقد تركت إماراتها أو دويلاتها على حالها دون تدخل في شؤونها، ولكن اكتشاف معدن القصدير في الملايو جلب الاستثمارات البريطانية في استخراجه وتعدينه، وتنازع الزعماء المحليون على الثروة الجديدة، وتطور نزاعهم إلى معارك هددت استخراجه وأطاحت بالاستثمارات البريطانية، فوقعت بريطانية مع أغلب هذه الدويلات اتفاقاً يقضي بتعيين مقيم بريطاني يكون مستشاراً لحكوماتها، وانتهى الأمر بأن وقع البريطانيون معاهدة بانكور في عام 1874 مع عدد من زعماء الملايو وافقوا فيها على أن يكون للمقيم البريطاني القرار في إدارة شؤون مناطقهم إلا ما يتعلق بأمور الدين والتقاليد، وبالتدريج انضوت تحت هذا الترتيب كل الإمارات طوعاً أو كرها، لتشكيل الولايات الملاوية المتحدة، والتي ضمت إليها بريطانية بعض المناطق المسلمة من مملكة سيام، وهي تايلند اليوم.

واتجهت بريطانية كذلك للسيطرة على جزيرة بورنيو وإمارة بروناي الواقعة فيها، وبحلول 1910 كانت قد بسطت سلطانها على كل الملايو، وكانت الإدارة البريطانية معنية بالناحية الاقتصادية أساساً وبخاصة سلامة الاستثمارات والاحتكارات البريطانية، وهي التي أدخلت إلى ماليزيا زراعة شجر المطاط من البرازيل سنة 1877، ومن بعده شجر زيت النخيل، ولذا تركت بريطانية للولاة أو الأمراء المحليين كثيراً من السلطات ولم تتدخل في أمورهم، ولكنها أدخلت عنصراً أدى إلى ظهور النزعة الوطنية ذات الصبغة الإسلامية في الملايو.

ذلك إن مزارع المطاط والنخيل كانت تتطلب أيد عاملة كثيرة ودؤوبة، ولم يعتقد البريطانيون أن ذلك متوفر في أهل الملايو، فجلبوا العمال من الصين بأعداد كبيرة استقرت في البلاد، وما لبثت هذه الجالية أن توطنت وأنشأت المدارس والمعابد، وبسبب تعاونهم وتعاضدهم وخبرة بعضهم في الصين قبل قدومه، أصبحت مقاليد الاقتصاد في الملايو بيد الصينين، فقد كانوا من أوائل العاملين في مجالات البنوك والتأمين.

وفي سنة 1939 نشبت الحرب العالمية الثانية بين دول المحور؛ ألمانية وإيطالية واليابان، وبين الدول الحليفة؛ فرنسة وبريطانية وأمريكة وروسية، فغزت اليابان الهند الشرقية واحتلت كل جزر أرخبيل الملايو، وشهدت مناطق الملايو مقاومة للاحتلال الياباني تمثلت في حرب عصابات دربتها ومولتها بريطانية، وشارك فيها الملاويون دفاعاً عن أرضهم، والسكان الصينيون وذلك رداً على احتلال اليابان للصين، وكذلك الحزب الشيوعي في الملايو تضامناً مع روسية الشيوعية، واستمرت المقاومة طيلة الحرب ورد عليها اليابانيون بأعمال انتقامية كانت عشوائية في غالبها.

وفي سنة 1944 خططت بريطانية لتجمع ولايات الملايو في كيان واحد على صورة مستعمرة تتبع التاج البريطاني، وأيد الخطة سلاطين الملايو، ثم عارضوها لما تبين أنها تتضمن منح الصينين جنسية الكيان الجديد، وكان ذلك مكافأة لهم إذ اعتبر البريطانيون أن الصينين كانوا أكثر ولاء من الملاويين أثناء الحرب، وإزاء هذه المعارضة عدلت بريطانية مخططها، فأنشأت في عام 1948 اتحاد الملايو الذي منح الحكم الذاتي لولايات الملايو مع الحماية البريطانية.

وفي هذه الأثناء ظهر خطر جديد هو حزب الملايو الشيوعي الذي كان على علاقة وثيقة بالصين الشيوعية، والذي نادى بحرب التحرير الشعبية لإنشاء دولة شيوعية في الملايو، وشكل جيشاً كله من الصينين قوامه 13000 مقاتل، انسحبوا إلى الأدغال وشنوا منهاحرب عصابات ضد البريطانيين ثم حكومة ماليزيا لم تنته إلا في سنة 1960، وكانت إحدى حلقات الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي.

وفي ظل هذه الأجواء جرى الاتفاق على استقلال اتحاد الملايو، وأعلنت دولة مستقلة في 31 آب/أغسطس 1957، وتسنم تنكو عبد الرحمن رئاسة أول وزارة لها، وسعى حثيثاً لتشكيل دولة ماليزيا  التي ستتكون من الملايو وسارواك وبورنيو الشمالية وسنغافورة، وتكللت مساعيه بالنجاح بعد عقبات عديدة، وذلك حين أعلن عن تشكيل دولة ماليزيا الاتحادية في 16 أيلول/سبتمبر سنة 1963، على هيئة نظام ملكي دستوري، ينتخب ملكها كل 5 سنوات من بين حكام ولاياتها التسع، بيد أن سنغافورة ما لبثت أن انفصلت عن ماليزيا بعد سنتين لتصبح دولة مستقلة يغلب عليها العنصر الصيني.

نعود إلى أندونيسيا، ففي سنة 1873 شن الهولنديون حرباً على إمارة آشِه الإسلامية في شمال أندونيسيا، وذلك إن سلطانها بدأ محادثات في سنغافورة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فاعتبرت هولندة ذلك اعتداءً على مصالحها وشنت حملة باءت بالفشل وقتل قائدها، وطور السلطان جيشه مقلداً الهولنديين في التنظيم والتكتيك، فنجح واستمر في المقاومة، فقررت السلطات الهولندية سنة 1880  أن تكف عن تسيير الحملات مكتفية بالدفاع عن مواقعها المحدودة في آشه، وحاولت سياسة فرق تسد فجندت زعيماً محلياً اسمه توكو عمر وأمدته بالمال والسلاح لينظم جيشاً تحارب به سلطان آشه، ولكن ما أن اشتد ساعد عمر بعد سنتين حتى انقلب وهاجم القوات الهولندية.

واستعانت هولندة بالمستشرق سنوك هرخرونيه من جامعة لايدن، المولود سنة 1857 والمتوفى سنة 1936، والذي دخل آشه بصفة باحث مسلم وحاز على ثقة زعمائها، وكتب توصياته السرية لحكومة هولندة باستمالة الزعماء ممن هم تحت السلطان وإغراءهم ومساعدتهم على الاستقلال عنه، وقال إن طبقة العلماء المسلمين لن تقبل أبداً بالحكم الهولندي، ولذا فلا ينبغي الثقة بها أبداً بل يجب القضاء عليها، واتبعت هولندة توصياته، وتبنت كذلك سياسة الأرض المحروقة فدمرت القرى وقتلت أهلها، واستطاعت في عام 1903 إخضاع آشه بعد أن أوقعت بأهلها ما بين 50000 إلى 100000 قتيل وأكثر من مليون جريح.

واتجهت هولندة بعدها في سنة 1906 لاحتلال شبه جزيرة بالي في جنوب أندونيسيا، وقاومها أهلها، وأغلبهم من غير المسلمين، في حرب ضارية غير متكافئة قدموا فيها كثيراً من التضحيات، وقاتل آخر حاكم لبالي حتى قتل في سنة 1908.

وفي سنة 1912قامت حركة وطنية أندونيسية مقرها سورابايا في جاوة تهدف لإنهاء الاستعمار الهولندي، وهي الجمعية الإسلامية المعروفة باسم شركة إسلام، وهو تعبير عن مصطلح الاتحاد الإسلامي، وتلتها في نفس السنة حركة منافسة اسمها الحركة المحمدية أسسها أحمد دحلان، كانت تميل إلى تعديل التعاليم الإسلامية مسايرة للغرب في التقدم والتمدن، وفي سنة 1926 أسس هاشم أشعري حركة ندوة العلماء التي هدفت أن تعود بأندونيسيا للإسلام الصحيح من منابعه الأصلية.

وفي سنة 1941 أعلنت هولندا الحرب على اليابان، فغزت اليابان الهند الشرقية الهولندية، واستسلمت القوات الهولندية، ورحب الأندونيسيون باليابانيين واعتبروهم محرريهم من ربقة الاحتلال الهولندي، وقام اليابانيون بتغيير كل ما أنشأته هولندة من الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية واستبدلوا بها الأنظمة اليابانية، وشجعت اليابان النزعة الوطنية الأندونيسية منادية بشعار آسية للآسيويين، وفي ظلها نشأ كثير من المؤسسات الأندونيسية الأصيلة، وحيث وضعت اليابان كل الهولنديين في معسكرات الاعتقال، فإنها استبدلت بهم الأندونيسيين ليملؤوا الفراغ الناجم في الوظائف والأعمال، فأتاحت الفرصة لكثير منهم لاكتساب المهارات اللازمة للقيادة والإدارة التي تعلموها في ظل القادة اليابانيين.

وما أن أعلنت اليابان استسلامها في سنة 1945 حتى أعلن الزعيمان سوكارنو ومحمد حتّا استقلال أندونيسيا من جانب واحد، وأعادت هولندة احتلال البلاد فقاومها الأندونيسيون في حرب عصابات من أبرز عناصرها حركة دار الإسلام في جاوة الغربية، واستمرت المطالبة بالاستقلال حتى أواخر 1949 حين اعترفت هولندة باستقلال أندونيسيا، واستغرق توحيد الجزر بعض الوقت وفي أواخر 1950 تشكلت أول وزارة لأندونيسيا المتحدة رأسها الزعيم المسلم والعالم الديني محمد ناصر، المولود سنة 1908 والمتوفى سنة 1993، وتلتها منذ أواخر سنة 1951وزارات أخرى لم تدم بسبب التدخل المستمر للعسكر في السياسة، وفي سنة 1957 أعلن سوكارنو الأحكام العرفية وبقي يحكم البلاد التي لم تتوقف فيها الاضطرابات إلى سنة 1967 حين استقال لصالح الرئيس سوهارتو، الذي حكم أندونيسيا حتى استقالته هو سنة 1997بضغط من حكومته، بعد تزايد النقمة الشعبية على الفساد الذي أنهك البلاد.
 

الجمعة، 23 مايو 2014

حدث في الخامس عشر من رجب

في الخامس عشر من رجب من سنة 854 توفي في القاهرة، عن 62 سنة، شهاب الدين ابن عرب شاه، أحمد بن محمد بن عبد الله الدمشقي الحنفي، الأديب والمؤرخ والفقيه، وصاحب الكتاب المشهور عجائب المقدور في نوائب تيمور.
ولد ابن عرب شاه في دمشق سنة 791، ويبدو أن أسرته كانت تُعنى بطلب العلم لأنه حفظ القرآن الكريم في دمشق في صغره، ثم خرج منها سنة 803 مع إخوته وأمهم وابن أخته إلى سمرقند، وذلك فيمن أجلاهم تيمور لِنك قسراً عن دمشق عند احتلاله لها، ثم جلائه عنها في ذات السنة، وكانت وفاة تيمور سنة 807.
وتابع ابن عرب شاه طلب العلم في مغتربه بسمرقند، وهي اليوم في أُزبكستان، وكان عالمها في عصره الشريف الجُرجاني، علي بن محمد، المولود ستة 740 والمتوفى سنة 816، وهو من كبار العلماء بالعربية، وله كتب في الفقه والحديث والفلك والتفسير، فحضر ابن عرب شاه دروسه العامة، ولكنه لم يأخذ عنه علماً بعينه، إلا أنه درس النحو والصرف على تلامذة الشريف الجرجاني، وكان القارئ الشهير ابن الجزري، محمد بن محمد بن محمد، المولود بدمشق سنة 751 والمتوفى بشيراز سنة 833، قد سافر مع تيمور لنك إلى ما وراء النهر، ثم استوطن شيراز، فدرس عليه فيها ابن عرب شاه الحديث وسمع عليه بعض مصنفاته في القراءات. ويذكر ابن عرب شاه أنه التقى في سمرقند في سنة 809 الشيخ عُريان الأدهمي الذي يشاع حوله أنه قد بلغ من السن 300 سنة!
ثم رحل ابن عرب شاه شمالاً في طلب العلم إلى خوارزم، ودرس فيها على مشايخ بخارى وخوارزم وعلمائها، ومنهم أحمد الواعظ بن شمس الأئمة، وكان يقال له ملك الكلام فارسياً وتركياً وعربياً.
وفي نحو سنة 813 رحل إلى مملكة القفجاق المسلمة والواقعة شمال القوقاز، وهي المملكة التي أسسها الملك أوز بك قبل قرابة 80 عاماً، فأقام فيها أربع سنوات في بلدة الحاج ترخان على مصب نهر الفولغا في بحر قزوين، وهي اليوم تدعى أستراخان، وولد ابنه عبد الوهاب أثنائها، ودرس فيها ابن عرب شاه على أحد كبار فقهاء الأحناف في تلك الربوع، وهو حافظ الدين البزازي الكَرْدَري، محمد بن محمد بن شهاب، المتوفى سنة 827، وهو صاحب الفتاوى البزازية في الفقه الحنفي، وله كتاب في مناقب أبي حنيفة، فدرس عليه الفقه الحنفي والأصول وعلوم البيان. والكردري نسبة إلى بلد كردر قرب خوارزم في شمالي تركمنستان.
ثم رحل إلى شبه جزيرة القِرِم عل البحر الأسود، وكانت تحت حكم التتار المسلمين، فاجتمع بعلمائها وأدبائها وشعرائها، ثم رحل إلى توقات في الأناضول فأقام بها نحو عشر سنوات ثم التحق ببلاط السلطان محمد ﭼلبي بن السلطان بايزيد المولود سنة 781، والذي تولى السلطنة منفرداً من سنة 816 حتى وفاته سنة 824، وتولى ابن عرب شاه ديوان الإنشاء للسلطان محمد نظراً لما كان يتمتع به من إتقان للغات العربية والفارسية والتركية والمغولية وإجادته خطوطها، وكان ديوان الإنشاء آنذاك يقوم بمراسلات السلطان في الداخل والخارج، وإضافة لديوان الإنشاء ترجم ابن عرب شاه للسلطان ولابنه السلطان مراد الثاني بعض الكتب من الفارسية إلى التركية مثل كتاب جامع الحكايات ولامع الروايات لجمال الدين محمد العوفى، وترجم له تفسير أبي الليث السمرقندي، وكتاب القادري في تعبير الأحلام، الذي ألفه نصر بن يعقوب الدينوري للخليفة العباسي القادر بالله، المتوفى سنة 397، ونقله ابن عرب شاه إلى التركية نظماً في 6 مجلدات.
ولم يمنعه علو منصبه وقربه من السلطان أن يتابع نهمه في طلب العلم، فدرس على كبار علماء الدولة العثمانية، ومنهم شمس الدين الفناري، المولود سنة 751  والمتوفى سنة 834، وكان عالماً بالفقه والمنطق والأصول، ودرس ابن عرب شاه كتاب مفتاح العلوم للسكاكي بأكمله، وهو في المعاني والبيان، على برهان الدين الخوافي، حيدر بن محمد، المعروف بالصدر الهروي، والمولود سنة 780 والمتوفى سنة 854.
ولما توفي السلطان محمد، رجع ابن عرب شاه إلى الشام، ومر بحلب ومكث فيها 4 أشهر، وفي منتصف سنة 825 دخل دمشق مسقط رأسه الذي بقي يحن إليه، ولم تنسه إياه المناصب ولا طول الفراق، وقال قصيدة في اغترابه، منها:
ألا إنني يا أهلَ جِلق منكمُ ... ومن نسبي أنساب سعد وعثمان
ومسقط رأسي في دمشق وقد مضى ... بها جُلُّ أسلافي وأهلي وإخواني
ولكنما حكم الإله بما جرى ... قضى لي بتغريب الديار فأقصاني
ودحرجني ذا الدهر في صَولجانه ... لأطوار أدوار وكثرة دوران
فقضيت غض العمر في طلب العلى ... على بُعد أوطاني وقلة أعواني
فطورا ترى بالصين سائق ناقتي ... وحينا ترى بالروم قائد هجاني
وطَورا تراني ذا ثراء وتارة ... ألوكُ الثرى فقرا وأكتم أشجاني
وفي كل أطواري تراني مُشبَّثا ... بذيل المعاني غير واهٍ ولا واني
أباكر درس العلم جُهدي وطاقتي ... وأخدمُ أهل الفضل في كل أحياني
ولم يباشر ابن عرب شاه التدريس في دمشق على نطاق واسع، بل اعتزل الناس وعزف عن المناصب والجاه، فعمل شاهداً في في أحد مساجدها، وهو عمل بمثابة معاون للقاضي لا يتفق مع منزلته، ولا تورد كتب التراجم أسماء من درسوا عليه إلا نادراً، ومن ذلك أن ابن السابق الحموي، فرج بن محمد المولود في حماة سنة 813 والمتوفى سنة 896، درس عليه قصيدة الرامزة في علمي العروض والقافية، المعروفة بالخزرجية نسبة لناظمها ضياء الدين الخزرجي، عبد الله بن محمد، المتوفى بالإسكندرية سنة 626.
ولئن اعتزل ابن عرب شاه الناس فإنه لم يعتزل طلب العلم، فنجده يقرأ على القاضي الحنبلي شهاب الدين بن الحبال صحيح مسلم في سنة 830، ولما قدم علاء الدين البخاري، محمد بن محمد، المولود سنة 779، إلى دمشق سنة 832 قافلاً من الحج، انقطع إليه ليدرس على يده الفقه والأصول واللغة العربية وغيرها، ولازمه حتى مات سنة 841.
ورحل ابن عرب شاه إلى بلاد الروم سنة 839، كما ذكر عرضاً في كتابه عجائب المقدور، ولكننا لا نعرف أسباب هذه الرحلة أو مدتها ولا ما تم فيها.
ورحل ابن عرب شاه إلى القاهرة مرات، لعل أولها كان في سنة 840، ولا توجد إشارة لسببها، والتقى في زيارته بعلمائها وطلبة العلم فيها، وعلى رأسهم ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي المولود سنة 772 والمتوفى سنة 852، وقد أشار لذلك السخاوي، وهو تلميذ ابن حجر، في ترجمته له في كتابه الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع، فقال:
وأشير إليه بالتفنن حتى كان ممن يجله ويعترف له بالفضيلة شيخنا، وأثنى على نظمه... مع حرص صاحب الترجمة حين كونه بالقاهرة على ملازمته والاستفادة منه، بل امتدحه بقصيدة بديعة... وكثر اجتماعهما وطرح شيخنا عليه من الأسئلة التي فيها من الفكاهة والمداعبة مما تعرف منه الملاءة والقدرة على التخلص منه... وكان أحد الأفراد في إجادة النظم باللغات الثلاث العربية والعجمية والتركية، جيد الخط، جيد الإتقان والضبط، عذب الكلام، بديع المحاضرة، مع كثرة التودد، ومزيد التواضع، وعفة النفس، ووفور العقل والرزانة، وحسن الشكالة والأبهة، سيما الخير ولوائح الدين عليه ظاهرة.
وكان من أدباء القاهرة المرموقين في ذلك الزمان الشهاب الحجازي، أحمد بن محمد بن علي الإنصاري، المولود سنة 790 والمتوفى سنة 875، وله رسالة فريدة فيما وقع في القرآن على أوزان بحور الشعر، فقرأها عليه ابن عرب شاه، وكتب له أبياتاً يلتمس منه الإجازة بروايتها. ونذكر للفائدة بيتين من نظم الشهاب الحجازي:
قالوا إذا لم يخلِّف ميتٌ ذكراً ... يُنسى، فقلت لهم في بعض أشعاري:
بعد الممات أصيحابي ستذكرني ... بما أخلف من أولاد أفكاري!
والتقى ابن عرب شاه في القاهرة كذلك بالؤرخ الكبير يوسف بن تغري بردي، المولود سنة 813 والمتوفى سنة 874، وانتسجت بينهما صحبة أكيدة ومودة، وأخذ عنه شيئاً من علوم البيان والأدب، وترجم ابن تغري بردي لأستاذه ابن عرب شاه في كتابه المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، وبالغ في وصفه حين قال: الإمام العالم، العلامة البارع، المفنن الأديب، الفقيه، اللغوي، النحوي، كان إمام عصره في المنظوم والمنثور... وكانت له قدرة على نظم العلوم وسبكها في قالب المديح والغزل. وترجم له كذلك في كتابه النجوم الزاهرة فوصفه بالأدب والسكون والتواضع، وهي صفات شخصية تدل على رصانة واتزان.
ثم أورد ابن تغري بردي نص إجازة طلبها من ابن عرب شاه فأجازه، ومما جاء فيها:  أجزت الجناب الكريم العالي، ذا القدر المنيف الغالي، والصدر الذي هو بالفضائل حالي، وعن الرذائل خالي، المولوي الأميري الكبيري العالمي الأصيلي العريقي الكاملي الفاضلي المخدومي الجمالي أبا المحاسن، الذي وِرْد فواضله وفضائله وغير آسن... فهو أمير الفقهاء، وفقيه الأمراء، وظريف الأدباء، وأديب الظرفاء فمهما تصفه صف وأكثِرْ، فإنه لأعظم مما قلت فيه وأكثر.
وفي هذه الإجازة يستعرض ابن عرب شاه حياته العلمية ومشايخه الذين أجازوه، ويذكر رحلاته في كل مرحلة من مراحل حياته، ولكنه لا يفيدنا تصريحاً عن سبب خروجه من دمشق إلى سمرقند، كذلك يجتزئ في ذكر أسماء بعض مشايخه، فيعذر لذلك تعريفهم واستيفاء ترجماتهم.
وفي هذه الإجازة التي أصدرها ابن عرب شاه قبل وفاته بستة أشهر، نجد أسماء أهم مؤلفاته، فمن  المنظومة: جلوة الأمداح الجمالية في حلّتي العروض والعربية، والعقد الفريد في علم التوحيد، ومنظومة مرآة الأدب في علمي المعاني والبيان، ومنظومة في حكم المذهب الحنفي من قعد في صلاة الصبح مقدار التشهد فطلعت الشمس قبل الخروج من الصلاة، ومنظومة في بحث النكِرة المنفية والمثبتة، وعنقود النصيحة، وغرة السير ِفي دول الترك والتتر، وكان لم يكتمل بعد، وأما المصنفات المنثورة، وهي في حقيقتها مسجوعة، فمنها تاريخ تيمور لنك المسمى عجائب المقدور في نوائب تيمور، ومنها فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، ومنها خطاب الإهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب، ومنها الترجمان بمنتهى الإرب في لغة الترك والعجم والعرب، ثم قال ابن عرب شاه: وأقتصرُ في التذكرة على هذه  المصنفات العشرة للوجازة لا الإجازة.
ولم يشر ابن عرب شاه إلى كتابه التأليف الطاهر في سيرة الملك الظاهر، يعني الملك المملوكي جقمق المتوفى سنة 857، عن نيف وثمانين سنة، والذي تولى الحكم سنة 841، والذي تسبب في وفاة ابن عرب شاه كما سنرى فيما بعد.
وكتاب الإهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب هو مساجلات شعرية بينه وبين برهان الدين الباعوني، إبراهيم بن أحمد المولود في صفد سنة 777، والمتوفى بدمشق سنة 870، وبين القاضي حميد الدين النعماني الحنفي، محمد بن أحمد المولود سنة 805 بمراغة في تبريز، والمتوفى بدمشق سنة 867، وهذه المساجلات الشعرية أبيات تنظم على قوافي نادرة كالظاء مثلاً، وعلى الخصم أن يأتي بأبيات على نفس القافية الصعبة ولكن بكلمات جديدة، فهي استعراض للتمكن من ناصية الشعر مع الحفظ الكثير للغة وسعة الاطلاع على المعاجم.
وكتاب عجائب المقدور في نوائب تيمور، هو كما يتضح من اسمه تأريخ لحياة تيمور لنك من ولادته إلى وفاته، ثم يتناول شيئاً من حياة خلفائه، وقد كتبه ابن عرب شاه في سنة 840، أي بعد 15 سنة من عودته لدمشق، وبعد نحو جيل من وفاة تيمور، وهو قد استقى أخباره من معاصري تيمور وأمرائه وجمهوره، ولذا فهو من أهم الكتب العربية التي تناولت سيرة هذا القائد المغولي، ومن أوائل الكتب التي طبعها المستشرقون حيث طبعه المستشرق الهولندي يعقوب جوليوس سنة 1624.
ويتضح من الكتاب الذي يغلب عليه السجع، أن ابن عرب شاه لا يكن إلا الكره والعداء لتيمور لنك، ولذا فهو  يعطي صورة من الداخل عن كل ما هو سلبي وسيئ في حياة تيمور وخصاله الشخصية، ولا يحتوي الكتاب على أية معلومات شخصية عن ابن عرب شاه وسبب إجلائه عن دمشق، بل جل ما نستفيده عنه من الكتاب أسماء مشايخه وبعض التواريخ التي تحدد لنا مكان وجود ابن عرب شاه.
وفي الكتاب لمحة تحليل سياسي أوردها ابن عرب شاه، ولا ندري ناقلاً عن غيره أم منشئاً من فكره، وتدور حول الملك الظاهر عيسى بن داود الذي كان ملك ماردين قرابة 20 سنة منذ سنة 778 حتى جاء تيمور لنك وحاصرها وقبض عليه وسجنه ثم أطلق سراحه في سنة 798 وجعله ملكاً على رقعة واسعة تمتد من أذربيجان فأرمينية إلى الرها وديار بكر، يحمل إليه ملوكها الخراج ولا يحمل هو إلى تيمور شيئاً، قال ابن عرب شاه في تحليل غير مألوف منه: وكل ذلك من الدهاء والمكر ... وهذا وإن كان في الظاهر كالإكرام، فإنه فيما يؤول إليه وبال عليه وانتقام، وفيه كما ترى ما فيه، وإلقاء العداوة بينه وبين مجاوريه، وينجر ذلك إلى أن يلتجي إليه، ويعول في كل أموره عليه، ويدخل لكثرة الأعداء تحت ضبنه، فيصل إذ ذاك منه إلى حصنه، ثم إنه شرط عليه أنه كلما طلبه جاء إليه...
ويشير ابن عرب شاه في أول كتابه وهو الضليع بعدة لغات إلى مزية للغة العربية إزاء تعريب الألفاظ الأعجمية، فيقول: إن كُرَة الألفاظ الأعجمية، إذا تداولها صولجان اللغة العربية، خرطها في الدوران على بناء أوزانها، ودحرجها كيف شاء في ميدان لسانها.
وكتاب ابن عرب شاه الآخر الذي اشتهر به هو كتابه فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، وهو كتاب في الآداب السلطانية يبين للملوك والأمراء ما يبنغي أن يراعوه في أساليب السياسة والحكم، وسبكه ابن عرب شاه في قالب القصص والأمثال، ونهج فيه على أسلوب كليلة ودمنة في الحديث على ألسنة الحيوان، إلا أن حواره يدور بين ملك وحكيم، والكتاب مسجوع، فهو يجمع بين أدب المقامات والقصص الرمزي عند ابن المقفع، ويرى بعض المحققين أنه مترجم أو مستوحى من كتاب مرزبان نامه الفارسي.
وفي الكتاب استعراض مفصل لتاريخ جنكيز خان وأن سبب هجومه على خوازم هو التعسف والظلم الذي قابل به السلطان قطب الدين خوارزم شاه تجار المغول الذين أرسلهم جنكيز خان إلى البلاد الإسلامية، ورفضه أن يقيم الحق وينصف المظلوم، فأثار حنق جنكيز خان فهاجم بلاده، فلما استولى عليها وحاز أموالها وخيراتها بأقل الخسائر، شجعه ذلك على أن ينطلق منها إلى السيطرة على العالم.
وفي الكتاب قصة عن تيمور كان محلها أن تذكر في كتابه الآخر، ونوردها لأهميتها، وهي أن تيمور لنك في سنة 805 بعد انتصاره على السلطان العثماني بايزيد قد أمر أحد أمرائه ويدعى الله داد: أن يبين له أوضاع تلك الممالك، ويوضح كيفية الطرق بها والمسالك، ويذكر له مدنها وقراها، ووهدها وذراها، وقلاعها وصياصيها، وأدانيها وأقاصيها، ومفاوزها وأوعارها، وصحاراها وقفارها، وأعلامها ومنارها، ومياهها وأنهارها، وقبائلها وشعابها، ومضايق دروبها ورحابها، ومعالمها ومجالها، ومراحلها ومنازلها، وخاليها وآهلها، بحيث يسلك في ذلك السبيل الإطناب الممل، ويتجنب مأخذ الإيجاز وخصوصاً المخل، ويذكر مسافة ما بين المنزلتين، وكيفية المسير بين كل مرحلتين، من حيث تنتهي إليه طاقته، ويصل إليه علمه ودرايته...
فامتثل الله داد ذلك المثال، وصور له ذلك على أحسن هيئة وآنق تمثال، وهو أنه استدعى بعدة أطباق من نقي الأوراق، وأحكمها بالإلصاق، وجعلها مربعة الأشكال، ووضع عليها ذلك المثال، وصوَّر جميع تلك الأماكن، وما فيها من متحرك وساكن، فأوضح فيها كل الأمور، حسبما رسم به تيمور، شرقاً وغرباً، بُعداً وقرباً، يميناً وشمالاً، مِهاداً وجبالاً، طولاً وعرضاً، سماء وأرضاً، مرداء وشجراء، غبراء وخضراء، منهِلاً منهلاً، ومنزلاً ومنزلاً، وذكر اسم كل مكان ورسمه، وعين طريقه ووسمه، بحيث بين فضله وعيبه، وأبرز إلى عالم الشهادة غيبه، حتى كأنه شاهده، ودليله ورائده، وجهز ذلك إليه، حسبما اقترحه عليه، كل ذلك وتيمور، في بلاد الروم يمور، وبينهما مسيرة سبعة شهور.
وكذلك فعل ذلك البطل وهو بالبلاد الشامية، سنة ثلاث وثمانميه، مع القاضي ولي الدين، عمدة المؤرخين، أبي هريرة عبد الرحمن بن خلدون، أغرقه الله في فلك رحمته المشحون، وقد سأله عن أحوال بلاد العرب، وما جرى فيها من صلح وحرب، وما وقع فيها من خير وشر، ونفع وضُر، ثم إنه اقترح عليه، وتقدم بالأمر إليه، بوضع أوضاعها، ورسم مدنها وقلاعها، وحصونها وضياعها، وتخطيط ولاياتها، وأشكالها وهيآتها، فامتثل ذلك وأبداه، وعلى حسب ما اختاره واقترحه أنهاه، وبين ذلك مثل ما ذكره أعلاه، فشاهد أوضاعها، وخبر وهادها وبقاعها، كأن الحائل رفع من البين، وعاين ذلك الإقليم بالعين...
وكانت آخر رحلات ابن عرب شاه إلى القاهرة في أواخر سنة 853، وجرت له قضية مع أحد علماء عصره وهو حميد الدين النعماني الحنفي، محمد بن أحمد المولود سنة 805 بمراغة في تبريز، والمتوفى بدمشق سنة 867، لم أعثر لها على تفصيل لأورده، بل تذكر الكتب أن الملك الظاهر جقمق انتصر لحميد الدين وعاقب ابن عرب شاه وأدخله على إثرها  سجن المجرمين 5 أيام، ثم أخرج مقهوراً حزيناً، فمات بعد 12 يوماً في 15 رجب، غريباً عن أهله ووطنه، وكانت وفاته في آب/أغسطس والقحط قد ضرب مصر والنيل قد قل منسوبه، والناس مشغولون في الاستسقاء، فجرت له جنازة بسيطة ودفن في الخانقاه الصلاحية.
تمتع ابن عرب شاه بموهبة النظم، وكان يقول الشعر بالعربية والفارسية والتركية، وكثير من كتبه الفقهية العلمية أو الأدبية البيانية منظومات تعد أبياتها بالألوف، ولكنه لم يكن شاعراً جزيل الألفاظ غزير المعاني أو رقيق الشعور، بل هو ناظم غزير الانتاج أعلى درجة أو اثنتين من شعر الفقهاء، ومن نظمه في الزهد:
قميص من القطن من حِلِّه ... وشربة ماء قراح وقوت
ينال به المرء ما يبتغي ... وهذا كثيرٌ على من يموت
ومنه كذلك:
فعش ما شئت في الدنيا وأدرك ... بها ما شئت من صيت وصوت
فحبل العيش موصول بقطع ... وخيط العمر معقود بموت
ومنه يخاطب نفسه في القناعة، وهو لطيف:
يا أحمد اقنع بالذي أوتيتَه ... إن كنت لا ترضى لنفسك ذلها
واعلم بأن الله جل جلاله ... لم يخلق الدنيا لأجلك كلها
ذكرنا من قبل أن لابن عرب شاه ابنٌ اسمه تاج الدين عبد الوهاب، ولد  سنة 813 ، وكان كوالده عالماً بكثير من العلوم، ورجع معه إلى دمشق، وبرز فيها بين العلماء، وتولى قضاء الأحناف بدمشق، وله نظم كثير، وتميز في علم المواريث، وتولى القضاء في القاهرة وتوفي بها سنة 901، ومن شعره:
ولقد شكوت إلى طبيبي علتي ... مما اقترفت من الذنوب الجانيه
وصفَ الطبيبُ شرابَ مدح المصطفى ... فهو الشفا فاشرب هنيئاً عافيه
ولابن عرب شاه ولدان آخران، كانا كذلك من طلبة العلم وعملا في القضاء، أولهما علي المولود سنة 848 والمتوفى سنة 910، والآخر حسن كان أحد الشهود المعتبرين بدمشق.
وكان لابن عرب شاه أخٌ اسمه محمد اشتغل بالعربية والفقه وأصبح من الفقهاء، ثم اختل عقله، فصار من عقلاء المجانين، فكانت تصدر منه بعض التصرفات المستظرفة وإن كانت غير لائقة في حق كبار القوم، ومن ذلك أنه طلع مرة للملك الظاهر جُقمُق ومعه زناد في يده، فقدح به بين يديه، وذلك من نوع التعريض لأن الزناد في التركية: جقمق. فظن السلطان أن ذلك بمواطأة من أخيه، وأسرها في نفسه حتى حانت له فرصة عقوبة فاشتد في عقوبته حتى أدت إلى وفاته.
وهناك أسرة أخرى في دمشق في نفس الزمن حملت اسم عرب شاه، منها داود وصالح ابني محمد، ولكنها لا تمت بصلة لأسرة شهاب الدين.

الجمعة، 16 مايو 2014

حدث في الثامن من رجب

 
في الثامن من رجب من عام 932 وقعت معركة بانيبات، 80 كيلا شمالي دهلي في الهند، بين السلطان المغولي محمد ظهير الدين بابَر وبين السلطان إبراهيم اللودي وانتهت بانتصار بابر  ومقتل السلطان إبراهيم، وبهذه المعركة تأسست الدولة المغولية الهندية التي دامت في الهند قرابة قرنين ونصف القرن، وازدهرت في ظلها الآداب والفنون والعلوم. وجاء اللقب بابر تشبيهاً له بالنمر، قال في لسان العرب: البَبْرُ ضرب من السباع، أعجمي معرّب.
وبابر هو السليل الخامس لتيمور لنك الزعيم المغولي الشهير بغزوه للمشرق العربي وتدميره للمدن وقتله لسكانها، ولما توفي تيمور لنك سنة 807 خلفه ابنه شاه رُخ واستطاع أن يثبت سلطانه على معظم ملك أبيه ويلجم الخارجين الطامعين من أقاربه، وتوفي شاه رُخ سنة 850 وجاءت من بعده الاضطرابات والشقاق، ونشأت الدولة الصفوية ثمرة لها، واستطاع الشاه إسماعيل تأسيس دولة امتدت من حدود العراق إلى أفغانستان ونهر جيحون.
وينبغي الإشارة هنا أن القبائل المغولية التي جاءت مع جنكيز خان والتي تحولت فيما بعد إلى الإسلام ديناً، قد تطبعت بعادات الأتراك الذين حلت بينهم، فهي مغولية العرق، مسلمة الدين، تركية التقاليد، وكان بابر ينفر من ذكر المغول نفوراً شديداً، ويعتز بتركيته، ولذا فإنه اعتمد على القبائل التركية في تأسيس دولته وحاشيته، ولعل سبب نسبة دولته إلى المغول هو أن الهنود درجوا منذ قدوم جنكيز خان على إطلاق اسم المغول على كل الغزاة الذين جاؤوهم من بلاد ما وراء النهر.
وقد سجل بابر مراحل حياته في كتاب أسماه بابر نامه أي قصة بابر، ويتضح منها تواضعه وبساطته، وهما سمتان غالبتان لمؤسسي الدول، ومنه استقى الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله مقالة عن بابر نشرها في مجلة الرسالة، وأفدت منها كثيراً.
ولد بابر بن عمر بن أبي سعيد بن محمد بن ميران شاه بن تيمور سنة 787 في فَرْغَانة على السفوح الشمالية لجبال هندوكوش، في أوزبكستان اليوم، حيث كان والده عمر منذ سنة 870 أميراً على إمارتها الصغيرة من قبل أبيه السلطان أبي سعيد، ويصف بابر أباه بأنه كان: حنفي المذهب، مواظباً على الصلوات في أوقاتها، يديم تلاوة القرآن، وكان من مريدي الشيخ عبد الله، المعروف بخواجه أحرار، يحرص على صحبته والتبرك به، ويدعوه الشيخ ابنه. وكان الأب يحب الأدب، ويقرأ دواوين شعراء فارس المشهورين مثل نظامي والمثنوي والشاهنامه، وكتب التاريخ؛ وكان عادلاً سخياً، حسن الخُلق فصيح الكلام حلوه، شجاعاً باسلاً يحسن الضرب بالسيف، وكان وسطاً في الرمي بالسهام، شديد اللكم لا يثبت للكمته مصارع.
وكان عمر شيخ مرزا قصير القامة مستدير اللحية بدينا ممتلئ الوجه، وكان لا يتكلف في ملبسه ومأكله، يلف عمامته لفة واحدة، وكانت العمائم إذ ذاك أربع لفات، وكان يلفها دون طيّ ويترك لها عذبة، ويلبس في أكثر أوقات الصيف خارج الديوان قلنسوة مغولية.
وبابر هو السليل الثالث عشر لجنكيز خان، فقد كانت أمه قُتلُق نكار ابنة يونس خان سليل جغطاي بن جنكيز خان، ويذكر بابر لها أنها رافقته أكثر أيام كفاحه وانتصاراته وهزائمه، وتوفيت سنة 911.
وتوفي الأب سنة 899، وهو في السادسة والعشرين، عندما انهار عليه برج حمام كان قد بناه، فآلت المملكة إلى ابنه الأكبر بابر الذي كان في الثانية عشرة من عمره، وكان في أندِجان لما بلغته وفاة أبيه، فانطلق على فرسه وقطع بسرعة البرق مسافة 50 كيلاً إلى قلعة فرغانة ليستلم زمام الأمور قبل أن يسبقه أعمامه الطامعون أويسلمه أمراؤه المتآمرون.
وكانت الخلافات والمعارك لا تكاد تتوقف بين أمراء الأسرة التيمورية، ذلك إن تيمور لم يترك منهجاً واضحاً في انتقال الحكم من السلف إلى الخلف ففتح ذلك الباب أمام مطامع الأمراء، كلٌ يرى في نفسه ملكاً وريثاً لجده تيمور، ما عليه إلا أن يأخذ عرشه ممن حوله من الملوك المتغلبين، ولم يكن الأب عمر ميرزا بعيداً عن ذلك، فقد كان يطمح أن يستعيد سمرقند عاصمة جده تيمور، وهي على بعد 300 كيل، ولما تولى بابر الحكم كان هذا ثاني هدف له، فقد كان هدفه الأول البقاء في الحكم في خضم المؤامرات التي تحيط بالملك الغر المستصغر.
وتمكن بابر من فتح سمرقند سنة 903 ولكن لم يدم له أمرها طويلاً فقد ثار عليه بعض أمرائه في فرغانة وعينوا أخاه جهانكير ملكاً، فعاد من سمرقند إليها ليقمع هذا التمرد، فانتهز على ميرزا صاحب بخارى هذه الفرصة واستولى على سمرقند، ولم ييأس بابر فجمع قواته واستولى عليها ثانية سنة 906، ولكن ملك الأزبك محمد الشيباني كان أقوى منه وأكثر تنظيماً فاستطاع هزيمته في سنة906، ودحره من سمرقند وفرغانة، بعد أن قاتله بابر عدة مرات دون أن يحقق انتصاراً حاسماً يعيد له ملكه الذاهب.
ويذكر بابر في قصة حياته أنه هُزم مرة ففر في ثمانية من أنصاره وتعقبهم العدو وأعيت الخيل، فتخلف بعض رفاقه، وبقي معه اثنان، فلما أعيا فرسه نزل له أحد الرفيقين عن فرسه، فسار حتى أعيا الفرس الثاني، فقدم إليه الرفيق الأخير حصانه، وسار وحده ووراءه اثنان من الأعداء حتى جن الظلام، فترجل وأوى إلى صخرة ليعتصم بها ويرمي من يتعقبه بالنبال.
ولجأ بابر طريداً شريداً إلى خاله في طشقند، ولكن رجلاً هذه همته وشجاعته وصبره لا بد له أن يحاول مُلكاً، وإذا أضفت لها صفات التواضع واحترام الناس والعدل رجحت أن يكون النجاح حليفه، ولذا تجمع تحت يده عدد من الأمراء الهاربين من الأُزبك، ولكنه تفادى أن يشتبك مع الشيباني خشية إخفاق جديد قبل أن يقوى جانبه، ولما عجز بابر عن استرجاع فرغانة يمم وجهه تلقاء كابل في أفغانستان، والتي كانت تمر بأزمة سياسية حادة.
كان ملك كابل أولغ بك مرزا قد توفي وترك طفلاً رضيعاً، فجاء الملك مكين بك من خارجها واستولى عليها، وسط معارضة شديدة من أهلها، ولما علم بابر بذلك عبر مع مجموعة من قواته ليست بالكبيرة جبال هندكوش وثلوجها، وفتح كابل سنة 911، وكانت هراة في الشرق عاصمة البلاد على الحقيقة من حيث الثروة والعلم، وكان ملكها حسين ميرزا تيموري الأصل مثل بابر، فتحالفا سوية لصد هجمات الشيباني، ولكن حسين ميرزا توفى ولم يرغب خليفتاه في خوض حرب، وما لبثا أن دفعا ثمن ترددهم عندما استولى الشيباني على هراة وأطاح بهم.
وبسقوط هراة لم يعد للتيمورين مملكة سوى مملكة كابل وملكها بابر، فانضم إليه كثير من أمراء التيمورين فاستعملهم على المناطق التي تحت سيطرته، واتخذ لقب باديشاه أي الإمبراطور، ولكن لم تصف له الأمور فواجه تمرداً في كابل استطاع قمعه، وبعده بسنتين تمرد عليه كبار قادته فاضُطر للخروج من كابل في عدد قليل من أنصاره، ولكنه ما لبث أن عاد واستولى عليها واستعاد ولاء كثير ممن خرجوا عليه، وفي سنة 916 استطاع الشاه إسماعيل الصفوي هزيمة وقتل محمد الشيباني، فزال من وجه بابر منافس قوي عنيد.
واستغل بابر الفراغ الذي خلفه مقتل الشيباني واستولى على كثير من أراضي التيموريين، وتحالف مع الشاه إسماعيل الصفوي لتقاسم ممالك آسية الوسطى، ومقابل مساعدته له قبل بابر أن يكون في صورة ملك خاضع للصفويين، وأصبح بذلك في نظر السلطنة العثمانية حليفاً لألد أعدائها، فساعدت أحد خصومه وهو عبيد الله خان، وأمدته بالمدافع، ولكنها ما لبثت  أن صالحته خشية أن ينضم فعلياً إلى الصفويين، وارتأت أن تقويه ليستغني عنهم، فأمدته بالمدافع وبنادق البارود وأرسلت مدرباً قام بتدريب جنوده على استخدامها وتكتيكاتها.
ولأن استعادة سمرقند كانت لا تبرح مخيلته، قام بابر في سنة 919 بحملة لاسترداد سمرقند، ونجح في أخذها هي وبخارى، ثم ما لبث أن خسرهما عندما هاجمه الشيبانيون، فعاد إلى كابل وقد تخلى عن هذا الحلم، وأمضى السنوات العشر القادمة في كابل وهو يكابد من تمرد القبائل الأفغانية وتآمر أمرائه وأقاربه عليه، ورغم أن تلك الفترة كانت فترة سلام نسبي إلا أن بابر أمضاها وهو يبنى جيشه ويدربه أحدث تدريب على فنون القتال، وقاده في حملات عبر الجبال الشرقية غزت المناطق الهندية القريبة، والتي كانت ذات ثروات أفضل كثيراً من ثروات أفغانستان آنذاك.
وفي سنة 928 استولى بابر على قندهار في شرقي أفغانستان، فاستطاع تقصير خطوط إمداده إذا أراد غزو الهند، وقام بابر في السنوات التالية بثلاث هجمات على البنجاب دون أن يفلح في تثبيت أقدامه فيها إزاء تشكك أمرائها في نواياه وتآمرهم عليه لكيلا يطول مقامه.
وكان شمال الهند يقع تحت حكم الأسرة اللودية البشتونية الأفغانية الأصل، تحكمه منذ أن أسس السلطان بهلول مملكته في البنجاب سنة 855، وتوسعت مملكته لتصل إلى حدود البنغال خلال حكمه الذي امتد 39 سنة، وتلاه ابنه اسكندر الذي استولى على بيهار وأسس مدينة اسكندرآباد قرب أكرا، واستمر حكمه 29 سنة، وخلفه ابنه إبراهيم الذي تولى الحكم سنة 1517.
وكان إبراهيم متغطرساً قاسياً يحب الأبهة والمظاهر، أبعد كبار الأمراء من حوله وقرب صغارهم، فاستاء منه أمراء الدولة اللودية، وتكبر عليهم فسخطوا عليه وكرهوا حكومته، فاجتمع بعضهم حول أخيه جلال وثار آخرون عليه، فقمع تمردهم بالقوة الشديدة وقتل عدداً من الأمراء، وكان على وشك أن يعزل الأمير دولة خان لودي عن إمارة لاهور، وإزاء ذلك أرسل دولة خان رسالة إلى بابر في كابل يلتمس معونته على إبراهيم، وكانت هذه فرصة لن يضيعها بابر، وأمنية جاءت إلى باب إمارته، فقد عرف من قبل ضعف السلطنة اللودية وكان ينتهز الفرصة المناسبة للانقضاض على البنجاب وضمها إلى مملكته، فقد كانت من قبل ضمن مملكة جده تيمور لنك.
وفي سنة 930 حشد بابر جيوشه وسار إلى لاهور عاصمة إقليم البنجاب ليجد جيوش دهلي قد هزمت أمير البنجاب المتمرد دولة خان لودي، فانقض عليهم بجيشه وهزمهم، ثم أسرع جنوباً ففتح بلدة ديبل بور، وهي اليوم على حدود الباكستان مع الهند، وأعطى دولة خان وأبناءه بلدتي جلندور وسلطانبور وترك لاهور تحت سيطرته، ولم يقبل هذا دولة خان وهرب ليجمع قواته ثم يحارب بابر، ولكن ابنه ديلوار قبل ذلك، وفي أثناء ذلك شن الأزبكيون هجوما على بلخ، مزار شريف اليوم، فقفل بابر عائداً إلى أفغانستان ليقاتلهم، وترك بعض القوات مع علاء الدين علم خان لودي، عم إبراهيم لودي، ليقوم بالزحف على دهلي وأخذها من ابن أخيه، ولكن ذلك الهجوم فشل فشلاً ذريعاً.
وفي أثناء محاولته الخامسة كاد بابر أن يعود أدراجه إلى عاصمته كابل بعد أن بلغه هجوم الأزبكين عليها، ولكن عماً آخر لإبراهيم هو علم خان استنجد به لينصره على إبراهيم، فقرر بابر أن يجرب حظه لمرة أخرى، فكان النصر حليفه.
وقرر بابر أن يسير هو على رأس جيشه فسار في المحرم من عام 932، ولما اقترب من بِشاور جاءته الأنباء المحبطة أن دولة خان انضم إلى إبراهيم لودي، وطرد علم خان، فسارإلى بشاور فهرب من وجهه جيش دولة خان الذي استسلم فعفا بابر عنه، وسار منها يبسط سلطانه في البنجاب حتى استتب له الأمر بعد قرابة 20 يوماً، وأصبح ملك البنجاب دون منازع يؤبه له.
وتابع بابر حملته باتجاه دهلي حتى وصل إلى بلدة تدعى بانيبات، تبعد عنها 50 كيلاً، وواجه جيش إبراهيم لودي في مبادرة جسورة، وكان جيش إبراهيم يبلغ 100.000 جندي معهم 100 فيل، أما بابر فكان على رأس 12.000 مقاتل، ورغم التفوق العددي الكبير لجيش دهلي فإن جيش بابر كان يتمتع ببعض المزايا التي جعلت كفة المعركة ترجح لصالحه، فقد كان مقاتلوه مخضرمين أشداء عركتهم الحروب وخبروا المعارك، وكان اعتمادهم على هجمات الخيالة السريعة من كر وفر، وإلى جانب هذا كان معهم حوالي 20 مدفع ميداني مما أعطاهم السلطان العثماني، وفي المقابل كان جيش لودي يعتمد على أساليب قتالية عتيقة ويشيع في قادته التذمر والشقاق.
وللتغلب على التفوق العددي لخصمه قام بابر بجعل مدينة بانيبات يمين جيشه لتحميه من التفاف الخصم، وحمى ميسرته بأن حفر خندقاً كبيراً وغطاه بغصون الأشجار ليقع فيه المهاجمون، ووضع 700 عربة في قلب جيشه بعد أن ربطها بالحبال ووضع رماة البارود وراءها، وترك بينها مسافة تسمح لخيالته بالخروج والانقضاض منها، ولما جاء إبراهيم بجيشه اضطر إلى أن يحارب على جبهة ضيقة فأسرعت خيالة بابر بالالتفاف عليه، وصار جيشه تحت نيران المدافع والبارود من أمامه وهجمات الخيالة من أطرافه، فلم تمض ساعات قليلة حتى انهار جيش لودي وقتل الملك إبراهيم في المعركة مع 15.000 قتيل من جنوده، وانتهت بمقتله الدولة اللودية في الهند.
وكأي زعيم عسكري محنك قام باربر باستثمار انتصاره دون تردد، فسار إلى دهلي وخطبت باسمه الجمعة في 14 رجب، ثم سار منها إلى أكرا وأنشأ حديقة بديعة على ضفاف نهر جمنى لا تزال قائمة إلى اليوم، وفرق على جنوده ما حصل عليه من غنائم، ولم يدخر منها شيئاً، فازدادت حماستهم ورغبتهم في القتال، ورغم هذه البداية القوية بدا أن انتصاره الحاسم السريع شبيه بانتصاراته السابقة في سمرقند، لن يلبث قليلاً حتى يتحول إلى هزيمة منكرة.
وذلك إنه كان بعيداً مسافة 1.300 كيل عن عاصمته كابل، في حر الهند الذي لم يألفه جنوده، ثم إن نظراءه من الأمراء الأفغان الذين احتلوا نهر الكنج كانوا قوة من شانها أن تطيح به يوم يتتناسون خلافاتهم ويوحدون كلمتهم، وإلى الجنوب كانت هناك مملكتا ملوا وكجرات الهندوسيتين وكلاهما أقوى منه بكثير، ومن ورائهما تحالف إمارات راجستان الذي يقوده الملك رانا سانجرام سينغ، والذي كان يهدد كل الوجود الإسلامي في شمالي الهند.
وواجه بابر ما واجهه الإسكندر في فتحه للهند، فقد سرت في جيشه بوادر حركة تذمر تدعو لترك الهند وحرها والعودة إلى أفغانستان وأفيائها، وكان خصومه قد حرقوا الحقول ودمروا المحاصيل فما بقي من الطعام والأعلاف إلا قليل، فلجأ إلى التعبئة المعنوية وجمع قواته وخطب فيهم قائلاً: إن عدواً قوياً قد هُزِم، وإن تحت أقدامكم مملكة عظيمة، فهل نترك كل ما كسبنا بعد أن بلغنا الغاية التي سعينا إليها ونفر إلى كابل كأننا جيش مهزوم مطارد؟ من كان يزعم أنه صديقي فليقلع عن هذه الوساوس، ومن لم يستطع أن يقسر نفسه على البقاء فليذهب. فهدأت الأمور ولو إلى حين.
وحشد تحالف راجبوت جيشاً كبيراً يزيد على 120.000 مقاتل معهم30.000 حصان و500 فيل، وانضم إليهم الأمير محمود من الأسرة اللودية، ولكن نجاحهم الكبير كان حين انضم إليهم أمير مسلم راجبوتي هو راجا حسن خان، وفي المقابل كانت قوات بابر لا تتجاوز 25.000 جندي، كثير منهم لا يرغبون في القتال، فيما خصومهم الراجبوتيون مشهورون بقوة المراس وشدة البأس.
وحاول بابر شق الصف الراجبوتي، فأطلق سراح أمير راجبوتي مسلم كان قد أسره في معركة بانيبات، وأرسله معززاً مكرماً إلى والده خان زاده حسن خان الذي كان أحد قواد التحالف المهمين والمحترمين بين مسلمي الهند، وكان يأمل أن يقع معروفه  من خان زاده بمحل يجعله يترك تحالفه مع الهندوس، ولكن ذلك لم يحصل، بل اعتبر الأب أن إطلاق بابر لسراح ابنه يكشف ضعفه وخوفه من قوات راجبوت.
وقيّم بابر الموقف تقييماً صحيحاً ودقيقاً، وأدرك أنه إزاء أكبر جيش واجهه في حياته من حيث العدد والشجاعة، فبدأ في حشد قواته استعداداً لخوض معركة فاصلة، وأعرض عن كل المعارك الجانبية، فسحب أغلب قواته من أكرا، وأمر ابنه همايون أن يعود من حملته في جانبور وينضم إليه، ولتقوية الروح المعنوية في جنوده استصدر فتوى من علماء المسلمين برِدَّة خان زاده الذي يحارب المسلمين تحت راية الكافرين الهندوس، ولكن كل ذلك لم يفلح في إزالة الخوف تماماً من قلوب جنوده.
وبقي بابر يحشد قواته ويعد للمعركة 25 يوماً، واتفق مع قواده على عدد من الخطط والخطط البديلة، وأجرت مدفعيته تمارين مما يشبه المناورات اليوم، وحيث لم يكن له كبير ثقة ببعض حلفائه من أمراء الهند ارتأى أن يخوض المعركة بدونهم، وأرسلهم مدداً لبعض الحاميات، واختار بابر أرض المعركة وأرسل من حفر فيها الآبار ليتوفر الماء لمقاتليه، وسار إليها في جيشه وهم على أهبة الاستعداد خشية أن يطرقهم العدو على حين غرة  وهم في مسيرهم، ولما وصلوا قريباً من جيش راجبوت حدث اشتباكان جانبيان معه كان الدائرة فيهما على قوات بابر وخسروا عديداً من القتلى والأسرى، وأدرك جنوده أن هذا الخصم أعتى من كل خصم قاتلوه من قبل، فدب الخوف في قلوبهم أكثر من ذي قبل، حتى إن أولاده أبدوا يأسهم من الانتصار وتراءت لهم الهزيمة المحتومة.
ولكن بابر وقد عرك المعارك وذاق حلوها ومرها لم يظهر أي تردد أو رهبة، وجاءه في أثناء ذلك مدد من كابل قوامه 500 فارس فتفاءل به، ولكن قادته تساءلوا ما عسى أن يفعل هؤلاء إزاء جيش أصبح عدد فرسانه 120.000 فارس؟! 
وأخيراً طرق بابر أبواب من لا يخيب سائله وأقلع عن الذنوب والمعاصي، فألغى الضرائب والمكوس، وأعلن توبته عن شرب الخمر، وهي عادة مغولية عريقة مستحكمة، وأمر بإراقة دنانها، وكسر أدواتها من كؤوس الذهب والفضة وفرقها على الفقراء والمساكين، وقال: اقتلعنا أسباب المعصية بقرع أبواب الإنابة. وتذلل لله وخضع له، ثم جمع جنده فخطب فيهم قائلاً: أيها الأمراء والجند، لا بد لمن يجيء لهذا العالم أن يفارقه؛ وإنما البقاء لله الذي لا يتغير. وكل من جلس على مائدة الحياة شارب كأس الموت لا محالة، وكل من طرق نزل الفناء هذا فهو لا بد راحل يوماً عن دار الحزن.
وأولى بنا أن نموت أحراراً من أن نعيش أذلاء، وإن من فضل الله علينا أن ضمن لنا إحدى الحسنيين، فإن متنا متنا شهداء، وإذا ظفرنا ظفرنا في سبيله. هلموا نقسم جميعاً بالله العظيم ألا نفر من هذا الموت، وألا نرهب مآزق الحرب حتى تفارق أرواحنا أجسادنا.
وأقسم الجيش كله أمراؤه وجنوده على القتال حتى النصر أو الشهادة، وارتفعت معنوياته ارتفاعاً لم يسبق له مثيل، ولما ضمن بابر الروح المعنوية العالية في جنوده تحرك من معسكره باتجاه العدو، ولكن حركته كانت في تشكيل دفاعي، لأن خطته كانت تقضي الاقتراب من العدو يوماً بعد يوم، وكان هو على فرسه برفقة جنوده يوجههم ويدربهم، ولما اقتربوا من مكان التخييم هاجمتهم قوة راجبوتية سمعت باقترابهم، فلم يتعرض لها بقوة كبيرة بل دفعها حتى نزل جنوده وعسكروا ثم أرسل وراءها مجموعة من خيالته فاشتبكت معها ودحرتها وعادت برؤوس القتلى على الرماح فكان ذلك قفزة أخرى في معنويات جنوده.
وأعد بابر قواته في تشكيلات جمعت بين الدفاع والهجوم، فقد وضع رماته ومدافعه وراء المتاريس، ولكنه أعد خيالته لتلتف على جوانب العدو في الفرصة المناسبة، وجنَّب جزءاً من جنوده في قوة احتياطية تدخل في المعركة لصد الانكسار أو ترجيح الكفة.
وجرت المعركة في منطقة اسمها خانوا قرب فاتح بور في 13 جمادى الأولى سنة 933، ولما استمرت عدة ساعات استغل بابر قواته الاحتياطية في الضغط على عدوه، وكانت خيالته ومدفعيته الميدانية تتحركان بمرونة فائقة، فصارت الفيلة تهرب وتدوس جنود راجبوت في طريقها وعمت الفوضى، وحاول مقاتلو راجبوت موجة تلو الموجة أن يهاجموا المدافع لإسكاتها ولكن جنود بابر كانوا يبيدونهم، ومع حلول المساء حلت بقوات راجبوت هزيمة منكرة، وانسحبوا مخلفين عشرات الآلاف من قتلاهم في ساحة المعركة.
وتعقبهم بابر بنفسه إلى معسكرهم لئلا يمنحهم فرصة لتجميع قواتهم من جديد، فاستمروا في الهرب، فبقي هو عند المعسكر وأرسل وراء القائد الراجبوتي رانا بعضاً من قواده ولكنه تمكن من الهرب ومات بعدها بسنة تقريباً.
وانتهى بهذه المعركة أكبر وأخطر تحد واجهه بابر، وكان من قبل هذه المعركة قد خرج عليه كثير من المتمردين مستغلين ضعفه، فانطلق يقضي عليهم واحداً بعد الآخر في مواقع كثيرة، وجعل أكرا عاصمة مملكته الجديدة، وعاش بابر بعد هذه الموقعة الأخيرة سنة ونصف سنة، قبل أن تدركه فيها المنية في 6 جمادى الأولى سنة 937، وهو في التاسعة والأربعين من عمره، ثم نقل جثمانه إلى كابل بوصية منه، وخلفه ابنه الأكبر همايون.
رأينا من سيرة بابر أنه كان زعيماً بارعاً وقائداً شجاعاً ومقاتلاً محنكاً أمضى معظم حياته في الأسفار والحروب، ولكنه يتفرد بين القادة والزعماء على مر العصور بأنه كان كذلك مولعاً بالآداب والفنون، يقرأ الشعر وينظمه، ويعجب بالأبنية الجميلة، ويهتم بتنسيق الحدائق وغرس الأزهار، ويكلَفُ بالغناء والموسيقى، وله ديوان صغير بالتركية تتخلله قطع فارسية.
وعن كتابه بابر نامه قال الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله: هو في موضوعه نادرة من نوادر التاريخ؛ فما عرفنا قبل بابر ملكا أمضى حياته في عراك الحوادث ثم استطاع أن يصف مشاعره، ويسجل وقائع سيرته، وسيرة أقاربه وأعوانه في بيان واضح مفصل بعيد من التكلف، يتجلى فيه اهتمام الكاتب بما يرى ويسمع ودقته في الإدراك والوصف... وهو في لغته وأسلوبه ذخيرة أدبية ... والكتاب بعد هذا وذاك فصول ممتعة بل ساحرة يكلف بقراءتها كل من حاولها، فعرف ما تبعث في نفس القارئ من سرور وإعجاب وما تتضمن من فوائد للعلم والأدب والتاريخ.
ويعتبر بابر بطلاً وطنياً في أزبكستان، وقائداً إسلامياً عظيماً في إيران وأفغانستان والباكستان التي أطلقت اسمه على أحد صواريخها البعيدة المدى، ولا يكتمل الحديث عن بابر دون الحديث عن المسجد البابري في أيوديا الذي ينسب إليه والذي هدمه متطرفو الهندوس في سنة 1992بدعوى أن بابر هدم معبداً للإله راما وأقام المسجد على أنقاضه،  وهي دعوى أثبتت أبحاث مصلحة الآثار الهندية أنها غير صحيحة.
دامت الإمبراطورية المغولية في الهند قرابة 235 سنة، ولم تسمح الفترة القصيرة التي عاشها بابر بعد انتصاره إلا بإرساء حجر أساسها، وعانى ابنه همايون مما عانى منه أبوه من كيد الأقارب والمتمردين، وكان حفيده السلطان أكبر هو الذي شاد بنيانها فقد كان سياسياً ماهراً في تألف العامة والخاصة على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، ودام حكمه 50 سنة ازدهرت فيها المشاريع العمرانية والعلوم والآداب والإصلاحات الإدارية والمالية التي خففت كثيراً من الأعباء على الطبقات الفقيرة.
هذه صفحة من تاريخ الإسلام في شرق المعمورة، وما أزهدنا في بلاد العرب بتاريخ ولغة وحضارة الهند والصين وغيرها من هذه البلدان والشعوب، وفيها إخوان لنا في الدين والتاريخ والعادات والتقاليد، ولنا معها مصالح وفيها لنا معايش، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.

 

 
log analyzer