الأحد، 27 أبريل 2008

عملته لله فما أريد به سواه جزاءً

كان الفرنج مذ نزلوا على عكا صمموا على الإقامة والحصر، فشرعوا في بناء الأبراج العظام العالية، ونقلوا في البحر آلاتها وأخشابها الجافية وأقطاع الحديد، وبنوا ثلاثة أبراج عالية في ثلاثة مواضع من أقطار البلد، فتعبوا فيها سبعة أشهر فلم يفرغوا منها إلا في ربيع الأول 586، فعلت كأنها ثلاثة أطواد قد ملئت طبقاتها بعدد وأعداد، وكل برج لا بد له في أركانه من أربع أسطوانات عاليات غلاظ جافيات، طول كل واحدة خمسون ذراعا، ليشرف على ارتفاع سور البلد، وبَسَطوها على دوائر العجل، ثم كسوها بعد الحديد والوثوق الشديد بجلود البقر والسلوخ، وكل يوم يقربونها ولو ذراعا على حسب التيسير في تسييرها، وسقوها بالخل والخمر وكشفوا من جوانبها الثلاثة سور البلد، وشرعوا في طم الخندق.

وجاء عوّام سباحة من عكا فأخبر السلطان صلاح الدين، فركب بالعسكر ولازمهم من الجمعة إلى الجمعة، يقاتلهم صباحا ومساء ليشغلهم، فافترقوا قسمين فريق للقتال وفريق آخر مع الأبراج، فأشفى البلد على السقوط، وبقي له رمق ضعيف، ورميت الأبراج بكل قارورة نفط فما أثرت.

وكان بعكا شاب من أهل دمشق يعرف بعلي ابن عريف النحاسين، وكان أبدا بجمع آلات الزراقين مولعا، ولتحصيل عقاقيرها متتبعا، وكل من عرفه عذله - أي عاتبه - وينكر عمله، وكان قد ألف منها مقادير وقدورا، وملأ بغيظٍ من أهل تلك الصناعة صدورا، ولم يكن النفط من صناعته، ولكن الله وفقه لسعادته، فجاء إلى الأمير قراقوش وهو مغتاظ، وأخلاقه فظاظ غلاظ، وقال: تأذن لي في تصويب المنجنيق، لأحرق البروج، والله ولي التوفيق. فزجره وزبره، ونهاه ونهره، وقال: صنّاع هذا الشغل قد خاروا وحاروا، وبعدما أنجدوا غاروا! فقال الناس: دعه وشأنه، وما يدريك أن الله وفقه وأعانه؟

فرمى ابن العريف البرج الأول قدورَ نفط خالية من نار حتى عرف أنه سقاه ورواه، ثم رماه بقدر محرقة، وأردفها بأخرى مزهقة، فتسلطت النار على طبقاتها، فأضرم على أهل السعير سعيرا، وكان يوما على الكافرين عسيرا، ثم أحرق الثاني والثالث، فاجتمع عليه الأصحاب يفدّونه – أي يقولون له فداك نفسي - ومن أولياء الله يَعُدُونه، وحملوه بعد ذلك إلى السلطان فلم يقبل عطاء، وقال: عملته لله فما أريد به سواه جزاءً.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer