الجمعة، 30 أغسطس 2013

حدث في الثالث والعشرين من شوال


في الثالث والعشرين من شوال لسنة 354 توفي في بُست، وهو في عَشْر الثمانين من عمره، أبو حاتم البستي محمد بن حِبان التميمي، العلامة المحدث والجغرافي المؤرخ.


cid:image001.jpg@01CC7844.74FB7E90

ولد في بست، وهي مدينة كانت عامرة بالعلماء والأدباء و اندثرت بعد الغزو المغولي، ولم يبق منها إلا بوابة هائلة توجد صورتها على العملة الأفغانية من فئة 100 أفغاني، وتسمى اليوم قلعة بست وتقع في ولاية هلمند في جنوبي شرقي أفغانستان، وهي المنطقة التي يسميها الجغرافيون المسلمون بلاد سجستان.

طلب ابن حبان العلم وهو في العشرين من عمره، وتنقل في الأقطار، فرحل إلى خراسان والعراق والجزيرة والشام ومصر والحجاز، وقال ابن حبان: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ من اسبيجاب في أقصى الشرق إلى الإسكندرية، وقد أحصى ياقوت الحموي في معجم البلدان المدن التى زارها ابن حبان يطلب العلم ورواية الحديث فبلغت 43 بلدا!

وإذا استعرضنا بعضاً من أبرز شيوخ ابن حبان رأينا أنهم أعلام المحدثين في ذلك العصر وأئمة بلدانهم في الحديث، ومن أبرز شيوخه الحسين بن إدريس الـهَروي المتوفى سنة 301 وقد ناهز التسعين، ومحدث البصرة أبو خليفة الجمحى الفضل بن الحُباب المتوفى سنة 305 عن 99 عاماً، والإمام النسائي صاحب السنن أحمد بن علي المتوفى سنة 303 عن 88 عاماً، ومحدث جُرجان عمران بن موسى بن مُجاشع السِّختياني المتوفى سنة 305، ومحدث خراسان الحسن بن سفيان النَسوي المتوفى سنة 303 عن 90 عاماً، ومحدث الموصل أبو يعلى الموصلي أحمد بن علي المتوفى سنة 307، ومسند بغداد أحمد بن الحسن الصوفى المتوفى سنة 306، ومحدث نيسابور أبو بكر بن خزيمة محمد بن إسحاق المتوفى سنة 311 عن 88 عاماً. رحمهم الله جميعاً.

وكان ابن حبان رحمه الله حريصاً في طلبه للعلم على توثيق ما يسمعه من شيوخه، وهو أمر يوجد لدى كثير من المحدثين، ولكنه عند ابن حبان رحمه الله بلغ حداً لا يتصور، حدث أحد معاصريه فقال: كنا مع أبى بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في بعض الطريق من نيسابور، وكان معنا أبو حاتم البستى، وكان يسأل ابن خزيمة ويؤذيه - يعني يكثر ويلح في السؤال - فقال له محمد بن إسحاق بن خزيمة: يا بارد، تنحَ عني لا تؤذني، أو كلمة نحوها، فكتب أبو حاتم مقالته تلك، فقيل له: تكتب هذا؟! فقال: نعم، أكتب كل شئ يقوله.

كان ابن حبان رحمه الله تعالى من المكثرين في تصنيف الكتب، قال عنه  ياقوت الحموي: أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، ومن تأمل تصانيفه تأمُلَ مصنفٍ عَلِمَ أن الرجل كان بحراً فى العلوم، من كتبه المسند الصحيح في الحديث أوله: باب ما جاء في الابتداء بحمد الله تعالى، وأحاديثه الصحيحة تتميز بروايات فيها زيادات على ما روي في الصحاح، وبين منهجه فيه فقال: شرطنا في نقله ما أودعناه في كتابنا ألا نحتج إلا بأن يكون في كل شيخ فيه خمسة أشياء: الأول: العدالة في الدين بالستر الجميل، الثاني: الصدق في الحديث بالشهرة فيه. الثالث: العقل بما يحدث من الحديث. الرابع: العلم بما يحيل المعنى من معاني ما روى. الخامس: تعري خبره من التدليس. فمن جمع الخصال الخمس احتججنا به.

ومن كتبه الثقات، بيَّن فيه رواة الحديث الموثوقين، وأوضح في مقدمته منهجه فقال: فلما رأيت معرفة السنن من أعظم أركان الدين، وأن حفظها يجب على أكثر المسلمين، وأنه لا سبيل إلى معرفة السقيم من الصحيح، ولا صحة إخراج الدليل من الصريح، إلا بمعرفة ضعفاء المحدثين وكيفية ما كانوا عليه من الحالات، أردت أن أملي أسامي أكثر المحدثين، ومن الفقهاء من أهل الفضل والصالحين، ومن سلك سبيلهم من الماضين، بحذف الأسانيد والإكثار، ولزم سلوك الاختصار، ليسهل على الفقهاء حفظها ولا يصعب على الحافظ وعيها. وقد طبعت الكتاب في تسع مجلدات دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن بالهند.

و له كتاب الصحابة في خمسة أجزاء، وكتاب التابعين في اثني عشر جزءا، وكتاب أتباع التابعين وأتباع التبع كلاهما في خمسة عشر جزءا، وغيرها كثير. وكان إلى جانب إمامته في الحديث عارفاً بالطب والفلك والكلام والفقه.

أخذ الحديث عن ابن حبان خلق كثير لا يحصون ولعل أبرزهم الحاكم النيسابوري محمد بن عبد الله صاحب المستدرك على الصحيحين والمتوفى سنة 405 عن 84 عاماً.

تولى ابن حبان قضاء سمرقند مدة، وفَقَّهَ الناس بسمرقند وبنى له الأمير أبو المظفر الساماني صُفّـةً لأهل العلم خصوصاً لأهل الحديث، ثم عاد إلى نيسابور، قبل وفاته بحوالي عشرين عاماً وسكنها وبنى الخانقاه وحدث بمصنفاته، ثم خرج منها إلى بلده بُست، حيث توفي في عشر الثمانين من عمره.

جعل ابن حبان داره في بست جعلها مدرسة لأصحاب الحديث، وجعل فيها مكتبة وقفية، وجعلها تحت يد وصي ليبذلها لمن يريد نسخ شيء منها من غير أن يخرجه منه.

ومع شهرة هذا الإمام وأهمية تصانيفه لم يكن لها انتشار في بلاده سجستان بعد وفاته ببضعة أجيال، فقد سأل الخطيب البغدادي، أحمد بن علي المتوفى سنة 463، أحد أهل سجستان، مسعود بن ناصر السجزى: أكلُّ هذه الكتب موجودة عندكم، ومقدور عليها ببلادكم؟ فقال: إنما يوجد منها الشئ اليسير، والنزر الحقير.

قال الخطيب: ومثل هذه الكتب الجليلة كان يجب أن يكثر بها النسخ فيتنافس فيها أهل العلم ويكتبوها ويجلدوها إحرازا لها، ولا أحسب المانع من ذلك كان إلا قلة معرفة أهل تلك البلاد بمحل العلم وفضله، وزهدهم فيه، ورغبتهم عنه، وعدم بصيرتهم به، والله أعلم.

الجمعة، 23 أغسطس 2013

حدث في السادس عشر من شوال


في السادس عشر من شوال من سنة 275 توفي في البصرة، عن 73 عاماً، الإمام المحدث أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، إمام أهل الحديث في زمانه وصاحب كتاب سُنَن أبي داود.
أصله من سِجستان وهي منطقة في جنوبي غربي أفغانستان مدينتها زَرَنج، وكتب الحديث في بلده وهَراة وخراسان، ثم ‏رحل وهو في التاسعة عشرة في طلب العلم والحديث إلى العراق وخراسان والشام ومصر والجزيرة الفراتية، وتردد إلى بغداد مراراً ثم استوطن البصرة بطلب من أخي الخليفة، وتوفي بها.
كان أبو داود على مرتبة عالية في النسك والعفاف، والصلاح والورع، وسمي بالحكيم في أيام حداثته، لأنه كان في مجلس بعض الرواة يكتب، فدنا رجل إلى محبرته ووضع قلمه فيها ثم قال له: أستمد من هذه المحبرة؟ فالتفت إليه وقال: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان فقد استوجب بالحشمة الحرمان! فسُمي ذلك اليوم حكيماً.
قال أبو داود رحمه الله عن سننه: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمئة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث:

1.    أحدها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.

2.    والثاني قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

3.    والثالث قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أنس رضي الله عنه:لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه

4.    والرابع قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه: إن الحلال بَـيّـِنٌ وإن الحرام بَـيّـِنٌ وبينهما أمور مشتبهات، وسأضرب لكم في ذلك مثلاً إنَّ الله حَمَى حِمىً، وإنَّ حِمى الله ما حرَّم، وإنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه، وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسُر.

وعرض أبو داود الكتاب على الإمام أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه، وقال الإمام إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود كتاب السنن: أُلينَ لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.
وقُرِئت سنن أبي داود على المحدث أبي سعيد ابن الأعرابي، أحمد بن محمد بن زياد البصري المكي، المتوفى بمكة سنة 340 عن 94 عاماً، فقال: لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله عز وجل ثم هذا الكتاب؛ لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة.
قال الإمام أبو سليمان الخطابي: وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم، وأمهات السنن، وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدما سبقه إليه، ولا متأخرا لـحِقَه فيه، وقد رُزِقَ القبول من كافة الناس فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، ولكل فيه وِرد، ومنه مشرب، وعليه مُعوَّل أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من مدن أقطار الأرض، فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم ابن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد، إلا أن كتاب أبي داود أحسن وضعا، وأكثر فقها، وكتاب أبي عيسى الترمذي أيضا كتاب حسن، والله تعالى يغفر لجماعتهم، ويحسن على جميل النية فيما سعوا له مثوبتهم برحمته.
وكان أبو داود مع إمامته في الحديث وفنونه من كبار الفقهاء، فكتابه يدل على ذلك، وهو من نجباء أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، لازم مجلسه مدة، وسأله عن دقاق المسائل في الفروع والاصول.
استوطن أبو داود البصرة بطلب من الأمير العباسي الموفق بالله ولي عهد المعتمد، قال أبو بكر بن جابر خادم أبي داود: كنت مع أبي داود ببغداد فصلينا المغرب إذ قُرِعَ الباب ففتحته، فإذا خادم يقول هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن، فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه فأذن له، فدخل وقعد.
ثم أقبل عليه أبو داود فقال: ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟ فقال: خِلالٌ ثلاث، فقال: وما هي؟ قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنا، ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قد خربت وانقطع عنها الناس لما جرى من محنة الزنج، فقال: هذه واحدة، هات الثانية، قال: وتروي لأولادي كتاب السنن، فقال: نعم، هات الثالثة، قال: وتفرد لهم مجلسا للرواية، فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة، فقال أبو داود: أما هذه فلا سبيل إليها، لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
قال ابن جابر: وكانوا يحضرون بعد ذلك ويضرب بينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة.
ومن أقواله: خير الكلام ما دخل في الأذن من غير إذن. وكان يقول: الشهوة الخفية حب الرياسة.
وكان لأبي داود كُمٌّ واسعٌ وكُّمٌ ضيق -  أي جيبان- فقيل له: يرحمك الله ما هذا؟ فقال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج إليه.
وكان ولده أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان من أكابر الحفاظ ببغداد، عالماً متفقاً عليه، إمام ابن إمام، وله كتاب المصابيح، وشارك أباه في شيوخه بمصر والشام، وسمع ببغداد وخراسان وأصبهان وسجستان وشيراز، وتوفي في سنة 316.
وحرص والده الإمام أبو داود على إسماعه الحديث في يفاعته، فحمله إلى الإمام المحدث أحمد بن صالح وكان لا يحدث إلا ذا لحية، ولا يترك أمرد يحضر مجلسه، فحمل أبو داود السجستاني إليه ابنه، ليسمع منه - وكان إذا ذاك أمرد - فأنكر أحمد بن صالح على أبي داود إحضاره، فقال له أبو داود: هو وإن كان أمرد، أحفظ من أصحاب اللحى، فامتحنِه، بما أردت. فسأله عن أشياء أجابه ابن أبي داود عن جميعها، فحدثه حينئذ ولم يحدِّث أمرداً غيره.

الجمعة، 16 أغسطس 2013

حدث في التاسع من شوال

 
في التاسع من شوال من سنة 265 توفي في جنديسابور في الأهواز يعقوب بن الليث الصفار، أبو يوسف: من أبطال العالم، وأحد الأمراء الدهاة الكبار.
كان يعقوب وأخوه عمرو  في صغرهما يعملان الصُفر النحاس - في سِجستان بخُراسان ويظهران الزهد والتقشف، وفي سنة 237 تغلب على سجستان صالح بن النضر الكناني وذلك في خلافة المتوكل على الله، فصحبه يعقوب وقاتل معه وجعله صالح مقام الخليفة عنه، ثم مات صالح فقام مقامه بأمر المتطوعة درهم بن الحسن، وكان غير ضابط لعسكره، وكان يعقوب هو قائد العسكر، فلما رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه اجتمعوا على يعقوب بن الليث، وملكوه أمرهم لما رأوه من تدبيره وحسن سياسته وقيامه بأمرهم.
وقام بمحاربة الشراة من الخوارج فظفر بهم وكاد يفنيهم، وأطاعه أصحابه طاعة لم يطيعوها أحداً قبله، فاشتدت شوكته فغلب على سجستان سنة 247، وأظهر التمسك بطاعة الخليفة، وكاتَبـَه وصَدَرَ عن أمره، وأظهر أنه أمره بقتال الشراة، وضبط يعقوب الطرق، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فكثر أتباعه.
وظفر بجماعة من آل طاهر المنسوبين إلى طاهر بن الحسين الخزاعي، وكانوا هم ولاة البلاد، فحملهم إلى سجستان، فوجه الخليفة المعتز بالله  رسولا يعرف بابن بلعم برسالة وكتاب، فأطلقهم. قال ابن بلعم: صرت إليه بكتاب أمير المؤمنين المعتز بالله إلى زَرَنْج - وهي عاصمة بلاد سجستان -  فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت ولم أسلم عليه، وجلست بين يديه من غير أمره، ودفعت الكتاب إليه فلما أخذه قلت له: قَبِلْ كتابَ أمير المؤمنين فلم يقبله، وفضه، فتراجعت القهقرى إلى باب مجلسه الذي كان فيه ثم قلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، فأعجبه ذلك، وأحسن مثواي ووصلني، وأطلق الطاهرية .
وحارَبَته ملوكُ الترك من حوله فقتلهم وشتت جموعهم، وملك هَراة سنة 253 فهابه أمراء الأطراف، وتطلع إلى ملك فارس وجبي خراجِها، فكتب إلى الخليفة العباسي المعتز بالله ببغداد يعرض طاعته ويسأل أن يُعطى بلاد فارس، ويُقرر عليه خمسة عشر ألف ألف درهم، وأرسل إلى المعتز بالله هدية سنية من جملتها مسجد فضة مخلّع يصلي فيه خمسة عشر إنسانا، وكان يُحمل على عدّة جمال، ويُفكَّكُ ثمّ يُركَّبُ، وعشرة بازات منها باز أبلق لم ير مثله، ومئة مُهر، وعشرون صندوقاً على عشر بغال فيهم طرائف الصين وغرائبه، ومئة رطل من مسك، ومئة رطل عود هندي، وأربعة آلاف ألف درهم.
ثم امتلك كرمان سنة 255، ولذلك قصة:
كان الخليفة العباسي قد ولي كرمان عليَّ بن الحسين بن قريش، وكتب إلى يعقوب أيضاً بولايتها، وقصد بذلك إغراء كل واحد منهما بالآخر فتسقط عنه مؤونة الهالك منهما وينفرد بالآخر، وكان كل منهما يظهر الطاعة للخليفة وهو في باطن أمره على معصيته، والمعتز يعلم بذلك منهما.
وتواجه جيش يعقوب الصفار وجيش علي بن الحسين بقيادة طوق بن المغلس قرب كرمان مدة شهرين لا يتقدم إلى طوق، ولا طوق يخرج إليه، فلما طال ذلك عليه أظهر يعقوب الارتحال إلى سجستان ورجع مرحلتين، وبلغ طوقا ارتحاله فظن أنه قد عدل عن حربه، فوضع آلة الحرب وقعد للشرب واللهو، واتصل ذلك بيعقوب فكر راجعاً وطوى المرحلتين في مرحلة واحدة، فلم يشعر طوق إلا بغبرة العسكر قد طلعت، فقال: ما هذا؟ فقيل غبرة المواشي، فلم يكن بأسرع من موافاة يعقوب فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابه يريدون المناهضة والدفع عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا لهم، فأفرجوا لهم فمروا هاربين وتركوا أموالهم وأثقالهم، وأسر يعقوب طوقا.
وكان علي بن الحسين قد سير مع طوق قيوداً في صناديق، ليقيد بها من يأخذه من أصحاب يعقوب، وفي صناديق أخرى أطواقاً وأساور يعطيها للشجعان من أصحابه، فلما غنم يعقوب عسكرهم رأى ذلك فقال يا طوق: ما هذا؟ فأخبره، فأعطى يعقوب الأطواق والأساور للشجعان لأصحابه، وقيد بالقيود والأغلال أصحاب علي.
ولما أخرج يد طوق ليجعل الغلّ فيها رآها يعقوب وعليها عصابة، فسأله عنها فقال: أصابتني حرارة ففصلتها، فأمر يعقوب بنزع خف نفسه فتساقط كسر يابسة، فقال: يا طوق، هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ شهرين، وخبزي فيه، منه آكل، وأنت جالس في الشرب!‏ وقيده بقيد خفيف، وأكرمه وأحسن إليه ووسع عليه.‏
واتجه يعقوب الصفار من كرمان إلى شيراز، وكان علي بن الحسين قد تحصن بها، فالتقيا وانهزم جيش علي بن الحسين وأسره يعقوب، ثم دخل يعقوب إلى شيراز والطبول تضرب بين يديه، وظن أهل شيراز أنه يؤدبهم ويستحل دماءهم وأموالهم بحربهم، لأنه كان وعد أصحابه إن هو ظفر أن يطلقهم وينهب شيراز، وبلغ القوم ذلك فلزموا بيوتهم، ورجع يعقوب من ليلته إلى عسكره بعد أن طاف شيراز، فلما أصبح نادى بالأمان ليخرجوا إلى الأسواق، فخرج الناس، وأعطى كل فرد في جيشه ثلاثمئة درهم عوضاً عن ذلك، وحضرت الجمعة فأمر الخطيب، فدعا للخليفة المعتز بالله ولم يدع لنفسه، فقيل في ذلك فقال: الأمير لم يقدم بعد، وقال: إنما مقامي عندكم عشرة أيام، ثم أرجع إلى عمل سجستان. وعاد فعلاً إلى سجستان بعد أيام قليلة، واستعاد الخليفة بعد ذلك فارس وبعث عماله إليها.
وفي أثناء ذلك خُلِع الخليفةُ المعتز بالله وتولى الخلافة الإمام المهتدي بالله ثم خُلِعَ بعد سنة، وبويع المعتمد ‏على الله سنة 256، ‏ فأهمل أمور رعيته وتشاغل بلهوه ولذاته، فغلب على أمره وتدبير ملكه وسياسة سلطانه أخوه الموفق طلحة بن جعفر المتوكل، ويسمى بالناصر لدين الله، وصيره كالمحجور عليه لا أمر ينفذ له ولا نهي، فقام الموفق بأمر الملك أحسن قيام، وقمع من قرب من الأعداء، واستصلح من نأى، على كثير ما كان يلقى من اعتراض الموالي وسوء طاعتهم، وتوفي بمدينة السلام سنة 278.
وفي سنة 259 انتحل يعقوب الصفار لنفسه عذرا في اقتحام نيسابور، فدخلها عنوة، وقبض على أميرها محمد بن طاهر آخر أمراء الأسرة الطاهرية، وتم للصفار ملك خراسان وفارس، وكان أمر الطاهرية قد ضعف لكثرة الخارجين عليهم من أمراء النواحي.
ثم طمع الصفار ببغداد فسار إليها سنة 262 وهو يقول إنه يريد مقابلة الخليفة، وكانت فتنة الزنج تعصف بالخلافة وتذرو الفتن واحدة تلو الأخرى، ويقال إن يعقوب بن الليث قال في مسيره هذا أبياتاً ينكر على المعتمد ومن معه من الموالي إضاعَتَهُمُ الدين، وإهمالهم أمر صاحب الزنج، فقال:
خُراسان أحْوِيهَا وأعمال فارس ... وما أنا من ملك العراق بآيسِ
إذا ما أمور الدين ضاعت وأهملت ... ورَثّتْ فصارت كالرسوم الدوارس
خرجْتُ بعون اللّه يمنا ونصرة ... وصاحب رايات الهدى غير حارس
فخرج إليه المعتمد على الله بجيشه، ودعا ببُرد النبي صلى الله عليه وسلم وقضيبه، وأخذ القوس ليكون أول من رمى، ووضع الخليفة العطاء في الجند، وقطع ما في الطريق من الشجر ‏والدغل، واستعدوا للحرب وجدَّوا فيها وشمروا، وقيل ما هو إلا أن تنتصروا أو تنهزموا فلا ترجع دولتكم ‏إليكم، ووقف الخليفة المعتمد بنفسه وإلى جانب ركابه محمد بن يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، ووقف معه جماعة من أهل البأس والنجدة، وتقدم بين يديه الرماة ‏بالنشاب، ورشقوا في ذلك اليوم أزيد من عشرين ألف سهم، وكشف الموفق أخو الخليفة رأسه وقال: أنا الغلام الهاشمي، وحمل على أصحاب الصفار، وقتل بين ‏الطائفتين خلق كثير، وفجر عليه نهراً يعرف بالسيب، فغشي الماء الصحراء، وكانت الدائرة على الصفار لظنه ألا يكون قتال.
قال أبو الساج داود ابن دوست الكردي للصفار لما انهزم: ما رأيتُ ‏معك شيئاً من تدبير الحروب، وكيف كنت تغلب الناس! فإنك جعلت ثقلك وأموالك وأسراك أمامك ‏وقصدت بلداً على قلة المعرفة منك به وبمغايصه وأنهاره بغير دليل، وقاتلت يوم الأحد والريح عليك، ‏وسرت من السوس إلى واسط في أربعين يوماً، وأحوال العساكر مختلة، فلما توافت عددهم، وجاءتهم أموالهم ‏واستحكم أمرهم عليك أقبلت من واسط إلى دير العاقول في يومين، وتأخرت عند إمكان الفرصة وأقبلت ‏تعدو في موضع التثبت، فقال الصفار: لم اعلم أني أحارب ولم أشك في الظفر، وتوهمت أن الرُسُلَ تَرِدُ عليَّ، ‏فبدروا الأمر فأتيت بما قدرت عليه.‏
ومضى الصفار منهزماً إلى واسط، ولم تتبعه الموالي مخافة رجعته ولاشتغالهم بالكسب والنهب، ثم رجع الصفار إلى السوس وجبى الأموال، ثم قصد تستر وحاصرها وأخذها ورتب فيها نائباً، واستولى في سنة 263 على الأهواز، وقاتل الزنج الذين سيطروا على البصرة، وحاول رئيسهم المسمى العلوي البصري استمالته، وكتب إليه يدعوه إلى الرجوع إلى بغداد، ووعده المساعدة، فقال لكاتبه: أجب عن كتابه، فقال: بماذا؟ فقال اكتب ﴿  قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ وسيَّر الكتاب إليه.
وبقي الصفار يشكل تهديداً للخلافة العباسية إلى أن توفي سنة 265، فقد أرسل المعتمد إليه رسولاً وكتاباً يستميله ويترضاه، ويقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض، فجلس له، وجعل عنده سيفاً ورغيفاً من الخبز الخشكار، ومعه بصل، وأحضر الرسول، فأدى الرسالة، فقال له: قل للخليفة إنني عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف، حتى آخذ بثأري، أوتكسرني وتعقرني، وأعود إلى هذا الخبز والبصل. وأعاد الرسول
مرض يعقوب بعلة القُولَنج الإمساك الشديد - فأخبره طبيبه أن لا دواء له إلا الحقنة، فامتنع منها واختار الموت عليها، فمات بعد مرض دام 16 يوماً، وخلف في بيوت أمواله من العين أربعة آلاف ألف دينار، ومن الفضة خمسون ألف ألف درهم، و كان لدى زوجته  ألف وسبعمئة جارية.
كان يعقوب الصفار عاقلاً حازماً قلَّ أن يُرى متبسماً، قال شيخ من الصفارين: كان يعقوب وهو غلام في دكانه يتعلم عمل الصفر، ولم أزل أتأمل بين عينيه ‏وهو صغير ما آل أمره إليه، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: ما تأملته قط من حيث لا يعلم بتأملي إياه إلا وجدته مطرقاً ‏إطراق ذي همة وروية، فكان من أمره ما كان.‏
وكان مناوئه الحسن بن زيد العلوي يسميه السندان  لثباته.  وكان الصفار يقول: كلُّ من عاشرتَه أربعين يوماً ولا تعرف أخلاقه، لا تعرفها في أربعين سنة.
أما شجاعته وإقدامه فمضرب المثل، وكانت آثارها في جسده ووجهه، قال علي بن الحكم: سألت يعقوب بن الليث الصَّفار، عن الضربة التي علي وجهه وهي مُنكَرة على قصبة أنفه ووجنته، فذكر أن ذلك أصابه في بعض وقائع الخوارج، وأنه طعن رجلاً منهم فرجع عليه فضربه هذه الضربة، فسقط نصف وجهه، حتى رُدّ وخُيّطَ. قال: فمكثتُ عشرين يوماً في فمي أنبوبة قصب، وفمي مفتوح لئلا يتقرح رأسي، وكان يُصب في حلقي الشيء بعد الشيء من الغذاء، قال حاجبه: وقد كان مع هذه الضربة، يخرج ويعبي أصحابه للحرب ويقاتل.
وكان رحمه الله تغلب عليه التقوى ومراقبة الله، كما مرَّ في جوابه لصاجب الزنج، وروي أن  يعقوب الصفار مرض مرضاً شديداً عجز الأطباء عن معالجته، فقيل له: إن في ولايتك رجلاً يدعو الله تعالى للمرضى فيشفون، هو سهل بن عبد الله التستري المتوفى سنة 283، فلو دعا الله لك ترجو العافية. فطلب سهلاً وسأله أن يدعو له فقال له سهل: أنى يستجاب دعائي لك وعلى بابك مظلومون! فأمر برفع الظلامات وإخراج المحبسين، فقال سهل: يا ربِّ كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة! ومسح بطنه بيده فعافاه الله، فعرض على سهل مالاً كثيراً فأبى أن يأخذ منه شيئاً.
وكتب على قبره: هذا قبر يعقوب المسكين، وكتب بعده:
أحسنْتَ ظـنَّك بالأيام إذْ حَسُنَت ... ولم تَخَفْ سوء ما يأْتي به القدرُ
وسالمَتْكَ الليالي فاغْترَرْتَ بها ... وعند صفو الليالي يحدُثُ الكدر
 

 
log analyzer