الجمعة، 28 يونيو 2013

حدث في السابع عشر من شعبان



في السابع عشر من شعبان من عام 807 توفي، عن 79 عاماً، القائد المغولي الكبير تيمور لِنك بن ترغاي بن أبغاي، وكانت وفاته في أترار، بليدة قرب شيمكنت في جنوبي كازخستان، ثم نقل منها إلى سمرقند حيث دفن بعد حياة حافلة بالغزو والخراب والقتل، وأسس الدولة التيمورية التي امتدت من الهند إلى البحر المتوسط، وكان فيها كثير من الجوانب الثقافية التي بناها على أنقاض ما هدم من دول ومحى من مدن. وتيمور هو اسمه، ويعني الحديد، أما لِنك فهي كلمة تعني الأعرج أو الكسيح.

ولد تيمور سنة 728 في بلدة تسمى كش جنوبي سمرقند، في دولة الجغطاي Chagtai التي أسسها جغطاي ابن جنكيز خان، وكان سلطانها يشمل كشغر وأغلب المنطقة التي تحتلها دولة كازخستان اليوم، ويسميها مؤرخو المسلمين بلاد ما وراء النهر، وقبيلته البرلاص قبيلة مغولية تتركت وأسلمت واستوطنت وراء النهر بعد أن شاركت في الحملات المغولية التي شنها جغطاي ابن جنكيز خان.

وتحيط كثير من القصص بأصله ومولده وسيرته، وهي دون شك من الشائعات السياسية التي يلجأ إليها الطغاة لرفع معنويات البسطاء من الأنصار ولتخويف الأعداء، ومنها أنه رؤى ليلة ولد كأن شيئاً يشبه الخوذة تراءى طائرا في جو السماء، ثم وقع إلى الأرض فتطاير منه جمر وشرر حتى ملا الأرض. ومنها أنه لما خرج من بطن أمه وجدت كفاه مملوءتين دماً، فتنبأوا أنه يسفك على يديه الدماء. ومنها أنه كان ببلدهم عابد يقال له شمس الدين الفاخوري، ولأهلها فيه اعتقاد زائد، فزاره تيمور، وأهدى له ماعزاً، وقعد بين يديه فسأله أن يدعو له بأمور يتمناها، فدعا له بأن تقضى حاجته، فكان لا يتوجه إلى جهة فيرجع خائباً.

وتقول الروايات الموثوقة إن والده كان زعيم قبيلة برلاس وأمير منطقة كش، وإن أمه من ذرية جنكيز خان، وتوفي والده وهو صغير، وسلك حياة الإجرام وقطع الطريق في أول أمره، ثم انضم إلى أمير كشغر، ثم تركه والتحق بالسلطان حسين صاحب سمرقند، وكانت هَراة وغيرها من بلاد الشرق في ملكه، وصار من أمرائه وزوجه السلطان بأخته، وشارك تيمور في حملة السلطان حسين سنة 765 للاستيلاء على بلاد ما وراء النهر والتي تكللت بالنجاح سنة 767، ووقع بينه وبين زوجته في بعض الأيام كلام فعايرته بما كان عليه من سوء الحال فقتلها، وخرج هارباً وأظهر العصيان على السلطان حسين، وتوجه إلى بلخشان وبها أميران فرض عليهما السلطان غرامة كبيرة لجناية صدرت منهما فكانا حاقدين عليه، فانضما إلى تيمور فكثر جمعه، وكان مغول الشرق بقيادة الخان قمر الدين قد هاجموا أراضي السلطان حسين، فتوجه السلطان حسين إليهم وقاتلهم، فأرسل تيمور يدعوهم إليه، فأجابوه ودخلوا تحت طاعته، فقويت بهم شوكته.

وتوجه السلطان حسين في عسكر عظيم لمقاتلة تيمور وحصروه في مضيق عسير المخارج، وظنوا أنهم حصروه وضيقوا عليه، ولكنه التف عليهم من خلال طرق وعرة، فأدركهم في السحر وهم على أهبة الرحيل لاعتقادهم أنه هرب، فنزل تيمور ومن معه عن خيولهم وتركوها ترعى في تلك المروج، وناموا كأنهم من جملة العسكر، فمرت بهم خيوله وهم يظنون أنهم منهم قد قصدوا الراحة، فلما تكامل مرور العسكر هاجمهم تيمور من الخلف، فاختبط الناس وانهزم السلطان حسين بمن معه حتى وصل إلى بلخ، فاستولى تيمور على ذخائره، وضم إليه من بقى من العسكر، ووزع عليهم أكثر ما استولى عليه، فعظم جمعه، وأحبه الجنود.

ثم توجه تيمور إلى سمرقند فنازلها فصالحه النائب بها واسمه علي شير على أن تكون بينهما نصفين، فأقره بسمرقند، وعلى النقيض من السلطان حسين، كان تيمور لا يفرض إلا أقل الضرائب في الأراضي التي استولى عليها، ولا يصادر الأغنياء، فأحبته رعيته، وصارت له سمعة حسنة في المنطقة، ثم توجه إلى بلخ، وهي اليوم مزار شريف في شمالي شرق أفغانستان، وحاصر السلطان حسين إلى أن نزل إليه بالأمان، فتسلم البلد ورجع إلى سمرقند ومعه السلطان، ثم قتل السلطان سنة 771.

وأخذ تيمور في توطيد ملكه وإزاحة المنافسين المحتملين، فقتل علي شير غيلة، ثم استعمل المكر والخديعة حتى قضى على كثير من الزعران الذين كانوا يتحكمون بسمرقند ويعيثون فيها فساداً، فاستأصلهم وكفى البلاد شرهم، ولما توطد سلطانه في سنة 773 تزوج بنت الملك المغولي تيمور خان ملك بلاد الخطاي، وزادوا في اسمه كور كان أي صهر الملوك.

وأكمل تيمور استيلاءه على دولة الجغطاي عندما احتل كشغر سنة 781، وفي سنة 784 توجه تيمور للتوسع نحو بلاد فارس الغنية بمصادرها الطبيعية والبشرية، والتي فاقت في التحضر البلاد التي استولى عليها في تركستان أو أفغانستان، ولكنها كانت تعاني من التنافس بين ملوكها، فاستولى على هراة  كان ملكها الشاه شجاع  بن محمد بن مظفر اليزدي صاحب شيراز وعراق العجم، فكتب إليه يدعوه إلى الطاعة وأداء الضريبة، ومما قاله في كتابه: إن الله قد سلطني على ظلمة الحكام وعلى الجائرين من ملوك الأنام، ورفعني على من ناوأني، ونصرني على من خالفني من عاداني، وقد رأيتَ وسمعتَ، فإن أجبتَ وأطعت، فبها ونعِمَت، وإلا فاعلم أن في قدومي ثلاثة أشياء: القتل والسبي والخراب، وإثم ذلك كله عليك ومنسوب بأجمعه إليك.

ولم يسع الشاه شجاع إلا أن يتفادى الحرب، فسلك سبيل المهادنة، وزوج ابنه لبنت تيمور، فلم يتم ذلك، ثم مات شاه شجاع، حتى مات بعد أن قسم ممالكه بين أولاده وأولاد أخيه، وأسند وصيته إلى تيمور، فاختلفوا بعد قليل وبغى ابن الأخ، ويدعى شاه شجاع، على أولاد عمه، فحاربه تيمور وقضى عليه، واستولى تيمور على ممالك فارس وعراق العجم.

واستدعي تيمور أقارب شاه شجاع وملوك تلك البلدان، ثم جاءه غيرهم، ودان له جميع ملوك المنطقة وعدتهم 17 ملكاً، ثم ما لبث أن أمر بقتلهم في ساعة واحدة، ثم استولى على بلادهم، وقتل جميع أولادهم وأقاربهم أحفادهم وأجنادهم، بحيث أنه كان إذا سمع بأحد له منهم نسب قتله، حتى لا يبقى له منازع من قريب أو بعيد.

وأصبحت مملكة تيمور تشمل هذه الدول: طاجكستان وأوزبكستان وتركمنستان وأفغانستان وإيران وجزءاً من جنوبي كزخستان، ثم ما لبث أن استولى على همدان ثم اتجه شمالاً فاستولى على تبريز، وصار على أبواب العراق، حيث كان هذا طريق بغداد الري، وجعل في كل من هذه الممالك أحد أولاده أو أحفاده، فقويت مهابته، وخافه القريب والبعيد.

ودخل تيمور في نزاع مع السلطان طقتمش خان ملك صحراء القبشاق وتركمنستان، وهو من سلالة جنكيز خان، فقد غزا طقتمش أذربيجان، فقصده تيمور بجيش جرار وهزمه، ولم يجهز عليه أو يتتبع جيشه، فانسحب طقتمش إلى الهضبة الروسية، فتوغل تيمور فيها مسافة 1000 كيل حتى وصل الضفة الشرقية لنهر الفولجا قريباً من موسكو، وصار شمالي أراضي طقتمش، ثم ما لبث أن عاد جنوباً على جناح ليواجه حشود طقتمش، وهاجمه هذه المرة من ناحية القوقاز، وهزمه في سنة 797 هزيمة لم تقم له بعدها قائمة، ويقال إنه في أحد المعارك كانت الكسرة أولاً على تيمور ثم عادت على طقتمش خان، وذلك بدعاء عابد يقال له الشريف بركة، كان من مشايخ تيمور ويدعوه بيا ولدي، وأن تيمور لما رأى الهزيمة تمسح به فصاح على عسكر طقتمش خان فانهزموا.

وكان السلطان أحمد ابن أويس صاحب بغداد، وهو من سلالة جنكيزخان وهولاكو، فبعث بأمواله وأهله مع ولده طاهر إلى قلعة النجا، فأرسل تيمور عسكره لحصارها، ومضى هو إلى بغداد، فطرقها بغتة في شوال سنة 795، ولم يتمكن من الاستيلاء عليها، فسار شمالاً يريد ديار بكر وجنوب الأناضول، فعصت عليه قلعة تكريت، فحاصرها أكثر من شهرين حتى استسلمت، فقتل متوليها ومن كان بتكريت وقلعتها من الرجال والنساء والأولاد.

ثم سار إلى الموصل في صفر 796 فنهبها وخربها، ونهب وخرب كل مدينة في طريقه حتى وصل ديار بكر فأفنى جميع رجالها، وسبى نساءها وأولادها، وكان قد دخل منهم إلى الجامع نحو الألفين فقتلوهم عن آخرهم، وأحرقوا الجامع ورحلوا، وقد صارت آمد خرابا بلقعا، ولكنه لم يستطع الاستيلاء على سيواس في أواسط الأناضول.

وبحلول سنة 796 كان تيمور قد أضاف لمملكته فارس والعراق وأذربيجان وأرمينية وجورجية، وقمع كل تمرد واجهه في أنحاء مملكته بقسوة لا مثيل لها، يدمر المدن بأكملها ويقتل سكانها عن بكرة أبيهم، وفي سنة 798 توجه تيمور نحو العراق فالأناضول، وكان في نيته متابعة مسيره لاحتلال بلاد الشام، ولكن الملك المملوكي الظاهر برقوق، سلطان مصر والشام،  كان قد استعد له وحشد في حلب جيشاً جراراً قدره بعض المؤرخين بستمئة ألف مقاتل، وهو رقم مبالغ فيه كثيراً، ولكنه يدل على أنه كان حشداً لم يسبق له مثيل، ولذا رجع تيمور عن مهاجمة بلاد الشام وعاد إلى عراق العجم، وأخرج من سجنه الملك الظاهر صاحب ماردين وجعله ملكاً على البلاد التي يمر بها ما بين أذربيجان إلى الرها، ولما سمع الملك الظاهر برقوق برحيل تيمور قام بحركة تدل على حسن تدبير واقتدار، فقد أرسل وراء تيمور العسكر الشامي يتقصاه فلم يلحق به، فعاد كل طرف إلى مواقعه.

ولما سار تيمور إلى بلاده بلغه موت فيروز شاه ملك الهند، وعاصمته دهلي، من دون أن يخلف ولداً يرث عرشه، وأن أمر الناس من بعده في اختلاف، فقد استولى على العرش وزير الملك، فعارضه أخو فيروز شاه متولي مدينة ملتان، فلما سمع تيمور هذا الخبر اغتنم الفرصة وسار من سمرقند في آخر سنة 800 إلى ملتان، وحاصرها 6 أشهر حتى سقطت في يده، ثم سار منها إلى العاصمة دهلى، واشتبك مع الوزير المتملك في معركة مريرة، حتى هزمهم هزيمة منكرة، وكان الجيش الهندي يعتمد على الفيلة المدرعة والرماة على ظهرها ومن ورائها المقاتلة والمشاة، وعلى كل فيل الأجراس لتنفر هذه الفيلة خيول تيمور، وواجه تيمور هذا التفوق بأن عمل آلافا من شوكات الحديد المثلثة الأطراف، وجعل من جيشه كميناً مع خمسمئة بعير محملة بالقصب المحشو بفتائل مغموسة بالدهن، ثم زحف بعسكره وقت السحر، وما هي إلا برهة حتى انسحب من وجه الفيلة كأن خيوله قد جفلت منهم، واتجه إلى أماكن نثر فيها الشوكات الحديدية التي صنعها، وانطلت حيلته على الهنود الذي لاحقوه بالفيلة حتى إذا وقعت على الشوكات الحديدية نكصت على أعقابها مسببة الفوضى، فأتبعها تيمور  بالجمال بعض أن أضرم في أحمالها النيران، فلما رأت الفيلة ذلك كرَّت راجعة فأصابتها الشوكات فبركت، وصارت في الطريق كالجبال مطروحة على الأرض لا تستطيع الحركة، وسالت أنهار من دمائها، فخرج عندئذ كمين تيمور  وأحاط بالجيش الهندي، وانقشعت المعركة بعد قتال طويل مرير، عن هزيمة الهنود وانسحابهم، وحاصر تيمور دهلي مدة حتى أخذها عنوة، ، وأمعن فيها جيشه ما اعتاد عليه من القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب، ثم عاد قافلأً إلى بلاده حاملاً معه ذخائر ملوكها وأموالهم التي لا تحصى، ولم يؤسس فيها دولة أو يترك فيها أحداً ملكاً من أولاده أو أحفاده.

وبلغ تيمورَ موتُ السلطان الملك الظاهر برقوق، وتولي ابنه الملك الناصر فرج وهو في العاشرة من عمره، فرأى أن الفرصة قد سنحت لاستكمال مخططه في الظفر بمصر والأناضول، فعاد على جناح السرعة إلى سمرقند، وخرج منها في أوائل سنة 802 إلى تبريز ثم اتجه منها شمالاً إلى أذربيجان وجورجيا فقتل وسبى، ثم قصد بغداد، ففر منها صاحبها السلطان أحمد بن أويس، فتركها تيمور فعاد إليها السلطان، ثم حاصر تيمور سيواس حتى سقطت في يده في أول سنة 803، وقبض على مقاتليها وهم ثلاثة آلاف، فحفر لهم سرداباً وألقاهم فيه وطمَّهم بالتراب لأنه كان قد حلف لهم أنه لا يريق لهم دما، ثم وضع السيف في أهل البلد وأخربها، وسار يستولي على ما استطاع من بلدات وقلاع الأناضول، ويمعن فيها قتلاً وتخريباً.

وكتب تيمور إلى نائب السلطان في حلب أن يقيموا الخطبة باسمه، ويبعثوا إليه بأطلميش زوج بنت أخته، وكان قد أسر في أيام الظاهر برقوق، فلم يستجيبوا لطلبه، فسار تيمور من عينتاب إلى ظاهر حلب أوائل سنة 803، واستطاع العسكر الحلبى هزيمة جيشه في أول لقاء رغم قلة عددهم، ثم التقوا معهم ثانية وصدوهم، ثم التقوا ثالثة قرب قرية حيلان في معركة شديدة استطاع فيها العسكر الحلبي مع قلته أن يكسر مقدمة تيمور، ويبدد جمعوها، وظنوا أن النصر صار قاب قوسين، ولكن تيمور لم يكن قد زجَّ بكل قواته في المعركة، فأمر بقية القوات بالهجوم والإحاطة بالجيش الحلبي، ولم يطل الأمر حتى فرَّ أمير حلب دمرداش المحمدي فانكسر من بقى من الأمراء، ولاحقتهم قوات تيمور إلى باب المدينة الذي لم يستطيعوا دخوله لتزاحمهم عليه فامتلأت الأرض من أجسادهم، وتشتت من بقي منهم في البلاد، وكسر العسكر الحلبي باب أنطاكية من أبواب حلب، وخرجوا منه إلى جهة دمشق.

كل ذلك والسلطان إلى الآن لم يخرج من الديار المصرية لصغر سنه، ولعدم اجتماع أمراء الديار المصرية، وتحصن الأمير دمرداش بقلعة حلب تاركاً البلد للنهب والتدمير، ثم نزل إلى تيمور بالأمان وتسلم تيمور القلعة وفيها كبار الأمراء بالبلاد الشامية، فقبض تيمور على الجميع وقيدهم، ما خلا الأمير دمرداش فأنه أخلع عليه وأكرمه.

وطلب تيمور قضاة حلب وفقهاءها، فجيء بهم إليه، فأشار إلى إمامه جمال الدين عبد الجبار فسألهم عن القتلى من الطرفين من هو منهم الشهيد؟ فأجابه محب الدين محمد بن الشحنة، المتوفى سنة 815، فقال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد. فأعجبه ذلك الجواب وانبسط معهم، فطلبوا منه أن يعفو عن الناس ولا يقتل أحدا، فأمنهم جميعاً وحلف لهم، ثم أخذ جميع ما في قلعة حلب من أموال، وقيل إنه ما أخذ من مدينة قدر ما ما أخذ من قلعة حلب، لكثرة ما كان بها من أموال الحلبيين.

وسار من حلب بعد أن جرع أهلها العذاب والعقاب، وهدم المدارس والجوامع، وخرب الدور، وبنى بحلب عدة مآذن من رؤوس القتلى، ومر على حمص فلم يتعرض لها، وقال: وهبتها لخالد بن الوليد رضي الله عنه، ثم نزل على بعلبك فنهبها.

وسار تيمور حتى أناخ على ظاهر دمشق ونشر قواته لحصارها، وكان الملك الناصر فرج قد جاءها في عسكره، ووقعت بين الفريقين مناوشات يومية رجحت كفة العسكر الشامي، فلجأ تيمور إلى المكيدة وأرسل ابن أخته سلطان حسين على أنه انشق عن عمه، فكان يرسل له ما اطلع عليه من أخبار الشام، واستمر القتال كل يوم، ثم رحل تيمور عن دمشق إذ أدرك أنها لن تقع بالسهولة التي تصورها، وخشي من بعده عن قاعدة بلاده وتحسب أن يقوم الجيشان المصري والشامي بهجوم واسع لا قبل له بصده.

وجاء تيمور الخبر وهو في طريق الرحيل أن الملك الناصر فرج وكبار امرائه قد غادروا دمشق فجأة باتجاه مصر بعد أن علم بمؤامرة تدبر لخلعه وانتهاز فرصة غيابه، وترك الناصر وأمراؤه دمشق وأهلها فريسة سائغة لتيمور، فعاد وحاصر دمشق حتى استسلم له أهلها بالأمان، بشرط أن يعطوه أموال وذخائر وأسلحةالعساكر المصرية، إلى جانب مبلغ آخر من الأهالي، ونادى تيمور في المدينة بالأمان والاطمئنان، وشنق أحد رجاله بعد أن نهب شيئاً من السوق، فاطمأن أهل دمشق، وفتحوا أبواب المدينة، ونزل تيمور بالقصر الأبلق من الميدان، وصلى الجمعة بجامع بني أمية، وقدم القاضي الحنفي محي الدين محمود بن الكشك للخطبة والصلاة.

وجرت بحضور تيمور مناظرات بين عبد الجبار وبين فقهاء دمشق، وهو يترجم عن تيمور بأشياء منها وقائع على بن أبي طالب رضي الله عنه مع معاوية، وما وقع ليزيد بن معاوية مع الحسين، وأن ذلك كله كان بمعاونة أهل دمشق له، فإن كانوا استحلوه فهم كفار، وإلا فهم عصاة بغاة، وإثم هؤلاء على أولئك، فأجابوه بأجوبة قبل بعضها وردَّ البعض. وكان الكاتب المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون في دمشق فطلب الخروج للتفاوض مع تيمور لنك، فأدلوه من السور وقابل تيمور الذي طلب منه أن يكتب له وصفاً لبلاد المغرب أتمها له ابن خلدون في أيام وبلغت 12 كراسة لطيفة.

ولم تستسلم قلعة دمشق وحاميتها العسكرية القليلة، وبقي تيمور يحاصرها 40 يوماً حتى أخذها بالأمان، قال المؤرخ ابن تغري بردي، وكان والده من قواد المماليك المشاركين في هذه الحملات: وكان من جملة المماليك الذين بقلعة دمشق لما حصرها تيمور صاحبنا السيفى كمشبغا جاموس وهو إلى الآن في قيد الحياة، وكان إذ ذاك شابا لم يطرَّ شاربه، ولقد حكى لي غير مرة أن غالب من كان بالقلعة في الحصار الجميع في هذا السن، ولم يكن بينهم رجل له معرفة بالحروب، ومع هذا عجز تيمور عن أخذ القلعة من هؤلاء حتى سلموها له بعد أربعين يوماً، فكيف لو كان بها من أعرفه من أعيان الأمراء إذ ذاك، فلا قوة إلا بالله.

ولما أخذ تيمور قلعة دمشق أباح المدينة لجيشه فأمعن فيها النهب والسبي والقتل والإحراق، حتى احترقت بأسرها، ثم رحل عنها في منتصف 803، وأشاع أنه عائد إلى سمرقند، وكما هو شأنه في كل مدينة استولى عليها، أخذ معه من أهل دمشق خيرة علمائها وأطبائها ومهندسيها وأفضل أهل الصناعات والحرف فيها، وهاجر كثير من هؤلاء إلى مصر، فاجتث علومها وصناعاتها ومحى محاسنها وأعادها للوراء سنين عديدة. 

ذكرنا أن تيمور من قبل حاول الاستيلاء على بغداد فلم ينجح، وكان ملك بغداد أحمد بن أويس سيء السيرة، أسرف في قتل أمرائه، وبالغ في ظلم رعيته، وانهمك على الفجور والخمر، فكاتب أهل بغداد  تيمور يحثونه على المسير إليهم فتوجه إليها واستولى عليها بحيلة دبرها على أهل بغداد، وهو أن الملك أحمد لما بلغه مجيء تيمور أرسل بالشيخ نور الدين الخراساني إلى تيمور فأكرمه، وقال: أنا أترك بغداد لأجلك، ورحل يريد مدينة السلطانية في أذربيجان، فبعث نور الدين كتبه بالبشارة إلى بغداد، وقدم في أثرها، وكان تيمور قد سار يريد بغداد من طريق أخرى، فلم يشعر ابن أويس - وقد اطمأن - إلا وتيمور قد نزل غربي بغداد قبل أن يصل الشيخ نور الدين، فدهش عند ذلك ابن أويس وقطع جسر بغداد ورحل بأمواله وأولاده وترك البلد، فحاصرها تيمور شهرين حتى أخذها عنوة في يوم عيد الأضحى من سنة 803، ووضع السيف في أهلها، وألزم كل واحد معه أن يأتي برأسين من رؤوس أهل بغداد، فوقع القتل في أهل بغداد حتى سالت الدماء أنهارا، وقد أتوه بما التزموه، فبنى من هذه الرؤوس مائة وعشرين مأذنة.

قال ابن تغري بردي: أخبرني غير واحد ممن كان ببغداد إذ ذاك أن عدة من قتل في هذا اليوم قد بلغت 90000 إنسان تخمينا، سوى من قتل في أيام الحصار، وعند دخول تيمور إلى بغداد، أوألقى نفسه في دجلة فغرق، وقيل أن الرجل الملزوم بإحضار رأسين كان إذا عجز عن الرجال قطع رأس امرأة من النساء وأزال شعرها وأحضرها!

وكان بايزيد العثماني قد استلم الحكم من والده مراد بن عثمان، وكانت المملكة منقسمة بيد ستة ملوك، فحاربهم وكسرهم، وجمعها في مملكة واحدة في سنة 797، فراسله تيمور  بعض هؤلاء الملوك ووعدهم إن هم ناصروه برد إماراتهم إليهم، فاتفقوا معه على ذلك، وكان متملك بغداد أحمد بن أويس قد التجأ إلى بايزيد، فكتب إليه تيمور أن يخرجه من مملكته وإلا قصده وأنزل به ما أنزل بغيره، وطلب منه كذلك رد الممالك التي انتزعها إلى ملوكها، فرد عليه بايزيد بجواب خشن.

وأرسل بايزيد رسالة إلى مصر تتضمن الدعوة إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف في قتال هذا الطاغية تيمورلنك ليستريح الإسلام والمسلمون منه. ولكن الأمراء حول الملك الصغير قالوا: الآن صار صاحبنا؟! وعندما مات أستاذنا الملك الظاهر برقوق مشى على بلادنا، وأخذ ملطية من عملنا، فليس هو لنا بصاحب: يقاتل هو عن بلاده، ونحن نقاتل عن بلادنا ورعيتنا! وكُتب له عن السلطان بذلك. قال المؤرخ الكبير ابن تغري بردي: وكان ما قاله بايزيد بن عثمان من أكبر المصالح، فإنه حدثني فيما بعد الأمير أسنباي الظاهري الزَرَدكاش، وكان أسَرَه تيمور وحظي عنده وجعله زردكاشه، أي المسؤول عن دروعه، قال: قال لي تيمورلنك ما معناه إنه لقي في عمره عساكر كثيرة وحاربها، لم ينظر فيها مثل عسكرين: عسكر مصر وعسكر ابن عثمان. غير أن عسكر مصر كان عسكراً عظيماً ليس له من يقوم بتدبيره لصغر سن الملك الناصر فرج، وعدم معرفة من كان حوله من الأمراء بالحروب، وعسكر ابن عثمان، غير أنه كان بايزيد صاحب رأي وتدبير وإقدام، لكنه لم يكن من العساكر من يقوم بنصرته.

قال ابن تغري بردي: ولهذا قلت إن المصلحة كانت ذلك فإنه كان يصير للعساكر المصرية من يدبرها، ويصير لابن عثمان المذكور عساكر مصر مع عساكره عوناً، فكان تيمور لا يقوى على مدافعتهم، فإن كلاً من العسكرين كان يقوى على دفعه، لولا ما ذكرناه، فما شاء الله كان. وبعد أن كُتِبَ لابن عثمان بذلك لم يتأهب أحد من المصريين لقتال تيمور، ولا التفت إلى ذلك، بل كان جل قصد كل أحد منهم ما يوصله إلى سلطنة مصر وإبعاد غيره عنها، ويدع الدنيا تنقلب ظهراً لبطن!

وسار تيمور إلى قتال بايزيد في أواخر سنة 804، وحشد بايزيد قواته وبادر ليلقى تيمور على حين غرة، فوصل إلى ميدان المعركة قرب أنقرة وجيشه منهك القوى، وكان هذا في الوقت الذي سار فيه تيمور بعسكره متهملاً وقد بلغه قدوم بايزيد من جواسيسه فتباطأ في سيره وأراح جيوشه.

ولما تدانا الجيشان للحرب في 27 ذي الحجة من سنة 804، ساهمت عدة عوامل في إلحاق الهزيمة ببايزيد، فقد كان عدد جيش تيمور ضعف عدد جيش بايزيد، على اختلاف كبير بين المؤرخين في عدد الجيشين، ثم انسحب الأمراء الخونة وانضموا لتيمور، فتضعضع موقف بايزيد إذ كانوا معظم عسكره، وقام تيمور أثناء المعركة بتحويل جدول مياه فأصبح متحكماً بمياه الشرب، وكادت عساكر بايزيد تموت عطشاً فقد كانت الوقت في شهر يوليو/تموز في ذروة الصيف.

وقاتل بايزيد ومن معه قتال صدق، وكان معه الأمير الصربي ستفان لازارفيتش، وأثخنوا في المغول حتى أزالوهم، ولكن تيمور كان قد أعد جيشاً آخر فأخرجه في هذه اللحظة فدارت الدائرة على بايزيد عليهم وأخذ أسيراً، وهو أول وآخر سلطان عثماني يقع في الأسر، وقد مات مأسوراً سنة 805.

ووفى تيمور بوعده فأعاد للتركمان بلادهم التي نزعها بايزيد منهم، وقسم بلاد بايزيد بين أولاده الثلاثة، واشترط أن يكون الدعاء له في كل هذه البلاد، وأما القادة الذين خانوا بايزيد فأكرمهم في البداية ثم قبض عليهم وقتلهم جميعا.

وأحيى انتصار  تيمور على بايزيد آمال بعض الدول الأوربية في احتواء التهديد العثماني والقضاء عليه، فقد كان بايزيد، الملقب بالصاعقة، قد تابع غزوه من الأناضول ففتح بورصة سنة 730 ثم سار باتجاه القسطنطينية ومضايق البحر، وأعدَّ أسطولاً كبيراً للغزو في البحر قوامه 300 سفينة، واحتل بلغاريا وأجزاء من اليونان والبوسنة، ولكن النصارى الأوربيين في أمنياتهم لم يراعوا مصالح الكنيسة الشرقية التي قضى عليها تيمور قضاءً كاد يكون مبرماً في أرجاء آسيا الوسطى، ولشماتتهم ببايزيد غضوا البصر عن أن تيمور ذهب بأية آمال خامرت الكنيسة في تنصير المغول الذين تحولوا جميعاً للإسلام.

وممن التحق بتيمور بعد هذه المعركة الحافظ ابن الجزري، شيخ القراء في زمانه، محمد بن محمد، المولود سنة 751، وصاحب النشر في القراءات العشر، والمنظومة الجزرية في التجويد، وكان مع بايزيد فأسر، فأكرمه تيمور لاشتهاره بالقراءات وأدخله معه بلاد العجم، وولاه قضاء شيراز وانتفع به اهلها في القراءات والحديث، وتوفي سنة 833، وهو في كتابه غاية النهاية في طبقات القراء يسمي ما حدث الفتنة التيمورية.

وكانت المرحلة التالية في طموحات تيمور التي لا تنتهي هي الاستيلاء على بلاد الصين، وكان قد بعث إليها أحد أمرائه لاستطلاع أمورها ودفاعاتها، وكان الاستطلاع وجمع المعلومات أحد الأمور الأساسية في حملاته، حتى إنه كان يأمر برسم الخرائط وتصوير المعالم ، وأمر تيمور ببناء قلعة على الحدود لتكون قاعدة عملياته مع الصين، ثم أمر جنوده وأمراءه بأن يزرعوا أوسع ما يستطيعون من الأراضي وأمر بتجهيز الثيران اللازمة لجر العربات التي تحمل لوازم الحملة العسكرية وتمويناتها، وأمر بصنع 500 عربة ضخمة لهذا الغرض.

وخطط تيمور أن يتحرك إلى الصين في الشتاء حيث يجمد نهر سيحون ويستطيع عبوره مع جيشه الجرار، وقدر أن ظروف الشتاء ستساهم في ترجيح كفة قواته السريعة الحركة أمام الجيوش الصينية الجرارة، وقدر أن حملته تحتاج إلى 4 سنوات للسيطرة على الإمبراطورية الصينية، ولما اجتمعت عساكره خرج من سمرقند في شهر رجب من سنة 807 ويقابل شهر يناير من سنة 1405م، فعبر سيحون واتجه شرقاً نحو الصين، ولكن الشتاء الذي توقع تيمور أن يكون إلى جانبه في مواجهة الصينين، كان شتاءً قاسياً لم يسبق له مثيل حتى في تلك البلاد الباردة، فنزلت الثلوج جبالاً سدت الطرق، ولم يبق أحد من عساكره إلا امتلأت آذانهم وعيونهم وخياشميهم وآذان حيواناتهم وأعينها من الثلج، ثم انخفضت الحرارة انخفاضاً شديداً مصحوباً برياح عاتية، فهلكت الدواب، وجمد كثير من الناس وتساقطوا عن خيولهم هلكى، وجاء عقب هذا الريح والثلج أمطار كالبحار، وتيمور مع ذلك لا يرق لأحد ولا يبالي بما نزل بالناس، بل يجد في السير، وأمر أطباءه أن يعملوا له أدوية يشربها مع الخمر لدفع البرد وتقوية حرارة الجسم، فأثرت فيه هذه الأدوية حتى التهبت بطنه وتلفت كبده، فمات  كما ذكرنا في قرية تدعى أترار ثم نقل جثمانه إلى سمرقند، ودفن تيمور في ضريح عظيم لا يزال إلى اليوم مزاراً ومعلماً مهماً من معالم المدينة.

وقام ميخائيل جيراسيموف عالم الأجناس السوفيتي بفتح قبر تيمور وفحصه في سنة 1941، وأظهر الفحص أنه كان طويلاً بالنسبة لعرقه المغولى، عريض الصدر، يعرج من إصابة في وركه، وأن وجهه يشبه العرق المغولي مع بعض الملامح القوقاسية، وأعيدت عظامه إلى قبره بعد شهور في مراسم إسلامية تامة.

وكان تيمور لنك قد قسم البلاد قبل موته على أولاده وأحفاده، وأعطى أهم البلاد لحفيده سلطان خليل، وما لبث هؤلاء أن اختلفوا وتحاربوا سنين طوال، وظهر عليه ابنه الأصغر شاه رُخ واستطاع توحيد أغلب تلك البلاد من جديد.

وصف المؤرخون تيمور لنك بأنه كان رجلاً جاداً يكره المزاح، ويبغض الكذاب، قليل الميل إلى اللهو، يبغض بطبعه الشعراء والمضحكين،  وكان لا يجري في مجلسه شئ من الكلام الفاحش، ولا يذكر فيه سفك دماء ولا سبى ولا نهب ولا غارة، وكان شجاعاً مقداماً، يجب الشجعان ويقدمهم، وكان له عزم ثابت وفهم دقيق، محجاجا جدلا، سريع الإدراك، ريضا متيقظاً، يفهم الرمز، ويدرك اللمحة، ولا يخفى عليه تلبيس مُلبِّس، وكان إذا أمر بشيء لا يرد عنه، وإذا عزم على رأى لا ينثنى عنه لئلا ينسب إلى قلة الثبات، ويعتمد على أقوال الأطباء والمنجمين، ويقربهم ويدنيهم، حتى أنه كان لا يتحرك إلا باختيار فلكى، فلذلك كانت أصحابه تزعم أنه لم ترد له راية، ولا انهزم له عسكر مدة حياته.

وكان تيمور أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف من اللغة العربية شيئاً، وإنما يعرف اللغة الفارسية والتركية والمغولية، وكان يدير أمور دولته على سياسة جنكيزخان، كما هي عادة الجغطاى والترك، وكان قائداً محنكاً يخطط لحملاته قبل سنوات، وبدرس نقاط ضعف خصمه دراسة وافية، ثم لا يترك أسلوباً من أساليب السياسة والحرب إلا استعمله لكسر خصمه، بما في ذلك الجاسوسية والخديعة والدسائس والشائعات والتحالفات والمفاوضات، وكانت له مراسلات وسفارات مع ملوك المناطق المجاورة والبعيدة من الصين إلى بريطانية، وقد كتب سفير قشتالة روي جونزاليز دي كلافيخو كتاباً عن رحلته إليه قرابة سنتين إلى قبيل بدئه حملته الصينية.

كتب المؤرخون كثيراً عن تيمور لنك، وأبرزهم المؤرخ الأديب ابن عربشاه، المولود بدمشق سنة 791 والناشيء بسمرقند قبل أن يعود إلى دمشق فالقاهرة حيث توفى سنة 854، حيث أفرده بكتاب أسماه عجائب المقدور في أخبار تيمور، وهو كتاب تغلب عليه الصنعة الأدبية أكثر من الراوية التاريخية، ووصف ابن عربشاه وغيره تيمور لنك، وهم يكيلون له اللعنات، بأنه كان يحب أهل العلم والعلماء، ويقرب السادة الأشراف، ويدنى منه أرباب الفضائل في العلوم والصنائع، ويقدمهم على كل أحد، ويباحث أهل العلم وينصف في بحثه، وممن قصد تيمور من العلماء العلامة اللغوي مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط، المتوفى سنة 817، أعطاه تيمور لنك 5000 دينار.

وكان تيمور يقول إنه يتبع المذهب الحنفي، وله إمام يؤم به في الصلوات الخمس هو العلامة عبد الجبار بن النعمان الخوارزمي الحنفي، المولود سنة 770 والمتوفى سنة 805، وكان إماماً عالماً، بارعاً مفنناً، متقنا للفقه والأصول والبيان والعربية واللغة، فصيحاً باللغات: العربية والعجمية والتركية، وكان ينفع المسلمين في غالب الأحيان عند تيمور، وكان يتبرم من صحبته ولم تسعه إلا موافقته، ولم يزل عنده حتى مات.

وتقول بعض المراجع إن تيمور كان شيعياً، ولعل ذلك لأنه ممن يفضلون علياً رضي الله عنه على بقية الصحابة، ولكن باستثناء هذا التفضيل لم أعثر على ما يدل على شيعيته، وينبغي ملاحظة أن دول أولاده وأحفاده في آسيا الوسطى أو الهند أو إيران لم تكن دولاً شيعية. وكان تيمور لا يقبل بالدعوة إلى وحدة الوجود، وأمر بقتل فضل بن أبي محمد التبريزي في سنة 804 عندما ظهرت دعوته الفاسدة.

وكان تيمور يلازم اللعب بالشطرنج، ثم علت همته عن الملاعب بالشطرنج الصغير المتداول بين الناس، صار يلعب بالشطرنج الكبير، ورقعته عشرة في إحدى عشرة، وتزيد قطعه على الصغير بأشياء.

وفي حين يعتبره المؤرخون المشرقيون والفارسيون سفاكاً للدماء مبيراً للأمم مدمراً للحضارات، يعتبره غالب أهل مناطق آسيا الوسطى ذوو الأصول التركية بطلاً قومياً بنى أمجاداً وحقق انتصارات وازدهرت في ظله هذه المناطق أيما ازدهار، ولذا لا غرابة أن تعمد أزبكستان بعد استقلالها من الاتحاد السوفيتي فتجعل لها راية جديدة فيها شبه كبير براية تيمور لنك ، فهو أحد أبطالها القوميين، ويحتل نصبه التذكاري في طشقند المكان الذي كان ينتصب فيه من قبل تمثال الزعيم الشيوعي كارل ماركس.

وكان للدولة المغولية التي أسسها وتابعها من بعده أولاده وأحفاده في أواسط آسيا وفي أفغانستان، خدمات جليلة في نصر الإسلام ونشر العلوم، وأسس حفيده ظهير الدين محمد بابر في سنة 911 دولة بقيت قرابة قرنين تحكم الهند ازدهر فيها العلم والحضارة والفن، وساد فيها العدل والإنصاف، ومن أبرز وجوهها السلطان محمد أورنك زيب عالم گير، المولود سنة 1028 والمتوفى سنة 1118،  ووصفه مؤرخوه بأنه المجاهد العالم الصوفي، وباسمه جمعت الفتاوى العالمكيرية.
 

الجمعة، 21 يونيو 2013

حدث في العاشر من شعبان



في العاشر من شعبان من سنة 180 ولد المعتصم ابن هارون الرشيد، واسمه محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ولقبه أبو إسحاق، وسيكون ثامن خلفاء بني عباس وأكثرهم شجاعة وخوضاً للحروب، ومن أعظمهم هيبة.

ولد المعتصم في قصر الخُلد ببغداد، وأمه أم ولد من مولدات الكوفة اسمها ماردة، توفيت دون أن تدرك خلافته، وهو الولد الرابع للخليفة هارون الرشيد من بين اثني عشر ابناً، وكلهم - باستثناء الأمين -  لأمهات أولاد، وفيهم أكثر من واحد يسمى محمداً.

وكان هارون الرشيد رحمه الله حريصاً على تعليم أولاده في كُتَّاب في قصره، ويدرس معهم فيه بعض أبناء الحاشية، وكان مع المعتصم غلام في الكُتَّاب يتعلم معه، فمات الغلام فقال له الرشيد: يا محمد مات غلامك؟ قال: نعم يا سيدي، واستراح من الكتاب! فأدركت الشفقة الرشيد وقال: وإن الكُّتاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟! دعوه إلى حيث انتهى، ولا تعلموه شيئاً. فكان المعتصم لذلك يكتب كتابة ضعيفة ويقرأ قراءة ضعيفة.

وتوفي هارون الرشيد بطوس سنة 193، وهي اليوم مشهد في إيران، وخلفه بعهد منه ابنه محمد الأمين على أن يليه أخوه عبد الله المأمون، وجعل الرشيد ابنه القاسم ولقبه المؤتمن، وليَّ العهد بعد المأمون، وجعل أمر استقراره وعزله إلى المأمون إن شاء استمر به وإن شاء عزله.

 ووقع الخُلف بين الأمين وبين المامون، وانتهى بمقتل الأمين واستتباب الأمر للمأمون في أول سنة 198، وفي سنة 213 تمرد أهل الحوف في مصر واتسعت ثورتهم، فولى المأمون أخاه المعتصم الشام ومصر، وصارت إليه تولية أمرائها وقضاتها، فسار المعتصم إلى مصر، وعزل أميرها عيسى بن يزيد الجلودي، ومكث فيها بضعة أشهر حتى قمع التمرد واستتبت الأمور، وولى المعتصم في سنة 216 عيسى بن منصور الرافقي على مصر، وتسبب سوء إدارته في حدوث ثورة عامة من العرب والقبط، لم تنته إلا بقدوم المأمون إلى مصر في أول سنة 217 وعزله لعيسى بن منصور، وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك: حمَّلتم الناس مالا يطيقون، وكتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد!

وكان المعتصم ذا انكباب على الجندية وإعداد القوى، وينفق أمواله في جمع الرجال وابتياع الغلمان، وكان العباس بن المأمون مشغولاً بإتخاذ الضياع، فكان المأمون كلما نظر إلى المعتصم تمثل:

يبني الرجال وغيره يبني القُرى ... شتان بين مَزارع ورجال

قلِقٌ بكثرة ماله وسلاحه ... حتى يفرًّقه على الأبطال

وكان المأمون يعتمد على أخيه المعتصم في الجيوش والغارات، ففي سنة 216 هاجم البيزنطيون طرسوس والمصيصة على حدود الدولة الإسلامية، فسار المأمون بنفسه حتى دخل الأراضي البيزنطية، وأرسل أخاه المعتصم في العمق البيزنطي فشن أكثر من 30 غارة ورجع ظافراً.

واستمر المأمون في الخلافة 20 سنة إلى أن توفي، عن 47 عاماً، وهو يغزو الروم في رجب سنة 218، ودفن في طرسوس، في جنوبي تركية اليوم، فتلاه بعهد منه أخوه المعتصم بالله، وهو بذلك أول خليفة أضاف اسم الجلالة إلى لقبه، وكان المعتصم مع المأمون حين حضره الموت، فدعاه وأوصاه فقال: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتعملن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته. قال: نعم، قال: فأقِرَّ عبد الله بن طاهر على عمله، وإسحاق بن إبراهيم، فأشركه في ذلك، فإنه أهل له، وأهلَ بيتك، فالطف بهم، وبنو عمك من ولد علي بن أبي طالب، فأحسن صحبتهم، ولا تغفل عن صلتهم.

وهكذا تولى المعتصم الخلافة وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، وكان المأمون لما قدم الثغر غازياً أراد أن يجعل فيه قاعدة حضرية للجيش الإسلامي، فشرع في بناء بلدة في مكان حصن يدعى الطُوانة، وبنى عليه سوراً قدر ميل في ميل، وأتى إليه بالسكان من البلاد، فكان أول ما عمله المعتصم أن أوقف هذا المشروع، وأعاد الناس إلى أوطانهم.

وقد واجه المعتصم في خلافته التي ستطول قرابة 8 سنوات تحديات كثيرة متتالية، كان أولها، وأهونها، عند بيعته، فقد شغب بعض الجند ونادوا باسم العباس بن المأمون، وكان أميرَ والده على الجزيرة والثغور، فأرسل إليه المعتصم فأحضره فبايعه، ثم خرج العباس إلى الجند فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي. فسكتوا، وعاد المعتصم إلى بغداد ومعه العباس وزوجه بابنته ولكنه مات قبل أن يدخل بها.

واستناداً إلى اعتماده المتزايد على الأتراك، سرح المعتصم العسكر الموجود بمصر من العرب، وكتب إلى والي مصر نصر بن عبد الله، المعروف بكيدر، يأمر بإسقاط من في الديوان من العرب، وقطع أعطياتهم، ففعل ذلك كيدر، فخرج عليه يحيى بن الوزير الجروي في جمع من لخم وجذام، فحاربه مظفربن كيدر وهزمه في سنة 219.

ثم واجه المعتصم تمرداً آخر من الخُـرَّمية، وهم طائفة باطنية يقال لهم بالفارسية خرمدينية، يعني يدينون بما يريدون ويشتهون، وإنما لقبوا بذلك لإباحتهم المحرمات وسائر وفعل ما يتلذذون به، وأشبهوا في هذه الإباحةِ المزدكيةَ من المجوس الذين خرجوا قبل الإسلام، وخرجت هذه الطائفة في أيام الرشيد واستمر عصيانهم إلى أيام المعتصم، حيث تجمعوا في أول خلافته واستولوا على منطقة كبيرة في شمال إيران وجنوبي أذربيجان، فوجه إليهم المعتصم العساكر، فأوقعت بهم في أعمال همذان، وقتل منهم ستين ألفاً وهرب الباقون إلى الدولة البيزنطية في الأناضول.

وفي سنة 219 ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالطالقان، وهي في جوزجان بأفغانستان، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ابتداء أمره أنه كان ملازماً لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم حسن السيرة، فأحبه خراساني وأعجبته طريقته، فقال له: أنت أحق بالإمامة من كل أحد، وحسَّن له ذلك وبايعه، ثم جاءه بالنفر بعد النفر من حجاج خراسان يبايعونه، فلما رضي بكثرة من بايعه من خراسان سارا جميعاً إلى الجوزجان، فعظُم أصحابه، وأظهر أمره بالطالقان، فوجه إليه والي خراسان عبدُ الله بن طاهر بعض عماله، فهرب إلى نيسابور حيث قبض، وتعلل بأن القوم اعتقلوه، وأنه لم يكن له في ذلك إرادة، فأرسله عبد الله بن طاهر إلى المعتصم، فحبسه في قصره ، ثم هرب من السجن فلم يعرف له خبر بعد ذلك.

قال المسعودي في مروج الذهب: وقد انقاد إلى إمامته خلق كثير من الزَّيدية إلى هذا الوقت - وهو سنة 323 - ومنهم خلق كثير يزعمون أن محمداً لم يمت، وأنه حي يرزق، وأنه يخرج فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وأنه مهديُّ هذه الأمة.

وفي نفس السنة وجه المعتصم قائده عجيف بن عنبسة لحرب الزُّط، وهم قوم سود البشرة سكنوا الأهواز، وكانوا قد غلبوا على طريق البصرة، وعاثوا وأخذوا الغلات وأخافوا السبل، فسار عجيف حتى نزل واسط، فسدَّ المسالك المائية التي كانوا يخرجون منها ويدخلون، ثم استوطن عجيف منطقتهم وأقام بإزائهم ستة أشهر حتى استسلموا، وخرجوا إليه ، وكان عدتهم بالنساء والصبيان سبعة وعشرين ألفاً، المقاتلة منهم اثنا عشر ألفاً، فأدخلهم بغداد في موكب في سفنهم وهم ينفخون في البوقات، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت الروم عليهم فلم يُفلت منهم أحد.

توجه المعتصم لبناء جيش محترف دائم كثير العدد، وكانت الجيوش من قبل تقوم على قلة محترفة لا تزيد على ألوف ينضم إليها في حالة الحرب عدد كبير من المتطوعة ومن التابعين المساندين، فجنَّد المعتصم الأتراك من أواسط آسيا من سمرقند وفرغانة، وسماهم الفراغنة، واصطنع قوماً من اهل الحوف بمصر، وسماهم المغاربة، وجعل لجيشه زياً عسكرياً فيه الديباج والنطاقات المذهبة، فصار جيشه الخاص المتمركز في بغداد بضعة عشر ألفاً، وبلغ عدد دوابِّه مابين فرس وبرذون وبغل 50.000 دابة، فكثروا في بغداد حتى ضاقت بهم، وكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس، ولما خرج المعتصم إلى العيد في سنة 220 قام إليه شيخ من أهل بغداد، فقال له: يا أبا إسحاق، لا جزاك الله عن الجوار خيراً، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك، فأسكنتهم بيننا فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت نساءنا وقتلت رجالنا، إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك! قال: وكيف تحاربونني؟ قالوا: بسهام الأسحار، قال: لا طاقة لي بذلك! فلم يُرَ  المعتصم راكباً بعدها أبداً، بل صلى العيد وسار إلى ناحية القاطول، وأمر ببناء مدينة جديدة تضم عسكره بعيداً عن بغداد، فكانت خشيته من دعاء أهل بغداد عليه سببَ بنائه سر من رأى وتحوله إليها.

واختطَّ المعتصم المدينة، وكانت تسمى مدينة العسكر، وأقطع الناس المقاطع، وجدَّ في البناء حتى بنى الناسُ القصور والدور، وقامت الأسواق، وبنى على دجلة عدة قصور للقواد والكتاب وسماها بأسمائهم، وحفر الأنهار في شرقي دجلة وعمر العمارات، ونصبت الدواليب والدوالي على الأنهار، وحملت النخيل والغروس من سائر البلدان، وبني القرى، وحمل إليها الناس من كل بلد، وأمرهم أن يعمروا عمارة بلدهم، وحمل قوما من أرض مصر يعملون القراطيس، فعملوها، فلم يأت في تلك الجودة.

وكان من أولويات المعتصم حسم تمرد بابك الذي مضت عليه قرابة 20 سنة، فبدأ كأي قائد محنك بتوطيد عناصر النصر، فوجه أحد قواده إلى أردبيل، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل، ففعل ذلك، ثم حقق ذلك القائد أول انتصار على قوات بابك عندما اعترض سرية له أغارت ورجعت، فظفر بهم في طريق العودة وقتل وأسر منهم، وبعث بالرؤوس والأسرى إلى المعتصم.

ثم قام محمد بن البعيث أحد الأمراء في أذربيجان، وكان مشايعاً لبابك، بالانتقال إلى طاعة المعتصم، وأعمل الحيلة حتى قبض على قائد من قواد بابك وسيره إلى المعتصم، فسأله عن بلاد بابك فأعلمه طرقها ووجوه القتال فيها، فأبقى عليه في الحبس،  وفي سنة 220 عقد للقائد الأفشين حيدر بن كاووس راية الإمرة على الجبال الواقعة اليوم في شمال إيران، ووجهه لحرب بابك الخرمي فسار لذلك، والطرق والحصون مضبوطة، فالتقى مع بابك في وقعة عظيمة قتل فيها كثير من أصحاب بابك، وأُفلت هو في نفر يسير، واستمرت الحرب بينه وبين بابك المرة بعد المرة إلى سنة 222، حتى انجلت عن ظفر المسلمين، وهرب بابك ثم أُسر وأرسل إلى سامرا فقتله المعتصم، بعد أن قتل في عشرين سنة 255.500 إنسان.

كانت العلاقات بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية في تلك الفترة علاقة متوترة، فقد نقض الملك نقفور الهدنة في أيام هارون الرشيد الذي رد على ذلك بحملة عسكرية هزمت البيزنطيين وعادوا ثانية للهدنة، ثم نقضوها ثانية في عهد المأمون الذي توفي وهي على تخومهم، وعادوا ثالثة في زمن المعتصم حين شجعهم تمرد بابك الخُرمي الذي أرسل رسالة للإمبراطور توفيل Theophilus بأن أن المعتصم قد وجه عساكره إليه، وجميع مقاتلته ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحد يمنع، فهاجم زبطرة وملطية، فقتل من بها من الرجال، وسمل أعينهم وقطع أنوفهم وآذانهم، وسبى الذرية والنساء، ولكن فأله خاب لأن المعتصم هبَّ فشن حملة كبيرة بقيادته في سنة 223 استهدفت عمورية، فحاصرها حتى فتحها، ثم خربها وعاد ببابها إلى بغداد لينصبه على أحد أبواب دار الخلافة، وقد أفردت لهذا الحدث موضوعاً مستقلاً في أحداث رمضان.

وبعد موقعة عمورية حرّض عجيفُ بن عنبسة وجماعة معه العباسَ بن المأمون على أن ينقلب على عمه المعتصم، ولاموه أن لم يخرج عليه في أول الأمر، ووعدوه بالتأييد، فاستجاب لهم العباس، وانضم للمتمردين عدد كبير جداً من قادة الأتراك الطامعين في النفوذ والسلطة، وعاد الجيش وعلى رأسه المعتصم من عمورية إلى طرسوس، وأشار عجيف على العباس أن ينتهز فرصاً منحتهم إياها شجاعة المعتصم وإقدامه في خروجه وحده دون حراسة، ولكن العباس لم يرد أن يفسد الغزوة بالاتقضاض على عمه عقبها، بل تردد في اغتيال المعتصم في عدة مناسبات سنحت، ثم تسرب خبر المؤامرة للمعتصم الذي بادر بالقبض على العباس وعلى كبار المتآمرين، وقتل عجيف وسجن بقيتهم في ظروف سيئة جداً أدت إلى موتهم واحداً تلو الآخر.

وفي سنة 224 اندلع تمرد آخر جاء هذه المرة من قائد من قواد المعتصم، هو مازيار بن قارن، وكان منافراً لوالي خراسان عبد الله بن طاهر، وقال للمعتصم: لا أحمل الخراج إلا إليك، وكان المعتصم يتحمل ذلك منه ويأمر بأخذه من أصحاب مازيار بهمذان، ويسلمه لوكيل عبد الله بن طاهر، ولما ظفر الأفشين ببابك وعظُمَ محله طمع في ولاية خراسان، فراسل مازيار مشجعاً له على التمرد، وفي حسابه أن المعتصم سيرسله للقضاء على هذا التمرد ويعينه بطبيعة الحال والياً على خراسان، ولكن المعتصم طلب من عبد الله بن طاهر القضاء على تمرد مازيار، فأرسل جيشين أحدهما لمحاصرة مازيار والآخر تحوطاً لما قد يكون من هجماته، وأرسل المعتصم ثلاثة جيوش لمواجهة مازيار كذلك وللسيطرة على المنطقة، وانجلت الحملة عن هزيمة المازيار وأشياعه وعودة هذه المناطق الشاسعة إلى فلك الدولة العباسية، وأُسِرَ المازيار وأحيط بأمواله وذخائره، وأُرسِل إلى بغداد، وعرض المازيار على المعتصم أموالاً كثيرة يحملها إليه إن هو مَنَّ عليه بالبقاء، فأبى قبول ذلك، وتمثل:

إنَّ الأسود أسود الغيل همتها ... يوم الكريهة في المَسْلُوب لا السلب

وتتضارب كثير من الروايات بعد أن تتحدث عن أن المازيار كشف سر مراسلات الأفشين معه وتحريضه له، وأدى هذا إلى أن قبض المعتصم على الأفشين في سنة 225، وحقق معه، ثم أمر بسجنه حتى مات في الحبس سنة 226، فيقول بعض الروايات إنه ظهر نتيجة للتحقيق أن الأفشين كان يظهر الإسلام ويبطن المجوسية، ولكن الروايات التي تتوسع وتورد مجرى التحقيق، تظهر أن الأفشين أكد إسلامه، وبرر وجود بعض الكتب والأصنام بكونه من مخلفات الكفر التي احتفظ بها، ويعتبر ما جرى بسبب من الحسد والبغضاء التي أكنتها له الحاشية بسبب نجاحه وقربه من المعتصم، وعلى رأس هؤلاء القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وأنا أميل لهذا الاستنتاج على ضوء سابقة الرجل في القتال دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، وعلى ضوء بعض الروايات التي تذكر أن المازيار نفى ذلك، ولعل سبب سجن الأفشين هو أن أخا زوجته وخليفته بأذربيجان خرج عن الطاعة وقتل أولياء المعتصم في المنطقة، ثم تبين للمعتصم أنه إنما خرج بأمر الأفشين وربما لذات الغرض الذي سبق ذكره، وهو أن يصبح والياً على خراسان بدلاً من عبد الله بن طاهر.

وقد يحلو لبعض الناس أن يصور الأمر تدبيراً من المعتصم العربي للقضاء على النفوذ التركي، وهو أمر لا يجد الباحث له أثراً في ثنايا كتب التاريخ التي تناولت تاريخ هذه الحقبة، فقد كان الإسلام محورها بعيداً عن العصبيات والجاهلية، ويكفي للرد على هذا أن نذكر أن قائداً تركياً آخر هو أشناس حل محل الأفشين، وأنه لما حجّ سنة 226 جعل المعتصم  إليه ولاية كل بلد يدخله، فخُطِبَ له على منابر مكة والمدينة وغيرها من البلاد التي اجتاز بها إلى مدينة سامرا، وتوفي أشناس سنة 230 في أيام الواثق معززاً مكرماً. ولكن المعتصم أدخل إلى جانب العرب والفرس عنصراً جديداً على الدولة الإسلامية هو العنصر التركي، الذي بلغ أوج نفوذه في زمن الدولة السلجوقية وكان يتبع المذهب السني، بعكس العنصر الفارسي الذي مثلته الدولة البويهية وكان يغلب عليه التشيع.

ويناسب هنا، وقد تحدثنا عن القادة الذين اصطنعهم المعتصم، أن نورد ما حدث به إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكان قائد شرطة بغداد وبمثابة واليها، قال: قال لي المعتصم: يا إسحاق إن في قلبي أمراً أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة، وإنما باسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك؛ فقلت: قل يا أمير المؤمنين، فإنما أنا عبدك وابن عبدك. قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحدٌ منهم؛ قلت: ومن الذين اصطنعهم المأمون؟ قال: طاهر بن الحسين، فقد رأيتَ وسمعت، وابنه عبد الله بن طاهر، فهوالرجل الذي لم يُرَّ مثله، وأنت، فأنت والله الرجل الذي لا يعتاض السلطان عنك أبداً،  وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد! وأنا فاصطنعت الأفشين، فقد رأيتَ إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل، وإيتاخ فلا شيء، ووصيفاً فلا مغنى فيه؛ فقلت: يا أميرَ المؤمنين، جعلني الله فداك! أجيبُ على أمانٍ من غضبك؟ قال: نعم! قلت له: يا أمير المؤمنين، نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعُها، واستعمل أمير المؤمنين فروعاً فلم تنجب إذ لا أصول لها. فقال: يا أبا إسحاق، لمقاساة ما مر بي طول هذه المدة أيسر علي من هذا الجواب.

والحقيقة أن المعتصم لم يكن كذلك موفقاً في وزرائه، فقد كان أول وزير له الفضل بن مروان، وكان كاتبه قبل الخلافة، وكان رديء السيرة جهولاً بالأمور، لم يقدِّر الفرق بين المعتصم في إمارته وبينه في خلافته، فنكبه المعتصم واستصفى ماله في سنة 220، واستوزر بعده أحمد بن عمار، وكان رجلاً موسراً محسناً، ولكنه طحان في الأصل لا خبرة له بآداب الوزارة، فمكث مدة حتى تبين للمعتصم جهله، فصرفه صرفاً جميلاً واستوزر محمد بن عبد الملك الزيات، وكان متأدباً ذكياً برع في كل شيء حتى صار نادرة وقته عقلاً وفهماً وذكاءً وكتابةً وشعراً وأدباً وخبرة بآداب الرياسة وقواعد الملوك، ونهض بأعباء الوزارة نهوضاً لم يكن لمن تقدمه من أمثاله، ولكنه كان جباراً متكبراً فظاً غليظ القلب خشن الجانب مبغضاً إلى الخلق، وكانت نهايته أن قتله في سنة 233 المتوكل ابن المعتصم حنقاً من تكبره عليه وهو أمير، قيل إن ابن الزيات عمل تنوراً من حديد ومساميره إلى داخل ليعذب به من يريد عذابه، فكان هو أول من جُعل فيه، وقيل له: ذق ما كنت تذيق الناس .

وواجه المعتصم في سنة 227 وهو على فراش الموت تمرداً في المشرق، حين خرج عليه في فلسطين المبرقع أبو حرب اليماني، وكان سبب خروجه أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب، فمنعه بعض نسائه فضربها الجندي بسوط فأصاب ذراعها، فلما رجع أبو حرب إلى داره اشتكت إليه ما فعل بها الجندي، فقتله أبو حرب وهرب وتبرقع، وقصد بعض جبال الأردن فأقام به، وكان يظهر بالنهار متبرقعاً فإذا جاءه أحد أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، ويذكر الخليفة ويعيبه فاستجاب إليه قوم من فلاحي تلك الناحية، فلما كثر أتباعه من هذه الطبقة، دعا أهل البيوتات فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية، ورجلان من أهل دمشق، فاتصل خبره بالمعتصم في مرضه، فسير لحربه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء ألف رجل من الجند فرآه في عالم كثير يبلغون مئة ألف رجل، فكره رجاء مواقعته وعسكر في مقابلته، حتى كان أوان الزراعة وعمل الأرضين فانصرف من كان مع المبرقع إلى عملهم، وبقي في زهاء ألف أو ألفين، فواجهه وأسره وقضي على الفتنة، وتم ذلك بعد وفاة المعتصم.

قال الإمام الذهبي: كان المعتصم من أعظم الخلفاء وأهيبهم لولا ما شانَ سؤدَدَه بامتحان العلماء بخلق القرآن. وذلك إن المعتصم على كونه عرياً من العلم، وقع تحت تأثير القاضي أحمد بن أبي دؤاد الإيادي المعتزلي، المولود سنة 160 والمتوفى سنة 240، وكان شديد الدهاء، فصيحاً عارفاً بالمنطق والكلام، وهو رأس فتنة القول بخلق القرآن، اتصل أولا بالمأمون، فلما قرب موته أوصى به أخاه المعتصم، فجعله قاضي قضاته، وجعل يستشيره في أمور الدولة كلها، فسلك المعتصم ما كان المأمون عليه من امتحان الناس بخلق القرآن، فكتب إلى البلاد بذلك، وأمر المعلمين أن يعلموا الصبيان ذلك، وقاسى الناس منه مشقة في ذلك، وضرب عليه الإمام أحمد بن حنبل في سنة 220،  ضرباً شديداً حتى غاب عقله، وتقطع جلده وحبس مقيداً.

ولما مات المعتصم في 19 ربيع الأول سنة 227، بعد خلافة حافلة بالجهاد ذلل فيها أعداء الإسلام، يقال إنه قال في مرض موته الآية الكريمة من سورة الأنعام: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾، ولما احتُضِر جعل يقول: ذهبت الحيلة فليس حيلة! اللهم إنك تعلم أني أخافك من قِبَلي، ولا أخافك من قِبَلِك، وأرجوك من قِبَلِك، ولا أرجوك من قِبَلي.

وخلف المعتصم من الولد الذكور ستة، صار اثنان منهم خلفاء، وتولى بعده بعهد منه ابنه هارون الواثق بالله المولود سنة 196، فرثاه وزيره محمد بن عبد الملك جامعاً بين العزاء والهناء فقال:

قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين

اذهب فنعم الحفيظ كنت على ال ... دنيا ونعم الظهير للدين

ما يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون

وكان المعتصم، وإن لم يتابع الدراسة، حكيماً فطناً، وكان إذا تكلم بلغ ما أراد وزاد عليه، قال: إذا نُصِرَ الهوى بَطَل الرأي. وكان يقول: من طلب الحق بما له وعليه؛ أدركه. وكتب ملك الروم إلى المعتصم كتاباً يتهدده فيه فأمر بجوابه فلما قرئ عليه الجواب لم يرضه، قال للكاتب اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فقد قرأتُ كتابك وسمعتُ خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عُقبى الدار. بل كان المعتصم يقرض الشعر في الغزل أو الفخر، وشعره لا بأس به. وكان أبو تمام الطائي حبيب بن اوس من شعرائه، وقد خلّد فتحه لعمورية بقصيدته البائية المشهورة:

السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب

كان المعتصم شديد القوة، قيل إنه كان يرفع بيده ألف رطل ويمشي بها خطوات، وانصرف يوماً وهو امير من دار المأمون إلى داره، وكان شارع الميدان منتظماً بالخيم فيها الجند، فمر المعتصم بامرأة تبكي وتقول: ابني ابني، وإذا بعض الجند قد أخذ ابنها، فدعاه المعتصم وأمره أن يرد ابنها عليها، فأبى فاستدناه فدنى منه، فقبض عليه بيده فسُمِعَ صوتُ عظامه، ثم أطلقه من يده فسقط، وأمر بإخراج الصبي إلى أمه.

وكان المعتصم بعيد النظر واسع الأفق، شجاع الهمة، عزم قبل وفاته على المسير إلى الأندلس لينتزعها من الأمويين، قال وزيره أحمد بن الخصيب: قال لي المعتصم: إن بني أمية ملكوا وما لأحد منا مُلك، ومَلَكنا نحن ولهم بالأندلس هذا الأموي، فقدِّر ما يُحتاج إليه لمحاربته. وشرع في ذلك فاشتدت علته ومات.

وكان المعتصم يحب العمارة، ويقول: إن فيها أموراً محمودة، فأولها عمران الأرض التي يحيى بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، وكان يقول لوزيره: إذا وجدت موضعاً متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهماً فلا تؤامرني فيه.

ومن أخبار المعتصم الدالة على مروءته ومكارم أخلاقه أنه بينما هو يسير وحده منفرداً عن أصحابه إذ مر بشيخ معه حمار عليه شوك، وقد زلق الحمار من المطر وسقط حمله، فسأله المعتصم عن حاله، فأخبره أنه ينتظر من يعينه على رفع الشوك على ظهر الحمار، فنزل المعتصم عن دابته وخلص الحمار من الوحل، ورفع عليه الحمل، والشيخ يقول: بأبي أنت وأمي لا تهلك ثيابك، فيقول: لا عليك. ثم غسل يديه وركب، فقال له الشيخ: غفر الله لك يا شاب. ثم لحقه أصحابه فأمر للشيخ بأربعة آلاف درهم، ووكل به من يوصله إلى بيته.

وقال ابن أبي دؤاد: تصدق المعتصم ووهب على يدي مئة ألف ألف درهم. هذا على يد رجل واحد فما ظنك بغيره!!

وامعتصماه!

الجمعة، 14 يونيو 2013

حدث في الثالث من شعبان


في الثالث من شعبان من عام 747 توفي في غرناطة، عن 73 عاماً، القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الجذامي المعروف بابن شبرين، كان فريد دهره في حسن السمت، وجمال الرواء، وبراعة الخط، وطيب المجالسة.

ولد القاضي أبو بكر بن شبرين في سبتة سنة 674، وهي عَدْوة المغرب إلى الأندلس، وأصله من شِلْب Silves من كورة باجة Beja ، وشلب اليوم في جنوبي غربي البرتغال تبعد عن البحر المتوسط قرابة 15 كيلا، وكانت تتبع إشبيلية في تلك الأيام، وكان جده قد ولي قضاء إشبيلية وعاش والده فيها فلما خرجت من يد المسلمين واستولى عليها الملك فرديناند الثالث سنة 646، رحل الوالد شرقاً إلى رُندة Ronda، ثم غرناطة، ثم عبر البحر إلى المغرب إلى سبتة، وتزوج بها، وولد ابنه أبو بكر ونشأ وتعلم فيها.

وتعلم أبو بكر ابن شبرين النحو في سبتة على جده لأمه الأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي، محمد بن عبد الله بن عبيدة، المولود سنة 627 والمتوفى بسبتة سنة 706، سكن سبتة بعد إشبيلية، وكان مقرئاً أديباً يقول الشعر الفائق. وأخذ أبو بكر القراءات عن قاضي سبتة أبي إسحاق الغافقي، إبراهيم بن أحمد بن عيسى بن الغافقي الاشبيلي، المتوفى سنة 716، وهو كذلك ممن خرجوا من إشبيلية، ودرس الأصول والفرائض على إمام سبتة قاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاطّ الأنصاري، المولود بسبتة 643 والمتوفى بها سنة 723، وكان كاتباً مترسلاً رياناً من الأدب.

وسمع أبو بكر ابن شبرين الحديث على أبي عبد الله محمد بن حريث البلنسي ثم السبتي خطيب سبتة وفقيهها، راوي الموطأ والمتوفى زاهداً مجاوراً بمكة سنة 722، وأخذ كذلك عن أبي جعفر الثقفي أحمد بن إبراهيم بن الزبير المولود بجيان سنة 627 والمتوفى بغرناطة سنة 708، وكان خاتمة المحدثين وصدور العلماء والمقرئين، وشيوخه نحو الأربعمئة، وإليه انتهت الرياسة بالأندلس في صناعة العربية وتجويد القرآن ورواية الحديث، وله كتاب في التراجم وَصلَ به صلةَ ابن بشكوال، وأخذ أبو بكر كذلك عن أبي عبد الله ابن رشيد الفهري السبتي، محمد بن عمر بن محمد بن عمر، المولود بسبتة 657 والمتوفى بفاس سنة 721، وكان فريد عصره جلالة وعدالة وحفظاً، وأدباً وسمتاً وهدياً، واسع السماع عالي الإسناد، صحيح النقل، أصيل الضبط، تام العناية بصناعة الحديث، درَّس بسبتة، ثم قدم غرناطة سنة 692 فأقام بها خطيباً بمسجدها الأعظم ثم انتقل إلى مدينة فاس فأقام بها معظماً عند الملوك والخاصة. وكان من شيوخ أبي بكر: أبو عبد الله بن ربيع، محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع القرطبي المالكي الأشعري، نزيل مالقة، المولود بقرطبة سنة 626 والمتوفى بمالقة سنة 719، وكان محدث مالقة وفقيهها ووزيرها.

ورحل أبو بكر إلى بجاية في الجزائر وأخذ الحديث عن المحدث الكبير المعمَّر أبي علي المَشَدالّي، منصور بن أحمد بن عبد الحق، المولود سنة 632 والمتوفى سنة 731، وكان محدثاً جامعاً للفقه والأدب والكلام والتصوف، مقبلاً على العبادة والاشتغال بالعلم، ورحل إلى مدينة تونس فأخذ بها عن قاضي الجماعة الشيخ الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع، المتوفى سنة 734 عن 99 عاماً، وكان علامة وقته ونادرة زمانه.

وأجازه مسند الوقت شهاب الدين الأبرقوهي، أحمد بن إسحاق، المولد بأصبهان سنة 615 والذي عاش بمصر وتوفي بمكة سنة 701، وأجازه الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد، محمد بن علي بن وهب بن مطيع، المولود سنة 625 والمتوفى بالقاهرة سنة 702، وأجازه الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، المولود بدمياط سنة 613 والمتوفى بالقاهرة سنة 705، وله 1300 شيخ.

وكان أمير سبتة في تلك الأيام أبا طالب العزفي، عبد الله بن محمد، المولود 638 والمتوفى سنة 713، وكان فقيها، حافظا للحديث، له علم بالتاريخ، يقرب العلماء ويحتفي بهم، فصارت للعلم والأدب سوق رائجة، واستمرت دولته 27 سنة إلى سنة 705 حين استولى على سبتة الأمير فرج بن إسماعيل بن الأحمر النصري، فخرج القاضي أبو بكر بن شبرين عقب ذلك إلى غرناطة والتحق بديوان الكتابة السلطانية، ثم تولى القضاء بكثير من الجهات، وصار من أعيان البلاد ووجهاء الزمان.

ولأخذ أبي بكر عن الشيوخ المعمَّرين اتسع نطاق روايته وارتفع سنده، فصارت الرحلة إليه في طلب الحديث، وبخاصة عندما صار في الأندلس.

وأخذ عن شبرين ابن جزي الكلبي، محمد بن محمد بن أحمد، المولود سنة 721 والمتوفى سنة 757، وهو شاعر من كتاب الدواوين السلطانية في الأندلس والمغرب، وهو الذي أملى عليه ابن بطوطة رحلته فكتبها سنة756، ونقل عنه في رحلة ابن بطوطة شعره في غرناطة:

رعى الله من غرناطة متبوَءاً ... يسر كئيباً أو يجير طريدا

تبرم منها صاحبي بعد ما رأى ... مسارحها بالبرد عُدنَ جليدا

هي الثغر صان الله من أهلت به ... وما خير ثغر لا يكون بَرودا؟!

ومن أشهر من أخذوا عن ابن شبرين الوزير الكبير والأديب الفريد لسان الدين ابن الخطيب، محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني، المولود بغرناطة سنة 713  والمقتول بفاس 776، والذى صنف المقري على اسمه كتابه العظيم: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذِكْرِ وزيرها لسان الدين ابن الخطيب.

قال لسان الدين ابن الخطيب في التاج المحلى في مساجلة القدح المعلَّى يصف شيخه أبا بكر بن شبرين: خاتمة المحسنين، وقدوة الفصحاء اللسنين، قريع بيت تزحم النجوم بكاهله، وورد من المجد أعذب مناهله، ملأ العيون هديا وسمتا، وسلك من الوقار طريقة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، فما شئت من فضل ذات، وبراعة أدوات، إن خطّ، نزل ابن مقلة عن درجته وانحط، وإن نظم ونثر، تبعت البلغاء ذلك الأثر، وإن تكلم أنصت الحفل لاستماعه، وشرع لدرره النفيسة صدف أسماعه.

وفد على الأندلس عند كائنة سبتة، وقد طوحت النوى برحاله، وظعن عن ربعه لتوالي إمحاله، وكان مُصرِّفَ الدولة ببلادها، والمستولى على طارفها وتلادها، ومَعرَس الآداب ومقيلها، وقاعش العثرات ومُقيلها، أبو عبد الله بن الحكيم، قدس الله هداه وسقى منتداه، فاهتز لقدومه اهتزاز الصارم، وتلقاه تلقى الأكارم، وأنهض إلى الغاية آماله، وألقى له قبل الوسادة ماله، ونظمه في سمط الكتاب، وأسلاه عن أعمال الأقتاد والأقتاب ،ولم يزل زمامه يتأكد في هذه الدول، ويربى له الآتية منها على الأول، فتصرف في القضاء بجهاتها، ونادته العناية هاك وهاتها، فجدد عهد حكامها العدول من سلفه وقضاتها، وله الأدب الذي تحلت بقلائده اللبات والنحور، وقصرت عن جواهره البحور، وسترى من ذلك في تضاعيف هذا المجموع ما يشهد بسعة ذرعه ويخبر بكرم عنصره وطيب نبعه.

وأبو عبد الله بن الحكيم الذي أشار إليه لسان الدين ابن الخطيب هو محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللخمي الرندي، المولود سنة 660، وكان وزير المخلوع النصري أبي عبد الله محمد بن محمد قلده الوزارة والكتابة، سنة 703 ثم لقبه بذي الوزارتين، وصار صاحب أمره ونهيه، واستمر إلى أن توفي بغرناطة قتيلا 708، وكانت له عناية بالرواية واقتناء نفائس الكتب، وقال لسان الدين ابن الخطيب: كان أعلم الناس بنقد الشعر، وأشدهم فطنة لحسنه وقبيحه، ومع ذلك فكانت بضاعته فيه مزجاة.

وقُتِل ابن الحكيم في انقلاب قام به أخو المخلوع، واسمه نصر على أخيه، فقد هاجم في عيد الفطر قصر محمد، فقتلوا الوزير، وخلع محمدٌ نفسه فنفوه إلى بلدة المنكب، ثم مالبث أخوه أن قتله غرقاً سنة 813، وحزَّ في نفس ابن ابن شبرين أن يذهب الوزير ضحية هذا التنازع الأثيم، وهو صاحب فضل عليه حين أحسن وفادته وأكرم منزله وأعلى منزلته، فرثاه بقصيدة منها اعترف فيها بفضله وتذكره بعد أن دالت دولته، ونسيه من كان يطلب رفده ويرجو رضاه:

سقى الله أشلاءً كرُمن على البلى ... وما غض من مقدارها حادث البلا

ومما شجاني أن أُهين مكانُها ... وأهمل قدْراً ما عهدناه مهمَلا

ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع ... فما كنت إلا عبدها المتذللا

لنعم قتيل القوم في يوم عيده ... قتيل تبكيه المكارم والعلا

ألا إن يوم ابن الحكيم لمُثكِلٌ ... فؤادي، فما ينفك ما عشت مثكَلا

فقدناه في يوم أغر محجل ... ففي الحشر نلقاه أغر محجلا

رويدك يا من قد غدا شامتاً به ... فبالأمس ما كان العماد المؤملا؟!

وكنا نغادي أو نراوح بابه ... وقد ظل في أوج العلا متوقلا

ذكرناه يوماً فاستهلت جفوننا ... بدمع إذا ما أمحل العام أخضلا

ومازج منا الحزن طول اعتبارنا ... ولم ندر ماذا منهما كان أطولا

وهاج لنا شجواً تذكر مجلس ... له كان يهدي الحي والملأ الألى

به كانت الدنيا تؤخر مدبراً ... من الناس حتماً أو تقدم مقبلا

لتبك عيون الباكيات على فتى ... كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا

على خادم الآثار تتلى صحائحاً ... على حامل القرآن يتلى مفصلا

على عضد المُلك الذي قد تضوعت ... مكارمه في الأرض مسكاً ومندلا

على قاسم الأموال فينا على الذي ... وضعنا لديه كل إصر على علا

وأنى لنا من بعده متعلل ... وما كان في حاجاتنا متعللا

ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ... يميناً لقد غادرت حزناً مؤثلا

يسوء المُصلى أن هلكت ولم تقم ... عليك صلاة فيه يشهدها الملا

وذاك لأن الأمر فيه شهادة ... وسنتها محفوظة لن تبدلا

فيا أيها الميت الكريم الذي قضى ... سعيداً حميداً فاضلاً ومفضلا

لتهنك من رب السماء شهادة ... تلاقي ببشرى وجهك المتهللا

رثيتك عن حب ثوى  في جوانحي ... فما ودع القلب العميد وما قلى

ويا رب من أوليته منك نعمة ... وكنت له ذخراً عتيداً وموئلا

تناساك حتى ما تمر بباله ... ولم يدَّكِر ذاك الندى والتفضلا

لحى الله من ينسى الأذمة رافضاً ... ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا

حنانيك يا بدر الهدى فلشد ما ... تركت بدور الأفق بعدك أُفلا

وكنت لآمالي حياةً هنيئةً ... فغادرت مني اليوم قلباً مقتَّلاً

فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ... على البعد ينسى من ذمامك ما خلا

فأنت الذي آويتني متغرباً ... وأنت الذي أكرمتني متطفلا

فآليت لا ينفك قلبي مكمداً ... عليك ولا ينفك دمعي مسبلاً

والتقى ابن شبرين بالملك المخلوع في منفاه فبثه شجونه وأحزانه، وطلب منه أن ينظم قصيدة عن لسانه ينفث بها عن عبراته المكنونة، فقال ابن شبرين  أبياتاً منها:

قفا نفسِّا فالخطب فيه يهون ... ولا تعجلا إن الحديث شجون

علِمنا الذي قد كان من صرف دهرنا ... ولسنا على علم بما سيكون

ذكرنا نعيماً قد تقضى نعيمه ... فأقلقنا شوقٌ له وحنين

وبالأمس كنا كيف شئنا وللدُنا ... حراك على أحكامنا وسكون

وإذ بابنا مثوى الفؤاد ونحونا ... تمد رقاب أو تشير عيون

فنُغِّصَ من ذاك السرور مهنَأ ... وكُدِرَ من ذاك النعيم مَعين

وبِنَّا عن الأوطان بين ضرورة ... وقد يقرب الإنسان ثم يبين

أيا معهد الإسعاد حييت معهداً ... وجادك من سكب الغمام هتون

تريد الليالي أن تهين مكاننا ... رويدك إن الخير ليس يهون

فإن تكن الأيام قد لعبت بنا ... ودارت علينا للخطوب فنون

فمن عادة الأيام ذل كرامها ... ولكن سبيل الصابرين مبين

لئن خاننا الدهر الذي كان عبدنا ... فلا عجب إن العبيد تخون

وما غض منا مَخبَرٌ غير أنه ... تضاعف إيمان وزاد يقين

ومن أدباء ذلك الزمان ابن هانئ السبتي، محمد بن علي بن هانئ، كان أديباً نحوياً مؤرخاً، استشهد في جبل الفتح سنة 733 حين خرج مجاهداً فأصابه حجر منجنيق، وكان صديقاً لابن شبرين من أيام الدرس بسبتة فرثاه بقصيدة طويلة فيها كثير من الذكريات وزيارة الأيام الخوالي:

قد كان ما قال البريدْ ... فاصبر فحزنك لا يفيد

أودى ابن هانئ الرضي ... فاعتادني للثكل عيد

بحر العلوم وصدرها ... وعميدها إذ لا عميد

قد كان زيناً للوجود ففيه قد فجع الوجود

العلم والتحقيق والتوفيق والحسب التليد

تندى خلائقه فقل ... فيها هي الروض المجود

مُغْض عن الإخوان لا ... جهم اللقاء ولا كنود

أودى شهيداً باذلاً ... مجهوده، نعم الشهيد

لم أنسه حين المعارف باسمه فينا تشيد

وله صبوب في طلاب العلم يتلوه صعود

لله وقت كان ينظمنا كما نظم الفريد

أيام نغدو أو نروح وسعينا السعي الحميد

وإذا المشايخ جثم ... هضَبات حلم لا تميد

ومرادنا جم النبات وعيشنا خضر البرود

لهفي على الإخوان والأتراب كلهم فقيد

لو جئت أوطاني لأنكرني التهائم والنجود

ولراع نفسي شيب من ... غادرته وهو الوليد

ولطُفت ما بين اللحود وقد تكاثرت اللحود

سرعان ما عاث الِحمام ونحن أيقاظ هجود

كم رُمت إعمال المسير فقيدت عزمي قيود

والآن أخلفت الوعود، وأخلقت تلك البرود

ما للفتى ما يبتغي ... فالله يفعل ما يريد

أعلى القديم الملك يا ... ويلاه يعترض العبيد؟!

ولكل شيء غاية ... ولربما لان الحديد

إيه أبا عبد الإله ودوننا مرمى بعيد

أين الرسائل منك تأتينا كما نسق العقود

أين الرسوم الصالحات تصرمت؟ أين العهود؟

أنعِمْ مساءً لا تخطتك البشائر والسعود

واقدم على دار الرضى ... حيث الإقامة والخلود

والق الأحبة حيث دار الملك والقصر المشيد

حتى الشهادة لم تفتك فنجمك النجم السعيد

لا تبعدن وعد لو أن ... الميت في الدنيا يعود

فلئن بليت فإن ذكرك في الدنا غض جديد

تالله لا تنساك أندية العلا ما اخضر عود

وإذا تسومح في الحقوق فحقك الحق الأكيد

جادت صداك غمامة ... يرمي بها ذاك الصعيد

وتعهدتك من المهيمن رحمة أبداً وجود

كان أبو بكر بن شبرين فريد دهره في حسن السمت، وجمال الرواء، وبراعة الخط، وطيب المجالسة، من أهل الدين والفضل والعدالة، غاية في حسن العهد وطيب المجلس، أشد الناس اقتداراً على نظم الشعر حتى تعددت أسفار ديوانه وكان يستكثر منه ولا ينقحه، وشعره متعدد الأغراض، فيه الحكمة والزهد إلى الغزل والشوق، ولا عجب فقد كانت الأندلس والمغرب تعجان بالشعراء الذي في كل واد يهيمون، وكانت لابن شبرين مع شعراء زمانه مطارحات شعرية منها ما كان بينه وبين عبد الله بن محمد التجاني التونسي، الأديب الكاتب الرحالة، المولود سنة 675 والمتوفى سنة 721، جمعها التجاني في كتاب أسماه: نفحات النسرين في مخاطبة ابن شبرين.

ودخل الأندلس سنة 718 الكاتب أبو عبد الله محمد بن عمر المليكشي الأفريقي، المتوفى سنة 740، فتعرف على ابن شبرين، وصارت بينهما مراسلات ومطارحات، واعتقله أمير بجاية فكتب إلى صديقه أبي بكر بن شبرين من بجاية، وهو معتقل بقصبتها:

شرح حالي لمن يريد سؤالي ... إنني في اعتقال مولى الموال

مطلق الحمد والثناء عليه ... وهو للعطف والجميل موال

لا أرى للولاة في احتكاما ... وولي عال على كل وال

أرتجي بالمصاب تكفير ذنبي ... حسبما جاء في الصحاح العوال

لا تدوم الدنيا ولا الخير فيها ... وكذا الشر ذا وذا للزوال

فاغتنم ساعة الوصال وكم ... من محنة وهي منحة من نوال

فأجابه رحمه الله:

أرغمن هذه القيود الثقال ... رب ود مصيره للتغالِ

إن عندي من الثناء عليه ... لأماني لم يُملِهِن القالِ

أرْجِ دنياك وارْجُ مولاك واعلم ... أن راجي سواه غير مقال

وابتغاءَ الثواب من ربك اعمل ... فهو يجزي الأعمال بالمثقال

واغتنم غيبة الرقيب ففيها ... لقلوب الرجال أي صقال

وأجِلْ في الوجود فكر غنيٍّ ... عن ضروب الإنعام والأحفال

وإذا الوقت ضاق وسِّعه بالصبر ولا تنس من شهير المقال

"ربما تكره النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال"

ومن شعره يتغزل:

يا أيها المعرض اللاهي ... يسوءني هجرك والله

من يرد الله به فتنة ... يشغله في الدنيا بتياه

وله في هجر الذل:

لي همة كلما حاولت أمسكها ... على المذلة في أرجاء أرضيها

قالت: ألم تك أرض الله واسعة ... حتى يهاجر عبدٌ مؤمنٌ فيها؟

وقال مسترجعاً من ذنبه، ومستوحشاً من شيبه:

قد كان عيبي من قبل في غيب ... فمذ بدا شيبي بدا عيبي

لا عذر لي اليوم ولا حجة ... فضحتني والله يا شيبي

وإلى جانب الشعر يبدو أن ابن شبرين كان يشتغل بتصنيف كتاب تاريخي لأن لسان الدين الخطيب في عددٍ من تراجم العلماء في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة ينقل أخبار وفاتهم عن أوراق شيخه المكتوبة بخطه.

توفي ابن شبرين في غرناطة سنة 747، ولم يعقب من الذكور أحداً، وترك وراءه ثروة طائلة ليس فيها من الكتب إلا قليل، لإيثاره اقتناء النقدين، ودُفن في باب إلبيرة في دار اتخذها لذلك، وعين راتباً لمن يتلو كتاب الله على قبره، ومن شعره رحمه الله:

أثقلتني الذنوب ويحي وويسي ... ليتني كنت زاهداً كأويس
 

 
log analyzer