الأحد، 6 أبريل 2008

عوف بن محلم الخزاعي

أحد العلماء والأدباء والرواة الفهماء، والندامى الظرفاء والشعراء الفصحاء، وكان صاحب أخبار ونوادر، وله معرفة بأيام الناس، وأصله من حران، وهي اليوم سني أورفا في جنوب تركيا.
وكان طاهر بن الحسين بن مصعب نائب المأمون على خراسان قد اختصه لمنادمته واختاره لمسامرته. وكان لا يخرج في سفر إلا أخرجه معه، وجعله زميله وأنيسه وعديله، وكان يعجب به.
فبقي مع طاهر ثلاثين سنة لا يفارقه، وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه فلا يأذن له ولا يسمح به، فلما مات طاهر وخلفه ابنه ظن أنه قد تخلص وأنه يلحق بأهله ويرجع إلى وطنه.

فقربه عبد الله بن طاهر من نفسه وأنزله منزلته من أبيه، وكان عبد الله أديباً فاضلاً عالماً بأخبار الناس، فلما وقف على أدب عوف وفضله تمسك به وأفضل عليه حتى كثر ماله، وحسن حاله، وتلطف بجهده أن يأذن له عبد الله في العود إلى وطنه فلم يكن إلى ذلك سبيل، وحفزه الشوق إلى أهله وأهمه أمرهم.
فاتفق أن خرج عبد الله من بغداد يريد خراسان، فصير عوفاً عديله يستمتع بمسامرته، ويرتاح إلى محادثته إلى أن دنا من الري- وهي طهران اليوم - فلما شارفها سمع صوت عندليب يغرد بأحسن تغريد وأشجى صوت، فأعجب عبد الله بصوته، والتفت إلى عوف بن محلم فقال له: يا بن محلم، هل سمعت قط أشجى من هذا الصوت وأطرب منه؟ فقال: لا والله أيها الأمير، وإنه لحسن الصوت، شجي النغمة، مطرب التغريد، فقال عبد الله: قاتل الله أبا كبير حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضـر** وغصنك مياد ففيم تـنـوح؟
أفق لا تنح من غير شيء فإنني** بكيت زماناً والفؤاد صـحـيح
ولوعاً فشطت غربة دار زينب ** فها أنا أبكي والفـؤاد قـريح

فقال عوف: أحسن والله أبو كبير وأجاد ثم قال: أصلح الله الأمير إنه كان في الهذليين مائة وثلاثون شاعراً ما فيهم إلا مفلق، وما كان فيهم مثل أبي كبير فإنه كان يبدع في شعره، ويفهم آخر قوله وأوله، وما شيء أبلغ في الشعر من الإبداع فيه

قال عبد الله: أقسمت عليك إلا أجزت شعر أبي كبير؟(أي قلت شعراً على مثاله) قال عوف: أصلح الله الأمير، قد كبر سني، وفني ذهني، وأنكرت كل ما كنت أعرفه. قال عبد الله: سألتك بحق طاهر إلا فعلت؟ وكان لا يسأل بحق طاهر شيئاً إلا ابتدر إليه لما كان يوجبه له، فلما سمع عوف ذلك أنشأ يقول:

أفي كـل عـام غـربة ونـزوح ** أما للنوى من ونـية فـتـريح؟
لقد طلح البين المشـت ركـائبـي ** فهل أرين البين وهـو طـلـيح؟
وأرقني بالـري نـوح حـمـامة ** فنحت وذو البث الغـريب ينـوح
على أنها ناحت ولم تـذر دمـعة ** ونحت وأسراب الدموع سـفـوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهـمـا ** ومن دون أفراخي مهامـه فـيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حـاضـر ** وغصنك مياد فـفـيم تـنـوح؟
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ** فيلقي عصا التطواف وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقـه ** وعدم الغنى بالمقتـرين طـروح

فاستعبر عبد الله ورق له، وجرت دموعه وقال له: والله إني لضنين بمفارقتك، شحيح على الفائت من محاضرتك، ولكن والله لا أعملت معي خفاً ولا حافراً إلا راجعاً إلى أهلك، ثم أمر له بثلاثين ألف درهم، ثم ودع عبد الله وسار راجعاً إلى أهله فمات قبل أن يصل إليهم.

وقال يمدح عبد الله وأباه:

يا بن الذي دان له المشـرقـان*** وألبس الأمن به المـغـربـان
إن الثمانـين، وبـلـغـتـهـا قد*** أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلتني بالشطـاط الـحـنـا *** وكنت كالصعدة تحت السنـان
وعوضتني من زماع الفـتـى*** وهمتي هم الجبـان الـهـدان
وقاربت مني خطىً لم تـكـن*** مقاربات وثنت مـن عـنـان
وأنشأت بينـي وبـين الـورى *** عنانة من غير نسج العـنـان
ولم تدع في لمـسـتـمـتـع *** إلا لساني وبحسبـي لـسـان
أدعو به الـلـه وأثـنـي بـه *** على الأمير المصعبي الهجان
وهمت بالأوطان وجداً بـهـا *** وبالغواني أين مني الغـوان؟
فقربانـي بـأبـي أنـتـمـا *** من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعـاي إلـى نـسـوة *** أوطانها حران والـرقـتـان

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer