الثلاثاء، 23 فبراير 2016

القراء الأعزاء
ستكون هذه آخر حلقة أنشرها على هذا الموقع
الرجاء متابعة الحلقات على فيس بوك
https://www.facebook.com/todayinmuslimhistory

السبت، 20 فبراير 2016

حدث في الحادي عشر من جمادى الأولى

في الحادي عشر من جمادى الأولى من سنة 334 دخل بغداد الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه مؤسساً للدولة البويهية في العراق، ولتصبح الخلافة العباسية تحت وصاية وتحكم بني بويه المتشيعين، وجاء دخول أحمد بن بويه بعد أن ضعفت الدولة العباسية ضعفاً شديداً واضمحلت هيبة الخلافة والخلفاء.
وتعود قصة وصول بني بويه إلى بغداد إلى أيام الخليفة الراضي بالله، الذي تولى الحكم في منتصف سنة 322، بعد خلع عمه الملقب القاهر بالله، وكان دخل خزينة الخليفة ضعيفاً لاستبداد ولاة الأقاليم بأموال الضرائب التي يجمعونها في مناطقهم، ولتقاعسهم وتقصيرهم في إرسالها لبغداد، وكان ذلك يضع الخليفة في موقف حرج مع العسكر الذي كان يفور ثم يثور لتأخر الرواتب عنه، وكان الخليفة الراضي يواجه مشكلة مع واليين كانت مناطقهما الزراعية الخصبة من أهم مصادر دخل الدولة، وهما أبو عبد الله البريدي في الأهواز، ومحمد بن رائق في واسط، وإضافة لذلك كانت قبائل الديلم تأتي جنوباً من منطقة بحر قزوين طامعة في السيطرة على المناطق الجنوبية في الأهواز.
وفي سنة 323 هاجم الديلم الأهواز فادعى أبو عبد الله البريدي كذباً أن خزانة البلاد أضحت خاوية بسبب الهجوم والدمار الذي نتج عنه، ولذا لم يحمل للخليفة أية مبالغ، وأما والي واسط والبصرة محمد بن رائق فكتب إلى الخليفة يعرض عليه أن يجعله وزيره ويفوض إليه تدبير الدولة، وفي مقابل ذلك سيتولى ابن رائق نفقات الخليفة وأرزاق الجند.
وللدلالة على شدة الأزمة نذكر أن الراضي بالله ولى الوزارة أبا جعفر محمد بن الحسن الكرخي، فلما باشرها رأى قلة الأموال وانقطاع المواد فعجز عن تدبير الحال، وضاق الأمر عليه، وكثرت المطالبات ونقصت هيبته، فاستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وزارته، فاستوزر الراضي أبا القاسم سليمان بن الحسن فكان في الوزارة كأبي جعفر في وقوف الحال وقلة المال! ولم يكن ذلك غريباً فقد قطع ابن رائقٍ مال واسط والبصرة، وقطع البريدي مال الأهواز وأعمالها، وكان البويهيون قد تغلبوا على فارس وقطعوا مالها.
وطمع البريدي في البصرة فسار إليها في سنة 325 واشتبك مع قوات ابن رائق وهزمها واحتل البصرة، فسار إليها ابن رائق بنفسه في جيشين في البر والنهر، ولما اشتد القتال وخشي البريدي أن تسقط البصرة سار إلى عماد الدولة ابن بويه واستجار به وأطمعه في العراق، فأرسل معه أخاه أحمد بن بويه، وصارت الأهواز في سنة 326 بيد آل بويه يتربصون الفرصة للاستيلاء على العراق، وهرب البريدي خوفاً على نفسه.
وكان البريدي قد ضمن الأهواز والبصرة من عماد الدولة في كل سنة بمبلغ 18 مليون درهم، فلما هرب كاتبَ معزَ الدولة أن يفرج له عن الأهواز حتى يتمكن من ضمانه، فرحل عنها إلى مكان يدعى عسكر مكرم، فعاد البريدي وطلب منه أن ينتقل إلى مكان آخر يدعى السوس ليبعد عنه ويأمن بالأهواز، فامتنع أحمد بن بويه، وعلم القائد بَجْكم الديلمي برفض أحمد فأنفذ من واسط جماعة من جنوده استولوا على السوس وجنديسابور، وبقيت الأهواز بيد البريدي، ولم يبق مع أحمد بن بويه من الأهواز إلا عسكر مكرم، فاشتد الحال عليه وفارقه بعض جنده وأراد الرجوع إلى فارس، فكتب إلى أخيه عماد الدولة يعرفه الحال، فأنفذ إليه جيشاً تقوى به، وعاد واستولى على الأهواز، وهرب البريدي إلى البصرة، وصار وزيراً للراضي في منتصف سنة 327، وبقي أحمد بن بويه في الأهواز أميراً عليها من قبل أخيه عماد الدين.
وكانت الخلافة والعراق قد أضحيا نهباً للنزاعات والمطامع، فقد مضت سنون والمتمردون من القرامطة يعيثون فيه فساداً، وبنو حمدان في الموصل والجزيرة يعاضدون الخلافة ما تلاقى ذلك مع مصالحهم، أما حاشية الخليفة وأقطابها البريدي وابن رائق وبجكم الديلمي فكانت منهكمة بتدبير المكايد وجمع الأموال من كل طريق، واستقل أمراء الأقطار بأقطارهم، ولم يبق للخليفة في بغداد أمر ولا نهي.
وفي سنة 328 جاء الحسن بن بويه، وهو أخو أحمد الأوسط، بقواته فاحتل الجانب الشرقي من واسط وكان البريدي بالجانب الغربي، فلما بلغ نبأ ذلك إلى بغداد، خرج الخليفة الراضي والقائد بجكم من بغداد نحو واسط يريدان حرب ابن بويه فعاد إلى الأهواز ثم إلى رامُهرمُز.
ولما توفى الراضي في أوائل سنة 329، عن 32 سنة، كان القائد بجكم الديلمي في واسط هو المتحكم بالأمور، فأرسل إلى القضاة والأعيان ليختاروا خليفة فاختاروا إبراهيم بن الخليفة المقتدر، وكان عمره 34 سنة، صاحب صوم وعبادة، فتلقب بالمتقي لله، وبعدها بثلاثة أشهر جرى نزاع بين بجكم وبين الوزير أبي عبد الله البريدي قُتل فيه بجكم، وفي سنة 230 بدأ القحط يعم البلاد وغلا الطعام غلاء فاحشاً حتى أكل الناس الحيوانات والجيف، وعزل المتقي وزيره البريدي، فغضب وشق عصا الطاعة، وجمع جيشاً ليستولي على بغداد فواجهه الخليفة في جيش سرعان ما انهزم، وهرب المتقي وابنه إلى بني حمدان في الموصل، واستولى البريدي على بغداد.
وكان أمراء بني حمدان مع الخليفة يرقبون كل التطورات، فلما انشق قائد يدعى توزون عن البريدي والتحق بالخليفة في الموصل، اعتقدوا أنها اللحظة المناسبة للقضاء على البريدي، ولما استطاع محمد بن حمدان قتل حليفه محمد بن رائق الذي كان أمير الشام، جعله الخليفة المتقى محله، ولقبه ناصر الدولة، ولقب أخاه سيف الدولة، وزوَّج المتقى لله ولده بابنة ناصر الدولة، وجاء القائد توزون من واسط إلى الخليفة المتقي فخلع عليه ولقبه أمير الأمراء، ثم ما لبث أن ترك الخليفة توزون وانحاز إلى بني حمدان، فجاء توزون واستولى على بغداد، وهرب البريدي إلى البصرة التي هي قاعدته، وأقبل ناصر الدولة الحمداني في جمع كبير من الأعراب والأكراد، فهزمهم توزون ولحقهم إلى الموصل، ثم اجتمعوا ثانية فهزمهم توزون فانسحبوا إلى نصيبين وتوزون على إثرهم.
وشعر الخليفة المتقي أن بني حمدان لا يريدون متابعة القتال، فراسل الإخشيد واليه على مصر طالباً منه العون، فجاءه إلى الرقة، وكذلك راسل المتقي في نفس الوقت توزون، فأعطاه المواثيق والعهود ليعود إلى بغداد، فصدقه المتقي رغم تحذير الإخشيد له، وسار إلى بلدة هيت فالتقى بتوزون الذي حلف له، فلما اطمأن الخليفة قبض عليه توزون وسمل عينيه، ورمى به في السجن، وأحضر عبد الله بن الخليفة المكتفي فبايعه وتلقب بالمستكفي، وكان عمره آنذاك 41 سنة، وجرى ذلك في أول سنة 333.
جرى ذلك كله والقحط ضارب أطنابه وغلاء الأقوات لا يتوقف، وجشع الحاشية يفتك بالناس فتكاً أشد من ذلك كله، فقد توفي البريدي في تلك الأثناء فكانت تركته مليوني دينار و11 مليون درهم، ولما توفي في سنة 362 سُبكتكين حاجب معز الدولة، خلّف موجودات كثرة بلغ النقد منها مليون دينار، و10 ملايين درهم، وكان في بغداد لص اسمه حمدي، ضَمِنَ اللصوصية في الشهر بمبلغ 25.000 دينار، فكان يسرق الدور والأسواق دون خوف ولا وجل، وكانت القهرمانة علم الشيرازية تأمر وتنهى وتتصرف في الأمور، ولذا لم يكن غريباً أن يستخف الأمراء بالخلافة، فقد وصل ما يجري في العراق إلى مسامع الأمير الأموي الناصر لدين الله في الأندلس، فتلقب بأمير المؤمنين وقال: أنا أولى بإمرة المؤمنين! وكان قبل ذلك، يقال له: الأمير، كآبائه. وفي نفس الوقت أصيب القائد توزون بالصَرَع فأثر ذلك على صحته وإمارته.
وكان أحمد بن بويه قد استولى على الأهواز والبصرة وواسط، وسار نحو بغداد، فبرز لمحاربته توزون، وجرت بينهما حرب خفيفة الوتيرة، هُزم فيها توزون، ولكن أحمد عاد إلى الأهواز بسبب القحط وعجزه عن إطعام الجيش، ثم مات توزون في أول سنة 334، فتسلط على الوزارة أبو جعفر محمد ين يحيى بن شيرزاد، وكان وزيراً سابقاً في أيام القائد بجكم، فصادر التجار والكُتاب، وسلط الجند على الناس، فهربوا بأنفسهم وأموالهم من بغداد، ولذل ما عاد أحد يجلب إليها الأرزاق لقلة المشتري وضعف الأمان، فأضحت بلداً خالية من الناس.
واستعمل ابن شيرزاد على واسط رجلاً اسمه ينال كوشه، فراسل أحمد بن بويه في الأهواز، ودخل في طاعته، فسار إليه أحمد بن بويه، ثم اتجه من واسط إلى بغداد، فهرب الأتراك منها إلى الموصل، واستتر الخليفة المستكفي وووزيره ابن شيرزاد، ونزل معز الدولة أحمد بن بويه بضاحية الشِمَّاسية من بغداد نزول مقيم غير محارب، ولما ابتعد الأتراك ظهر الخليفة المستكفي، ودخل بغداد وزير معز الدولة الحسن بن محمد المهلبي فاجتمع بالخليفة الذي أظهر سروره بمقدم ابن بويه، وأعلمه أنه إنما استتر ليتفرق الأتراك، ويحصل الأمر لمعز الدولة بغير قتال.
وهكذا دخل معز الدولة البويهي بغداد في الحادي عشر من جمادى الأولى من سنة 334 دون حرب أو قتال، وجاء إلى الخليفة فألبسه الخلعة وبايعه على إمرة العراق ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه الأكبر الحسن: ركن الدولة، ولقب أخاه الأوسط عليا: عماد الدولة، وضربت أسماؤهم على السكة، وكان الوزير ابن شيرزاد على اتصال بمعز الدولة الذي طلب من الخليفة أن يأذن له في استكتابه، فأذن له، فولاه أمر الخراج، ونزل أصحاب معز الدولة في دور الناس، فلحق أهل بغداد منهم شدة عظيمة، وقرر الوزير مع معز الدولة تخصيص مبلغ لنفقات الخليفة مقداره 5.000 درهم يومياً، وبعدها بشهر، في 22 جمادى الآخرة سنة 334، عزل معز الدولة الخليفة المستكفي وسمل عينيه، ورماه في السجن إلى أن مات سنة 338.
وأحضر معز الدولة الفضل بن الخليفة المقتدر، فجعله الخليفة ولقبه المطيع لله، وكان عمره 34 سنة، وقرر له معز الدولة 100 دينار يومياً لنفقته، وهو مبلغ زهيد جداً لأن الغلاء كان على أشده والموتى من الجياع في الطرقات، وبيع العقار بالرغفان .
واعتقد ناصر الدولة ابن حمدان أنه أحق بالسيطرة على بغداد والخلافة، فجاء بقواته إلى سامراء، واصطدم عندها مع معز الدولة، واستطاع هزيمته ودخول بغداد والسيطرة على الجانب الشرقي منها في جمادى الآخرة سنة 334، ومنع العلف والميرة عن الديلم، ودام الأمر ستة أشهر حتى فكر معز الدولة في العودة إلى الأهواز، ثم قام بمناورة ناجحة استطاع بعدها عبور دجلة تجميع جيشه، ومعه الخليفة المطيع لله، وانهزم جيش ناصر الدولة ابن حمدان، ودخل معز الدولة إلى الجانب الشرقي من بغداد، ونهب جنوده أموال الناس، وقُدِرَ ما نهبوه بمبلغ 10 ملايين دينار، وأمرهم معز الدولة بالتوقف فلم يستجيبوا له، ولم يستتب الأمان في بغداد إلا بعد أرسل معز الدولة وزيره مع بعض الجنود فقمعوا المجرمين وقتلوهم بعضهم وصلبوا بعضهم الآخر.
وما لبث العسكر أن شغب على معز الدولة بسبب تأخر رواتبهم، فبدأ في فرض الضرائب الباهظة والمصادرات، وأقطع الأراضي التي كانت للسلطان، فازداد الخراب في البلاد زيادة على ما كانت الحروب والقحط قد فعلاه بها من قبل.
ثم سار معز الدولة إلى الموصل لقتال ناصر الدولة ابن حمدان، فتجنب ابن حمدان أن يلتقي معه في معركة مباشرة، وفضل اللجوء إلى الكر والفر والاستنزاف، فرفع أمواله إلى قلعة الموصل، ولم يترك في البلد قوتا ولا علفا، ولما قرب معز الدولة إلى الموصل فارقها ناصر الدولة، وسار فكان تارة بنصيبين وتارة بآمد وتارة ببلد، وصار هو وبنوه يغيرون على سرايا وقوات معز الدولة، لا يجدون سرية إلا هزموها، ولا قافلة إلا نهبوها، فإذا خرج معز الدولة في طلبهم هربوا من بين يديه، وما لبث ناصر الدولة ابن حمدان أن حصل على ما يريد وجنح معز الدولة البويهي للسلم واصطلحا في سنة 335.
وكان أمر البصرة لا يزال مع آل البريدي الذين أظهروا موالاة معز الدولة، ولكن البريدي أظهر بادرة تمرد أثناء انشغال معز الدولة بحرب بني حمدان، فأرسل إليه معز الدولة جيشاً هزمه، ثم سار إليه في أول سنة 336 مع الخليفة المطيع لله، فاستسلم جيش البريدي، وهرب هو لاجئاً إلى القرامطة، وسار معز الدولة من البصرة إلى الأهواز حيث التقى بأخيه الأكبر عماد الدولة، فقبل الأرض بين يديه وأبدى الطاعة المطلقة له، ثم عاد إلى بغداد.
ولم يفت القرامطة أن يجسوا نبض معز الدولة ونواياه تجاههم إذ صار في أراضيهم، فأرسلوا إليه رسولاً بكتاب منهم يلومونه على عبور أراضيهم دون استئذانهم، فلم يجبهم عن الكتاب، وقال للرسول قل لهم: ومن أنتم حتى تُستأذنوا في سلوك البرية؟! وكأني أنا أقصد البصرة؟! قصدي إنما هو بلدكم، وإليكم أخرج من البصرة بعد فتحي إياها بإذن الله تعالى، وستعرفون خبركم. وأدى هذا الموقف إلى توتر العلاقات بين معز الدولة وبين القرامطة، رغم أنه لم يكن أكثر من تهديد وتخويف يعبر عن طبيعة معز الدولة، فلم يكن في مخططاته فتح معركة مع القرامطة، كما لم يكن لدى القرامطة نية للتوسع في أراضيه، ولم يكن بينهما عداء شديد ولا تعاون  وثيق.
وفي أواخر سنة 337 نقض معزّ الدولة اتفاقه مع ناصر الدولة ابن حمدان وقصده في الموصل، ففرّ ابن حمدان إلى نصيبين، فظلم معز الدولة أهل الموصل وأخذ أموالهم عسفاً، فكثر الدعاء عليه، وكان في نيته الاستيلاء على جميع بلاد الحمدانيين، ولكن أخاه ركن الدولة أرسل إليه أن عساكر خراسان قد قصدت جرجان والري، ويطلب منه المدد لمواجهتهم، فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة واتفقا على أن يؤدي ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة الفراتية والشام مبلغ 8 ملايين درهم سنوياً، وأن يخطب في جميع بلاده لبني بويه، وعاد معز الدولة إلى بغداد.
واستغل الروم في الدولة البيزنطية هذا التناحر بين بني بويه وبين بني حمدان وانشغال بعضهم ببعض، وكان الحمدانيون على ثغور الروم، في جنوب تركيا اليوم، فبدأت غارات البيزنطيين على المناطق التابعة لبني حمدان تزداد جرأة، ثم تحولت إلى محاولة احتلالها وضمها للدولة البيزنطية، ونجحوا في الاستيلاء على مرعش سنة 337، ولما تصدى لهم سيف الدولة في سنة 339 تمكنوا من هزيمته بعد أن كاد يقع في الأسر، وكان سيف الدولة وناصر الدولة يتعاونان في صد الروم، فلما انشغل ناصر الدولة مع البويهيين، فترت عزيمة سيف الدولة عن مهاجمة الروم بعد أن هزمهم غير مرة، ثم شنوا غارة مفاجئة احتلت حلب في آخر سنة 351 وفتكوا بأهلها ومكثوا فيها أسبوعاً ثم تركوها.
وفي سنة 338 توفي عماد الدولة الأخ الأكبر لمعز الدولة، وكان يلقب بأمير الأمراء، فآل هذا اللقب إلى الأخ الأوسط ركن الدولة، وبقي معز الدولة معه على الطاعة والولاء، بمثابة نائب له في العراق، وفي منتصف سنة 339 توفي الوزير أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمري، فاستوزر معز الدولة بعده نائبه أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي، وكان خبيراً بأموال الدولة وعمل الدواوين، وصاحب تقوى ومروءة، فظهرت أمانته وكفاءته، فأطلق يده معز الدولة لثقته به، فأحسن السيرة وأزال كثيراً من المظالم.
وفي سنة 341 جرت معارك بين معز الدولة وبين القرامطة الذين أرادوا احتلال البصرة، وذلك بتشجيع من يوسف بن وجيه صاحب عمان، الذي كانت علاقاته سيئة مع البويهيين، ذلك إنه تحالف مع القرامطة وجاءهم في سفنه على أن يتولوا هم أمر حرب البر، فعجل معز الدولة بإرسال الوزير المهلبي من الأهواز على رأس جيش سبق المهاجمين إلى البصرة، ثم أمده بمدد آخر، فهزم القرامطة واستولى على مراكب أهل عمان وعُددهم.
وفي سنة 345 واجه معز الدولة عصياناً كاد أن يطيح بمملكته لأنه جاء من داخل صفوف الديلم، ومن صنيعته وثمرة إحسانه، فقد خرج عليه روزبهان بن ونداد خورشيد الديلمي أحد قواده المقربين، واجتمع إليه أخواه في الأهواز، فـأرسل لمحاربته الوزير المهلبي فانشق جنوده من الديلم وانحازوا إلى روزبهان، فتركه المهلبي، وتجهز معز الدولة بنفسه إلى محاربته، ولكن الأحوال لم تكن مبشرة له بخير، فقد مال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، بل وتجرأوا على معز الدولة بما يكره، ولما سار معز الدولة عن بغداد، جاءها ناصر الدولة ابن حمدان ليستولي عليها في غيابه، فلما بلغ ذلك الخليفة خرج من من بغداد، فأعاد معز الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممن يثق بهم من عسكره إلى بغداد ليحفظوها، فنقص عدد جنوده، وزاد الطين بلة أن شغب عليه الديلم الذين ببغداد، فوعدهم بأرزاقهم فسكنوا وهم على قنوط منه.
وهنا أيس معز الدولة من الديلم، وهم عصبيته، وتحول إلى من يثق بهم من الأتراك ومماليكه ونفر يسير من الديلم، وصار يختلق الأعذار ليبعد الديلم عن ساح الحرب خشية انشقاقهم أو غدرهم، فلما التقى الجيشان أكثر معز الدولة من استعمال النشاب تعويضاً عن قلة جنوده حتى فنى نشاب الأتراك في آخر النهار، وخمد وطيس المعركة إلى صباح اليوم التالي، وأدرك معز الدولة أن الهزيمة وشيكة محتومة، واتفق مع أصحابه أن يحملوا حملة واحدة في الغد، وهو في أولهم، فإما أن يظفروا وإما أن يُقتَل أول من يقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال: قد بقي مع صغار الغلمان نشاب، فخذوه واقسموه.
وكان صغار الغلمان هؤلاء عدد لا بأس به من المتدربين تحتهم الخيل الجياد، وعليهم اللبس الجيد، لم يأذن لهم معز الدولة في الحرب، وقال: إذا جاء وقت يصلح لكم أذنِتُ لكم في القتال. فأومأ معز الدولة إليهم بيده أن أقبلوا منه وسلِّموا النشاب، فظنوا أنه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض حتى صاروا خلفها، فسارع معز الدولة وحمل بمن معه، فكانت الهزيمة على روزبهان، وأخذ أسيراً وقتل من أصحابه خلق كثير، ولما بلغ الخبر بغداد لم يصدقه الناس لما علموا من قوة روزبهان وضعف معز الدولة، فعاد إلى بغداد ومعه روزبهان ليراه الناس ثم قتله، وبدأ في سياسة توازن بين الأتراك وبين الديلم.
وفي سنة 347 سار معز الدولة بجيشه إلى الموصل، وذلك لأن ناصر الدولة ابن حمدان تأخر في حمل المال المفروض عليه، ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين، ودخلها معز الدولة، ثم سار منها إلى نصيبين، ففارقها ناصر الدولة، وتوجه إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فراسل سيف الدولة معز الدولة في الصلح، فامتنع من الاتفاق مع ناصر الدولة لخلفه معه، فتعهد سيف الدولة بذلك وأخذ من أخيه مقابل ذلك ديار مضر، وهي اليوم شريط الحدود بين سوريا وتركيا، وعاد معز الدولة إلى بغداد في أول سنة 348.
قال ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن ذكر هذا الخبر: قد امتلأت البلاد رفضا وسبا للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصرا وشاما وعراقا وخراسان وغير ذلك من البلاد، كانوا رُفَّضا، وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، فكثر السب والتكفير منهم للصحابة.
وفي سنة 350 جعل معز الدولة منصبي قائد شرطة بغداد ومحتسبها لمن يدفع أكثر، بل تعدى ذلك إلى أن منح وظيفة القضاء لمن يدفع له المال، وكان هذا أمراً مقصوراً في السابق على من يضمن الخراج، وهو أمر له ما يبرره، ولكن معز الدولة تعداه إلى وظائف الدولة حتى هدم به هيبة القضاء، وكان أبو العباس عبد الله ابن الحسن بن أبي الشوارب أول قاض أعطى على توليته مبلغ 200.000 درهم، فتألم الخليفة المطيع لله من هذا العمل الذي استهدف أهم ركن في الدولة، ورفض أن يأتي القاضي إليه ليلبسه خلعة القضاء ومنعه من حضور مواكبه.
وما لبث معز الدولة أن عزل أبا الشوارب، بمسعى من أبي عبد الله ابن الداعي العلوي، أكبر علماء الشيعة في دولته، فقد دخل عليه وسأله: أنت تعظم حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، فقال: هلا أعطيت جدي وآله مئتي ألف، فقال مستغرباً: كيف؟ فقال: لأنك قد ضمنت القضاء لابن أبي الشوارب بمئتي ألف، والناس ترشوه في الشهوات والخمور، وما بقي من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته إلا الحكم، فلو تركت مئتي الألف هذه له! فقال: قد فعلت، ولكن انظر من يصلح للقضاء، فأثبته لي حتى أوليه لمن يعمل فيه بالواجب. فمضى أبو عبد الله ابن الداعي وسأل عالماً من أهل السنة فاقترح بعض علماء بغداد فاختار المعز أحدهم، وعرض المنصب على قاضي القضاة السابق أبي الحسن بن أم شيبان، فاستعفى وامتنع، وقال: لا حاجة لي بقضاء بغداد، إذ صار بالتعهدات!
وبالطبع فإن هؤلاء المتعهدين كانوا لا يريدون إصلاحاً أو تيسيراً بل كان كل همهم أن يسترجعوا ما دفعوه لمعز الدولة أضعافاً مضاعفة بظلم وحرمان العامة من حقوقها في العدل والإنصاف، وبدأ كذلك يصادر أموال المواريث وبخاصة إن خلف المتوفى مالاً وفيرا ، فصادر 300.000 دينار في سنة 351 من تركة دَعْلَج السِّجْزِي أغنى رجل في بغداد حينذاك، ومن أطرف مصادرات معز الدولة مصادرته لأبي علي الحسن بن محمد الطبري، صادره على خمسمئة ألف دينار، فلما مات الوزير الصيمري طمع الطبري في الوزارة وبذل فيها مالاً عظيماً، قدم منه أول نوبة 300.000 دينار، فلما أخذها منه معز الدولة أعطى المنصب للوزير المهلبي!
وكان أحد الأسباب وراء هذا الظلم المقيت أن معز الدولة باشر في بناء دار في الشِماسية ببغداد، صادر لأجلها  دور الناس وأملاكهم، وكانت هائلة المساحة واسعة العمار، وتضمنت الدار اصطبلات لخيوله التي زادت على 10.000 فرس، ولتوفير موادها هدم سور الحبس في بغداد ونقض قصر المعشوق بسامراء وحمل الآجُر إلى داره ليبنى به، وقلع أبواب حديدية كانت على مدينة أبي جعفر المنصور داخل بغداد، وقلع كذلك أبواب الرصافة وقصر الرصافة، ونقلها إلى داره، وجعل لها مُسناة، أي سداً، كبيرة عرضها 100 آجُرّة لترد دجلة من أن تفيض على الدار، وكلفت الدار 40 مليون درهم، وهو مبلغ لم يكن موجوداً في خزانته، فأخذ يجمعه بمصادرة الناس والتجار، وتضمين المناصب بشكل يندى له الجبين، وبقيت هذه الدار قائمة قرابة 55 سنة، ثم نقضها أسلافه من البويهيين في سنة 418، فجاء من تعهد شراء ما في سقوفها من الذهب فقط بمبلغ 8.000 دينار.
وإذ تحدثنا عن البناء نقول كذلك إن معز الدولة بدأ في سنة 355 في إنشاء مستشفى في بغداد على شاطئ دجلة، وأوقف عليه الأوقاف ولكنه مات قبل أن ينتهي المشروع، ويبدو أن بغداد عاد إليها الازدهار والعمران بعد سنوات القحط والعذاب، فقد ذكر إبراهيم بن هلال الصابي كاتب معز الدولة أن ركن الدولة الأخ الأكبر لمعز الدولة كتب إلى أخيه: ذُكِر لنا كثرةُ المساجد والحمامات ببغداد، واختلفت علينا فيها الأقاويل، وأحببنا أن نعرفها على حقيقة وتحصيل، فتعرِّفَنا الصحيح من ذلك. فأمر معز الدولة بعدِّ المساجد والحمامات، فبلغ عدد الحمامات بضعة عشر ألف حمام، فلما قال الصابي لمعز الدولة عددها، قال: اكتبوا لأخي في الحمامات أنها أربعة آلاف. تقليلاً من عددها لإشفاقه أن يحسده أخوه على بلد هذا عِظَمُه وكبره. قال الصابي: فأما المساجد فلا أذكر ما قيل فيها كثرة.
وفي سنة 351 أمر معز الدولة الشيعة أن يكتبوا على أبواب المساجد لعن الخلفاء الراشدين والصحابة، فلما كان الليل محاه بعض الناس، فأراد معز الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير المهلبي أن يكتب مكان ما محى: لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر أحداً في اللعن إلا معاوية، ففعل ذلك.
ثم أمر معز الدولة الناس في العاشر من المحرم من سنة 352 أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا ثيابا عملوها من المسوح، وأن تخرج نساء الشيعة منشرات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن، ويدرن في البلد بالنوايح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي بن أبي طالب، ففعل الناس ذلك، وهو أول من استحدث النوح واللطم في عاشوراء.
وفي 18 ذي الحجة من سنة 352 أمر معز الدولة بالاحتفال بيوم غدير خُمّ، بإظهار الزينة في البلد، وأشعلت النيران بمجلس الشرطة، وأظهر الفرح، وفتحت الأسواق بالليل، كما يفعل ليالي الأعياد، وضربت الطبول والبوقات، وقد ورد في غدير خم حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر لنا، فنزلنا بغدير خم، ونودي الصلاة جامعة، وكُسِحَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، فأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه؛ اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه. قال: فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحتَ وأمسيتَ مولى كل مؤمن ومؤمنة.
ومع هذا فإن الدولة البويهية على تشيع سلاطينها، ورغم ابتداعها للنياحة واللطم في عاشوراء، وللاحتفال بيوم الغدير، لم تحاول في أغلب الأحيان فرض مذهبها على الرعية أو نشره بينهم، بل تركت القضاء والمدارس على حالها في أيدي علماء السنة، وتعاملت معهم بكثير من الاحترام والتقدير، وكانت الدولة الفاطمية في مصر دولة شيعية كذلك، والمنطق الشرعي يقتضي من البويهيين أن يدينوا للفاطميين لأنهم في الظاهر ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حتمت مصالح الحكام أن تكون العلاقات بين الدولتين أميل إلى البرودة والتباعد رغم بعض مظاهر المجاملات التقليدية.
وينبغي أن نشير هنا إلى الديلم كانوا قد أسلموا على يد أحد الدعاة من الشيعة الذين جاءوا من العراق، وسبب ذلك أن العباسيين لما تولوا الحكم ضيقوا على العلويين الذين كانوا يعتقدون أنهم أحق بالولاية من بني العباس، فخرج كثير من العلويين يلتمس إيجاد دولة في أطراف المملكة، وقصد عدد منهم قزوين وخراسان وأذربيجان، وقامت لهم فيها ثورات ودويلات قضت عليها الدولة العباسية، فلم يكتب لها البقاء، وقد ذكرنا من قبل أهم شخصية شيعية في عصر معز الدولة؛ ابن الداعي محمد بن الحسن بن القاسم الحسني العلوي الطالبي، المولود سنة 304 والمتوفى سنة 359، والذي ولد في بلاد الديلم، وكان يتكلم لسانهم لأن أمه منهم، ونشأ بطبرستان، وكان معز الدولة يبالغ في تعظيمه حتى أنه قبل يده مرة، مستشفيا بها، وهو مريض، قال عنه الإمام الذهبي في السير: كان فيه تشيع بلا غلو، كان يمتنع من الترحم على معاوية رضي الله عنه، ولا يشتم الصحابة. وفي آخر أمره خرج ابن الداعي في غياب معز الدولة إلى بلاد الديلم فبايعه جماعة فيها وأسس دويلة تلقب فيها بالإمام وتركه البويهون فلم يواجهوه، ثم مات مسموماً من منافس له.
ولا بد أن نذكر هنا أن بني بويه ومن معهم من الديلم، كانوا يرون أن بني العباس قد غصبوا الأمر من العلويين، وأن معز الدولة عزم على تحويل الخلافة إلى العلويين، واستشار أصحابه فكلهم أشار عليه بذلك، إلا رجلا واحدا من أصحابه، كان سديد الرأي فيهم، فقال: لا أرى لك ذلك. قال: ولم ذاك؟ قال: لأن العباسي خليفةٌ ترى أنت وأصحابك أنه غير صحيح الإمارة، حتى لو أمرتَ بقتله قتله أصحابُك، ولو وليتَ رجلا من العلويين اعتقدتَ أنت وأصحابك أن ولايته صحيحة، فلو أمرتَ بقتله لم تُطَع بذلك، ولو أمر هو بقتلك لقتلك أصحابك. فأعرض معز الدولة عن الأمر وبقيت الخلافة في بني العباس.
وفي سنة 352 بدا لمعز الدولة أن يفتح عمان لخصومة استحكمت بينه وبين صاحبها يوسف بن وجيه، فأرسل الوزير المهلبي على رأس جيش، ولكنه اعتل علة شديدة، فأعيد إلى بغداد فمات في الطريق، وصادر معز الدولة أمواله وذخائره، واستخلص أموال أهله وأصحابه وحواشيه حتى ملاحيه ومن خدمه يوما واحدا، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، فكانت خسارة مزدوجة لمعز الدولة، خسر فيها وزيره الفاضل الصالح، وخسر فيها احترام الناس له.
وفي منتصف سنة 353 خرج معزّ الدولة إلى الموصل غضباناً على ناصر الدولة ابن حمدان، فملكها وهرب ناصر الدولة إلى نصيبين، فتبعه معز الدولة، ففارقها وبعث أولاده إلى الموصل لقتال من فيها، فرجع إليهم معز الدولة فهربوا، فسار نحو بغداد، فجمع ناصر الدولة أولاده وهاجم الموصل، فأسروا من قادة معز الدولة حوالي 70 قائداً و600 جندي، واستولوا على 130.000 درهم، فأخذها ناصر الدولة وخرج من الموصل ومضى إلى حلب عند أخيه سيف الدولة، وجرت محادثات للصلح انتهت بالاتفاق على إطلاق الأسرى وردِّ 80.000 درهم، وعاد ناصر الدولة إلى الموصل، ولم يزل بها إلى أن خلعه ابنه سنة 356.
وفي سنة 354 سير معز الدولة جيشاً إلى عمان بعد سماعه بوفاة حاكمها، فدخل الحاكم الجديد في طاعة معز الدولة وضرب اسمه على الدراهم والدنانير، ولكن ما أن غادر جيش معز الدولة عمان حتى ثار بعض وجهائها وطردوا الحاكم وأدخلوا القرامطة إلى البلد، فسار الحاكم إلى معز الدولة وكان في منطقة البطائح يقاتل المتمرد عمران بن شاهين، فجهز جيشاً حمله في مئة مركب، واستعان بابن أخيه عضد الدولة فأرسل له جنداً وأبحر الجميع من ميناء سيراف في الجانب الفارسي من الخليج، فساروا إلى عُمان وفتحوها في آخر سنة 355، وخطب فيها لمعز الدولة وصارت تابعة له.
وفي أوائل سنة 356 كان معز الدولة في واسط يحارب أحد الخارجين عليه، فأصيب بعلة الذّرب، أي الإسهال الدائم، فعاد إلى بغداد للاستشفاء، فبقي فيها شهرين والمرض يتفاقم، ولما شعر بدنو منيته استحضر بعض العلماء ليسأله عن التوبة ورد المظالم، فسأله عن الصحابة فذكر له سوابقهم وأن علياً زوّج ابنته من فاطمة بعمر رضي الله عنهم، فاستعظم ذلك وقال: والله ما علمتُ بهذا قط! وتبرأ مما كان قد فعله من قبل، وأعتق مماليكه وتصدق بأكثر ماله، وردَّ كثيراً من المظالم، وأدركته المنية في بغداد  في 17 ربيع الآخر سنة 356 ، ودفن في داره، ثم نقل إلى مشهد بني له في مقابر قريش.
ونعود هنا القهقرى لنتحدث عن نشأة معز الدولة وإخوته، فنقول: ولد أحمد بن بويه بن فَناخسرو في سنة 303، ويذكر المؤرخون له نسباً طويلاً ينتهي إلى الملك سابور ذي الأكتاف وبيت المُلك العريق في فارس، وكان أصغر إخوة ثلاثة بدأوا في عامة الناس وانتهوا إلى الإمارة، وكان أحمد بن بويه في أول أمره يحمل الحطب على رأسه ليبيعه، وتذكر بعض المصادر قصة عن والده بويه الملقب بأبي شجاع، وأنه كان صياداً وأن منجماً أخبره بعد وفاة زوجته أن أولاده الصغار سيكونون ملوكاً يملكون الأرض ويعلو ذكرهم في الآفاق، وهذه القصة وأمثالها مما يشيع كثيراً حول الملوك والأمراء الصاعدين، ولعلها وأمثالها مما أشاعه المتسلطون أنفسهم تمكيناً لهم في نفوس العامة وتوطيداً لسلطانهم في المجتمع.
وخرج الوالد بأولاده، علي والحسن وأحمد، إلى خراسان فعملوا في عسكر مرداويج بن زيار الدَّيْلَمِي، إلى أن صار عليّ قائداً، فأرسله يستخرج له مالاً من الكُرْجِ، وهي جورجيا اليوم، فاستخرج خمسمئة ألف درهم، فأخذ المال وأتى همدان ليملكها ويستقل عن مرداويج، فغلّق أهلها في وجهه الأبواب، فقاتلهم وفتحها عَنْوةً وقتل خلقاً، ثم تحرك منها إلى إصفهان ثم أرجان وتنقّل في النّواحي، وانضم إليه خلْق، فأخذ الأموال، وصارت خزائنه خمسمئة ألف دينار، فقصد شيراز واستولى عليها، ولما تمكنت له الأمور راسل الخليفة العباسي الراضي في بغداد وطلب منه تقليده هذه الأقاليم استكمالاً لشرعيته، على أن يحمل مبلغاً من المال إلى خزانته في كل سنة، فأجابه الراضي لذلك وأرسل له رسولاً بالخلعة واللواء.
وبسط أخوه الحسن سلطانه على أصبهان والري وجميع عراق العجم، وفي المعارك التي خاضوها برزت شجاعة الأخ الأصغر أحمد بن بويه، ويرد أول ذكر له في سنة 322 في الموقعة التي استولى بعدها أخوه عماد الدولة على شيراز.
ولما تمكن أخواه أرسلاه في سنة 324 إلى إقليم كرمان ليستولي عليه ويصير أميره، فلما وصلها سمع به أميرها فتركها ورحل إلى سجستان من غير حرب، فملكها معز الدولة، وكان بتلك النواحي طائفة من الأكراد قد تغلبوا عليها، وكانوا يحملون لأمير كرمان في كل سنة شيئاً من المال بشرط أن لا يطأوا بساطه، فلما وصل معز الدولة سير إليه رئيس القوم، ويدعى علي كلويه، وأخذ عهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثم أشار عليه كاتبه بنقض العهد وأن يسري إليهم على غفلة ويأخذ أموالهم وذخائرهم، ففعل معز الدولة ذلك، وسار إليه في عدد غير كبير، ولكن علياً كان قد وضع الجواسيس على معز الدولة، فلما علم بغدره كمن له في مضيق ثم هاجمه فقتل أغلب أصحابه أو أسروا، وجرح معز الدولة عدة جراحات، وأصابته ضربة في يده اليسرى، فقطعتها من نصف الذراع، وأصابت ضربة أخرى يده اليمنى فسقط بعض أصابعه، وسقط إلى الأرض مثخناً بالجراح، ورآه في اليوم التالي علي فأحضر له الأطباء، وبالغ في علاجه،  وأرسل إلى أخيه الكبير عماد الدولة يعرفه عذره في الهجوم عليه بسبب غدره، ويؤكد طاعته للبويهيين، فقبل منه عماد الدولة ذلك وصالحه.
وعاد معز الدولة فيما بعد لينتقم من علي كلويه، فقتل منهم عددا كثيرا، وانهزم عليَ، وكتب معز الدولة إلى أخيه عماد الدولة بما جرى له معه، فأرسل إليه أخوه رسولاً يأمره بالوقوف مكانه وألا يتجاوزه وأن يعود إليه إلى فارس، فعاد إلى أخيه، وأقام عنده حتى جاءهم أبو عبد الله البريدي منهزماً من ابن رائق وبجكم، وأطمع عماد الدولة في العراق، فسير معه معز الدولة الذي رأينا كيف استولى في النهاية على العراق بجهوده ومثابرته وكذلك بضعف الدولة التي نخرها التسلط والفساد.
وبقيت الدولة البويهية إلى سنة 447، حين جاء الملك السلجوقي طُغرل بك من فارس إلى بغداد وقبض على الملك الرحيم آخر ملوكها وسجنه حتى مات، وكانت دولة السلاجقة تتبع المذهب السني وتعاملت مع الخلفاء باحترام زائد وتعظيم لا مثيل له.
كان معز الدولة حديد الطبع، بذيء اللسان، يكثر سب وزرائه وحاشيته، سهل الاستثارة، سريع الغضب، ضرب وزيره المهلبي 150 مقرعة على المظنة، وكان إذا غضب جداً يأمر بالقتل، ويكره أن يتم ذلك، ويعجبه أن يُسأل العفو، فإذا برد غضبه وسكن تدارك ما فرط منه.
ومما استجد في زمانه رياضتان: هما المشي السريع والمصارعة، أما المصارعة فكان معز الدولة يهواها ويقيم لها حلبة في ميدانه، ويقيم قربها شجرة يابسة على أغصانها الجوائز من الثياب الفاخرة وتحتها أكياس فيها دراهم، وكان يأذن للعامة في دخول الميدان بالطبول والزمور يشجعون من ينحازون إليه من المتصارعين، ثم تجري المباراة على قرع الطبول الرسمية فمن غلب أخذ الثياب والشجرة والدراهم، وصارت رياضة المصارعة الشغل الشاغل لشباب بغداد، فصار في كل موضع حلبة، فإذا برع أحدهم، صارع بحضرة معز الدولة، فإن غلب، أجريت عليه المكافآت، وانتقل الأمر من المصارعة للتنافس في السباحة، فتعاطاها أهل بغداد حتى أحدثوا فيها الطرائف، فكان الشاب منهم يسبح قائماً، وعلى يده كانون فوقه حطب يشتعل تحت قدر، إلى أن تنضج، ثم يأكل منها، إلى أن يصل إلى دار السلطان.
أما المشي السريع فقد نشأ من حاجة معز الدولة لتبادل الرسائل مع أخيه ركن الدولة في الري، فكان السعاة، ويسمى واحدهم الفيج، يقطعون المسافة من بغداد إلى أصفهان في مدة قريبة، وكان معز الدولة أول من استحدثه في الدول الإسلامية، وكان يثيب السعاة الجيدين بالمكافآت، فحرص أحداث بغداد وضعفاؤهم على ذلك، حتى انهمكوا فيه وأسلموا أولادهم إليه، وكان عند معز الدولة ركابيان، يعرف أحدهما بمرعوش، والآخر بفضل، يسعى كل واحد منهما ما يزيد على 30 فرسخاً في اليوم، أي 150 كيلومتراً، وكان أحدهما من السنة والآخر من الشيعة، فتعصب لكل منهما فرقة من الناس.

وكما كان معز الدولة محظوطاً بالوزير المهلبي في مروءته وتدبيره كان محظوظاً في كاتبه الذي كانت تصدر رسائله عنه؛ أبو اسحق الصابىء إبراهيم بن هلال، صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع، وكان في هذا الفن أمة، وكان كلدانياً متشددا في دينه، وكان يصوم شهر رمضان، ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ ويستعمله في رسائله، واجتهد به معز الدولة أن يسلم فلم يفعل.

السبت، 13 فبراير 2016

حدث في الرابع من جمادى الأولى

في الرابع من جمادى الأولى من سنة 255 استولى على إيران أبو يوسف يعقوب بن الليث الصَّفار، ليؤسس الدولة الصفارية التي امتدت من الباكستان إلى إيران، وكان يعقوب أحد أبطال العالم، وأحد الأمراء الدهاة الكبار.
كان يعقوب  في صغره يعمل في صناعة الصُّفر - النحاس - في سِجستان بخُراسان، وسجستان أو سِستان تقع اليوم في جنوبي غربي أفغانستان وشرقي إيران، وكان أخوه عمرو مُكارياً يكري الحمير، وكانا من أهل الزهد والتقشف، وكانت سجستان داخلة في إمارة خراسان التي قام بها آل طاهر بن الحسين الخزاعي، وأول من وليها منهم عبد الله بن طاهر بن الحسين سنة 213 في أيام المأمون.
وهربت إلى سجستان مجموعة من الخوارج الشُراة، الذين تسمَّوا بذلك لزعمهم أنهم شَرَوا أنفسهم لله تعالى أي باعوها، وأغارت فيها على القوافل والأفراد، فقام لقتالها مجموعة من المتطوعين ترأسهم رجل من أهل بُست يدعى صالح بن النضر الكناني، فانضم إليه يعقوب وهو شاب وقاتل معه وجعله صالح نائبه على العسكر، وفي سنة 237 تمرد صالح على إمارة طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي، واستولى على سجستان، وذلك في خلافة المتوكل على الله، ولكن طاهر استطاع استخلاصها منه، وإن لم يستطع القضاء على قوة المطوعة.
ومات صالح بن النضر سنة 241 فاختار المتطوعة درهم بن الحسن أميراً عليهم، وبقي يعقوب على الطاعة مع الأمير الجديد كما كان مع صالح، وكان درهم بن الحسن رجلاً بسيطاً فلم يضبط أمور المطوعة، وبدأت أمورهم تتفلت، ومال عدد منهم إلى يعقوب بن الليث الذي كان قائدهم العسكري، ثم احتال أمير خراسان على درهم بن الحسن حتى ظفر به، فحمل إلى بغداد فحبس بها ثم أطلق، ولزم بيته يظهر النسك والحج.
واختار المطوعة يعقوب بن الليث أميراً عليهم لما رأوه من تدبيره وحسن سياسته وقيامه بأمرهم، وأطاعه أصحابه طاعة لم يطيعوها أحداً قبله، وقام بمحاربة الشُراة من الخوارج فظفر بهم وكاد يفنيهم، وكانت شجاعته في حربهم وإقدامه على قتالهم مضرب المثل، وكانت آثارها في جسده ووجهه، قال علي بن الحكم: سألت يعقوب بن الليث الصَّفار، عن الضربة التي علي وجهه، وهي مُنكَرة على قصبة أنفه ووجنته، فذكر أن ذلك أصابه في بعض وقائع الخوارج، وأنه طعن رجلاً منهم، فرجع عليه فضربه هذه الضربة، فسقط نصف وجهه، حتى رُدّ وخُيّطَ. قال: فمكثتُ عشرين يوماً في فمي أنبوبة قصب، وفمي مفتوح لئلا يتقرح رأسي، وكان يُصب في حلقي الشيء بعد الشيء من الغذاء، قال حاجبه: وقد كان مع هذه الضربة، يخرج ويعبي أصحابه للحرب ويقاتل.
واشتدت شوكة يعقوب الصفار فغلب على سجستان سنة 247، وأظهر التمسك بطاعة الخليفة، وكاتَبـَه وصَدَرَ عن أمره، وأظهر أنه أمره بقتال الشُراة، وضبط يعقوب الطرق، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فكثر أتباعه، وفي سنة 248 توفي الأمير طاهر بن عبد الله فأصدر الخليفة العباسي المستعين بالله أمره من بغداد بتعيين ابنه محمد بن طاهر على خراسان.
وأصبحت قوة يعقوب تهديداً واضحاً لأمراء المناطق من حوله وكانوا من قبائل الدُراني البشتونية، فحاربوه ولكنه هزمهم وشتت جموعهم، ثم اتجه في سنة 253 شمالاً نحو هراة وكانت أكبر مدينة قريبة منه، وهي حاضرة منطقتها ومركز تجارتها وتقع على الطرق التجارية فيها، وهي اليوم في غرب أفغانستان، وهاجم بلدة بوشنج فخرج إليه أميرها وكان معروفاً بالتدبير في الحرب وتحريك الجيش، فكان يعقوب يرد على كل حركة له بما يبطلها حتى هزمه، واستولى بعدها على هَراة، وأصبحت إمارته قوية غنية، فهابه أمراء الأطراف، ثم انضوى تحت لوائه أمراء القبائل الدُرانية وحفزوه على جهاد الهندوس فاتجه شرقاً فغزا المناطق التي تقع في حدود باكستان مع أفغانستان وإيران فهزمهم، وصارت له هيبة بين ملوك السند ومُلتان.
وقبض يعقوب الصفار على جماعة من آل طاهر ولاة خراسان، وحملهم إلى سجستان، فوجه الخليفة المعتز بالله  رسولا يعرف بابن بلعم برسالة جعله فيها أميراً على البلاد التي تحكم فيها، فأطلقهم. قال ابن بلعم: صرت إليه بكتاب أمير المؤمنين المعتز بالله إلى زَرَنْج - وكانت عاصمة بلاد سجستان -  فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت ولم أسلم عليه، وجلست بين يديه من غير أمره، ودفعت الكتاب إليه فلما أخذه قلت له: قَبِّلْ كتابَ أمير المؤمنين! فلم يقبله، وفضَّه، فتراجعت القهقرى إلى باب مجلسه الذي كان فيه ثم قلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله. فأعجبه ذلك، وأحسن مثواي ووصلني، وأطلق الطاهرية.
وتطلع يعقوب إلى أن يملك بلاد فارس ويجبي خراجَها الهائل، فكتب إلى الخليفة العباسي المعتز بالله ببغداد يعرض طاعته ويسأل أن يُعطى بلاد فارس، على أن يحمل للخليفة في كل سنة مبلغ 15 مليون درهم، وأرسل الصفار إلى المعتز بالله هدية سنية من جملتها مسجد فضة مخلّع يصلي فيه خمسة عشر إنسانا، وكان يُحمل على عدّة جمال، ويُفكَّكُ ثمّ يُركَّبُ، وعشرة بازات منها باز أبلق لم ير مثله، ومئة مُهر، وعشرين صندوقاً على عشر بغال فيهم طرائف الصين وغرائبه، ومئة رطل من مسك، ومئة رطل عود هندي، وأربعة آلاف ألف درهم.
وكان الخليفة العباسي قد ولَّى عليَّ بن الحسين بن قريش على كرمان، وكان الخليفة في تلك الفترة ضعيفاً لا قدرة له على أن يقاتل أمراء الأطراف إن هم عصوا أمره، وبالطبع كان الصفار يدرك ذلك، ولذا عرض في كتابه أن يتولى هو إخراج الوالي الحالي علي بن الحسين بن قريش، وكان الخليفة يريد إزاحته لأنه كان يتأخر في حمل مال الخراج ويتعذر حتى ينقص منه، فكتب الخليفة إلى يعقوب بالولاية، وقصد أن يضرب كل واحد منهما بالآخر، وكان الخليفة  المعتز يعلم في باطن أمره أن كلاهما على نية العصيان.
ولم ينتظر يعقوب الإجابة من الخليفة، بل قدر أن سيصل خبر كتابه إلى علي بن الحسين بن قريش، فبادر بالمسير في جيشه إلى كرمان حتى نزل بلدة بَم على الحد الفاصل بين سجستان وبين كرمان، فخرج إليه العباس بين الحسين أخو علي وواليه على كرمان، ومعه أحمد بن الليث الكردي في جيش من الأكراد غير المسلمين، وارتكب هؤلاء فظائع مع سكان المناطق التي مروا فيها من قتل وسبي وأخذ للأموال، مما جعل الناس تكرههم وتميل إلى يعقوب الصفار، قال أحمد بن الحكم، قال لي يعقوب الصفار: أخبرني عن علي بن الحسين أمسلم هو؟ قلت: نعم، قال: أفرأيت مسلماً يوجه بالأكراد الكفار إلى بلاد المسلمين فيقتلونهم ويحملون نساءهم ويأخذون أموالهم؟ ألم تعلم أن أحمد بن الليث الكردي قتل بكرمان سبعمئة إنسان على دم واحد، وافتض الأكراد مئتي بكر من أهل البيوتات، وحملوا معهم نحو ألفي امرأة إلى بلادهم، أفرأيت مسلماً يرضى بهذا؟ قال: قلت: فعل أحمد هذا من غير أمره.
وأمسك أحمد بن الليث بجماعة من جيش يعقوب كانوا يطلبون العلف، فهرب بعضهم وقتل بعضهم، وأرسل أحمد بن الليث برؤوس المقتولين إلى علي بن الحسين الذي افتخر بهذا النصر ونصب رؤوسهم ليشهدها الناس في المدن، ولما بلغ الخبر يعقوب عَبَر الحدود ودخل  كرمان، فندب علي بن الحسين لمحاربته طوق بن المغلس في خمسة آلاف من الأكراد، سوى من تقدم مع أحمد بن الليث الكردي، وتواجه جيش يعقوب مع جيش طوق بن المغلس قرب كرمان، وأرسل يعقوب كتاباً إلى طوق يعلمه أنه أخطأ إذ دخل منطقة خارجة عن سلطانه واعتدى فيها على جنود يعقوب، فرد عليه طوق: أنت بعمل الصُفر أعلم منك بعمل الحروب!
وتحاجز الجيشان مدة شهرين، لا يتقدم يعقوب إلى طوق، ولا طوق يخرج إليه، فلما طال ذلك عليه أظهر يعقوب الارتحال إلى سجستان ورجع مرحلتين، وبلغ طوقا ارتحاله فظن أنه قد عدل عن حربه، فوضع آلة الحرب وقعد للشرب واللهو، واتصل ذلك بيعقوب فكر راجعاً وطوى المرحلتين في مرحلة واحدة، فلم يشعر طوق إلا بغبرة العسكر قد طلعت، فقال: ما هذا؟ فقيل غبرة المواشي، فلم يكن بأسرع من موافاة يعقوب فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابه يريدون المناهضة والدفع عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا لهم، فأفرجوا لهم فمروا هاربين وتركوا أموالهم وأثقالهم، وأسر يعقوب طوقا.
وكان علي بن الحسين قد سير مع طوق بن المغلس قيوداً في صناديق، ليقيد بها من يأخذه من أصحاب يعقوب، وفي صناديق أخرى أطواقاً وأساور يعطيها للشجعان من أصحابه، فلما غنم يعقوب عسكرهم رأى ذلك فقال يا طوق: ما هذا؟ فأخبره، فأعطى يعقوب الأطواق والأساور للشجعان من أصحابه، وقيد بالقيود والأغلال أصحاب علي.
ولما وضع الحداد القيد في يد طوق بن المغلس، مد يده رآها يعقوب وعليها عصابة، فسأله عنها فقال: أصابتني حرارة ففصدتها، فأمر يعقوب مساعده أن ينزع له خفه، فتساقطت منه كسر يابسة، فقال: يا طوق، هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ شهرين، وخبزي فيه، منه آكل، وأنت جالس في الشرب!‏ وقيده بقيد خفيف، وأكرمه وأحسن إليه ووسع عليه، وكان طوق قبل خروجه إلى يعقوب اشترى داراً بشيراز بسبعين ألف درهم، ثم أنفق على تحسينها مالاً، فكتب إلى ابنه: لا تقطع البناء عن الدار، فإن الأمير يعقوب قد أكرمني وأحسن إلي.‏
ولجأ علي بن الحسين إلى السياسة فكتب كتاباً إلى يعقوب مضمونه أن طوق بن المغلس فعل ما فعل من غير أمره، وأنه لم يأمره بمحاربته، وقال له: إن كنت تطلب كرمان فقد خلفتَها وراءك، وإن كنت مأموراً من أمير المؤمنين فأورد كتابه بتسليم العمل لأنصرف. فرد عليه يعقوب: إن معي كتاباً من السلطان لا أوصله حتى أدخل البلد، والسيف بيننا،  والموعد مرج سنكان. وهو مرج واسع بينه وبين شيراز ثلاثة فراسخ.
و واستعد أهل شيراز للحصار، وكتب صاحب البريد بها ووجوه أهلها إلى يعقوب يعلمونه أن علي بن الحسين لن يسلم البلد إلا بكتاب الخليفة، ويناشدونه ألا يتسرع إلى سفك الدماء، مع ما وهب له الله تعالى من التطوع والديانة وقتل الخوارج ونفيهم عن بلاد خراسان وسجستان.
وكان المنهزمون من جيش طوق قد أسروا ثلاثة جنود من جيش يعقوب وعادوا بهم إلى شيراز، فحبسهم علي بن الحسين، فكتب طوق بن المغلس إليه يسأله إطلاقهم، وكان يعقوب وعده أن يطلقه مقابلهم، فقال علي بن الحسين: اكتبوا إلى يعقوب ليصلب طوق بن المغلس، وإن أقل عبد من عبيدي أكبر عندي منه. ولما بلغ هذا الجواب طوق بن المغلس انقلب على علي بن الحسين، وتقرب إلى يعقوب بمال عنده بشيراز ليقوى به على حرب علي بن الحسين، وكتب إلى ابنه في شيراز بذلك فوقع الكتاب في يد علي بن الحسين فأخذ المال وغيره من دار طوق.
وعرض يعقوب على علي بن الحسين أن ينسحب من كرمان ويعود إلى سجستان مقابل أن يدفع له مبلغاً من المال يوزعه في جنوده، وأرسل إليه في أول جمادى الأولى من سنة 255 كتاباً ورسالة شفوية مع وسيط، قال له فيها: إن معي قوماً أحراراً جئت بهم ليس يتأتى لي درؤهم إلا بما يحبون، فوجه إلي بما يرضيهم، ووجه لي في نفسي ما يشبه مثلي من البِر، فإذا فعلت فأنا أخوك وعونك على من حاربك، وأدفع لك كرمان تأكلها، وأنصرف إلى عملي.  وجاء في كتاب يعقوب: ... إني لست ممن تطمع نفسه في محاولة ظلم، ولا ممن يمكنه ذلك ... فإن البلد لأمير المؤمنين، ونحن عبيده بأمره في أرضه وسلطانه، وفي طاعة الله وطاعته، وقد استمعت من رسولك، ورجعت إليه في جواب ما عملته وأدائه ما يورده عليك لنا ولك فيه صلاحاً، فإن استعملته ففيه السلامة إن شاء الله تعالى، وإن أبيت فإن قدر الله تعالى نافذ لا محيص عنه، ونحن نعتصم بالله من الهلكة، ونعوذ به من دواعي البغي ومصارع الخذلان، ونرغب إليه في السلامة ديناً ودنيا بلطفه، مد الله في عمرك.
وحشد علي بن الحسين جيشاً تعداده 15.000 جندي، ووقعت المعركة في الرابع من جمادى الأولى من سنة 255، وانهزم جيش علي بن الحسين هزيمة منكرة، وقتل منه 5.000 قتيل، وهرب هاربوه حتى وصلوا الأهواز، وكاد جنود يعقوب أن يقتلوا علي بن الحسين فأعلمهم أنه الأمير فأسروه وجاءوا به إلى يعقوب، فوضعه في القيود، وصب عليه العذاب ليدله على الأموال، فدلهم على موضع في داره، فاستخرجوا منه أربعة ملايين درهم.
ودخل يعقوب إلى شيراز والطبول تضرب بين يديه، وظن أهل شيراز أنه يؤدبهم ويستحل دماءهم وأموالهم بحربهم، لأنه كان وعد أصحابه إن هو ظفر أن يطلقهم لينهبوا شيراز، وبلغ أهلها ذلك فلزموا بيوتهم، ورجع يعقوب من ليلته إلى عسكره بعد أن طاف شيراز، فلما أصبح نادى بالأمان ليخرج أهلها إلى الأسواق، فخرج الناس، وأعطى كل فرد في جيشه ثلاثمئة درهم عوضاً عن ذلك، وحضرت الجمعة فأمر الخطيب فدعا للخليفة المعتز بالله ولم يدْعُ لنفسه، فقيل في ذلك فقال: الأمير لم يقدم بعد، وقال: إنما مقامي عندكم عشرة أيام، ثم أرجع إلى عمل سجستان. وعاد فعلاً إلى سجستان بعد حوالي ثلاثة أسابيع، واستعاد الخليفة بعد ذلك فارس وبعث عماله إليها.
وكانت الخلافة في بغداد بيد الأتراك في الحقيقة الذين استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاؤوا أبقوه، وإن شاؤوا خلعوه، وإن شاؤوا قتلوه، حتى انه لما جلس المعتز على سرير الخلافة في سنة 252 قعد خواصه وأحضروا المنجمين، وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة؟ وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعرفُ من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته! فقالوا له: فكم تقول إنه يعيش؟ وكيف يملك؟ قال: مهما أراد الأتراك. فلم يبق في المجلس أحد إلا من ضحك.
ثم إن الأتراك ثاروا بالمعتز في رجب من سنة 255، وطلبوا منه مالاً فاعتذر إليهم وقال: ليس في الخزائن شيء. فاتفقوا على خلعه وقتله، فحضروا إلى بابه وهجموا عليه وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأقاموه في الشمس، فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى لشدة الحر، وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، ثم جعلوه في بيت وسدوا بابه حتى مات، بعد أن أشهدوا عليه أنه خلع نفسه.
وجعل الأتراك مكانه الإمام المهتدي بالله ثم خُلِعَ بعد سنة في 16 رجب من سنة 256، ووضعوا مكانه المعتمد ‏على الله سنة 256، فأهمل أمور رعيته وتشاغل بلهوه ولذاته، فغلب على أمره وتدبير ملكه وسياسة سلطانه أخوه الموفق طلحة بن جعفر المتوكل، ويسمى بالناصر لدين الله، وصيره كالمحجور عليه لا أمر ينفذ له ولا نهي، فقام الموفق بأمر الملك أحسن قيام، وقمع من قرب من الأعداء، واستصلح من نأى، على كثير ما كان يلقى من اعتراض الموالي وسوء طاعتهم، وتوفي الموفق ببغداد سنة 278.
وبقي يعقوب على طاعته للخلافة وهو في نفس الوقت يوسع سلطانه ويوطده، واستمر على ذلك حتى سنة 258 فقد دخل فيها إلى فارس وجبى غلاتها ورجع ومعه 30 مليون درهم، وفي منتصف سنة 258 اتجه يعقوب شرقاً فدخل مدينة بلخ، وهي اليوم مزار شريف في شرق أفغانستان، وفي آخر سنة 259 اتجه غرباً فدخل نيسابور، واستسلم له أميرها محمد بن عبد الله بن طاهر آخر أمراء الأسرة الطاهرية، وكان أمرهم قد ضعف لكثرة الخارجين عليهم من أمراء النواحي، فأخذ يعقوب يوبخه ويعنفه على تفريطه في البلاد، حتى غلب عليها العدو.
وتوجه يعقوب بعدها  شرقاً نحو جُرجان للقاء الحسن بن زيد العلوي أمير طبرستان وجرجان، ولما بلغ الحسن بن زيد أن يعقوب يقصده أخذ من أموال الخراج ثلاثة عشر ألف ألف درهم وانسحب إلى طبرستان، ودخل يعقوب جرجان وسار بعدها إلى إقليم طبرستان، الواقع على بحر قزوين، وخرج إليه الحسن بن زيد في جيش كبير، ووقعت المعركة في 26 رجب سنة 260، وتقدم يعقوب بنفسه إلى القتال، فتبعه خمسمئة من عبيده، فحمل على الحسن وأصحابه حملة واحدة فانهزموا، وأخذ يعقوب مما كان مع الحسن بن زيد ثلثمئة وقر مالاً أكثرها عين، وظفر بجماعة من آل أبي طالب فأساء إليهم وأسرهم، وسار بعدها فاحتل آمُل، وهي عاصمة بلاد طبرستان.
وهرب الحسن بن زيد إلى بلدة يقال لها سالوس، فلم يجد قبولاً لدى أهلها فتركها، ويعقوب وراءه يتعقبه، فلما كاد أن يدركه جاءه الخبر أن الحسين بن طاهر بن عبد الله قد صار بجيش في مرو ومعه جنود أمير خوارزم، ولما كان هذا يهدد المناطق الشمالية في ملكه، ترك يعقوب طلب الحسن بن زيد وقرر العودة إلى هراة، ولكنه قبل ذلك كتب إلى أمير الري، وهي طهران اليوم، يأمره أن يخرج منها لأن أمير المؤمنين قد ولاه إياه.
وفي أول سنة 261 نشبت معركة بين يعقوب وبين الحسن بن زيد قرب جرجان في طبرستان، وانهزم جنود يعقوب وقتل عدد منهم، وانسحب هو إلى جرجان، فجاءت بها زلزلة عظيمة دامت ثلاثة أيام قتلت من أصحابه ألفي إنسان، وهكذا رجعت طبرستان إلى الحسن بن زيد العلوي.
وأقام يعقوب بجرجان يعد العدة للحرب، فاشتد على أهلها في فرض الخراج وجباية الأموال، وبلغت أخبار الهزيمة الخليفة المعتمد على الله  فكتب إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، بأن يجمع الحاج من أهل خراسان وطبرستان وجرجان والري يقرأ عليهم كتاباً منه إليه، فجمع الحاج القادمين من أقاصي البلاد، وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين يهاجم فيه الصفار ويذمه، وعمل ثلاثين نسخة، ودفع إلى أهل كل كورة نسخة لتذيع الأخبار بهذه النسخ في الآفاق، ثم كتب الخليفة إلى أصحاب الممالك بخراسان وذوي الجاه بتولية كل رجل ناحية.
ووصلت الأخبار إلى يعقوب الصفار، وانكشف له رأي الخليفة فيه، فرجع شرقاً إلى نيسابور، ولما دخل إليها أساء إلى أهلها بأخذ الأموال، ثم اتجه إلى سجستان في منتصف سنة 261 فأعد العدة وسار منها حتى وصل إلى عسكر مكرم في الأهواز، وأرسل منها كتاباً إلى الخليفة يسأله فيه ولاية خراسان وبلاد فارس وما كان مضموماً إلى آل طاهر بن الحسين الخزاعي من الكور وشرطتي بغداد وسر من رأى، وأن يعقد له على طبرستان وجرجان والري وأذربيجان وقزوين، وأن يعقد له على كرمان وسجستان والسند، وأن يحضر من قرئت عليهم الكتب التي نسخت في دار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ويقرأ عليهم خلاف ما قرئ عليهم أولاً من ذكره، ليبطل ذلك الكتاب بهذا الكتاب.
وكان هذا طلباً تعجيزياً من الخليفة المعتمد على الله، ولكن أخا الخليفة الموفق بالله، والمستولي على الأمور كلها، أراد أن يتجنب القتال مع الصفار فأجابه إلى ما طلب، وجمع الناس وقرأ عليهم ما أحبه الصفار، وأجيب إلى الولاية التي طلبها.
وكانت نتيجة ذلك أن ثار الجنود على الخليفة لاستجابته لما طلبه الصفار، واتهموا الأمير الموفق بأنه على ترتيب مع الصفار الذي ما كان ليأتي لولا ذلك، واستغرب الناس  أن يقدم أمير صغير من زَرَنج في سجستان إلى بلاد العراق لمحاربة الخليفة وهو في جيوشه وعدده وتقادم مملكته في شرق الأرض وغربها، والصفار منفرد بجيشه ليس معه من يعضده ولا يشاركه في هذا الأمر! وتدارك الخليفة الأمر بأن لعن الصفار على الملأ، فطابت أنفس الموالي.
ولم تكن جرأة الصفار مجازفة خالية من الحسابات السليمة، إذ كانت فتنة الزنج التي مضت عليها سنوات تعصف بالخلافة وتذرو الفتن واحدة تلو الأخرى، فقد استولى الزنج على البصرة واستباحوها سنة 257، وأضحت الدولة العباسية في حالة ضعف واستنزاف شديدة في حربها معهم، ولذا قدر أنها لن تستطيع صده، وأضمر في نفسه الاستيلاء على العراق والسيطرة على الخليفة المعتمد، ويقال إنه قال في مسيره هذا أبياتاً ينكر على المعتمد ومن معه من الموالي إضاعَتَهُمُ الدين، وإهمالهم أمر صاحب الزنج، فقال:
خُراسان أحْوِيهَا وأعمال فارس ... وما أنا من ملك العراق بآيسِ
إذا ما أمور الدين ضاعت وأُهمِلت ... ورَثَّتْ فصارت كالرسوم الدوارس
خرجْتُ بعون الله يُمنا ونُصرة ... وصاحب رايات الهدى غير حارس
ووقعت المعركة في منطقة تدعى دير العاقول، وخرج المعتمد على الله بجيشه، ودعا ببُرد النبي صلى الله عليه وسلم وقضيبه، وأخذ القوس ليكون أول من رمى، ووزع العطاء في الجند، وقطع ما في الطريق من الشجر ‏والدغل، واستعد جنود الخليفة للحرب وجدَّوا فيها وشمروا، وقيل ما هو إلا أن تنتصروا أو تنهزموا فلا ترجع دولتكم ‏إليكم، ووقف الخليفة المعتمد بنفسه وإلى جانب ركابه محمد بن يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، ووقف معه جماعة من أهل البأس والنجدة، وتقدم بين يديه الرماة ‏بالنشاب، ورشقوا في ذلك اليوم أزيد من عشرين ألف سهم، وكشف الموفق أخو الخليفة رأسه وقال: أنا الغلام الهاشمي، وحمل على أصحاب الصفار، وقتل بين ‏الطائفتين خلق كثير،  وأصيب يعقوب بثلاثة أسهم في يديه وحلقه.
وفجر الخليفة على جيش يعقوب نهراً يعرف بالسيب، فغشي الماء الصحراء، واشتد القتال، فوقعت الهزيمة على الموفق، ثم ثبت، وانكسر أصحاب يعقوب، وكره أكثرهم القتال إذ رأوا أنفسهم يقاتلون الخليفة، فولوا الأدبار واستبيح عساكرهم، وكسب أصحاب الخليفة ما لا يحد ولا يوصف، وخلَّصوا محمد بن طاهر، وكان مع يعقوب في القيود، ودخل يعقوب إلى فارس وخلع المعتمد على محمد بن طاهر إمارة خراسان، ورده إلى عمله، وأعطاه خمسمئة ألف درهم، وانتهز صاحب الزنج اشتغال العسكر، فنهب البطيحة، وقتل وأسر، فسار عسكر الموفق لحربه فهزمهم.
قال أبو الساج داود ابن دوست الكردي للصفار لما انهزم: ما رأيتُ ‏معك شيئاً من تدبير الحروب، وكيف كنت تغلب الناس! فإنك جعلت ثقلك وأموالك وأسراك أمامك ‏وقصدت بلداً على قلة المعرفة منك به وبمغايصه وأنهاره بغير دليل، وقاتلت يوم الأحد والريح عليك، ‏وسرتَ من السوس إلى واسط في أربعين يوماً، وأحوال العساكر مختلة، فلما توافت عُددهم، وجاءتهم أموالهم ‏واستحكم أمرهم عليك أقبلت من واسط إلى دير العاقول في يومين، وتأخرتَ عند إمكان الفرصة وأقبلتَ ‏تعدو في موضع التثبت، فقال الصفار: لم أعلم أني أحارب، ولم أشك في الظفر، وتوهمت أن الرُسُلَ تَرِدُ عليَّ، ‏فبدروا الأمر فأتيت بما قدرت عليه.‏
ومن مصائب الحروب الخسائر العلمية، وكان من خسائر هذه الحرب كتابٌ ألفه أبو عمرو شمر بن حمدويه الهَروي، وكان ثقة عالماً فاضلاً، حافظاً للغريب، راوية للأشعار والأخبار، فقد ألف كتاباً كبيراً أسسه على حروف المعجم، وابتدأه بحرف الجيم، لم يسبقه إلى مثله أحد تقدمه، ولا أدركه فيه من بعده؛ ولما أكمل الكتاب بخل به فلم ينسخه أحد من أصحابه، وتوفاه الله فاختزن بعض أقاربه ذلك الكتاب واتصل بيعقوب بن الليث، فقلده بعض أعماله، واستصحبه إلى فارس ونواحيها، فحمل معه ذلك الكتاب، فلما جرى الماء من النهروان على معسكره، غرق ذلك الكتاب في جملة ما غرق من سواد المعسكر.
قال أبو منصور الأزهري: أدركت أنا من ذلك الكتاب تفاريق أجزاء بغير خط شمر، فتصفحت أبوابها فوجدتها على غاية من الكمال؛ والله عز وجل يغفر لنا ولأبي عمرو زلته، فإن الضن بالعلم غير محمود، ولا مبارك فيه.
ومضى الصفار منهزماً إلى واسط، ولم تتبعه الموالي مخافة رجعته ولاشتغالهم بالكسب والنهب، ثم رجع الصفار إلى السوس وجبى الأموال، ثم قصد تُستر - وهي اليوم شوشتر في الأهواز- وحاصرها وأخذها ورتب فيها نائباً، واستولى في سنة 263 على الأهواز، وقاتل الزنج الذين سيطروا على البصرة، وحاول رئيسُهم المسمى العلوي البصري استمالته، وكتب إليه يدعوه إلى الرجوع إلى بغداد، ووعده المساعدة، فقال لكاتبه: أجب عن كتابه، فقال: بماذا؟ فقال: اكتب: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، وسيَّر الكتاب إليه.
وبقي الصفار يشكل تهديداً للخلافة العباسية إلى أن توفي، فقد أرسل المعتمد إليه رسولاً بكتاب يستميله ويترضاه، ويقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض، فجلس له وجعل عنده سيفاً ورغيفاً من الخبز الخشكار، أي غير المنخول، ومعه بصل، وأُحضر الرسول فأدى الرسالة، فقال له يعقوب: قل للخليفة إنني عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف، حتى آخذ بثأري، أو تكسرني وتعقرني، وأعود إلى هذا الخبز والبصل. وأعاد الرسول.
مرض يعقوب بعلة القُولَنج - الإمساك الشديد - فأخبره طبيبه أن لا دواء له إلا الحقنة، فامتنع منها واختار الموت عليها، فمرض 16 يوماً ثم مات في جنديسابور في الأهواز في العاشر من شوال من سنة 265، وأجمع الجيش على أن يولوا مكانَه أخاه عمرو بن الليث، وأرسل عمرو كتاباً إلى الموفق أخي الخليفة المعتمد على الله بالسمع والطاعة، وأن يتولى ما كان أخوه يتولاه، فأجيب إلى سؤاله وتوليته.
واستمر عمرو أميراً حتى أوائل سنة 287، ويبدو أنه لم يكن مثل أخيه في التقشف، فقد كان لدى زوجته 1700 جارية، وكان جنده يظلمون أهل بلخ حتى كرهوه، وفي سنة 287 اعتدى عمرو على والي سمرقند إسماعيل بن أحمد بن أسد، وأراد أخذ سمرقند منه، فخضع له وقال: أنا في ثغر قد قنعت به، وأنت معك الدنيا، فدعني. فأبى إلا أخذها، فبادر إسماعيل في الشتاء، ودهم عمروا فانفض عنه كاتبه وجيشه وانحازوا إلى إسماعيل بن أحمد، وحمل عمرو إلى بغداد أسيراً حتى مات في سجن الخليفة، وانتهت الدولة الصفارية في حدود سنة 297 حين انهزم أخرهم: محمد بن علي بن الليث وحمل سجيناً إلى بغداد، وهناك في إيران اليوم من يعتبر الصفار بطلاً واجه العرب وأسس دولة إيرانية، وهو أمر لا يؤيده ما أوردنا من سيرة هذا القائد العظيم.
كان يعقوب الصفار ملكاً مدبراً عارفاً بالحروب وأصول الحكم، خلف في بيوت أمواله من العَين أربعة آلاف ألف دينار، ومن الفضة خمسون ألف ألف درهم، وكان عاقلاً حازماً قلَّ أن يُرى متبسماً، وكان خصمه الحسن بن زيد العلوي يسميه السندان  لثباته، وقال شيخ من الصفارين كان يعقوب وهو غلام في دكانه يتعلم عمل الصُّفر: ولم أزل أتأمل بين عينيه ‏وهو صغير ما آل أمره إليه! قيل له: وكيف ذلك؟ قال: ما تأملته قط من حيث لا يعلم بتأملي إياه إلا وجدته مطرقاً ‏إطراق ذي همة وروية، فكان من أمره ما كان.‏ وكان الصفار يقول: كلُّ من عاشرتَه أربعين يوماً ولا تعرف أخلاقه؛ لا تعرفها في أربعين سنة.
وكان يعقوب الصفار رحمه الله تغلب عليه التقوى ومراقبة الله، كما مرَّ في جوابه لصاحب الزنج، وروي أنه مرض مرضاً شديداً عجز الأطباء عن معالجته، فقيل له: إن في ولايتك رجلاً يدعو الله تعالى للمرضى فيشفون، هو سهل بن عبد الله التُستري المتوفى سنة 283، فلو دعا الله لك؛ ترجو العافية. فطلب سهلاً وسأله أن يدعو له فقال له سهل: أنى يستجاب دعائي لك وعلى بابك مظلومون! فأمر برفع الظلامات وإخراج المحبسين، فقال سهل: يا ربِّ كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة! ومسح بطنه بيده فعافاه الله، فعرض على سهل مالاً كثيراً فأبى أن يأخذ منه شيئاً.
وأمر يعقوب أن يكتب على قبره: هذا قبر يعقوب المسكين. وكتب بعده هذين البيتين:    
أحسنْتَ ظـنَّك بالأيام إذْ حَسُنَت ... ولم تَخَفْ سوء ما يأْتي به القدرُ
وسالمَتْكَ الليالي فاغْترَرْتَ بها ... وعند صفو الليالي يحدُثُ الكدر

 
log analyzer