الجمعة، 27 ديسمبر 2013

حدث في الرابع والعشرين من صفر

 
في الرابع والعشرين من صفر من عام 385 توفي بالري، عن 59 سنة، الصاحب ابن عباد، أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس الطالقاني، الوزير الكبير والأديب البليغ، الذي كان قطب زمانه في الأدب والسياسة والفضل والكرم.
ولد ابن عباد في 16 ذي القعدة من سنة 326 في إصطخر، وكان والده عباد وزيراً لركن الدولة الحسن بن بويه، وكان له رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صدوقاً، وصنف كتاباً في أحكام القرآن، ويتبع مذهب أبي حنيفة في الفقه، ويتسم بالتقوى والوقار، قال الصاحب: قال رجل لأبي: أنت على مذهب أبي حنيفة ولا تشرب النبيذ - يعني غير المسكر قال: تركته لله إجلالا وللناس جمالا. وتوفي والده سنة 335.
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العبّاس عبادٌ وزارتَه وإسماعيلُ عن عباد
وأخذ الصاحب الأدب عن الإمام اللغوي الأديب ابن فارس، أبي الحسين أحمد بن فارس الرازي الشافعي ثم المالكي، المتوفى سنة 395، وكان رحمه الله بقزوين يصنف في كل ليلة جمعة كتابا ويبيعه يوم الجمعة قبل الصلاة ويتصدق بثمنه، فكان هذا دأبه، وكان تلميذه الصاحب بن عباد يقول: شيخنا أبو الحسين بن فارس رُزِقَ التصنيف وأمِنَ من التصحيف. ومن تصانيفه: كتاب المجمل في اللغة، وكتاب متخير الألفاظ، وكتاب فقه اللغة، وكتاب غريب إعراب القرآن، والصاحبي، في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، وسمَّاه كذلك لأنه ألفه برسم خزانة الصاحب ابن عباد.  قال ياقوت في معجم البلدان: قرأت بخط سلامة بن عياض النحوي ما صورته: وقفت على نسخة من كتاب الحجة لأبي علي الفارسي، في صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة بالري، في دار كتبها التي وقفها الصاحب ابن عباد رحمه الله، وعلى ظهرها بخط أبي علي ما حكايته هذه: أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه. كتابي في قراء الأمصار، الذين بينت قراءتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى، المعروف بكتاب السبعة، فما تضمن من أثر وقراءة ولغة، فهو عن المشايخ الذين أخذت ذلك عنهم، وأسندته إليهم، فمتى آثر سيدنا الصاحب الجليل، أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه، حكاية شيء منه عنهم، أو عني لهذه المكاتبة فعل. وكتب الحسن بن أحمد الفارسي بخطه.
وأخذ عن أبي الفضل ابن العميد، محمد بن الحسين، المتوفى سنة 360، وزير ركن الدولة البويهي والد عضد الدولة، وكان ابن العميد آية في التَّرسُل والإنشاء، وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وكان متَّهماً في اعتقاده بأنه يتبع رأي الحكماء في وجود العالم دون مسبب، وكان يقال له الأستاذ، وكان ابن عباد يصحبه لا يفارقه، وله فيه مدائح كثيرة، فقيل له صاحب ابن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي علماً عليه، وسمي به من تولى الوزارة بعده. ولما زار ابن عباد بغداد أول مرة وعاد قال له ابن العميد: كيف وجدتها؟ فقال له: بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد.
وزوج الصاحب ابن عباد سبطَه عباد بن الحسين من إحدى أميرات البيت البويهي وكانت ابنة خالة ركن الدولة البويهي، وتزوج ابنته أحد السادات الزيدية من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم في همذان، ولما ولد حفيده قال:
الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... أن صار سبط رسول الله لي ولداً
قسَّم ركن الدولة البويهي، أبو علي، الحسن بن بويه، البلاد على أولاده الثلاثة، قبل وفاته سنة 366 عن 82 سنة، فعهد إلى ولده عضد الدولة بالملك بعده، وجعل لولده فخر الدولة أبي الحسن عليٍّ همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحكم أخيهما عضد الدولة، وكان مؤيد الدولة المولود سنة 330 والمتوفى سنة 373، قد استوزر ابن عباد سنة 360، وكان ابن أستاذه أبو الفتح ابن العميد، علي بن محمد، المولود سنة 337، وزيراً عند الأب؛ ركن الدولة، فلما مات سنة 366 عمل عليه حتى عزله مؤيد الدولة وعينه مكانه، واستمر فيها مدة لم تطل، ثم قبض عليه مؤيد الدولة، وأخذ جميع ما في داره من الموجودات والأموال، وعذبه ثم قتله، وأعاد إلى وزارته ابن عباد، ولذا لا غرو أن يقول الصاحب:
إذا أدناكَ سلطانٌ فزدْهُ ... من التعظيم وانصحْه وراقبْ
فما السلطان إلا البحر عِظَماً ... وقربُ البحر محذور العواقبْ
وفي سنة 373 مرض مؤيد الدولة بجرجان مرضاً لا شفاء منه، ورفض قبل موته أن يعهد بالملك إلى أحد، وكان للصاحب معه موقف يدل على دين وصيانة فقد قال له في إحدى صحوات المرض: تب يا مولانا من كل ما فرطت فيه، وتبرأ من هذه الأموال التي لست على ثقة من طيبها وحصولها من حلها، واعتقد متى أقامك الله وعافاك أن تصرفها في وجوهها، وترد كل ظلامة تعرفها. ففعل ذلك، وتلفظ به.
 وجمع الصاحب القواد واستشارهم، وقرر الأمر لفخر الدولة، وكان في نيسابور، ثم خاف افتراقهم، فأجلس أخاه أبا العباس خسرو على سرير المملكة، وكتب لفخر الدولة سراً يستدعيه، فسار عن نيسابور إلى جرجان، فدخل الصاحب على خسرو فيروز، وقال له: هذا أخوك، وأكبر منك قد وصل، وميلُ الأجناد إليه أكثر من ميلهم لك. وحسَّن له الخروج للقائه، فخرج إليه، وتلقّاه، وتسلَّم فخر الدولة الملك.
وطلب الصاحب من فخر الدولة أن يعفيه من الوزارة فقال له فخر الدولة مشيراً إلى سابقة والده: لك في هذه الدولة من إرث الوزارة، ما لنا فيها من إرث الإمارة، فسبيل كل منا أن يحتفظ بحقه. وبقي الصاحب عنده مبجلاً ومعظماً، نافذ الأمر، ونعته بكافي الكفاة، مضافاً إلى الصاحب الجليل، ولم يلبس زي الوزراء بل بقي يلبس القباء استخفافاً بالوزارة. وبقي فخر الدولة المولود سنة 341 في الملك حتى وفاته سنة 387.
وكان الصاحب محترماً لدى أبناء بويه كلهم، وكان عضد الدولة أخوهم الأكبر سناً والأعرق إمارة والأمهر تدبيراً وإدارة، وكان إخوته يخافونه لطموحه التوسعي، ولكنه كان عالماً يحترم العلماء والأدباء، ولذا أرسل مؤيد الدولة وزيره الصاحب ابن عباد في سنة 370 إلى أخيه عضد الدولة رسولاً يبذل له الطاعة والموافقة، فالتقاه عضد الدولة بنفسه، وأكرمه، وأقطع مؤيدَ الدولة همذان وغيرها.
وشارك الصاحب بن عباد في حملات عسكرية أخضع الأطراف التي خرج فيها متمردون وأصلح أمورها، ومن ذلك مسيره سنة 377 إلى طبرستان فنفى المتغلبين عنها، وفتح عدة حصون، وأصلحها ورمم برج قزوين، ثم عاد إلى الري، وقيل إنه فتح 50 حصناً وأخضعها لملكه.
وفي سنة 379 توفي شرف الدولة ابن عضد الدولة، وكان ملك العراق، وعهد إلى أخيه أبي نصر بهاء الدولة، وكان ابن عباد يطمح أن يمتد نفوذه وسلطانه إلى العراق، وكان يقول: ما بقي من أوطاري وأغراضي إلا أن أملك العراق وأتصدر ببغداد، وأستكتب أبا إسحاق الصابئ ويكتب عني وأغيَّر عليه. وبلغت هذه الكلمة الصابئ فعلق عليها في شيء من التهكم: ويغيّرَ عليَّ وإن أصبت.
وشجع ابنُ عباد ملكه فخر الدولة على المسير إلى العراق، وذلك بطريقة فيها كثير من الذكاء والدهاء، فقد دسًّ إلى فخر الدولة من يعظِّم عنده ملك العراق، ويسهل أمره عليه، ولم يباشر هو ذلك خوفاً من خطر العاقبة، إلى أن قال له فخر الدولة: ما عندك في هذا الأمر ؟ فشجعه على ذلك لسنوح الفرصة وحسن الطالع، فتجهز فخر الدولة وسار من الري إلى همذان، وأرسل الصاحب ليسبقه، فلما سار الصاحب وسوس بعض الحاشية لفخر الدولة وقالوا له ربما استماله أولاد عضد الدولة. فأرسل وراءه وأعاده، وأخذه معه إلى الأهواز فملكها، وأساء السيرة مع جندها، وضيق عليهم، ولم يبذل المال، فخابت ظنون الناس فيه، وتخوف منه أيضاً عسكره، وقالوا: هكذا يفعل بنا إذا تمكن من إرادته، فتخاذلوا، وكان الصاحب قد أمسك عن ممارسة الوظيفة ممارسة فعلية تأثراً بما قيل عنه من اتهامه، وصارت إشارته في الأمور سكوتاً عما يراه، واستبد فخر الدولة برأيه في إدارة الأمور وخوض المعارك، فكان أن وقعت به الهزيمة وعاد مخذولا خائباً إلى الري.
وفي الأهواز التقى الصاحب بالإمام المحدث الأديب العلامة، أبو أحمد العسكري، الحسن بن عبد الله، المولود سنة 293 والمتوفى سنة 382، والعسكري نسبة لإقامته في عسكر مكرم، وكان من الأئمة المذكورين بالتصرف في أنواع العلوم، والتبحر في الفنون، ومن المشهورين بجودة التأليف وحسن التصنيف، ولما قدم الصاحب بن عباد بلدة أبي أحمد العسكري توقع أن يزوره أبو أحمد، ولكنه كان قد أسن  فلم يزره، فبعث إليه الصاحب ورقة فيها هذه الأبيات:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فما نقوى على الوخَدَان
أتيناكم من بُعد أرض نزوركم ... فكم من منزل بِكر لنا وعَوان
نناشدكم هل من قِرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان
وكتب مع هذه الأبيات شيئاً من النثر، فلما قرأ أبو أحمد الكتاب أقعد تلميذاً فأملى عليه الجواب، عن النثر نثراً، وختمه عن النظم نظماً، وهو:
أروم نهوضاً ثم يَثْنِي عزيمتي ... تعوُّصُ أعضائي من الرَّجفان
فضمَّنتُ بيتَ ابن الشَّريد كأنما ... تعمد تشبيهي به وعناني
أهُم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العَير والنزوان
فلما وقف الصاحب على الجواب، عجب من اتفاق هذا البيت له، وقال: والله لو علمت أنه يقع له هذا البيت، لما كتبت إليه على هذا الروي. والوخدان: المشي السريع.
فلما قرأه استحسنه، وقال: لو خطر ببالي هذا المثل، ما أرسلت ذلك الشعر، لكني ذهلت عنه. ثم أن العسكري قصده بجمع غفير من تلامذته، فبادر له الخدم، وحملوه حتى جلس عنده، فأقبل عليه، ورفعه إلى أرفع مجلس، ثم تحادث معه، وسأله عن مسألة، فقال له: الخبيرَ صادفت. فقال له: مازلت تغرب في كل شيء حتى المثل السائر. فقال: تفاءلت عن السقوط للحضرة. فأدرَّ عليه وعلى من معه بصلات كانوا يأخذونها إلى أن توفي، ولما توفي رثاه الصاحب إسماعيل بن عباد، فقال:
قالوا مضى الشيخ أبو أحمد ... وقد رثوه بضروب النَّدْبِ
فقلت ما ذا فقد شيخ مضى ... لكنه فقد فنون الأدبِ
كان الصاحب بن عباد محجة الأدباء والشعراء والفضلاء في زمانه، ولا يتسع المقام لذكر من قصدوه، أو اتصلوا به ونالهم فضلُه وإحسانه، ويكفي أن نذكر أنه كان يبعث في كل سنة إلى بغداد بخمسة آلاف دينار لتصرف على أهل العلم، وجرت بينه وبين أدباء عصره مراسلات بديعة ضمتها كتب الأدب وأفرد بعضها في رسائل مستقلة.
وإذا ذكر الصاحب فلا بد أن يذكر معه أبو الطيب المتنبي، أحمد بن الحسين، المولود سنة 303 والمقتول سنة 354، فقد زار مالئ الدنيا وشاغل الناس بلاد فارس، والتقى بابن العميد وكانت له معه مساجلات، ولقي  من عضد الدولة البويهي من الصلات والأموال والوعود ما قرت به عينه وأنساه سيف الدولة الحمداني وكافوراً الإخشيدي، وجرى ذلك كله قبل أن يتولى الصاحب أول وزارة له سنة 360، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يحاول استمالة أبي الطيب ليقصده ويمدحه فيمن مدح من الرؤساء، وكثير منهم لا يَفضُلون الصاحبَ ابن عباد بعلم أو أدب، وباع الصاحب داراً له بخمسين ألف درهم وأرصدها للمتنبي إن جاء إليه ومدحه، فقد كان المتنبي شاعراً مدَّاحاً ممتاحاً، فكتب يلاطفه في استدعائه، ويخبره ما أرصد له من ماله، فلم يقم له المتنبي وزناً، ولم يجبه عن كتابه، وقيل إن المتنبي قال لأصحابه: إن غليما معطاء بالري يريد أن أزوره وأمدحه؟! فلما بلغ الصاحب ما قاله المتنبي أعرض عنه وتتبع شعره وأملي رسالةً في ذم شعره، بعد أن كان قد جمع لمليكه فخر الدولة نخبة من أمثال المتنبي وحكمه، فصنف كتابه الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، ومما جاء فيه تعليقاً على قول أبي الطيب:
فقلقلتُ بالهم الذي قلقلَ الحشا ... قلاقلَ عيسٍ كلهنَّ قلاقلُ
فقال الصاحب: ما له قلقل الله أحشاءه، وهذه القافات الباردة!؟
وعند قول أبي الطيب:
وللضعفَ حتى يبلغ الضعف ضعفهُ ... ولا ضعفَ ضعفِ الضعفِ بل مثله ألفُ
قال الصاحب: هذا البيت يصلح أن يكون مسلة في كتاب ديوفيطس.
ولا بد أن نعرج على أبي حيان التوحيدي، علي بن محمد، المتوفى سنة 400 عن نيف وثمانين عاماً، والذي ألف في ذم الصاحب ابن عباد وأستاذه ابن العميد كتابه الذي أسماه أخلاق الوزيرين، ولم يوفر فيه قبيحاً إلا ألصقه بهما، ونسبه إليهما، ونجد الخبر اليقين عند ياقوت الحموي في معجم الأدباء، قال رحمه الله في ترجمة التوحيدي الذي ينسب للزندقة كذلك: سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شانه، والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه. ثم إن أبا حيان، كان قصد ابن عباد إلى الري، فلم يرزق منه، فرجع عنه ذاما له، وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام، فاجتهد في الغض من ابن عباد، وكانت فضائل ابن عباد تأبى إلا أن تسوقه إلى المدح، وإيضاح مكارمه، فصار ذمه له مدحا.
ولا ينبغي أن يفوتنا ذكر الشاعر المشهور أبي بكر الخوارزمي، جمال الدين محمد بن العباس، المولود سنة 316 والمتوفى سنة 383، وهو ابن أخت الإمام أبي جعفر الطبري صاحب التفسير والتاريخ، ويحكى أنه قصد الصاحب ابن عباد فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه: قل للصاحب: على الباب أحد الأدباء وهو يستأذن في الدخول. فدخل الحاجب فأعلمه، فقال الصاحب: قل له: قد ألزمت نفسي أن لا يدخل علي من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب. فخرج إليه الحاجب وأعلمه، فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فدخل الحاجب فأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي، فأذن له في الدخول. فدخل عليه فعرفه وانبسط له. ويبدو أنه فيما بعد ساءت علاقته مع أبي بكر الخوارزمي، رغم أن الصاحب أغدق عليه الصلات، فلم تكن كما أمل، فهجاه على منهج الشعراء، فقال:
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت ... كفاه بالجود سحاً يخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع، لا بخلاً ولا كرما
فلما مات أبو بكر، وجاء خبر وفاته للصاحب أنشد:
سألت بريداً من خراسان مقبلاً ... أمات خوارزميكم؟ قال لي: نعم
فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره ...ألا لعن الرحمن من كفر النعم
وللصاحب أشعار حسنة في الغزل والوصف والحكم والأمثال، ومن أمثاله السائرة قوله:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت: دعيني على غصتي ... فإن الهموم بقدر الهمم
ومن لطيف شعره:
لقد قلتُ لما أتوا بالطبيبِ ... وصادفني في أحرِّ اللهيبِ
وداواني فلم أنتفعْ بالدواءِ ... دعوني فإن طبيبي حبيبي
ولست أريد طبيبَ الجُسومِ ... ولكنْ أريدُ طبيب القلوبِ
وليس يزيلُ سَقامي سوى ... حضورِ الحبيب وبُعْدِ الرقيب
أما نثره في أقواله ورسائله مما تناقلته الأدباء وتعجبت منه البلغاء، وبتشبيهاته يضرب المثل، ومن أقواله:
من غرته أيام السلامة، حدثته ألسنة الندامة.
من لم يتحرز من المكايد قبل هجومها، لم يغنه الأسف عند وقوعها.
من عرف المفاخر، عرف المعاير
رب اجتهاد، أبلغ من جهاد، ومكايد دقيقة المسارب، أنكى من حداد صقيلة المضارب، ولطائف أقوال، تنوب عن وظائف الأموال، وثبات عقول وعقود، أوقع من ثبات جيوش وجنود.
الآمال ممدودة، والأنفاس معدودة.
كفران النعم، عنوان النقم. وجحد الصنائع، داعية القوارع، وتلقي الإحسان بالجحود، تعريض النعم للشرود.
إن السنين تغير السنن.
الضمائر الصحاح، أبلغ من الألسنة الفصاح
وكتب الصاحب بن عباد إلى والي قزوين، حين صادر مجوسياً على مال وتظلم منه المجوسي: غرك بعدُنا منك، وإمهالُنا فيك، فاحذر يوم المحاسبة وخزي المعاقبة، وقد جف ريقك على لسانك، وشهد قبح آثارك بسوء فعالك، وردَّ إلى هذا المجوسي ماله، فإن تلك الدراهم عقارب وأراقم، إن غنمتها في يوم غرمتها لغد. والسلام.
ومن كلام الصاحب بن عباد تهنئةً ببنت: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، وأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوةٍ يتنافسون، ونجباء يتلاحقون.
قال الثعالبي في يتيمة الدهر، وهو معاصره إذ ولد عام 350 وتوفى سنة 429:
ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب، وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بغايات المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه، ولكني أقول: هو صدر المشرق، وتاريخ المجد، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن لا حرج في مدحه بكل ما يمدح به مخلوق، ولولاه ما قامت للفضل في دهرنا سوق ... وهمته في مجد يشيده، وإنعام يجدده، وفاضل يصطنعه، وكلام حسن يصنعه أو يسمعه... وصارت حضرته مشرعاً لروائع الكلام، وبدائع الأفهام، وثمار الخواطر، ومجلسه مجمعاً لصوب العقول، وذوب العلوم، ودرر القرائح.
وللصاحب توقيعات بديعة على ما يعرض عليها من قضايا وقصص، ورفع إليه بعض ناقلي الأخبار أن رجلاً غريب الوجه يدخل داره ويتلطف لاستراق السمع، فوقع تحتها: دارنا هذه خان، يدخلها من وفى ومن خان. ورفع إنسان رقعة إلى الصاحب يزين له فيها أخذ مال يتيم، وكان مالاً كثيراً، فكتب على ظهرها: النميمة قبيحة، وإن كانت صحيحة، والميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمَّره الله، والساعي لعنه الله.
ولم يقتصر فضل الصاحب ابن عباد وعلمه على قول الشعر وتدبيج النثر، بل كان عالماً في اللغة والأدب وغيرها من العلوم، ومع تقلده لأمور الدولة وإدارة المملكة، فإنه خصص من وقته للتأليف، فصنف في اللغة كتاباً سماه المحيط وهو في سبع مجلدات، رتبه على حروف المعجم، كثَّر فيه الألفاظ وقلَّل الشواهد فاشتمل من اللغة على جزء متوفر، وكتاب الإقناع في العَروض، وكتاب الكافي في الرسائل، وكتاب الأعياد وفضائل النيروز، وكتاب أخبار الوزراء، وكتاب الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، وكتاب الإمامة يذكر فيه فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويثبت إمامة من تقدمه، وكان الصاحب شيعياً بمفهوم ذلك الزمان، إذ كان حنفياً في الفقه، وكتاب أسماء الله تعالى وصفاته، وكان الصاحب من المعتزلة، وقد قرب إليه بعض الأدباء، أو تقربوا إليه، بالاعتزال، منهم الشاعر  الفاضل المتورع أبو الحسن التهامي، علي بن محمد بن فهد، المقتول بمصر سنة 416، وصاحب المرثية الرائية الشهيرة.
ومن نباهة الصاحب وحسه النقدي أنه لما سمع بكتاب العقد الفريد الذي صنف ابن عبد ربه، أحمد بن محمد المولود سنة 246 والمتوفى سنة 328، حرص حتى حصل نسخة منه، فلما تأمله، قال: هذه بضاعتنا رُدت إلينا! ظننت أن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم، وإنما هو مشتمل على أخبار بلادنا،لا حاجة لنا فيه. فردَّه. ومن هذا الباب أن الصاحب قال لو أدركت الهمذاني لأمرت بقطع يده ولسانه! فسئل عن السبب فقال: لأنه جمع في أوراق يسيرة شذور العربية الجزلة المعروفة، فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب، ورفع عن المتأدبين تعب الدرس والحفظ والمطالعة. والهمذاني هو عبد الرحمن بن عيسى المتوفى نحو سنة 320، وكان من كبار الكتاب في عصره، وكتابه هو: ألفاظ الكتَّاب.
وكان من محدثي زمانه أبو بكر بن المقرئ، محمد ابن إبراهيم، المولود سنة 285 والمتوفى سنة 381، وكان صديقاً لوالده، وكان الصاحب يوده كثيراً، واستعمله خازناً لكتبه، فقيل للصاحب: إنك رجل معتزلي، وأبو بكر بن المقرئ رجل صاحب حديث، وتحبه أنت؛ لماذا؟ فقال: لمسألتين اثنتين؛ كان أبو بكر بن المقرئ صديق والدي، وقيل: مودة الآباء قرابة الأبناء، ولمسألة أخرى: أني كنت نائما فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: أنت نائم، وولي من أولياء الله على بابك؟! فانتبهت ودعوت البواب وقلت: من بالباب؟ قال: أبو بكر بن المقرئ بالباب.
ولم يقتصر إنصاف الصاحب على أبي بكر صاحب والده، بل امتد إلى غيره، فقد اشتُهر في عصره ثلاثة من المشايخ الشافعية بنصر مذهب الحديث والسنة فى المسائل الكلامية، وهو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى، وهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايينى، إبراهيم بن محمد، والمتوفى سنة 418، والقاضى أبو بكر الباقلانى، محمد بن الطيب، المولود سنة 338 والمتوفى 403، والإمام أبو بكر بن فورك، محمد بن الحسن بن فورك، المتوفى سنة 403، وكان الصاحب بن عباد يثنى عليهم الثناء الحسن، مع أنه معتزلى مخالف لهم، لكنه أنصفهم، وكان إذا جاء ذكرهم يقول: ابن الباقلاني بحر مُغرِق، وابن فورك صِلٌّ مطرِق، والاسفراييني نار تُحرق. قال الحافظ ابن عساكر: وكأن روح القدس نفث في روعه، حيث أخبر عن هؤلاء الثلاثة بما هو حقيقة الحال فيهم.
ورجلٌ هذا شأنه في العلم والفضل والوزارة لا بد أن تكون لديه مكتبة واسعة، كتب إليه نوح بن منصور الساماني، يستدعيه في السر ليجعله وزيره ويفوض إليه تدبير أمر مملكته، فاعتذر إليه الصاحب وقال له: كيف يحسن لي مفارقة قوم بهم ارتفع قدري، وشاع بين الأنام ذكري، ثم كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي؟ وعندي من كتب العلم خاصة، ما يحمل على أربعمئة جمل أو أكثر. وحكي عن الصاحب أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه، استغناءً به عنها. وبسببه عرفنا عدد كتب مكتبة الصاحب إذ قال: لقد اشتملت خزانتي على مئتي ألف مجلد وسبعة عشر ألف مجلد ما منها ما هو سميري غيره، ولا راقني منها سواه. ووقف الصاحب دار كتب بالري على طلبة العلم، كانت موجودة عامرة بعد قرابة 150 سنة من وفاته، ولكن السلطان محمود بن سبكتكين، المولود سنة 361 والمتوفى سنة 421، لما ورد إلى الري سنة 389، قيل له: إن هذه الكتب؛ كتب الروافض وأهل البدع، فاستخرج منها كل ما كان في علم الكلام، وأمر بحرقه.
وكان الصاحب قد سمع من المشايخ الأحاديث الجياد العوالي الإسناد، فلم يرغب أن يتخلف عن نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،وكان يقول: من لم يكتب الحديث لم يعرف حلاوة الإسلام، ولما كان الأصل في المحدثين التقوى وخوف الله عز وجل، وعماد ذلك الرزق الحلال، اتخذ الصاحب بناء في داره سماه بيت التوبة، واختلى فيه أسبوعاً ثم خرج وقد لبس زي الفقهاء، وأشهد على نفسه بالتوبة والإنابة مما يعانيه من أمور السلطان، وذكر للناس أنه كان يأكل من حين نشأ إلى يومه هذا من أموال أبيه وجده مما ورثه منهم، ولكن كان يخالط السلطان وهو تائب مما يمارسونه، ووضع العلماء خطوطهم بصحة توبته، وحين حدث حضرت جموع غفيرة، واحتاج الأمر إلى ستة مستملين كل يبلغ صاحبه، فما بقي في المجلس أحد من أهل العلم إلا وقد كتب حتى القاضي عبد الجبار قاضي القضاة بالري.
تتابعت الأمراض على الصاحب في آخر حياته، وتحدث الناس بوفاته أكثر من مرة، وابتلي مرة بالإسهال، فكان كلما قام عن المطهرة وضع عندها عشر دنانير لئلا يتبرم به الفراشون، فكانوا يتمنون لو طالت علته، ولما عوفي أباح للفقراء نهب داره، وكان فيها ما يساوي نحوا من خمسين ألف دينار من الذهب، وبلغته عن بعض أصحابه شماتة فقال:
وكم شامت بي بعد موتي جاهلاً ... بظلمي يسلُّ السيف بعد وفاتي
ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الظلم بعدي مات قبل مماتي
ووجد في بعض أيام مرضته التي توفي فيها خفة، فأذن للناس، وحل وعقد وأمر ونهى، وأملى كتباً تعجب الحاضرون من حسنها، وفرط بلاغتها، وقال:
كلامنا من غُرَرِ ... وعيشنا من غَرر
إني وحقِّ خالقي ... على جناح السفر
وكانت خاتمتها عندما أصيب بشلل في لسانه ودماغه توفي على إثره في اليوم التالي، فأغلقت مدينة الري، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضرها الملك فخر الدولة، وسائر القواد، وقد غيروا لباسهم.
ولما حضرت ابن عباد الوفاة جاءه الملك فخر الدولة بن مؤيد الدولة يعوده ليوصيه في أموره فقال له: إني موصيك أن تستمر في الأمور على ما تركتها عليه، ولا تغيرها، فإنك إن استمريت بها نُسبت إليك من أول الأمر إلى آخره، وإن غيرتها وسلكت غيرها نسب الخير المتقدم إليّ لا إليك، وكنت أنا المشكور، وقدح ذلك في دولتك.  وكانت نتيجة هذا النصح المحض، أنه لما توفي أنفذ فخر الدولة من احتاط على ماله وداره، ونقل جميع ما فيها إليه!
ولم يظهر للصاحب من المال ما توقعه فخر الدولة ومن حوله من شياطين الأنس، بل وجدت له أموال لا تزال على ختم آل بويه، فما كان الرجل خائناً وما كان ممسكاً بل منفقاً متلفاً، وأشار إلى ذلك من رثاه فقال الشريف الرضي:
إن المشمر ذيله لك خفية ... أرخى وجرر بعدك الأذيالا
طلبوا التراث فلم يروا من بعده ... إلا علاً وفضائلاً وجلالا
هيهات فاتهم تراث مخاطر ... جمع الثناء وضيع الأموالا
قد كان أعرف بالزمان وصرفه ... من أن يثمر أو يجمع مالا
مفتاح كل ندى، ورُبَّ معاشر ... كانوا على أموالهم أقفالا
كان الغريبة في الزمان فأصبحوا ... من بعد غارب نجمه أمثالا
مَن فاعلٌ من بعده كفعاله ... أو قائلٌ مِن بعده ما قالا؟!
وقال أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الحسن الأصبهاني، يشير لكره الوزير للسعاية:
قام السُعاة وكان الخوف أقعدهم ... فاستيقظوا بعد ما متَّ الملاعينُ
لا يَعجَب الناس منهم إن هم انتشروا ... مضى سليمان وانحلَّ الشياطين
واستوزر فخر الدولة بعد الصاحب أبا علي الحسن وأبا العباس الضبي معا، فكان يدعى أبو علي الأستاذ الجليل وأبو العباس الأستاذ الرئيس، فقال بعض بني المنجم:
والله والله لا أفلحتم أبدا ... بعد الوزير ابن عباد ابن عباس
إن جاء منكم جليلٌ، فاجلبوا أجلى ... أو جاء منكم رئيسٌ فاقطعوا رأسي
وظهر بعد وفاته موقف ينم عن قلة الوفاء ومراعاة للحق ورعاية الحقوق، وذلك من صنيعته القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الشافعي المعتزلي، المولود سنة 323 والمتوفى سنة 414، فقد قال القاضي لما مات الصاحب: أنا لا أترحم عليه، لأنه لم يظهر توبته! فمقته الناس لهذا التشدد مع كثرة إحسان الصاحب إليه، وتقريبه له، وهو الذي ولاه منصب قاضي القضاة بالري، وكتب له بخطه عهداً حافل الثناء بهي الشكل، كان تحفة فنية في ورقه وخطه وزخرفته وتجليده، وكان القاضي عبد الجبار ذاته قد جمع الأموال واشترى الأطيان وسار على خطى قارون، وما لبث أن عزله فخر الدولة عن قضاء الري بعد موت الصاحب، وقبض عليه وصادره على ثلاثة آلاف ألف درهم، ويقال إنه باع في مصادرته ألف طيلسان مصري، وولى مكانه القاضي العلامة أبا الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، صاحب الأبيات المشهورة التي أولها:
يقولون لي فيك انقباض، وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
تناولت حياة الصاحب عديد من المؤلفات المتأخرة، ولم أطلع عليها، فقد كتب الشيخ محمد حسن آل ياسين كتاباً في حياته ونشر عدداً من آثاره وديوانه، وحقق الدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور شوقي ضيف مجموعة من رسائله.
ختاماً فلنقل مع الصاحب:
كم نعمةٍ عندك موفورة ... لله فاشكرْ يا ابن عباد
قمْ فالتمس زادك وهو التقى ... لن تسلك الطرق بلا زاد
 

الجمعة، 20 ديسمبر 2013

حدث في السابع عشر من صفر


في السابع عشر من صفر من عام 1213، الموافق 1 أغسطس 1798، وقعت معركة أبو قير البحرية قرب الإسكندرية بين الأسطول الفرنسي بقيادة نابليون بونابارت وبين الأسطول البريطاني بقيادة الأدميرال نلسون، وانجلت المعركة التي وقعت بعد شهر من نزول نابليون في الإسكندرية، عن هزيمة ساحقة للأسطول الفرنسي، وأربكت الهزيمة مخططات فرنسة للاستيلاء على مصر والمشرق العربي، وأدت في النهاية لانسحاب الفرنسيين من مصر.
ولد نابليون سنة 1769، وكان غزوه للمشرق العربي جزءاً من الحرب التي دارت بين فرنسة الجمهورية الثورية وبين بريطانية الملكية المحافظة، للفوز بالهيمنة على العالم، وكانت فرنسة قبل سنة، في 17 أكتوبر 1797، قد حققت نصراً فاصلاً بمعاهدة كامبو فورميو التي استولت فيها على حصة الأسد من أراضي الإمبراطورية النمساوية في أوروبا، وبخاصة الشمال الإيطالي حتى بحر الأدرياتيكي، وقسمت وسط أوروبا كما يناسبها، وأذعنت لذلك طوعاً أو كرهاً دول أوروبا إلا بريطانية التي بقيت على عدائها لفرنسة.
وكان نابليون قد اتجه بعد انتصاره الأوروبي لتحجيم بريطانية، واستبعد نجاح غزو الجزر البريطانية إلا إن أصبحت لفرنسة السيطرة في البحار، وسبيل ذلك الاستيلاء على أهم طريق تجاري عالمي آنذاك يصل بريطانية بمستعمرتها الهندية وما وراءها، فبذلك يخنق الإمبراطورية البريطانية ويستطيع فرض شروطه عليها في أية تسوية سلمية قادمة، ومن ناحية أخرى فإن وجود مستعمرة كمصر تحت حكم فرنسة الثورية ذي الصبغة النفعية والتقدمية سيعيد إلى مصر مكانتها وازدهارها التاريخي، ولذا فإن الحملة العسكرية ستكون مصحوبة بطائفة من العلماء والباحثين الذين سيدرسون ماضي البلاد وحاضرها، ويقررون سبل النهوض بها.
وعرض نابليون أفكاره على مجلس الوزراء الفرنسي، وأيدها تاليران وزير الخارجية، ووافق عليها أعضاء المجلس الذي وجدوا فيها طريقة لإبعاد هذا الجنرال الشاب الطموح، وهكذا أبحر نابليون من طولون في 19 مايو 1798 على رأس جيش يتكون من 36.000 جندي، و10.000 يحار، وقوامه 30 سفينة حربية و72 طرادة و400 مركب شحن، فاحتل جزيرة مالطة لتكون قاعدة إمداد وسيطة بينه وبين فرنسة، وألقى مراسيه في الإسكندرية في 17 محرم سنة 1213، 1 يوليو 1798،  فاحتلها ثم اتجه إلى القاهرة حيث اشتبك في 7 صفر في في أنبابة بالقرب من الأهرام في معركة استبسل فيها الجيش المملوكي بقيادة الأميرين إبراهيم بك ومراد بك ، ولكنه انهزم في النهاية أمام التفوق الفرنسي في العدد والعدة والأسلوب، ودخل نابليون مدينة القاهرة بعد أن أعلن بها أنه لم يأت لفتح مصر بل أنه حليف الباب العالي العثماني أتى لتوطيد سلطته ومحاربة المماليك العاصين أوامره.
وكانت أخبار الإعداد الفرنسي لحملة بحرية كبيرة قد ترامت إلى أسماع الحكومة البريطانية، فأصدرت أوامرها إلى قائد أسطولها بإرسال مجموعة من السفن يقودها الأدميرال السير هوراشيو نيلسون، المولود سنة 1758 والمقتول أثناء معركة الطرف الأغر سنة 1805، لترابط خارج طولون لاستطلاع التحركات الفرنسية، ولكن العواصف حالت دون ذلك فرابطت سفن نيلسون في جبل طارق، وأبحر الفرنسيون دون أن يعلم البريطانيون بذلك، واستطلع نيلسون ميناء طولون حالما سمحت الأحوال فوجده فارغاً، فقدر بحدسه الصائب أن نابليون قد اتجه إلى الإسكندرية، فسار إليها نيلسون مسرعاً، فوصلها قبل الأسطول الفرنسي، لتأخره بسبب استيلائه على مالطة، ولما لم يجد أثراً للفرنسيين، عاد أدراجه إلى صقلية حيث أعاد تموين سفنه.
قال المؤرخ المعاصر عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه عجائب الآثار في التراجم والأخبار: حضر الى الثغر عشرة مراكب من مراكب الإنكليز ووقفت على البعد بحيث يراها أهل الثغر... وإذا بقارب صغير واصل من عندهم وفيه عشرة أنفار فوصلوا البر واجتمعوا بكبار البلد... فأخبروا أنهم إنكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندري أين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم ولا تتمكنوا من منعهم، فلم يقبل منهم هذا القول وظن أنها مكيدة وجاوبوهم بكلام خشن، فقالت رسل الإنكليز: نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه فلم يجيبوهم لذلك وقالوا هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيس ولا لغيرهم عليها سبيل فاذهبوا عنا فعندها عادت رسل الإنكليز وأقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الإسكندرية وليقضي الله أمراً كان مفعولا... فلما قرئت هذه المكاتبات بمصر حصل بها اللغط الكثير من الناس وتحدثوا بذلك فيما بينهم وكثرت المقالات والأراجيف... وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك ولم يكترثوا به اعتماداً على قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم.
ولثقته بصحة حدسه ولإصراره في العثور على الأسطول الفرنسي أبحر نيلسون ثانية إلى الإسكندرية فوصلها في 1 أغسطس ورأى الميناء مليئاً بسفن الشحن الفارغة، فيما رابطت في شرقه في أبو قير 13 دارعة و4 فرقاطات أخذت وضعية دفاعية ممتازة منحها إياه هذا الميناء الطبيعي، فقد كانت ميمنتها محمية بخليج رملي ضحل ولذا اتخذت وضعية الدفاع عن التهديد المحتمل من الميسرة.
ورغم هذه الظروف غير المساعدة وأن الظلام على وشك الحلول، إلا أن نيلسون لم يتردد في الهجوم على الفور، ليستغل عنصري المفاجأة والليل، واستطاعت بعض سفنه التسلل لما وراء الخليج، فصارت السفن الفرنسية بين نارين من الميمنة والميسرة، ونشبت معركة عنيفة اقتربت فيها السفن من بعضها البعض، وركز نيلسون مدفعية سفنه على الدارعات الفرنسية واحدة تلو الأخرى حتى إذا أعطبت إحداها انتقلت إلى جارتها، وبعد أن أعطبتها وتخلصت من تهديد إبحارها ألقت السفن البريطانية مراسيها وصبت حممها عليها واحدة تلو الأخرى حتى دمرتها عن آخرها، وانتهت المعركة مع بدايات الفجر وجرح فيها نيلسون في رأسه، ولكنها أسفرت عن تدمير الأسطول الفرنسي ودارعته الكبرى التي كانت تحمل 120 مدفعاً، وكانت خسائر البريطانيين حوالي 300 قتيل، وكانت خسائر الفرنسيين 1700 قتيل من بينهم قائد الأسطول الفرنسي الأدميرال فرانسوا بول برويز، وبقي الأسطول البريطاني يحاصر الشواطئ المصرية منعاً لأية إمدادات فرنسية أن تصل نابليون وجيشه. وكانت الحكومة البريطانية قد أنعمت من قبل على الأدميرال نيلسون بلقب سير، وأكرمته لانتصاره في معركة أبو قير بأن جعلته في عداد البارونات وصار لقبه نلسون، بارون النيل وبيرنهام ثورب، حيث تدعى هذه المعركة أحياناً معركة النيل، وتخليداً لهذا الانتصار أطلقت بريطانية اسم أبو قير على إحدى بارجاتها.
جرى الغزو الفرنسي لمصر في أيام السلطان سليم الثالث، المولود سنة 1175والذي تسنم عرشه سنة 1203 وتوفي سنة1223، الموافقة سنة 1807، وسارعت الدولة العثمانية إلى تجهيز جيش بري في دمشق يسير إلى مصر، وأسطول بحري يتم تجميعه في جزيرة رودس، وكانت الدولة العثمانية قد أبرمت معاهدتي سلام مع النمسا وروسيا قبل بضع سنوات، ولأن النمسا وروسيا الملكيتين كانتا على عداوة مع فرنسة الجمهورية فقد أمنت انقضاضهما عليها مما مكنها من توفير الموارد لحشد هذا الجيش، وعرضت بريطانية على السلطان مساعدتها في إخراج الفرنسيين من مصر، وانضمت إليها روسيا، وأبرمت الدول الثلاث معاهدة تعاون عسكري وأعلنت الحرب على فرنسة في 21 ربيع الأول من سنة 1213، الموافق 2 سبتمبر 1798، وخرجت سفن البحرية الروسية من البحر الأسود لتنضم إلى البحرية العثمانية في البحر المتوسط، رغم ما بين الدولتين من عداوة قديمة مستمرة.
كان نابليون عبقرياً في استراتيجية الحرب، فقرر أن يرد على هذا التحالف الثلاثي بإحباط الاستعدادات الحربية العثمانية في الشام، والتي إذا تمت ستجعله محاطاً به، وستضطره أن يدافع على عدة جبهات، وستكون عواقب الحرب وخيمة عليه، فخرج من مصر في أواخر شعبان سنة 1213 على رأس 13.000 جندي قاصدا بلاد الشام، وخلال شهر كان قد احتل العريش وغزة والرملة ويافا، ولكنه واجه مقاومة غير متوقعة عند أسوار عكا التي لم يتمكن من الاستيلاء عليها رغم حصاره ومهاجمته لها مراراً، فقد توالت إليها الإمدادات من طريق البحر، واستولى الأدميرال البريطاني سدني سميث على السفن الفرنسية التي أبحرت من مصر لتدك بمدافعها عكا من البحر، وأبدى والي عكا أحمد باشا الجزار صلابة وتيقظاً في إفشال المحاولات الفرنسية لنسف أسوارها، وأفشل كل محاولات النقابين لوضع ألغامهم، وبعد حصاره لها قرابة شهر بلغ نابليون تحرك جيش عثماني من دمشق لإنجاد عكا، فأرسل قوات على رأسها الجنرال كليبر لدحر هذا الجيش ومنعه من تحقيق هدفه، ورجحت كفة المعركة في البداية إلى صف الجيش العثماني الذي استطاع تطويق قوات كليبر وكاد أن يقضى عليها، لولا أن نابليون كان قد سار وراء كليبر بثلاثة آلاف جندي وباغت الجيش العثماني من الخلف فتقهقر وتفرق، وعاد نابليون إلى عكا فوصله خبر إقلاع الجيش المجتمع في جزيرة رودس، فأدرك أن انتصاره صار في مهب الرياح، فعاد بمن بقي من جيوشه إلى القاهرة بعد حملة فاشلة استمرت قرابة 3 أشهر.
وفي أوائل سنة 1214، منتصف سنة 1799، نزل جيش رودس العثماني في أبو قير وتحصن بها، وكان عدده 18.000 جندي، فسار إليهم نابليون من القاهرة وجرت معركة في 24 صفر  انجلت عن هزيمة الجيش العثماني وانسحابه إلى السفن، وأسر قائده مصطفى باشا وكثير من جنوده.
وفجأة تبين أن نابليون قد سافر خفية إلى فرنسة بعد المعركة بشهر، ونجحت فرقاطتان سافر على إحداهما أن تتفاديا سفن الحصار البريطاني، وكان سفره بسبب تدهور الأوضاع الداخلية في فرنسة، وتطلعه للقيام بدور أكبر على الصعيد السياسي، فقد تجددت الحرب بين النمسا وبين فرنسة في إيطاليا، واضطرت الجيوش الفرنسية إلى الانسحاب من معظم شبه جزيرة إيطاليا، وأدت هذه الهزائم إلى اضطرابات داخلية عصفت بالحكومة الفرنسية، وانتهت في يونيو 1799 بانقلاب أتى باليعاقبة إلى سدة السيطرة على الحكومة، وفقد بعض السياسيين الأمل في إصلاح الأوضاع إلا بتسليم الحكم إلى رجل قوي ذو شكيمة عسكرية، وتطلع نابليون أن يكون ذلك الرجل، وبخاصة أن انتصاراته في حروب النمسا وإيطاليا واحتلاله لمصر، جعلت منه بطلاً وطنياً يتردد ذكره على كل لسان، وتذكر بعض المصادر أن الأدميرال البريطاني أرسل لنابليون عدة نسخ من الصحف الفرنسية التي تحدثت عن هذه الأحداث ليفت في عضده ويضعف معنوياته.
ترك نابليون الجنرال كليبر نائباً عنه في مصر، ويقال إنه سمح له  بالانسحاب والعودة لفرنسة لو رأى أنه سيُغلَب ويندحر، فقد أصبح من المتعذر مساعدته بالمال أو الرجال نظرا لترصد الأسطول البريطاني الذي انتشر في جنبات البحر المتوسط، وأدرك نابليون من الناحية الاستراتيجية أن العثمانيين قد بدأوا تحالفاً مع البريطانيين ضد فرنسة التي كانت صديقتهم التقليدية، ففوض كليبر في عقد الصلح مع تركيا ولو كان ثمن ذلك جلاء الفرنسيين عن مصر نهائيا.
ترك نابليون الجيش الفرنسي في مصر دون قوة بحرية تحميه وتتيح إمداده أو تمنع نزول القوات المعادية له، ونقص عدده إلى 15.000 جندي بعد من سقطوا في المعارك وفريسة الأمراض، وهو عدد غير كاف لحماية السواحل والدفاع عن القاهرة أمام فلول المماليك، والمحافظة على الأمن في الصعيد، ولذلك يئس كليبر من الموقف وتفاوض مع القائد البريطاني السير سدني سميث حتى وصلوا لاتفاق العريش في آخر شعبان سنة 1214، الموافق 24 يناير سنة 1800، ويقضي بالسماح للجيش الفرنسي أن ينسحب بسلاحه ومدافعه ويعود إلى فرنسة على السفن البريطانية.
وما أن بدأ الفرنسيون في التجهز للانسحاب حتى تبين أن السير سدني سميث تجاوز صلاحياته في هذا الاتفاق، وأخبره رئيسه الأدميرال كيث البريطاني أن حكومة بريطانية لن تقبل اتفاقاً لا يتضمن استسلام  الفرنسيين كأسرى حرب، فاغتاظ الجنرال كليبر وسار لمحاربة الجيش العثماني الذي أتى إلى مصر بقيادة الوزير يوسف باشا لاستلامها من الفرنسيين، والتقى الجيشان بالقرب من القاهرة عند ضاحية المطرية في 23 شوال سنة 1214، الموافق 20 مارس سنة 1800، وبعد قتال عنيف انجلت المعركة عن انتصار الفرنسيين، وعاد كليبر إلى القاهرة فوجدها في قبضة إبراهيم بك أحد أمراء المماليك في مصر، وكان قد دخلها أثناء انشغال الفرنسيين في المعركة، فأمر كليبر بقصف القاهرة بالقنابل، وخرب منها جزءا عظيما، واستمرت المعارك تدور في شوارعها نحو عشرة أيام، ومضى شهر قبل أن يسيطر الفرنسيون على الوضع، ويعود الهدوء إلى القاهرة، وقد فصل وقائع المعارك وفظائع الفرنسيين المؤرخ المعاصر عبد الرحمن الجبرتي تفصيلا دقيقاً في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار.
ثم ما لبث الجنرال كليبر أن لقي مصرعه في 21 محرم 1215 الموافق 14 يونيه سنة 1800، فقد انقض عليه سليمان الحلبي بخنجر وقتله، وألقي القبض على سليمان الحلبي وبعد تحقيق طويل ذكره الجبرتي، أعدم هو ورفاق له ثلاثة اتهموا معه في القتل، وعين مكان كليبر الجنرال جاك مينو الذي كان قد اعتنق الإسلام وتسمى عبد الله مينو.
أتقن مينو دوره الإستعماري أيما إتقان، فأعلن إسلامه وتزوج أرملة مسلمة من رشيد، وخالط الناس في المساجد والمحافل، وأظهر الورع حتى صلى معهم التراويح، وتظاهر بمقته لكليبر، ولكنه ما لبث أن قلب للمصرين ظهر المجن، وبرح خفاؤه، حين طالت الشبهة علماء الأزهر في أن لهم ضلعاً أو علماً باغتيال كليبر، فأمر مينو بتفتيش وإرهاب علمائه، وحاول عبثاً أن يقف على شيء يدين العلماء، وبلغت حملاته وتحقيقاته من الشدة حداً اقترح معه العلماء غلق الأزهر بدلا من أن تشن عليه الحملات، وحقنا لدماء المواطنين الأبرياء.
وأصبح ضعف موقف الفرنسيين واضحاً للعيان، وفي أواخر سنة 1215، أوائل سنة 1801، أنزل البريطانيون جيشاً قوامه 30.000 جندي في أبوقير بقيادة الجنرال أبركرومبي فسار الجنرال منو لمحاربتهم فانهزم أمامهم، فانسحب وتحصن في الإسكندرية فقطع البريطانيون سداً في أبوقير يحجز مياه البحر المتوسط، وحصروا بذلك منو وجيشه في الإسكندرية، غير مبالين بما نجم عن قطع هذا السد من الخراب والدمار لجزء ليس بقليل من الوجه البحري.
ثم سار الجيشان البريطاني والعثماني إلى القاهرة وحصروا من بقي فيها من الفرنسيين، جرت مفاوضات مع الجنرال الفرنسي بليار انتهت بالاتفاق على انسحاب الجيش الفرنسي من وادي النيل وفق شروط اتفاق 24 يناير سنة 1800، فأخلى الجيش الفرنسي القاهرة في 28 صفر 1216، الموافق 10 يوليو 1801، وخرج منها بجميع أسلحته ومدافعه ومهماته راحلاً إلى ميناء رشيد بحماية قوات عثمانية وبريطانية لمنع تعرض الأهالي لهم، وأبحروا من رشيد عائدين إلى فرنسة على السفن البريطانية.
أما الجنرال مينو فبقي محصورا في الإسكندرية ولم يقبل التسليم إلا بعد شهرين، وبعد أن وقعت بينه وبين العثمانيين والبريطانيين موقعة عظيمة قتل فيها كثير من الطرفين، فخرج منها مع من بقي معه وسافر إلى بلاده، وبذلك انتهت الحملة الفرنسية على مصر.
بدأ ت الحملة الفرنسية على مصر كاحتلال لين الملمس يرتدي لبوس الصداقة مع الإسلام، وحاول نابليون استمالة المصريين وبخاصة علماء المسلمين، وأمر بتشكيل ديوان منهم ليساهم في إدارة البلاد، وهذه مقتطفات من أول منشور أصدره نابليون منقولة عن المنشور الكامل الذي أورده الجبرتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في ملكه، من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته يعرِّف أهالي مصر جميعَهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية يظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم... هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأزابكة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها... يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضاً لهم إن جميع الناس متساوون عند الله وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط... ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك ... أيها المشايخ والقضاة والأئمة وأعيان البلد قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي الباب الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة الإسلام، ... والفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه أدام الله ملكه... طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضاً للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقاً إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر.
لكنه لم يمض شهر حتى كشر المحتلون عن أنيابهم وأبرزوا مخالبهم، فسفكوا دماء الأبرياء، وأعدموا زعماء الوطن رميا بالرصاص، وملؤوا السجون والمعتقلات بعلماء الدين، ومضوا بعد ذلك إلى المدن والقرى ينهبون ويسلبون، وانتهكوا حرمات بيوت الله والناس، وتفننوا في التنكيل بالمصريين، فأحرقوا الدور بعد نهبها، وأشعلوا النيران في محاصيل الفلاحين، وبعثروا أقواتهم واستاقوا مواشيهم، وأثقلوا كواهلهم بالضرائب والغرامات والفروض، ورغم هزيمة أبو قير بقيت القوات الفرنسية في الداخل تتابع سيطرتها على بر مصر، ولم تمض شهور إلا وقد أحكم نابليون قبضته على مصر من البحر المتوسط إلى أقاصي الصعيد.
ثم عاد نابليون وغيرَّ سياسته بعد الهزيمة المنكرة في أبي قير، فأقام الحفلات بمناسبة المولد النبوي تملقاً للعاطفة الدينية عند المسلمين وهم السواد الأعظم، ولكنهم لم يستجيبوا له بغير الحد الأدنى من المجاملة، كيف وهو المحتل الأجنبي الذي لا يمت لهم بدين أو قربى، ثم اندلعت دونما سابق إنذار ثورة القاهرة على المحتلين في جمادى الأولى من سنة 1213، 21 أكتوبر 1798، ولم يستطع الفرنسيون إخمادها إلا بقصف القاهرة بالمدافع وتدمير الجزء الأعظم منها، وقضت هذه الثورة على كل أمل في التعايش بين الشعب المصري والمحتل الفرنسي الذي عاد إلى سياسة القسوة والبطش، وأصدر أوامره المشددة بذلك إلى حكام الأقاليم، كتب نابليون إلى قائد قواته في المنوفية يقول: إني هنا أقتل كل يوم ثلاثة وآمر بأن يطاف برؤوسهم في شوارع القاهرة، وهذه هي الطريقة الوحيدة لإخضاع هؤلاء الناس، وعليكم أن توجهوا عنايتكم لتجريد الشعب قاطبة من السلاح.
ولم ينته الاحتلال الأوروبي لمصر بانسحاب الفرنسيين، فقد بقي البريطانيون يماطلون في الانسحاب من مصر سنوات طويلة، والغريب أن نابليون بعد أن أصبح الحاكم المطلق في فرنسة سعى لإعادة العلاقات مع الدولة العثمانية، ومن الحجج التي قدمها بين يدي ذلك بقاء بريطانية في مصر واحتلالها بعض ثغور الشام، إلى جانب احتلال روسيا لبعض الجزائر اليونانية، ونجح نابليون في مسعاه ووقعت الحكومتان العثمانية والفرنسية في عام 1216، الموافق سنة 1801، معاهدة سلام استرجعت بموجبها فرنسة حقوق التجارة والملاحة التي كانت تتمتع بها قبل عدوانها على مصر.
كان من نتائج الاحتلال الفرنسي أن أخرج مصر من عزلة دامت خمسة قرون من حكم المماليك والعثمانيين، ولكنه جعل مصر جزءاً مما يسمى المسألة الشرقية، أو التركة العثمانية إن شئت، التي تنافست عليها فرنسة وبريطانية، أما الدولة العثمانية فقد صممت بعد هذه الأحداث أن تحكم سيطرتها على مصر، وأن يكون حاكمها برتبة نائب السلطان، وأن يكون لها جيش يرابط دائماً فيها، وكان أن تشكل أغلب هذا الجيش من الألبان، الأمر الذي مهد للقضاء على المماليك وتأسيس محمد علي الكبير لدولته.
ولا ينبغي أن نغفل النتائج العلمية والتاريخية للاحتلال الفرنسي لمصر، والذي جمع كثيراً من التحف والآثار ونقلها إلى متاحف فرنسة، كما وثق توثيقاً علمياً دقيقاً كثيراً من مبانيها ومعالمها الأثرية، رغم أن العسكر الفرنسي هدم كثيراً منها لما وقفت في طريق دفاعاته أو مواقعه، ويتجلى ذلك في الأثر العظيم المسمى وصف مصر Description de l'Égypte والمؤلف من 20 مجلداً منها 10 مجلدات من اللوحات والرسوم، والذي قامت على إصداره لجنة من أعضاء الفريق العلمي الذي اصطحبه نابليون، ونشرته الحكومة الفرنسية في السنوات 1809-1822.
 

الجمعة، 13 ديسمبر 2013

حدث في العاشر من صفر

 
في العاشر من صفر من عام 648 تمت سلطنة شجرة الدر على مملكة الأيوبيين في مصر، لتكون أول ملكة في التاريخ الإسلامي، في وقت كان الخطر الصليبي يتهدد مصر من خارجها، وخلافات المماليك تعصف بها من داخلها، وهي سلطنة لم تمتد أكثر من 3 أشهر.
ولا تعطينا المصادر أية معلومات عن مكان ولادة أو نشأة شجرة الدر، بل ما نعرفه أنها جارية تركية الأصل، بديعة الجمال، كاتبة قارئة، تزوجها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن محمد الملك الكامل بن أخي صلاح الدين محمد الملك العادل بن أيوب، والمولود بالقاهرة سنة 603 والمتوفى سنة 647، وقد يساعدنا في تحديد سنها التقريبي ما يذكره المؤرخون من أنه تزوجها في أيام والده أي قبل سنة 635، وإذا اعتبرنا السن التي كان الأمراء يتزوجون عندها وفارق السن التقليدي آنذاك، فإني أرجح أن تكون من مواليد سنة 610 أو بعدها.
وتسلم الملك الصالح أيوب أول منصب رسمي له سنة 625 عندما أراد والده الخروج من القاهرة للشام فلقبه بالملك الصالح وخرج هو إلى الشام، ولكن الملك الشاب انصرف للهو ولم يحسن إدارة البلاد فعاد والده ونزع منه السلطنة في سنة 627 وأرسله للشرق دون أي منصب رسمي، وفي سنة 630 شارك الملك الصالح أيوب في حملة شنها والده على المناطق الواقعة اليوم في جنوبي تركية، وضمها إلى ممالكه الشامية والمصرية، وجعله والده أميراً على حصن كيفا، ثم ضم إليه في سنة 633 آمد وحران والرها، ونصيبين والخابور، ورأس عين والرقة، وأقام الصالح في سنجار.
وفي سنة 635 توفي والده وخلفه ابنه الملك العادل، ورفض ذلك الملك الصالح لكونه أكبر من أخيه، وجرت له بسبب ذلك مع أخيه أحداث كر وفر، أُخذ فيها إلى المنفى في الكرك، وهنا نجد أول ذكر لشجرة الدر التي كانت حاملاً فأسقطت أثناء الاعتقال، ومكث الملك الصالح في الاعتقال قرابة 7 أشهر قبل أن يفرج عنه، فعاد إلى نابلس، وما لبث الأمراء بعد شهرين أن خلعوا أخاه الملك العادل ونادوا به ملكاً على مصر، وفي أواخر سنة 637 ولدت له شجرة الدر ولداً سمي خليلاً ما لبث أن مات بعد مدة يسيرة. وقد مرَّ الملك الصالح بأهوال ومحن غير التي ذكرنا، وقفت شجرة الدر فيها إلى جانبه تشد من عضده، وتمده بالرأي والتدبير، فأحبها الملك الصالح حباً عظيماً، وزادت مكانتها في إمارته ثم دولته على الدور المألوف لزوجة الملك، حيث كان الملك الصالح يعتمد على رأيها السديد في كثير من الأمور، وصار إليها تدبير شؤون الدولة وتوجيه الأمراء والحشم، وأبدت في ذلك من العقل والدهاء مع دين وشهامة وسيرة حسنة، ما حاز إعجاب الأمراء ورجال القصر.
وفي أوائل سنة 647 انطلقت من عكا حملة فرنسية بحرية يقودها الملك لويس التاسع وهاجمت ثغر دمياط في مصر واحتلته، وكان الجيش الغازي يضم 9.500 فارس و130.000 راجل عدا الخدم والمرافقين، وكان الملك الصالح آنذاك يحاصر مدينة حمص لضمها إلى مملكته، فلما جاءه الخبر رحل عن حمص وسار مسرعاً إلى مصر، ودب المرض فيه وهو في الطريق من جراء التهاب جرح أصابه وتحول إلى غرغرينا انتشرت في أطرافه وأماتتها،  فعاد إلى القاهرة محمولاً في محفة، وخرج بعساكره إلى المنصورة، ونزل بها، وأرسل إلى دمياط جماعة من الأمراء قاتلوا الفرنسيين قتالاً شديداً، ولكن أمراء الكنانيين المكلفين بالدفاع عن دمياط أخلوها، فاستولى عليها الفرنسيون في 23 صفر، فاغتاظ السلطان لهذا التصرف الجبان، وكان قد جعل عندهم من الميرة ما يكفيهم زمناً طويلاً، فشنق نيفاً وخمسين أميراً لانسحابهم وتسليمهم الثغر.
وبقي الملك الصالح مرابطاً أمام الفرنسيين في المنصورة حتى توفي في 15 شعبان، وهنا تبرز كفاءة شجرة الدر، فقد تفاهمت مع المقربين من رجال الحاشية أن يخفوا وفاة السلطان حتى لا يزعزع ذلك معنويات الجيش المسلم، وأرسلوا وراء ابنه الملك المعظم توران شاه، وكان في حصن كيفا في جنوبي تركية اليوم، وأظهروا أن السلطان أمر بأخذ البيعة له، وحلّفوا الأمراء على ذلك، وصارت شجرة الدر توقع بخطها مثل توقيع الملك الصالح، وتقول: السلطان ما هو طيب. وتمنع الناس من الدخول إليه.
واختاروا الفارس أقطاي رسولاً إلى الملك المعظم، وبسبب الخلافات بين ملوك الأيوبيين في المدن الشامية، سلك أقطاي طريق البادية بما يحفه من مخاطر، حتى وصل إليه، وعاد به إلى مصر عن طريق دمشق.
ونقف هنا لنتحدث عن زوج شجرة الدر الملك الصالح نجم الدين أيوب، والذي يذكر المؤرخون المعاصرون أنه كان مهيباً عزيز النفس، لا يرى الهزل ولا العبث، شديد الوقار كثير الصمت، يحب العزلة والانفراد، وكان لا يستقبل أحداً من أرباب دولته بأمر بل يراجعون القصص مع الخدام، فيوقع عليها بما يعتمده كتاب الإنشاء.
اشترى الملك الصالح من المماليك الأتراك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتى صاروا معظم عسكره، ورجحهم على عصبته من الأكراد وأمّرهم، وجعلهم بطانته والمحيطين به، وأطلق عليهم اسم المماليك البحرية، لأنه أسكنهم بقلعة البحر بجزيرة الروضة في القاهرة، وكانوا مع فرط جبروتهم وسطوتهم أبلغ من يعظم هيبته؛ كان إذا خرج وشاهدوه يرعدون خوفاً منه، وقال جماعة من أمرائه: والله ما نقعد على بابه إلا ونقول من هاهنا نحمل إلى الحبوس! وكان إذا حبس إنساناً نسيه، ولا يتجاسر أحد أن يخاطبه فيه، وكان لا يمكِّن القويَّ من الضعيف، وينصف المشروف من الشريف.
وكان الملك الصالح صاحب سياسة حسنة وسعة صدر في إعطاء العساكر والإنفاق في مهمات الدولة، لا يتردد فيما ينفقه في هذا السبيل، وكانت همته عالية جداً، وآماله بعيدة، ونفسه تحدثه بالاستيلاء على الدنيا بأسرها والتغلب عليها، وانتزاعها من يد ملوكها، حتى لقد حدثته نفسه بالاستيلاء على بغداد والعراق.
وكان عفيفاً طاهر اللسان والذيل، ولم تقع منه في حال غضبه كلمة قبيحة قط، أكثر ما يقول إذا شتم: يا متخلف!  ولم يكن عنده في آخر وقت غير زوجتين: إحداهما شجرة الدر، والأخرى بنت العالمة، تزوجها بعد مملوكه الجوكندار.
وأرسلت شجرة الدر جثمان الملك الصالح في زورق إلى القاهرة فجعل بقلعة الروضة حتى سنة 649 حين نقلوه في مراسم رسمية إلى تربة بنتها له شجرة الدر في حي بين القصرين بالقاهرة، وأوقفت عليه الأوقاف، ووضعت عند القبر سناجق السلطان وبقجته وتركاشه وقوسه، ورُتِّب عنده القرّاء على ما شرطت شجرة الدرّ في كتاب وقفها.
نعود إلى توران شاه الذي وصل أواخر ذي القعدة من عام 647، وحارب المسلمون بقيادته الفرنسيين حرباً شعواء في البحر والبر، واستولوا على مراكب كثيرة لهم وأضعفوا شوكتهم وقطعوا ما كان يأتيهم من طعام في البحر، حتى يأس الفرنسيون من تحقيق أي تقدم، وكان في عسكر المسلمين الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان دعاؤه المستجاب أحد أسباب النصر، ولما قام الجيش الفرنسي في 3 المحرم من سنة 648 بالانسحاب من مواقعه إلى مدينة دمياط، شن المسلمون وكمائنهم عليه هجمة قوية فتكت بأغلب جنوده، واستسلم لويس التاسع وأخوه وأحضروا إلى المنصورة، وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء، فخر الدين بن لقمان، ووكل به الطواشي صبيح المعظمي، وأرسلوا خوذة لويس التاسع بالبشائر إلى دمشق، ورحل الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفارسكور، ونُصِبَ له بها برج خشب، قبل أن يلاقي منيته ويفتك به الأمراء.
وكان سبب ذلك أن توران شاه، وإن كان شجاعاً مقداماً، كان خفيف الرأي أهوج التصرف، لا يصلح للملك، وكان بعض الأمراء يقول لأبيه الملك الصالح نجم الدين أيوب: ما تنفذ تحضره إلى هاهنا! فيقول: دعوني من هذا. فألحوا عليه يوماً، فقال: أجيبه إلى هاهنا أقتله؟! وكان كذلك يفتقر للمعارف والأنصار من المماليك والمصريين على السواء، لأنه قضى معظم حياته في حصن كيفا، فكانت سلطنته سطحية عابرة.
وأساء توران شاه إلى زوجة أبيه شجرة الدر ولم يشكر لها ما فعلته من إخفاء موت والده وقيامها بتدبير المملكة أتم قيام حتى حضر إلى المنصورة وجلس في دست السلطنة، ولم تدع أحداً يطمع في الملك لعظمتها في النفوس، فترك توران شاه ذلك كله، وطالبها بالأموال وهددها بالمصادرة والتعذيب لاستخراج ما لديها.
وأساء توران شاه التصرف مع أمراء أبيه ومماليكه، وبلغهم عنه من التهديد والوعيد ما نفر قلوبهم منه، واحتجب عن الناس أكثرَ من أبيه، وأنفق الأموال على بطانته التي جاءت معه من حصن كيفا، وكانوا أطرافاً أراذل، وأخلف وعوده لأمراء أبيه بالتقريب والترقيات، ووعد الفارس أقطاي أن يؤمره ولم يف له، فاستوحش منه، وكان يشرب الخمر فإذا سكر يجمع الشموع ويضرب رؤوسها بالسيف فيقطعها ويقول: كذا أفعل بالبحرية! ثم يسمي مماليك أبيه بأسمائهم.
واستاء الأمراء من هذه التصرفات فوثبوا عليه وجرحوه فهرب منهم إلى البرج فأطلقوا فيه النار والنفط فنزل إلى ظهر خيمة فرموه بالنشاب، فصار يصيح: ما لي حاجة بالملك! دعوني أتوجه إلى الحصن! فلم يتركوه وضربه الأمير عز الدين أيبك بالسيف ثم تلاه باقي الأمراء إلى أن مات، وكانت مدة سلطنته نحو 40 يوما لم يدخل فيها القاهرة ولم يجلس على سرير الملك بقلعة الجبل، وبمقتله بدأت دولة المماليك وانقرضت دولة بني أيوب بمصر، ومدتها نحو 86 سنة، وقال الصاحب جمال الدين ابن مطروح يرثيه:
يا بعيد الليل من سحره ... دائماً يبكي على قمره
خلّ ذا واندب معي ملكاً ... ولت الدنيا على أثره
كانت الدنيا تطيب لنا ... بين باديه ومحتضره
سلبته الملك أسرته ... واستووا غدراً على سُرره
حسدوه حين فاتهم ... في الشباب الغضّ من عمره
واتفق الأمراء فيما بينهم على إقامة شجر الدر ملكة، وذلك لحسن سيرتها وغزير عقلها وجودة تدبيرها، ولم يكن ذلك بسعي منها تذكره كتب التاريخ، بل اتفقوا ثم أخبروها فقبلت ذلك، ولم تتم لها بيعة كالمعتاد، بل حُلِف لها، ثم استحلفوا جميع العساكر الشامية والمصرية، وكانت المراسيم والتعليمات السلطانية تخرج باسمها، وكان توقيعها: والدة خليل. ويكتب الموقِّع: خرج الأمر العالي المولوي السلطاني الخاتوني الصالحي، الجلالي العصمي الرحيمي زاده الله شرفاً ونفاذا. وخُطِبَ باسمها على المنابر، وكان الخطباء يقولون على المنبر بعد الدعاء للخليفة العباسي في بغداد: واحفظ اللهم الجهة الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح. وعين الأمراء الأمير عز الدين أيبك التركماني الصالحي أتابكاً لها، ثم اتفق المسلمون مع الفرنسيين على إطلاق سراح الملك لويس التاسع مقابل فدية مالية، وأن تعود الحملة من حيث أتت، فتسلم المسلمون دمياط بعد أن بقيت في يد الفرنسيين قرابة 11 شهراً.
وكان وجود امرأة في سدة الحكم أمراً غريباً لا سابقة له في تاريخ الإسلام، ولئن كان مقبولاً عند أمراء المماليك القريبين منها، فما كان مقبولاً عند غيرهم من أمراء الشام، فضلاً عن علماء الشرع، وأرسل الخليفة من بغداد يعيب على الأمراء توليتها، ويقول: إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسير لكم رجلا! ولم يوافق أهل الشام على سلطنتها، وطلبوا الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب حلب فسار إلى في دمشق وملكها، وحدثته نفسه بأخذ مصر، وبدأ يعد العدة لذلك، وكان نتيجة ذلك أن اتفق الأمراء على تولية رجل مكان شجرة الدر.
وطمع في السلطنة مجموعة من كبار الأمراء المتنافسين، والمعروفين بالشدة والطموح، فمالت نفوس عامة الأمراء إلى تولية الأمير عز الدين أيبك، ولم يكن من أعيانهم، غير أنه كان معروفا بالسداد وملازمة الصلاة، ولا يشرب الخمر، وعنده كرم وسعة صدر ولين جانب، وقالوا أيضا: هذا متى أردنا صرفه أمكننا ذلك لعدم شوكته، وكونه من أوسط الأمراء. فخلعت شجرة الدر نفسها من الملك، وسلمت السلطنة إليه، وتلقب بالملك المعز، وتزوجته شجرة الدر، وكان ذلك في آخر ربيع الثاني من عام 648.
وتلافياً لأن يستقل ملوك الأيوبيين في الشام كلٌ بمدينته، قرر الأمراء بعد 5 أيام أن يقيموا ملكاً من الأيوبيين، واختاروا صبياً في الثامنة من عمره هو الملك الأشرف الأيوبي مظفر الدين موسى بن الملك الناصر يوسف، ويكون الملك المعز أيبك أتابكه، وكانت حجتهم أن قالوا: لا بد لنا من سلطان يكون من بني أيوب يجتمع الكل على طاعته. وفي الحقيقة اختاروا صبياً يدبرونه كيف شاؤوا ويأكلون الدنيا به.
وفي ذي القعدة من عام 648 جاء الملك الناصر بجيشه من الشام إلى مصر، وهزموا جيش المعز في البداية، واندفع جنود الشام ينهبون معسكر المصريين وأحمالهم، وبقي الملك الناصر في شرذمة قليلة من عسكره، فلما رآه كذلك المعز وأمراؤه المنسحبون كروا عليه وهزموه شر هزيمة، وأسروا عدداً من أقاربه وأمرائه، ثم عادوا إلى القاهرة فصبوا غضبهم وانتقامهم على أهاليها قتلاً ونهباً، ذلك أنهم أبدوا فرحهم وابتهاجهم لما سمعوا بانتصار الجيش الشامي الأيوبي في البداية، وفي سنة 651 اتفق المعز مع الملك الناصر أن تكون للمعز الديار المصرية والقدس وغزة، وتكون باقي بلاد الشام للملك الناصر.
وفي سنة 649 قام المعز بخلع الصبي الملك الأشرف، واستقل بالسلطنة، وبخلعه انتهت الدولة الأيوبية من مصر، بعد أن دامت فيها 82 سنة، واتسمت سلطنة المعز بفرض كثير من الضرائب الجائرة الباهظة، حتى أخذوا مال الأوقاف ومال الأيتام على نية القرض، ومن أرباب الصنائع كالأطباء والشهود، وسماها وزيره هبة الله الفائزي الحقوق السلطانية.
وفي سنة 652 دبرت شجرة الدر مع زوجها قتل الفارس أقطاي، الذي كان قد ذهب رسولاً لإحضار توران شاه، والذي جعله المعز نائب المملكة، فقد كان أقطاي بطلا شجاعا جوادا، ولكنه كان طياشا ظلوما، يطمح للسلطنة، ولا يأبه للملك المعز، ويأخذ ما شاء من الخزائن، حتى إنه لما خطب ابنة صاحب حماة قال: أخلوا لي القلعة حتى أعمل العرس بها! فهيأ له المعز قتلة على يد مملوكه الأمير سيف الدين قُطُز، الذي سيصبح ملك مصر فيما بعد، فهاج مماليك أقطاي وكانوا نحو 700 مملوك، وساروا إلى القلعة، فألقي إليهم رأسه فانخذلوا وانفضوا.
وفي سنة 655 بلغ شجرة الدر أن زوجها الملك المعز يريد أن يتزوج بنت الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وأنه أرسل يخطبها، فاعتقدت أنه قد عزم على إبعادها أو قتلها، لأنه سئم من حَجرها عليه، وقررت أن تسبقه بالتدبير وعزمت على الفتك به وإقامة غيره في الملك، وبعثت أحد مماليكها بهدية إلى الملك الناصر يوسف في سورية، وأعلمته أنها قد عزمت على قتل المعز، والتزوج به وتمليكه مصر. فخشي الملك الناصر يوسف أن يكون هذا خديعة، فلم يجبها بشيء.
وبعث بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يحذر الملك المعز من شجر الدر وأنها تتآمر مع الملك الناصر يوسف، فزاد هذا من وحشة ما بينهما، وعزم الملك المعز على إنزالها من القلعة إلى دار الوزارة، وكانت شجر الدر قد استبدت بأمور المملكة ولا تطلعه عليها، وليس له كلام في أمور الدولة، ومنعته من الاجتماع بأم ابنه منصور وألزمته بطلاقها، ولم تطلعه على ذخائر الملك الصالح.
وطلبت شجرة الدر صفي الدين إبراهيم بن مرزوق، وكان من كبار التجار والوجهاء، فاستشارته في قتل الملك المعز ووعدته بالوزارة، فأنكر عليها ونهاها عن ذلك فلم تصغ إلى قوله، واتفقت مع عدد من المماليك وخدم القصر على أن يقتلوه، ومنَّتهم الأماني، وكان المعز قد ترك البيات في القلعة خوفاً منها، فدعته إلى القصر وحلفت عليه، فجاءها بعد لعب الكرة، ودخل الحمام ليزيل غبار اللعب، وكانت قد أرصدت لها خمسة من خدامها الأقوياء، فهاجموه وفقتله سنجر الجوجري في 23 ربيع الأول من سنة 655.
وأرسلت شجرة الدر في تلك الليلة إصبع المعز أيبك وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير، وطلبت منه أن يقوم بالأمر، فلم يجسر على ذلك، ولما ظهر الخبر، أراد مماليك المعز أيبك قتل شجرة الدر، فحماها مماليك زوجها السابق الملك الصالح، ونقلت شجرة الدر من دار السلطنة إلى حبس في البرج الأحمر مع بعض جواريها، وصلبوا الخدم الذين اتفقوا معها على قتل المعز أيبك، وهرب سنجر الجوجري، ثم ظفروا به وصلبوه، واحتيط على الصاحب بهاء الدين علي بن محمد المعروف بابن حنَّا، لكونه وزير شجرة الدر، وافتك نفسه بتعهده دفع 60.000 دينار، مع أنه لم يكن له يدٌ أو علم بالأمر.
واتفق المماليك على تنصيب نور الدين عليّ ابن الملك المقتول، وعمره يومئذ 15 سنة، ولقبوه الملك المنصور، وجعلوا أتابكه الأمير علم الدين سنجر الحلبي، فحدثته نفسه بالوثوب على الأمر، فقام الأمراء بقيادة سيف الدين قطز بالقبض عليه وجعلوا محله الأمير أقطاي المستعرب الصالحي.
واستمرت شجرة الدر بالبرج الأحمر بقلعة الجبل، والملك المنصور علي ووالدته يحرضان مماليك المعز على قتلها، ومماليك الملك الصالح تمنعهم عنها، لكونها جارية أستاذهم، فلما صار المنصور في دَست الملك أمر بها فحملت إلى والدته فأمرت جواريها فضربنها بالقباقيب إلى أن ماتت، وألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سراويل وقميص، فبقيت في الخندق أياماً، ثم دفنت بعد أيام  بتربتها قريب المشهد النفيسي، وكانت شجرة الدر لما تيقنت أنها مقتولة أودعت جملة من المال والجواهر عند بعض الناس فضاعت، وجاءت بجواهرها النفيسة فسحقتها في الهاون لئلا يأخذها الملك المنصور وأمه.
وتتابعت هذه الأحداث في مصر، والمغول على أبواب المشرق العربي يهددون العراق، وكان الخليفة المستنصر، المولود سنة 588 والمتوفى سنة 640، عاقلاً مدبراً تحسب لهجومهم فاستكثر من الجند جداً، فمال المغول إلى مهادنته فهادنهم وراضاهم، فلما خلفه ابنه المستعصم، المولود سنة 609، كان خلياً من الرأي والتدبير، غافلاً عن تآمر الوزير العلقمي مع المغول، فأخذ برأيه في تسريح أغلب الجند، فأصبحت تكلفة احتلال العراق رخيصة على المغول الذين وعدوا الوزير الخائن أن يكون نائبهم على العراق.
واستولى المغول بقيادة هولاكو على بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم سنة 656، ثم ملكوا حلب والشام واتجهوا إلى مصر، فجمع الأمير قطز  القضاة وأعيان الدولة في أواخر سنة 657، واتفقوا على أن الملك المنصور صبي لا يصلح للملك إزاء الخطر المغولي الداهم الذي يتهدد مصر، والذي يقتضي وجود ملك يقود الجهاد ويصد العدوان، فأجمعوا على خلعوه ونادوا بقطز ملكاً على الديار المصرية وتسمى بالملك المظفر، وسيكتب له في رمضان من عام 658 النصر على المغول في عين جالوت.
كانت شجرة الدر سيدة مسلمة صالحة أوقفت عديداً من المدارس والأوقاف، وتناول حياةَ وشخصيةَ شجرة الدر عدد من مؤلفي القصة والمسرحية النثرية والشعرية، ولا عجب في ذلك فحياتها كما رأينا ملأى بالأحداث الجسام والتحولات العظام، وشخصيتها تجمع المتناقضات من الحكمة والأناة وحسن التدبير إلى الغيرة الشديدة والقتل، ولله في خلقه شؤون.
رحمها الله وغفر لها.
 

 
log analyzer