الجمعة، 28 أغسطس 2015

حدث في الحادي عشر من ذي القعدة

في الحادي عشر من ذي القعدة من عام 1338 الموافق 27 تموز/يوليو 1920 غادر سورية الملك فيصل بن الحسين بن علي الهاشمي بأمر من الجنرال غورو قائد القوات الفرنسية المحتلة، لتذهب أدراجَ الرياح وعودُ الحلفاء للعرب بتأسيس دولة عربية في المشرق إن هم ساعدوهم في القضاء على الحكم التركي في المشرق العربي، وبخروج الملك فيصل بدأ الاحتلال الفرنسي لسوريا الذي سيدوم قرابة 26 سنة إلى جلاء فرنسا عن سورية في 15 جمادى الآخرة من عام 1365= 17 نيسان/أبريل  1946.
وكان فيصل قد نودي به ملكاً على سورية قبل قرابة سنتين، وذلك في إطار اتفاق أبرمته في أوائل سنة 1334=1916 بريطانيا عبر السير هنري مكماهون المعتمد البريطاني في القاهرة مع الشريف الحسين بن علي أمير مكة المكرمة، وقبل الحديث عن الاتفاق لا بد من الحديث عن مقدماته وأسبابه.
اندلعت الحرب العالمية الأولى في منتصف سنة 1332=1914 بين الحلف المركزي الذي تقوده ألمانيا ويضم النمسا وتركيا وبين الحلفاء الذين تقودهم بريطانيا ويشملون روسيا واليابان وإيطاليا، ثم انضمت إليهم الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1917، وكانت تركيا التي تحكمها جمعية الاتحاد والترقي منذ 1909 قد وقّعت بعد اندلاع الحرب بقليل معاهدة تحالف سرية مع ألمانيا، ثم قامت بعدها بسد المضائق في وجه الأساطيل المعادية وقصفت الموانئ الروسية في البحر الأسود، فأعلنت روسيا الحرب على تركيا، وتلتها بريطانيا، ودخلت تركيا الحرب رسمياً في آخر سنة 1914.
وكان الخطر الأكبر الذي يتهدد روسيا من تركيا هو استطاعتها الاستيلاء على القوقاز ومهاجمة الجيش الروسي من الخلف ثم النفاذ إلى خطوط إمداد جيوشها، وكان الخطر الأكبر الذي يتهدد بريطانيا أن يستطيع الحلف المركزي قطع طريقها البحري إلى مستعمرتها الأكبر: الهند، وكان الأسطول البريطاني هو المهيمن في البحر المتوسط، واحتلت بريطانيا قبل سنوات مصر وقناة السويس ووضعتهما تحت الحماية البريطانية، واستكمالا لحماية الطريق أرسلت بريطانيا من الهند جيشاً احتل البصرة في العراق في المحرم من سنة 1333= نوفمبر 1914، ولكن ذلك لم يكن كافياً فقد بقيت عرضة لهجوم تركي قاده ضباط أتراك وألمان عبر صحراء سيناء للوصول إلى قناة السويس والاستيلاء عليها.
وكان من ضمن المخططات البريطانية السعي لإشغال القوات التركية في حروب جانبية وحرمانها من قواعدها في المنطقة، وبدأت ذلك من خلال استمالة الشعوب الخاضعة للأتراك للقتال معها وأغرتهم بوعود الاستقلال، وعندما تعدك أقوى دولة في العالم أنها ستقف إلى جانبك وتساند استقلالك، فمن الصعب على المرء أن يرفض ذلك وبخاصة إذ كان الطامحين الطامعين، كيف لا، وقد أساءت حكومة الاتحاد والترقي معاملة الشعوب العربية وانتهجت معها سياسة التتريك والبطش والإرهاب؟!
ذلك إن الاتحاديين بعد انقلابهم على السلطان عبد الحميد وتسلمهم مقاليد الحكم من الدولة العثمانية، كانوا طغاة مستبدين شديدي التأثر بالأنموذج الألماني للدولة والمبني على العرق الجرماني الصافي والمخلص، فقرروا أن حل ما يواجهوه من اضطراب وقلاقل هو في أن يصبغوا شعوب الدولة كلها في البوتقة التركية، واتخذوا في أوائل سنة 1332=1914 تدابير متعددة للقضاء على النزعة العربية ولتتريك العرب، وبقيت هذه التدابير سرية محدودة التأثير، ولكن الحال تغير مع دخول الاتحاديين بتركيا في أتون الحرب العالمية، فأعلنت الأحكام العرفية وكشر الإرهاب والظلم عن أنيابه، وأرسل أنور باشا زعيم الاتحاديين المطلق اللواءَ جمال باشا السفاح إلى دمشق في أوائل سنة 1333=1915 وأعطاه الصلاحيات المطلقة لتنفيذ سياساتهم، فأصدر أمره بإلغاء كتيبة قوامها الضباط العرب الشباب من خريجي المدارس العليا؛ كان قد جرى تشكيلها وتدريبها في دمشق لتقاتل في الجيش التركي، وأرسلهم عاجلاً إلى ميادين القتال في شتى الجهات حيث هلك معظمهم، ثم حاكم ثلة كبيرة من شباب العرب النوابغ بتهم لا تثبت على أغلبهم لدى التمحيص والتدقيق، وأرسلهم إلى المشانق، فخلق ذلك هوة كبيرة بين العرب وبين الأتراك، ونفر من الترك حتى من كان يؤيدهم تديناً واعتقاداً في الخلافة.
وكان خروج الحجاز والأراضي المقدسة من يد الدولة التركية سيشكل ضربة معنوية كبيرة لها، فلم يكن للحجاز أهمية استراتيجية كبيرة في الحرب الدائرة، وإذا استطاعت بريطانيا فتح جبهة ضد الأتراك في بلاد الشام فستشغلهم وتأمن تهديدهم لقناة السويس، وهكذا بعد بضعة أشهر من اندلاع الحرب أرسل المعتمد البريطاني في القاهرة مع تاجر مصري من القاهرة، اسمه علي أفندي أصفر، عدة رسائل إلى أمير مكة الشريف الحسين بن علي بواسطة ولده الأمير عبد الله، وتحدثت الرسائل عن الصداقة العربية البريطانية ممنية الشريف بالاستقلال في دولة عربية تعود بالخلافة لبيت الرسول، وتعده بالعون والتأييد إن هو طرح عنه ربقة النير التركي.
واستشار الشريف حسين إخوانه وأنجاله، وقرروا في أواخر سنة 1333=1915 الوقوف إلى جانب البريطانيين وإعلان الثورة العربية على الأتراك، على أساس ما وعدت به بريطانيا من استقلال العرب وتحريرهم ووحدتهم، وكتب الشريف حسين بذلك لنائب الملك بمصر السير آرثر هنري مكماهون، مبيناً له أنهم سيقومون على الترك وأنهم يحتاجون إلى مزيد من الوقت والاستعداد، فأجابه مكماهون برسالة جاء فيها: ولسنا نريد أن ندفعكم إلى عمل سريع ربما يعرقل نجاح أغراضكم، ولكنَّا في الوقت نفسه نرى من الضروري جدًّا أن تبذلوا كل مجهوداتكم في جمع كلمة الشعوب العربية إلى غايتنا المشتركة، وأن تحثُّوهم على أن لا يمدوا يد المساعدة لأعدائنا بأي وجه كان، فإنه على نجاح هذه المجهودات، وعلى التدابير الفعلية التي يمكن للعرب أن يتخذوها لإسعاف غرضنا عندما يجيء وقت العمل تتوقف قوة الاتفاق بيننا وثباته، وفي هذه الأحوال فإن حكومة بريطانيا العظمى قد فوضت لي أن أبلغ دولتكم أن تكونوا على ثقة من أن بريطانيا العظمى لا تنوي إبرام أي صلح كان إلا إذا كان من ضمن شروطه الأساسية حرية الشعوب العربية وخلاصها من سلطة الألمان والأتراك، هذا، وعربونًا على صدق نيتنا، ولأجل مساعدتكم في مجهوداتكم في غايتنا المشتركة فإني مرسل مع رسولكم الأمين مبلغ عشرين ألف جنيه.
وبث الشريف حسين أولاده لترتيب الثورة فاتجه ابنه الأكبر الأمير علي إلى المدينة ليتفق مع شيوخ القبائل وينظم أمرهم، وتولى ابنه الثاني الأمير عبد الله تنظيم قبائل الطائف والقبائل المجاورة لمكة، واشترك كذلك مع والده في المكاتبات والمفاوضات التي تدور مع البريطانيين، وسار ابنه الثالث الأمير فيصل إلى الشام ليتصل بقبائلها ويرى استعدادهم للانضمام للشريف في ثورته المزمعة.
ولم تقتصر المساعي البريطانية على شريف مكة بل شملت كذلك أقطاب حزب اللامركزية العربي في القاهرة، وهو حزب كان يدعو لأن يكون للولايات العربية من الدولة العثمانية حكم ذاتي، فقد تباحث المعتمد البريطاني معهم وسألهم ماذا يكون موقفهم لو انتصر الحلفاء وانهارت الدولة التركية؟ وهل يرغبون في استقلال البلاد العربية؟ وما المساعدة التي يستطيعون تقديمها في هذا الصدد؟ وبالطبع كان جوابهم بالإيجاب واستعدادهم لتأييد كل ما من شأنه استقلال العرب.
وفي أوائل سنة 1334= كانون الثاني/يناير 1916، تمخضت المراسلات والمباحثات بين الشريف حسين باسم العرب وبين السير هنري مكماهون المعتمد البريطاني بمصر باسم بريطانيا العظمى، على إعلان الثورة ضد الأتراك، وذلك وفقاً للفقرات الخمس التالية:
أولاً: تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، حدودها شرقاً: خليج فارس، وغرباً: البحر الأحمر والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات ومجتمعه مع دجلة إلى مصبهما في خليج فارس، ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود، وذلك بأن تحل محلها في رعاية وصيانة حقوق تلك الاتفاقيات مع أربابها أمراء كانوا أو من الأفراد
ثانياً: تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي تدخل كان وبأي صورة كانت في داخليتها، وبسلامة حدودها البرية والبحرية من كل تعد كان أياً كان الشكل، حتى ولو وقعت فتنة داخلية من دسائس الأعداد أو من حسد بعض الأمراء، تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع تلك الفتنة، وهذه المساعدة في الفتن والثورات الداخلية تكون مدتها محدودة أي إلى حين تتم للحكومة العربية تنظيماتها المادية.
ثالثاً: تكون ولاية البصرة تحت مشارفة - أي ولاية - بريطانيا العظمى إلى أن تتم للحكومة الجديدة المذكورة تنظيماتها المادية. ويعين من جانب بريطانيا العظمى في مقابل تلك المشارفة مبلغ من المال يراعى فيه حالة الحكومة العربية.
رابعاً: تتعهد بريطانيا العظمى بإمداد كل ما تحتاج إليه الحكومة العربية من الأسلحة والذخائر والمال مدة الحرب.
خامساً: تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو من نقطة مناسبة في تلك المنطقة لتخفيف وطأة الحرب عن بلاد ليست مستعدة لها.
وينبغي أن نشير أن الحدود المشار إليها تتضمن بعض الاستثناءات التي أوردها مكماهون في خطاب سابق قبل شهرين، كما تتضمن تحفظاً على الإضرار بمصالح فرنسا حليفة بريطانيا، ووافق عليها الشريف حسين، وهي: لما كانت مقاطعة مرسين والإسكندرونة وبعض أجزاء سورية الواقعة إلى الغرب من مقاطعات دمشق وحمص وحماه وحلب لا يمكن تسميتها عربية محضة، فإنه يقتضي إخراجها من الحدود التي بينتموها، وإنه بمقتضى هذا التعديل، ومن غير إخلال بمعاهداتنا السابقة مع بعض زعماء العرب نقبل الحدود على ما ذكرتموه.
ولم يكن ذلك كله إلا فصلاً في مسرحيات ثلاث كانت تمثل في نفس الوقت، وكان الممثل الأول في المسرحية الأولى السير مكماهون في المشرق العربي، يساعده لورانس، يخدع الشريف حسين بوعود معسولة بقيام الدولة العربية الواحدة، أما المسرحية الثانية فكان بطلاها جورج بيكو الفرنسي، وسير مارك سايكس البريطاني وبموافقة روسيا القيصرية، وتمخضت في 6 رجب من عام 1334=9 أيار/مايو 1916 عن اتفاقية سايكس بيكو السرية لتقاسم أراضي الدولة العثمانية التي أوشكت هزيمتها، والتي تمنح روسيا المقاطعات الأرمنية كأرضروم وطرابزون ووان، وتعطي فرنسا لبنان والساحل السوري وأضنة وكيليكا والمناطق الداخلية المتاخمة للمنطقة الروسية مثل عنتاب وأورفة وماردين ودباربكر والموصل، أما بريطانيا فستأخذ بلاد الرافدين وبغداد وكذك مينائي حيفا وعكا على البحر المتوسط، أما ميناء الإسكندرونة فسيكون بمثابة منطقة حرة، وختاماً ستكون فلسطين تحت إدارة دولية نظراً لوجود الأماكن المقدسة فيها.
أما الممثلون في المسرحية الثالثة فكان رئيس الوزراء لويد جورج في بريطانيا، يعاونه وزير خارجيته آرثر بلفور على استمالة اليهود عن طريق وعد بلفور الذي صدر في 17 من المحرم من عام 1336=2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917؛ والذي قال فيه: إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي، وسنبذل جهدنا لتسهيل تحقيق هذه الغاية، وعلى أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
وبعد مضي 5 أشهر على الاتفاق السابق بين الشريف حسين وبين مكماهون، وبعد أن أصبح لدى الشريف حسين من الذخائر والرجال ما يكفي، أعلن قيام الثورة العربية الكبرى في 3 من شعبان من عام 1334= 5 حزيران/يونيو 1916، ورغم الدعم البريطاني والتفوق العددي لقوات الشريف حسين، لم تستسلم الحامية التركية المتمركزة في قلعة أجياد في مكة إلا بعد شهر من المقاومة، وقاومت حامية الطائف 4 أشهر، أما الحامية التركية في المدينة المنورة فاستطاعت الصمود لأن فخري باشا قائد حاميتها التركي كان قد حصنَّها وشحنها بالأقوات، فلم تستطع قوات الشريف الاستيلاء عليها، وأجْلت الحكومة العثمانية أكثر أهل المدينة إلى الشام وآسيا الصغرى، وعددهم لا يقل عن أربعين ألفا، ولم تترك سوى بضعة آلاف آثروا البقاء فيها بجانب حاميتها التركية، وكان جنود الأمير علي من البدو يناوشون الحاميات التركية على السكة الحجازية، ويخربون بعض خطوطها، ويعود الجيش العثماني فيصلح ما خربوه، ويستخدمه في الضروريات لتموين الحامية المحاصرة في المدينة المنورة.
وفي غرة المحرم من عام 1335 جرت في مكة المكرمة حفلة بويع فيها الشريف حسين بالملك، ومما ورد في البيعة: وإننا نبايع سيدنا ومولانا الحسين بن علي ملكًا لنا نحن العرب، يعمل بيننا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقسم له على ذلك يمين الطاعة والإخلاص في السر والعلانية، كما أننا نعتبره مرجعًا دينيًّا لنا أجمعنا عليه ريثما يقر قرار العالم الإسلامي على رأي يجمعون عليه في شأن الخلافة الإسلامية. نبايعك على هذا يا صاحب الجلالة ونقسم لك بالله العظيم على طاعتك والرضا بك والانقياد إليك في السر والعلانية. ولك علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقمت الدين، واجتهدت فيما فيه صلاح العرب والمسلمين ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾.
وفي الشهر التالي اعترفت بريطانيا وفرنسا بالشريف حسين ملكاً على الحجاز، وجاء أسطولاهما إلى جدة يحملان إليه تهاني تلك الدول، وألقي أمير الأسطول الفرنسي كلمة دعاه بأعظم أمراء العرب.
واتجه الأمير فيصل شمالا على ساحل البحر الأحمر على رأس سرايا من بدو الحجاز، وأرسل البريطانيون إليه أسرى الجيش التركي من العرب ممن أسروهم عند قناة السويس وشبه جزيرة سيناء والعراق، واستولى على ينبع البحر والوجه، وبعدها شكل ما سمي بالجيش الشمالي وانضم إليه الشيخ عودة بن حرب الملقب بأبي تايه من مشايخ الحويطات من طيء، المولود سنة 1275= 1858 والمتوفى سنة 1342= 1924، وكان من شجعان البدو المعدودين، وله اليد الطولى في احتلال كثير من المواقع في جنوب بلاد الشام، وفي رمضان 1335= تموز/يوليو 1917 سقط ميناء العقبة بعد دفاع باسل أبدته حاميتها التركية، وجاء سقوطه بمعونة جوهرية من مدافع الأسطول البريطاني من البحر، وبذلك تأمنت مؤخرة البريطانيين في سيناء، فقد كان الأتراك يغيرون عليهم من معان إلى بادية سيناء.
وبعد سقوط العقبة استطاع البريطانيون أن يستولوا على غزة ثم رفح وبئر السبع، ثم تابعت قوات الأمير فيصل مناوشاتها مع الأتراك على شكل حرب عصابات، وكمنت لهم  في الطفيلة وأوقعت بهم خسارة جسيمة، ثم انضمت إلى قوات الأمير فيصل سرية مدفعية فرنسية كما كانت الطائرات البريطانية تقوم بطلعات استكشافية تتبين فيها مواقع العدو وتدلها على أفضل سبل التحرك، ولكن نشاط قوات البدو الأكبر كان في الهجوم على محطات وجسور الخط الحديدي الحجازي وتدميرها، لتعيق الإمداد والتموين للقوات التركية.
ودارت المعارك في شرق الأردن بضعة شهور سجالاً بين البريطانيين والعرب من جهة وبين الأتراك ، وتداول الطرفان الاستيلاء على الصلت ومعان وعمان، وكان في صفوف الأتراك من البدو من خانهم وأبلغ الأمير فيصل بتحركاتهم فأمكنه تجنب عدد من المعارك التي كانت ستعود عليه بالهزيمة الساحقة، فتابع حملته وقد انضم إليه الأمير نوري بن هزاع الشعلان، أمير قبائل الرولة من عنزة، المولود سنة 1263=1847 والمتوفى بدمشق سنة 1361= 1942، أما قبائل بني صخر، وهي أكبر وأمنع عشائر شرقي الأردن، فكانت موالية للأتراك تعضدهم وتذود عنهم.
وفي تلك الأثناء كان الجيش البريطاني بقيادة الجنرال اللنبي يتابع هجومه من الجنوب على فلسطين، فاستولى على القدس في 10 ديسمبر 1917، ثم دامت المعارك سجالاً إلى أواخر سنة 1918 حيت سقطت نابلس ثم شمال فلسطين، وأسر البريطانيون أعداداً كبيرة من الجنود الأتراك الذين سد في وجهم طريق الانسحاب، وتوالى سقوط مدن شرقي الأردن واحدة تلو الأخرى لأن الأتراك قرروا الانسحاب منها، فعجل الأمير فيصل بالسير شمالاً حتى يدخل إلى أكبر عدد ممكن من المدن، لأن الاتفاق بينه وبين البريطانيين كان يعطي حق إدارة المدينة لمن سبق إلى احتلالها من العرب أو البريطانيين إلى أن يبت في مصيرها، وحافظ الجيش البريطاني على هذا الترتيب فكان إذا سبق فاستولى على مدينة يريد إعطاءها للعرب يتوقف ريثما يدخل العرب فينسب الفتح إليهم،
واستطاع الجيش العربي بمعاونة الطائرات البريطانية أن يوقع خسائر جسيمة بالأتراك في درعا ويحتلها، وصار على أبواب دمشق التي دخلها مع البريطانيين في 4 من ذي الحجة من عام 1335= 1 تشرين الأول/أكتوبر 1918، ولما بدأ الجيش التركي في الانسحاب من دمشق قام الأمير محمد سعيد بن علي بن عبد القادر الجزائري، المولود بدمشق سنة 1168=1881 والمتوفى بالجزائر سنة 1390=1970،  بموقف يدل على المروءة والنباهة، يذكره الأستاذ الزركلي في الأعلام ومحمد كرد علي في خطط الشام، وكلاهما مما شاهد هذه الأحداث.
فقد عقد الأتراك مجلسا حربيا حضره قواد الجيش من الترك والألمان والنمساويين والمجريين، فرأى القسم الأعظم من المؤتمرين نسف جميع المواقع الحكومية في دمشق، إلا أن القائد النمساوي أقنع رفاقه بأن هذا عمل غير معقول، لأن الدمشقيين حاربوا مع الدولة العثمانية وقاموا بكل ما يجب عليهم بإخلاص، فليس من العدل وقد خسر الترك الحرب أن يعاملوا دمشق هذه المعاملة القاسية، وكان القائد التركي جمال باشا الصغير، وهو غير السفاح، من رأي القائد النمساوي سرا فعاضده، وانتهى الأمر بأن قرروا الانسحاب من دمشق.
وقام الأمير سعيد الجزائري وأبناء عمه بتنسيق الانسحاب مع جمال باشا الصغير، وأخذوا منه قبل انسحابه 500 بندقية سلحوا بها بعض الدمشقيين والمغاربة، وخرجوا إلى أذرع ومنعوا الدروز والبدو من الانقضاض على الجيش التركي أثناء انسحابه، وفي 30 أيلول أشار جمال باشا الصغير إلى الأمير الجزائري وصحبه أن يعلنوا الاستقلال، فرفعوا العلم العربي على دار الحكومة، فهنأهم جمال باشا الصغير وغادر دمشق ليكون آخر قائد تركي فيها بعد 414 سنة من الحكم التركي.
وألف الأمير الجزائري حكومة مؤقتة استدعت بعد يومين الأمير فيصل فدخل دمشق في 1 تشرين الأول من عام 1918، ونزل في دار آل البارودي في القنوات، وشرع بتأسيس حكومة استبعدت الجزائري وصحبه، وجاءت باللواء علي رضا باشا الركابي ليكون الحاكم العسكري على سورية.
وهنا نتوقف للحديث عن أمر قد يفيدنا في معرفة أسباب الغل الذي يحمله كثير من الأتراك على العرب بسبب هذه الحرب، فعلي رضا باشا الركابي المولود بدمشق سنة 1282=1832 والمتوفى بها سنة 1361= 1942، كان من قواد الجيش التركي، وكان مسؤولاً عن التحصينات حوالي دمشق، لكنه اتصل بالبريطانيين وأرسل إليهم مخططاتها، وأرسله القائد التركي قبيل سقوط دمشق ببضعة أيام ليجمع شمل المنهزمين من الجيش التركي في القنيطرة، وأعطاه مبلغا من المال، فادعى أن العربان سلبوه ماله وثيابه، وانضم إلى الجيش البريطاني، وهكذا ذهب من دمشق قائدا تركيا وعاد إليها بعد أيام حاكما عربيا بريطانيا.
وفي المقابل ينبغي أن نذكر أن بطش الاتحاديين وظلمهم وتنكيلهم بالعرب لم يترك لهم فيهم صديقاً، وقد أشار لذلك في تقرير له إلى القيادة الألمانية الجنرال ليمان فون ساندرس القائد الألماني المحنك الذي قاد القوات الألمانية والتركية في المشرق بعد أن حقق انتصار جاليبولي الشهير، وألقى التبعة على جمال باشا السفاح وسلوكه، فقال: إن كل ما في سورية من إنسان وجماد وحيوان قد تسمم من سوء إدارة جمال باشا، وإن الصمود فيها أضحى من المستحيلات.
لقد حكم الاتحاديون السلطنة العثمانية من سنة 1326=1908 إلى سنة 1336= 1918، ولم يكن لهم فيه منازع، بل ضربوا بالشورى عرض الحائط، وتصرفوا بما تهوى أنفسهم المريضة، فقضوا على تلك السلطنة العظيمة بسياسة تتريك العناصر التي بالغوا فيها إلى حد الجنون، ولم يراعوا للعرب أدنى الحقوق وهم نصف سكان المملكة، وفي أرضهم البقاع المقدسة التي تشرف سلاطين بني عثمان بخدمتها ودانت لهم بذلك الشعوب المسلمة، لقد قامرت عصبة من الضباط المستبدين؛ أنور وطلعت وجمال، بالسلطنة العثمانية فخسروا كل شيء وعادوا بالفشل والاندحار على أنفسهم وأمتهم.
وبعد سقوط دمشق انسحب الألمان من بيروت إلى الشمال دون قتال يذكر، ولكنهم نسفوا مستودعات المؤن والعتاد، وألقوا في البحر الأسلحة والذخائر، فأرسلت الحكومة العربية في دمشق اللواء شكري باشا الأيوبي تحف به شرذمة من الفرسان، فاحتل دار الحكومة ورفع الراية العربية عليها، وبعد أربعة أيام وصل القائد البريطاني وأمره بالعودة إلى دمشق، وأنزلت الراية العربية وعُين الكولونيل بياباب الفرنسي حاكما على بيروت، وأنزل الفرنسيون من سفنهم جندا إلى البر بين تصفيق الأهالي ولا سيما كثير من أبناء الطوائف المسيحية.
وأصدر القائد البريطاني الجنرال اللنبي أمره إلى الأمير فيصل بأن يحتل حمص وحماة وحلب، تتقدمه القوات البريطانية والأسترالية، وهكذا دخل الجيش العربي حلب يوم 25 تشرين الأول بعد مقاومة خفيفة من القوات التركية بغرض إيقاف تقدم الجيش المهاجم ريثما لها يتسنى الانسحاب النظامي من حلب ونقل الموظفين وعيالهم والنقود والأوراق والسجلات، وفي 31 تشرين الأول أعلنت بريطانيا قبولها الهدنة التي ما فتئ الأتراك يطلبونها منذ هزيمتهم في فلسطين، وكان من شروط الهدنة انسحاب القوات التركية من الحجاز وعسير واليمن والشام وما بين النهرين، ولم تلتزم فرنسا بالهدنة إلا بعد شهر حتى تتمكن قواتها من احتلال ميناء الإسكندرونة في 18 تشرين الثاني 1918، أما الفريق فخري باشا قائد الحامية التركية في في المدينة المنورة فلم ينسحب منها هو وخمسة عشر ألف جندي إلا عندما جاءه الأمر من حكومته في استانبول في كانون الأول/ديسمبر من عام 1918، بعد سنتين ونصف من الحصار.
وبينا كان الأمير فيصل في حلب جاءته برقية من وزارة الخارجية البريطانية تطلب حضوره إلى مؤتمر الصلح الذي ستعقده الدول المنتصرة في باريس في أول سنة 1919، لمناقشة الأوضاع التي خلفتها الحرب العالمية الأولى، وقدم الأمير للمؤتمر مذكرة قال فيها: إننا نعتقد أن سورية بلد صناعي زراعي يقطنه عدد وافر من السكان وهي متقدمة تقدما كافيا من الوجهة السياسية يمكنها معه أن تقوم بأعباء أمورها الداخلية، ونرى أيضا أن الاستشارة والمعاونة الأجنبية ستكون عاملا ثمينا جدا لنمونا القومي، ونحن مستعدون لصرف ما يلزم من النقود مقابل هذه المعاونة، ولا يسعنا أن نتنازل مقابلها عن جزء من الحرية التي انتزعناها بأنفسنا وبقوة سلاحنا. ولم تجد مرافعة الأمير فيصل هذه شيئاً، فقد قرر مؤتمر الصلح والسلم أن يتم انتداب فرنسا على سورية لتأخذ بيدها نحو التطور والاستقلال.
ودعت الحكومة العربية بدمشق إلى مؤتمر عام ضم أبناء بلاد الشام ومنها فلسطين، لوضع القانون الأساسي وتعيين شكل الحكومة، وانعقد المؤتمر وقرر في 16 جمادى الآخرة 1338= 7 آذار 1919 إعلان الأمير فيصل ملكاً دستورياً على سورية باسم فيصل الأول، ولكن بعد ذلك بعشرة أيام أبلغت فرنسا وبريطانيا الملك فيصل بأنهما لا تعترفان بصحة قرار المؤتمر السوري الذي بايعه ملكا، وكان ذلك لتعارض قرارات المؤتمر مع اتفاقية سايكس بيكو.
ولم تكن اتفاقية سايكس بيكو في عالم الأسرار  آنذاك، فقد كشفها النظام الشيوعي بعد ثورته على الحكومة القيصرية في روسيا في أواخر سنة 1917، وقام الاتحاديون بنشرها في البلاد برهاناً على خداع الحلفاء للعرب وللشريف حسين بالذات، ولكن الجانب العربي رضي بتطمينات مبهمة عامة من البريطانيين، واستمر في تعاونه معهم فقد صار بقاؤه رهينا بمساعداتهم مما جعل في وضع لا يحسد عليه.
على إثر ذلك سافر الملك فيصل إلى بريطانيا وفرنسا لبحث الموقف مع ساستها، وأحالته بريطانيا على فرنسا الدولة المنتدبة على سوريا، فتباحث في باريس مع رئيس الوزارة الفرنسية المسيو كليمانصو، وانجلت المباحثات بين الضعيف والقوي بأن اعترفت فرنسا للشعب السوري على اختلاف مذاهبه بحقه المحتوم في الاستقلال والحكم الوطني، وتعهد الملك فيصل بالولاء لفرنسا والقبول بانتدابها على سوريا لأن النظام الاجتماعي في سوريا يعاني من الاختلال بسبب الاضطهاد التركي وخسائر الحرب، ولايستطيع السوريون في الوقت الحاضر أن يحققوا وحدتهم ويديروا حكومتهم دون توجيه ومساعدة من أمة متقدمة، وطلب الملك فيصل باسم الشعب السوري هذه المهمة من فرنسا، ووقع الطرفان لائحة طويلة تضمنت تفاصيل تنفيذ الانتداب الفرنسي.
وعاد الملك فيصل إلى سوريا، فاستقبلته السلطتان الفرنسية والبريطانية استقبالا رائعا، وخطب في بيروت خطبة رضي عنها الفرنسيون، ولما جاء دمشق خطب خطبة تخالفها إجمالا وترضي المنادين بالاستقلال التام الناجز، وبدأ التقلقل في سياسته والتناقض في أقواله، لأنه كان بين عاملين العامل الفرنسي والعامل الإنكليزي وهذا أشد وأقوى وإن لم يكن ظاهرا للعيان، ومن أشد العوامل في هذا حالة والده ملك الحجاز، ولأن إنكلترا إذا غضبت تنقطع عنه المعاونة المالية الشهرية، وبدونها يستحيل القيام بشيء من أعمال المقاومة والدعاية.
وفي أيلول/سبتمبر 1919 بدأت بريطانيا وفرنسا في تنفيذ اتفاق سايكس بيكو فانسحب الجيش البريطاني إلى شرقي الأردن وفلسطين مخلياً مدن سورية الأربع؛ دمشق وحلب وحمص وحماة، بعد تعهد فرنسا ألا تحتلها لأن بريطانيا قطعت للعرب عهدا أن تؤلف لهم حكومة عربية، وعينت بريطانيا على فلسطين السير هربرت صموئيل، وهو بهودي إنكليزي، مفوضا ساميا، وعينت فرنسا الجنرال غورو مفوضا ساميا على سورية ولبنان، وكان الفرنسيون من قبل يعملون حتى في لبنان بقيادة اللورد اللنبي القائد البريطاني العام.
وقامت فرنسا باحتلال أقضية بعلبك ورياق وحاصبيا وراشيا في لبنان، وطردت منها قوات الحكومة العربية الفيصلية، وطلب الجنرال غورو من الملك فيصل أن يعطيه البقاع لينقل على الخط الحديدي ما يحتاج إليه الجيش الفرنسي في جهات عنتاب فأبى ذلك، وبدأت فرنسا في نشر قواتها في الساحل السوري من جنوبي لبنان حتى أضنة في الشمال، فقامت على الفور بمهاجمة هذه القوات مجموعات سورية وطنية تمدها الحكومة التركية بالسلاح والعتاد، ومنها قوات الشيخ صالح العلي الزعيم النصيري، فهاجم الجيش الفرنسي جبال العلويين للقضاء عليه، ولما واجهوا مقاومة شديدة، تراجع الفرنسيون إلى بانياس وطرطوس، وتوقف الدعم التركي بعد اتفاق فرنسا مع تركيا وتخليها عن اتفاق سايكس بيكو إزاءها.
وبدا أن المواجهة مع الفرنسيين مسألة وقت لا أكثر، فقد كان الجنرال غورو يرسل الاحتجاج تلو الاحتجاج ويتهم حكومة الملك فيصل بتشجيع مقاومة المحتل، وحجته في ذلك أن هذه المقاومة لم تظهر في زمن الوجود البريطاني، وهو أعلم الناس ببطلان مزاعمه، وبدأت الحكومة العربية في دمشق بفرض التجنيد الإجباري وزادت الضرائب لتزيد من الأموال المتوفرة لديها لتمويل المعارك، ولكن الصورة في الواقع كانت كئيبة جداً، فكيف يقاوم جيش جديد جيش حكومة كبرى وهو قليل العدد والعدة، وكان تقييم العسكريين العرب للوضع لا لبس فيه أو مواربة، فقد قالوا: إن ما لديهم من الذخائر والعتاد يكفي لمدة بين ساعتين إلى يومين في حالة نشوب المعارك بينهم وبين الجيش الفرنسي الزاحف، وأنهم بالقوات الحالية يستطيعون الصمود 6 ساعات إذا اشتد لظى الحرب، ولم يوفقوا لدحر العدو وهزيمته.
ولكن وجد من يحمس العامة بالخيالات والأوهام، ويذكر الأستاذ محمد كرد علي حضوره لمجلس قال فيهم أحدهم: إن فرنسا عجزت بعد الحرب العامة أن ترسل إلى الشام بضعة أنفار من جيشها، وليس لديها مال، وما تهددنا به من قوتها لا تستطيع إنفاذه، فالأولى أن نتكل على الله ونبدهها بالحرب. فأجابه كرد علي: لستُ من أمراء الجيش حتى أعرف ما عنده من القوى المادية، ولكنني أعرف فرنسا وقوتها، ولا أكون مبالغاً كثيرا إذا قلت إن فرنسا تستطيع أن تكتسح الشام من جنوبه إلى شماله إذا أرسلت علينا عوران حربها الأخيرة فقط، فيجب علينا يا سادتي أن لا نغش أنفسنا ونتذرع بالمحال.
وفي 14 تموز/يوليو 1920 أصدر الجنرال غورو إنذاراً إلى الملك فيصل مفاده أن يعطي لفرنسا الخط الحديدي من رياق إلى حلب، وأن تلغي الحكومة العربية التجنيد الإجباري، وتقبل بالوجود الفرنسي والعملة الفرنسية السورية وبالضرب على أيدي الأشقياء الذين يقامون الاحتلال الفرنسي.
وما لبث الجيش الفرنسي أن زحف على دمشق من لبنان وكان مؤلفا من عشر كتائب مشاة وست كتائب فرسان وسبع بطاريات مدفعية، وكان جنوده من فرنسا والسنغال ومراكش والجزائر، أما الجيش العربي فعدده بضعة ألوف لكنها مشتتة في حلب وحمص ودمشق، وتردد الملك فيصل ووزارته بين الرضى والإباء، ثم اتفق أكثرهم على التسليم، فأبرقوا إلى الجنرال غورو، وأوعز فيصل بحل الجيش، ولكن بينما كان الجيش العربي المرابط على الحدود يتراجع منفضا، كان الجيش الفرنسي يتقدم بأمر الجنرال غورو، ولما سئل هذا عن الأمر، أجاب بأن برقية فيصل بالموافقة على بنود الإنذار وصلت إليه بعد انتهاء مدة 24 ساعة المضروبة في إنذاره.
ووقعت المواجهة في ميسلون، وكان عدد الجيش العربي 600 جندي يصحبهم من الأهالي والعربان ما يقرب من 4000 شخص، ودام القتال أربع ساعات، ولم تكن القوات الوطنية لتستطيع الصمود أكثر من ذلك أمام قنابل الطائرات والمدفعية، واستشهد في القتال يوسف بك العظمة وزير الحربية، عن 37 سنة، وطائفة من الجنود والأهالي يقدر عددهم ما بين 1200 إلى 1500 شهيد.
ودخل الجيش الفرنسي من الغد إلى دمشق، وأبلغ رئيسُه الملكَ فيصل أن يغادر دمشق، فأذعن وعين قبل رحيله علاء الدين الدروبي رئيس وزارة  على أن يختار بنفسه من يشاء من الوزراء دليل الثقة به، فلم يلبث أن ألف وزارته ومن الغد ألقى خطابا في دار الحكومة نافق فيه للفرنسيين وهاجم الملك فيصل.
وبعد معركة ميسلون فصلت فرنسا الأقضية الأربع البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا وضمتها إلى لبنان، وأقامت في كل من دمشق وحمص وحماة وحوران دولة ذات وزارة، وأرادت حكومة الاحتلال جمع السلاح من البادية والحاضرة، فوضعت على المدن الأربع غرامة حربية قدرها مئتا ألف ليرة عثمانية ذهبا، ولكن أهل حوران لم يخضعوا للأمر وتمردوا على الحكومة، فرأى رئيس الوزارة علاء الدين الدروبي أن يذهب بنفسه إليهم مستصحبا معه وزيرين من وزارته أحدهما عبد الرحمن اليوسف الزركلي رئيس مجلس الشورى وأكبر أعيان دمشق، فهاجمهم بعض الحوارنة في محطة خربة غزالة وأنزلوهم من القطار وقتلوا الدروبي واليوسف لأنهم من الخونة الذين سلموا سورية للأجانب.
وفي أول أيلول 1920 أُعلن استقلال لبنان بحدوده الجديدة بمباركة الجنرال غورو، وتحت اسم دولة لبنان الكبير، وجعل للدولة حاكم فرنسي، لأن طوائف لبنان لم تتفق على حاكم بعينه، وأدار لبنان موظفون وطنيون لكل مدير منهم مستشار فرنسي، وتمت للموارنة في لبنان أمنيتهم التي طالما نشدوها من حكم فرنسا لهم، وكان بطريركهم قد حضر مؤتمر الصلح ليطالب باستقلال لبنان، فلما ذكره بعض المؤتمرين أن لبنان لا تتوفر فيه بحدوده الحالية مقومات الدولة الاقتصادية، قال: إننا نفضل الموت جوعا في جبالنا على أن نكون تابعين لدمشق!
وما لبثت فرنسا أن قسمت سورية أكثر فأقامت إلى جانب دولة لبنان الكبير دولة العلويين ودولة حلب ودولة دمشق ودولة جبل الدروز، ثم عادت فجمعتها في دولة واحدة بعد سنوات قليلة إزاء الرفض الشعبي العارم.
أما الملك فيصل فغادر سوريا كما ذكرنا ورحل إلى أوربا، فأقام في إيطاليا مدة ثم غادرها إلى إنجلترا، وكانت الثورة على الانجليز لا تزال مشتعلة في العراق، فدعته الحكومة البريطانية لحضور مؤتمر عقدته في القاهرة سنة 1921 برئاسة ونستون تشرشل، وتقرر ترشيحه لعرش العراق، فانتقل إلى بغداد، فنودي به ملكا للعراق سنة 1339=1921.
وكانت للملك فيصل في العراق إنجازات لا بأس بها، فقد انصرف إلى الاصلاح الداخلي، بوضع دستور للبلاد، وإنشاء مجلس للأمة، وأقام العلاقات بين العراق وبريطانيا على أسس معاهدات متعددة، وأصلح ما بين العراق وجيرانه: البلاد العربية السعودية، وتركيا، وإيران، وتوفي الملك فيصل في سويسرا بالسكتة القلبية في سنة 1352=1933، وخلفه ابنه غازي.
صفحة مؤلمة من التاريخ العربي الحديث رأينا فيها كيف تقلصت المطالب العربية من الاستقلال التام والوحدة لبلاد الشام والعراق والحجاز،فصارت تطالب ببلاد الشام بحدودها الطبيعية التاريخية، ثم سُكِت عن فلسطين لأن البريطانيين لن يتركوها، ثم اكتفي بالدعوة لاستقلال سورية، ثم تخلي عن لبنان واكتفي بالدعوة إلى استقلال المدن الأربع.
قال أحمد شوقي يرثي الملك الحسين بن علي عند وفاته سنة 1350=1931:

قـُم تحــدَّث أبــا عَـلِـيٍّ إِليـنـا ... كيف غامَرتَ في جوارِ الأَراقِم
لَم تُبالِ النُيوبَ في الهامِ خُشـنا ... وَتَعَلَّقَت بِالحَواشــي الـنَــواعِــم
كُلُّـنــا وارِدُ الســَرابِ وَكُلّ ... حَمَلٌ في وليمة الذئبِ طـاعِـم
قَد رَجَونا مِنَ المَغانِمِ حَظّاً ... وَوَرَدنا الوَغى فَكـُنّا الغَنــائـِم

الجمعة، 21 أغسطس 2015

حدث في الرابع من ذي القعدة

في الرابع من ذي الحجة من عام 1315 الموافق 27 آذار/مارس 1898 توفي في عليكرة بالهند، عن 83 عاماً، السيد أحمد خان مؤسس جامعة عليكرة الإسلامية في الهند، وأحد رواد الإحياء الإسلامي فيها.
ولد السيد أحمد خان في دلهي في 6 ذي الحجة من عام 1232=1817 لأسرة تنتمي إلى سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء لقب السيد، وكانت من الأسر النبيلة في بلاط المملكة المغولية في الهند، وتسنم فيها جده لوالدته خواجا فريد الدين منصب رئيس الوزراء مرتين، ولما توطدت أقدام الاحتلال البريطاني عمل جده لوالدته في شركة الهند الشرقية، وكان والده محمد متقي مستشاراً للإمبراطور أكبر الثاني، ولكنه قضى آخر أيامه في خلوة روحية، وفي سنة 1842 منح الإمبراطور المغولي بهادُر ظفر شاه لقب جواد الدولة للسيد أحمد خان، وهو اللقب ذاته الذي كان جده يحمله من قبل تكريماً له من الإمبراطور شاه علام الثاني، ولكن السيد أحمد خان ولد وقد آلت الدولة المغولية في الهند للغروب، فقد كان السلطان الحقيقي هو شركة الهند الشرقية البريطانية، التي حرضت وساعدت حكام المناطق والمتنفذين فيها على التمرد على الدولة المغولية، وأصبح الإمبراطور اسماً بلا معنى.
وتلقى السيد أحمد خان تعليمه وفقاً لتقاليد النبلاء في الإمبراطورية المغولية، فدرس القرآن الكريم، وتعلم الفارسية والعربية والأردية، ودرس العلوم الشرعية والكونية، وكان ماهراً في السباحة والمصارعة والرياضة، وشارك في المجالس الأدبية التي كان نبلاء البلاط يغشونها آنذاك، وأنشأ أخوه الكبير أول مطبعة في دلهي وأصدر باللغة الأُردية جريدة صيد الأخبار التي تعد أولى الجرائد الناطقة عموماً بلسان المسلمين.
وتوجه السيد أحمد خان في شبابه لدراسة الطب، وعاش حياة الأثرياء المنعمين، ولكن والده توفي في سنة 1838، فأصبحت العائلة بلا مورد إذ لم تكن من كبار ملاك الأراضي، ولذا كان على السيد الذي لم يمارس عملاً من قبل أن يقطع دراسته النظامية ليعمل، فعمل مع أخيه في تحرير المجلة، ودرس في نفس الوقت في كلية تابعة لشركة الهند الشرقية تؤهل فيها موظفيها، وتخرج وهو في سن 21 سنة، فعمل كاتباً ثم رقي إلى منصب كاتب الإنشاء، ثم استطاع بعد 3 سنوات أن ينال وظيفة مساعد قاضي، ومنها تنقل في عدة وظائف في السلك القضائي.
ووفرت له الوظيفة الرتيبة الوقت الذي استفاد منه في التأليف والكتابة، وأصدر أول كتاب له في سنة 1263=1847 حول آثار دلهي بعنوان آثار الصناديد.
وفي أواخر سنة 1273=1857 اندلعت شرارة صغيرة بتمرد كتيبة هندوسية في قوات شركة الهند الشرقية لتتحول إلى ثورة عارمة على المستعمر البريطاني، يطلق عليها البريطانيون التمرد الهندي ويسميها الهنود حرب الاستقلال الأولى.
ويعتبر المؤرخون أن الوجود البريطاني في شرق الهند توطد في معركة بلاسي عندما هزمت قوات الكولونيل روبرت كلايف ملكَ البنغال سراج الدولة في سنة 1170= 1757 وأعدمته بعد أن خانه أعوانه، ثم هزمت في سنة 1764 الإمبراطور المغولي شاه علام الذي منحها حق جباية الدخل في الولايات الشرقية، وفي بداية القرن التاسع عشر الميلادي بدأت شركة الهند الشرقية في التوسع السريع معتمدة على شبكة من الحكام المحليين الذي يعيشون بدعم وتمويل منها، وانتهزت الشركة وفاة المهراجا السيخي القوي رانجيت سينغ وانتقال العرش إلى ابنه الأصغر، فاستولت على المناطق السيخية وضمتها لممتلكاتها في حربين نشبت أولاهما في سنتي 1845-1846 والثانية في سنتي 1848-1849، وانتهت بضم البنجاب إلى الطرف البريطاني، وتلتها كشمير، وغيرها من الأراضي حتى أصبحت الشركة تتحكم في معظم أراضي الهند، وازداد عدد الجنود الهنود في قواتها حتى بلغ 300.000 جندي مقابل 50.000 بريطاني.
وهناك عدة عوامل تراكمت حتى وصلت الأمور إلى الانفجار، منها أن بسط سلطان الشركة على كثير من الأراضي أدى إلى إرسال هؤلاء الجنود بعيداً عن مناطقهم وأهليهم وذويهم، ومنها أن البريطانيين أدخلوا نوعاً جديداً من الخرطوش مغلفا بشحوم البقر أو الخنزير، وهو أمر مستنكر عند الهندوس الذين يقدسون البقر، وعند المسلمين الذين يعتبرون الخنزير نجساً، وفي الطرف المدني قامت الشركة بتعديلات على نظام ملكية الأراضي الزراعية أخذت بموجبه كثيراً من الأراضي من ملاكها الكبار وبخاصة أولئك الغائبين أو الذين لم يزرعوها لعدة سنوات، وأصدر الحاكم العام للهند أوامره للإمبراطور المغولي بهادر شاه ظفر بأن يغادر قصره في دلهي ومنعه من استعمال لقب الملك، وقامت الشركة بعدة إصلاحات اجتماعية اعتبرها الهندوس تدخلاً في شؤونهم الخاصة مثل منع حرق الأرملة مع زوجها المتوفى، والسماح لها بالزواج من جديد، وكذلك كانت طبقة كبار الموظفين القديمة ناقمة على البريطانيين الذين تجاهلوها فخسرت نفوذها في المجتمع، وهكذا تراكمت النقمة على المستعمر البريطاني من مختلف الطبقات والجهات.
ورفض بعض الجنود في حامية مدينة ميروت استعمال الخرطوش المغلف بالشحم، فأصدر البريطانيون حكماً بسجنهم 10 سنوات مع الأشغال الشاقة، ولكن زملاءهم ما لبثوا أن تمردوا وأطلقوا سراحهم، وانضمت إليهم الجماهير وقاموا بقتل من وصلت إليه أيديهم من الأوربيين، ثم اتجهوا إلى عاصمة الهند التاريخية دلهي، ومالبث التمرد أن اتسع من مدينة إلى أخرى وانضم إليه كثير من الجنود الهنود، ليشمل أغلب مناطق الهند الشمالية، وانضم إليه كثير من المسلمين معلنين الجهاد على المستعمر ، ولم ينضم للثورة أغلب السيخ الذين اعتبروها حركة يقوم بها أعداؤهم الهندوس أو الحكم المغولي، ولم يؤيدها كذلك الآغا خان، فكافأه البريطانيون فيما بعد  بأن اعترفوا بإمارته على الإسماعيلين.
وما لبث الإميراطور المغولي أن انضم إلى الثوار الذين أعلنوه إمبراطور عموم الهند، ودعا الإمبراطور الشعب لتأييد الثورة، وكان البريطانيون يظنون أن نفوذه قد اضمحل، ولكنهم فوجئوا بما لقيته دعوته من استجابة من الجماهير أشرافها وعامتها.
ولعدة عوامل لا يتسع المجال لذكرها، انتهت الثورة بفشل ذريع، وأعدم الإنكليز قادتها، وأمعنوا في الهنود تنكيلاً ليردعوهم عن مجرد التفكير بالثورة، وكان من نتائجها إلغاء الإمبراطورية المغولية، وإعلان الحكم البريطاني المباشر، وتأثرت بالتمرد ونتائجه الكارثية المدن ذات الأغلبية المسلمة مثل دلهي وأجرا ولكنو وكنبور، وقتل من جرائه عدد من أقرباء السيد، ونجح في إنقاذ والدته من القتل لتموت من المعاناة التي أعقبت التمرد.
ولم يشارك السيد أحمد خان في التمرد ولم يؤيده، وأنقذ عدداً من الأوربيين من الموت المحتم، فكان لذلك أثره في تقدير المستعمرين له، وكان القادة البريطانيون في الهند قد ادعوا أن التمرد كان مؤامرة دبرتها النخبة المسلمة بدافع من استيائها لاضمحلال نفوذها في ظل الوجود البريطاني المتعاظم، ولكن السيد أحمد خان أصدر في ذات السنة كتيباً تحت عنوان أسباب التمرد الهندي، تناول فيه التمرد، وحلل أسبابه تحليلاً صائباً جريئاً صريحاً، وأنحى باللوم على شركة الهند الشرقية لتوسعها معتمدة على القوة والعدوان ولجهل موظفيها بالثقافة والتقاليد الهندية، وغير ذلك من نقاط ضعف الإدارة البريطانية وأخطاءها التي أدت إلى الاستياء في عموم البلاد، ثم إلى انفجار التمرد، وقدم السيد بعض الاقتراحات وأبرزها تعييين المسلمين في شركة الهند الشرقية على نحو يتلاءم مع وجودهم وإمكانياتهم.
ولما كتب السيد هذا الكتيب خشي أصدقاؤه أن تكون عاقبته عليه وخيمة، وناشدوه ألا ينشره، ولكنه فعل ذلك بطريقة ذكية، فقد طبع منه 500 نسخة باللغة الأردية، وأرسل واحدة إلى حكومة الهند البريطانية، واحتفظ بالباقي دون أن يوزعه، ولما ترجمت حكومة الهند البريطانية الكتيب وعرضته على مجلس الوزراء لم ير أغليهم فيه غير تحليل موضوعي للأمور من المفيد أن تأخذه الحكومة بعين الاعتبار، ولكن وزير الخارجية في حكومة الهند طالب بإنزال أشد العقوبات بالسيد لأن من شأن هذا الكتيب أن يؤجج المشاعر الهندية بعد استقرارها، وأن مؤلفه لو كان صادقاً في نصحه لبريطانيا لقدم الكتيب في شكل مذكرة للحكومة، وطلبت الحكومة السيد للاستجواب، ولما تبين للوزير أن السيد لم يوزع الكتاب، خفف من غلوائه وانتهى الأمر بأن أصبح الكتيب محط اهتمام كبار الموظفين البريطانيين وصار من أول ما يقرؤه القادمون الجدد منهم، وكان له أثر ملموس في تغيير السياسة البريطانية في الهند.
وللسيد أحمد خان مؤلفات منها نظرات في الإنجيل، وكتاب في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كتب عدة أجزاء في تفسير القرآن الكريم، وكان يتحرق بدافع من إسلامه وغيرته من تأخر قومه، ويرى أن الإسلام الصحيح الخالص لا يقف في طريق التقدم، وأنه في الأصل هو الدين الوحيد صديق العلم والتقدم، وحيث لم ينطلق السيد أحمد خان من أساس ديني علمي متين، نجده في مؤلفاته شديد التأثر بانهزام المسلمين أمام القوة البريطانية الباهرة، ولذا فهو يسعى جهده للتوافق مع المعطيات الغربية وإثبات أن الإسلام يتوافق معها، وهو في سبيل ذلك يتهرب من القبول بالمعجزات والغيبيات، ويدعو للاجتهاد ونبذ التقليد ويشمل بذلك تلميحاً وتصريحاً الحديث الشريف، ولذا فهو من مؤسسي المدرسة التوفيقية التلفيقية أو الإنهزامية - إن شئت! ومن آرائه الشاذة التي لم يسبقه أحد إليها قوله إن الوحي الإلهي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى لا باللفظ، ونفى وجود الجن حقيقة وأوّل الآيات االتي ورد فيها ذكرهم، وعند تحليله لآيات تعدد الزوجات قرر أنها تدل على منع التعدد والاكتفاء بزوجة واحدة.
وقد أدت هذه الأفكار لقيام علماء الدين على هذا المارق المتفلسف، وكفرَّه عدد كبير منهم، وبعد ذلك تجنب السيد أحمد خان الخوض في الأمور الدينية وأصبحت كتاباته تدور حول التعليم وتطويره بين المسلمين، ولكن دعوته من ناحية أخرى ساهمت في القضاء على كثير من العادات والخرافات التي لا تمت للإسلام بصلة والتي كانت شائعة بين عامة المسلمين ولا تزال.
على أن محور حياة السيد أحمد خان كان التعليم بأوسع مفاهيمه، فقد أدرك أن ضعف المسلمين وهزيمتهم كانت بسبب تخلفهم العلمي والحضاري، وأن العلم والتعلم هو طريق تقدمهم وبقائهم، وأسس أول مدرسة في سنة 1274=1858 ثم تلتها مدرسة أخرى في سنة 1280=1863، ثم قام بتأسيس جمعية عليكرة العلمية على غرار المحافل العلمية، ومولت الجمعية كثيراً من المشاريع التعليمية وقامت بنشر كثير من الأبحاث في مجال التربية والتعليم، وأصدرت مجلة بالإنجليزية والأردية.
وكان البريطانيون قد أمروا في سنة 1842 بالكف عن استعمال اللغة الفارسية في دوائر شركة الهند الشرقية، وكان مسلمو الهند المتضرر الأكبر من هذا التغيير، وبذل السيد أحمد خان ورفاقه جهوداً كبيرة لدى المستعمر البريطاني لاعتماد اللغة الأردية كإحدى اللغات الرسمية، ولما لم توفق مساعيهم إلى ذلك، صار من أولويات دعوته أن تبقى اللغة الأردية لغة الثقافة والعلم في الهند كما كانت لمئات السنين في عهد الدولة المغولية، التي كانت فيها اللغة الفارسية لغة البلاط الرسمية، وفي سبيل ذلك أنشؤوا جمعيات لتشجيع استعمال الأردية وتطويرها، وكانت الأردية لغة مؤلفاته وما نشرته الجمعية من أبحاث أصيلة أومترجمة، ومن ثمرات ذلك أن أصبحت الأردية اللغة الرسمية لولاية حيدر آباد ولغة التدربس في الجامعة العثمانية فيها، وأصبحت كذلك جزءاً أساسياً من الشخصية الإسلامية لدى مسلمي الهند وبخاصة في شرق الهند وغربيها.
ورغم منطلق السيد أحمد خان الإسلامي إلا أن دعوته كانت دعوة وطنية موجهة لكل أبناء الهند من مسلمين وهندوس، وكانت المؤسسات التي أنشأها تضم في إدارتها المسلمون والهندوس، ولكن النعرة الهندوسية ظهرت في قضية اللغة عندما نادت باعتماد اللغة الهندية واعتبرت الأردية لغة دخيلة على الهند، ورآها السيد أحمد خان رأي العين عندما نقل في وظيفته في سنة 1284=1867 إلى مدينة بنارِس، مدينة الهندوس المقدسة الواقعة على نهر الجانج، وشاهد هناك  بزوغ الحركة الداعية إلى إحياء اللغة الهندية وإحلالها محل الأردية التي كانت لغة العلم والثقافة في الهند، وكيف انضم إليها على الفور ودون تردد كثير من مثقفي الهندوس وكبرائهم، حتى إنه واجه ضغوطاً في الجمعية العلمية لنشر الأبحاث باللغة الهندية.
وأدى ذلك إلى تغيير في نظرة السيد أحمد خان للعلاقة بين الهندوس وبين المسلمين، وبدأ يعتقد أن التقاء العنصرين المسلم والهندوسي أمر متعذر، وأن لكل منهما وجهته الخاصة، فركز جهوده على إحياء اللغة الأردية بين المسلمين وبقائها أحد وجوه تميزهم الثقافي، وتنبأ السيد أحمد خان أن ما ر آه من الهندوس ليس إلا بداية لحركة عنصرية وأن المستقبل سيشهد مزيداً من الحقد والكراهية التي سيؤججها من يعتبرون أنفسهم متعلمين ومثقفين، وبسبب هذا التحول الفكري فإنه يعد من مؤسسي فكرة الأمتين التي قامت عليها دولة الباكستان.
وكان السيد أحمد خان محل شك شديد من الناشطين المسلمين والهندوس، وذلك بسبب دعوته المسلمين للتعاون التام مع البريطانيين والامتناع عن خوض غمار السياسة، وأن يوجهوا إمكانياتهم وطاقاتهم إلى التعليم بدلاً من ذلك، وكان يعارض المؤتمر الوطني الهندي معارضة شديدة ويعتبره مؤسسة قومية هندوسية، ولما انخرط بعض المسلمين في المؤتمر صب السيد أحمد خان حُمم غضبه عليهم وعلى المؤتمر، ودعا لجمع المسلمين تحت منظمة الرابطة الإسلامية الموالية للوجود البريطاني في الهند.
وكانت وجهة نظره في ذلك أن التحريض على خوض مواجهة غير متكافئة البتة مع البريطانيين لن يعود إلا بالبطش ومزيد من الهزائم والانحطاط، وقال إن بلداً كالهند يحتل فيه الانتماء الطائفي المركز الأهم ولا حظَّ في مؤسساته التعليمية والسياسية إلا لطبقات قليلة بعينها، لهو بلد لا شك في أن الديمقراطية البرلمانية ستكون  غير عادلة فيه، وقد تأثر غالب المسلمين بهذه النظرة وبقوا سنوات عديدة بعيدين عن ممارسة السياسة حتى قامت مؤسساتهم السياسية الإسلامية.
وسافر السيد أحمد خان إلى بريطانيا في سنة 1286=1869، ومنحته الحكومة البريطانية وسام نجمة الهند، وخلال هذه الزيارة تبلورت في ذهنه فكرة تأسيس كلية إسلامية على غرار كليات أكسفورد وكامبريدج، وفور عودته إلى البلاد نظَّم لجنة لتأسيسها وبدأ في نشر مجلة أسماها تهذيب الأخلاق وهدفها: تقويم وإصلاح المسلمين، وكان لها أثر كبيرفي الأوساط الإسلامية.
وفي سنة 1292=1875 أعلن السيد أحمد خان عن تأسيس مدرسة في عليكرة تحت اسم: الكلية المحمدية الإنجليزية الشرقية، وكانت مرتبطة عند تأسيسها بجامعة كلكوتا، والتي تأسست سنة 1857، ثم انتقلت بعدها بعشر سنوات للارتباط بجامعة الله آباد، وتقاعد السيد أحمد خان في سنة 1293 من عمله الحكومي لبتفرغ لهذا المشروع تفرغاً تاماً، وفي سنة 1294=1877 أرسى نائب الملكة في الهند حجر الأساس لهذه الكلية، وجاءتها التبرعات من علية القوم ومن ملوك المقاطعات الهندية، ومن ذلك مئة ألف روبية تبرعت بها البيجوم سلطان جهان ملكة بوبال وزوجة العلامة صديق حسن خان، وكانت هي أول رئيس للجامعة.
وأنشأ أحمد خان الكلية على أسس شبيهة بكليات بريطانيا التقليدية من حيث استقلال الأساتذة وسكناهم في الحرم الجامعي، وإفساح المجال أمام الطلبة لمناقشة الأفكار والقضايا التي يدرسونها، في جو تزول فيه كثير من الحواجز بين الأستاذ وبين تلاميذه، مع منح الطالب مرونة في اختيار ما يرغب أخذه من الدروس، وهو نظام المدارس الإسلامية منذ نشأتها وكان في الأزهر حتى مطلع القرن الرابع عشر، وتأسس في الكلية أول اتحاد للطلبة في الهند، وكان مستقلاً ينتخب الطلاب رؤساءه ولجانه، وكانت الصلاة تقام لأوقاتها ويفترض من كافة الطلبة حضورها.
ولقيت الكلية معارضة شديدة من الأوساط الدينية التقليدية المحافظة، لآراء مؤسسها التي سبقت الإشارة إليها، وكذلك لمخالفتها المألوف في الهند وقبولها الطلبة من السنة والشيعة، ولكنها لمجاراتها روح العصر وتمتعها بالرضا من المستعمر في منهجها وقبوله لخريجيها في وظائفه، نجحت نجاحاً سريعاً وصارت من أهم المراكز التعليمية في القارة الهندية، والمركز المسلم الأول، وتخرج منها عدد كبير من أدباء ومثقفي وكبراء مسلمي الهند، منهم رئيس الهندي ذاكر حسين، ولياقة علي خان أول رئيس وزراء للباكستان، ومحمد منصور علي رئيس وزراء بنغلاديش.
وامتداداً لعمله في الكلية قام السيد أحمد خان في سنة 1303=1886 بتنظيم مؤتمر سنوي تحت اسم: المؤتمر التعليمي المحمدي لعموم الهند، وكان ينعقد كل سنة في مكان مختلف لتشجيع التعليم وتوفير مناسبة يلتقي تحت ظلها المثقفون والمتعلمون المسلمون من الهنود، وبقي المؤتمر ممثلاً للبنية الإسلامية في الهند حتى تأسيس الرابطة الإسلامية في سنة 1323=1906.
ومن أوائل من عملوا في كلية عليكرة العلامة شبلي النعماني، المولود سنة 1274=1857 والمتوفى في 28 ذي الحجة من سنة 1332=1914، والذي كان صديق السيد أحمد خان فانتدبه لتدريس العلوم العربية منذ سنة 1300=1883، فكان عونا له على النهوض بالجامعة، وبقي فيها 15 سنة حتى وفاة السيد أحمد خان فغادرها إلى حيدر آباد  ثم تركها وذهب إلى لكنو ليشارك في إنشاء دار العلوم التابعة لندوة العلماء، وكان النعماني متمكناً أبلغ التمكن من اللغة العربية وآدابها، ويميل لترك التقليد في الفقه، وكان وثيق الصلة بالعالم الإسلامي ونهضاته السياسية والاجتماعية، وعلى صداقة وثيقة مع السيد محمد رشيد رضا مؤسس مجلة المنار.
وممن عمل في الكلية كذلك الأستاذ عبد العزيز الميمني الراجكوتي، المولود في راجكوت بالهند سنة 1306=1888 والمتوفى في كراتشي بالباكستان سنة 1398=1978، والذي كان أستاذ اللغة العربية فيها، وكان علامة محققاً وأديباً مبرزاً ونقادة باحثاً، وسافر في مشارق الأرض ومغاربها بحثاً عن المخطوطات العربية والإسلامية وأخرج عشرات منها.
وممن عمل في الكلية من العرب الأستاذ عبد الحق حقي الأعظمي البغدادي الأزهري، الذي كان نائب رئيس قسم اللغة العربية فيها، وممن درَّس في عليكرة المستشرق الإنكليزي توماس ووكر آرنولد Thomas Walker: Arnold، الذي عين مدرسا فيها سنة 1888، ثم انتقل منها إلى لاهور، فالكلية الشرقية في جامعة البنجاب، وعاد إلى لندن، فعين أستاذأ للعربية في جامعتها سنة 1904 فمديرا لمعهد الدراسات الشرقية، وتوفي آرنولد عن 69 سنة في سنة 1349=1930.
ودرّس فيها كذلك المستشرق الألماني البحاثة فريتز كرنكو، Freitz Krenkow، المولود سنة 1289=1872 والمتوفى سنة 1372=1953، والذي كان يسمي نفسه بالعربية محمد سالم الكرنكوي، والذي درس فيها سنتين ثم انتقل بعدها للعمل مع دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن في تحقيق بعض المخطوطات العربية، فحقق عدداً وافراً منها.
وفي سنة 1907 أنشأت الكلية قسماً للإناث، وفي سنة 1920 تغير اسم الكلية إلى جامعة عليكرة الإسلامية، وفي سنة 1927 أنشأت كلية للمكفوفين، وفي سنة 1930 أنشأت كلية الهندسة، وتضم الجامعة اليوم حوالي 30.000 طالب يدرسون في 100 تخصص، وتعد من أفضل جامعات الهند وتضم كل التخصصات في الأدب والعلوم، وتضم مكتبة الجامعة عدداً وفيراً من المخطوطات العربية ودائرة للتحقيق نشرت كذلك عدداً من كتب التراث العربي في مواضيع مختلفة، وتضم الجامعة المجمع العلمي الهندي الذي أنشأ على غرار المجامع العلمية العربية، وتعاقب على إدارتها أشخاص من السنة والشيعة والإسماعيلية الآغاخانية والبُهرة.
ورغم انكبابه على الجانب التعليمي كان للسياسة دور في حياة السيد أحمد خان، فقد أصبح الزعيم الإسلامي الأول بسب كتاباته ومشاريعه وبحكم موقعه لدى المحتل البريطاني الذي عينه في في سنة 1878 عضواً في مجلس نائب الملك التشريعي، الذي كان بمثابة برلمان هندي،  وأسس هو في نفس السنة الجمعية المحمدية لعموم الهند، وفي سنة 1883 أسس الجمعية المحمدية لإعانة موظفي الدولة، بهدف إعانة المسلمين للالتحاق بسلك الخدمة المدنية الهندية، وهنا ينبغي أن نذكر أن مشايخ المسلمين وقفوا من المستعمر البريطاني موقفاً متشدداً فمنعوا التعامل معه والالتحاق بوظائفه، وهي مقاومة مطلوبة ومفهومة في بداية الاحتلال على أمل ألا يشارك المسلمون في ترسيخ أقدامه، ولكن كان من نتائج هذا الموقف أن خسر المسلمون ما كانوا يحتلونه من مواقع متميزة في الإدارات الحكومية في ظل الدولة المغولية، وأقبل الهندوس على هذه الوظائف، فأصبحت لهم السيطرة والنفوذ في دوائر الدولة.
وفي سنة 1888 منحته الحكومة البريطانية السيد أحمد خان لقب سير، ومن هنا جاء اسمه في الهند؛ سير أحمد، وفي السنة التالية منحته جامعة أدنبره الدكتوراة الفخرية تقديراً لجهوده التعليمية.
خلف السيد أحمد خان ثلاثة من الأولاد هم حامد ومحمود وأمينة، وكان لابنه محمود دور هام في مساعدته والده في تأسيس الكلية وإدارتها، ولما توفي دفن في مدفن مجاور لمسجد الكلية التي تحوي متحفاً يتضمن كثيراً من أغراضه الشخصية.
ولا يكتمل مقالنا دون أن نشير إلى أن جمال الدين الأفغاني، هاجم السيد أحمد خان، وكان معاصراً له، واعتبره صنيعة بريطانيا في الهند، ونجد في المقابل أن السيد محمد رشيد رضا في مجلته المنار كان يثني على السيد أحمد خان مرة تلو الأخرى، بصفته مصلح الهند الأول الذي يمائل الشيخ محمد عبده في مصر، وذلك مع معرفته برأي الأفغاني فيه، ونورد جانباً من ذلك حيث يقول:
إن المسلمين بعد أن تمكنت السلطة الإنكليزية في بلادهم حملتهم عداوة الإنكليز على معاداة لغتهم وجميع علومهم والفرار من مدارسهم، وأقبل الوثنيون على ذلك؛ فسادوا على المسلمين بالثروة والوظائف بعد أن كان المسلمون هم السائدين عليهم في كل شيء، وكان أول من استيقظ منهم من نوع الغفلة والغرور أفراد أعظمهم قدرا وخطرا وأشدهم نفعا وأحسنهم أثرا: السيد أحمد خان مؤسس مدرسة عليكرة الكلية التي هي ينبوع هذه النهضة، ومما يجب التنبيه عليه أن سنة الله تعالى في المصلحين أنهم يساء فيهم الظن ويرمون بسوء القصد وفساد النية، وبمثل هذا كان يتهم السيد أحمد خان؛ كان يتهم بأنه مغرًى من الحكومة الإنكليزية بإفساد تعاليم المسلمين وعقائدهم وبث العقائد الطبيعية فيهم، لأن الإنكليز لم يروا وسيلة لإفنائهم إلا هذه الوسيلة، ومن العجيب أن مثل هذه التهمة كان يصدقها الفيلسوف العظيم السيد جمال الدين الأفغاني، وكان يعادي السيد أحمد خان ويطعن فيه غيرةً على الدين وحذرًا على المسلمين، فتبين الآن أنه لا رجاء للمسلمين باسترجاع شيء من مجدهم إلا بمدرسة السيد أحمد خان وتلامذته ومن تلا تلوهم واحتذى مثالهم، ولولا شدة بغض السيد جمال الدين للإنكليز لما خابت فراسته بالسيد أحمد خان، ولقد كانت الشبهة على السيد أحمد خان قوية فإنه لم يسع في تأسيس هذه المدرسة إلا بعد سياحته في بلاد إنكلترا وإكرام الإنجليز له، أما سبب هذا الإكرام فهو أنه في أثناء ثورة الهنود على الإنكليز أجار بعض ضباطهم ووجهائهم وحماهم من القتل، وما ذاك إلا عن عقل وبعد نظر في العواقب رحمه الله تعالى وجزاه خيرًا.
وقد قام السيد محمد رشيد رضا برحلة إلى الهند في سنة 1330=1912، بدعوة من ندوة العلماء في لكنو، وزار كذلك كلية عليكرة وأكرمته إدارتها وطلبتها وألقى فيها كلمات أوردتها المنار، وكان عبد الحق الأعظمي، الأستاذ في كلية عليكرة، مرافقه ومترجمه في الرحلة، ولا يمكن للجهل أن يبرر استمراره في الثناء على السيد أحمد خان رغم آراءه الشاذة التي لا يمكن أن يوافقه عليها، فلا شك أن السيد التقى في الرحلة بمشايخ الهند ممن انتقدوا السيد أحمد خان، وهو موقف فيه إشكال كبير، والله أعلم.

 
log analyzer