الجمعة، 26 يونيو 2015

حدث في العاشر من رمضان

في العاشرمن رمضان في السنة الثامنة للهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد مكة في عشرة آلاف، بعد أن نقضت قريش صلح الحديبية، واستخلف على المدينة أبا رُهْم كلثوم بن حصين الغفاري، وفيما يلي وصف لبعض ما جرى في هذا الصدد مستقى بعضه من سيرة ابن هشام، وأغلبه من مغازي الواقدي وله أمثال تعضده في كتب السيرة.
لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العَرْج، وهو واد يبعد 110 كيلاً جنوبي المدينة، نظر إلى كلبةٍ تهِرِّ عن أولادها، وهُنَّ حولها يرضعنها، فأمر جميل بن سراقة رضي الله عنه أن يقوم حذاءها، لا يَعرِض لها أحدٌ من الجيش، ولا لأولادها، فلما كانوا بين العرج والطُّلوب أُتوا بعين - جاسوس - من هوازن، فاستخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن هوازن أرسلته يستطلع خبر الرسول إن كان يغزوها، وأنها تجمع له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يحبسه لئلا يذهب فيشيع الخبر في الناس.
وخرج رسول الله صائماً، حتى بلغ الكَديدَ بين عُسفان وأَمَج، وبلغه أن الناس شق عليهم الصيام، وقيل له: إنما ينظرون فيما فعلت، فلما استوى على راحلته بعد العصر دعا بإناء من لبن، أو ماء، فوضعه على راحلته ليراه الناس، فشرب فأفطر، فناوله رجلا إلى جنبه فشرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة. فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن صيام، فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفِطرُ أقوى لكم. وكانت رخصةً، فمنّا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: إنكم مصبّحو عدوكم، والفِطر أقوى لكم، فأفطِروا. فكانت عزيمة، فأفطرنا.
فلما نزل مَرّ الظَّهْران، ومعه من بني سليم ألف رجل، ومن مُزَيْنة ألف رجل، ومن غِفار أربعمئة، ومن أسلم أربعمئة، وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم، ومن سائر القبائل أيضاً جموع.
وقد أخفى الله تعالى عن قريش الخبر لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم وجسون خائفون؛ وقد خرج أبو سفيان بن حرب، وبُديل بن ورقاء، وحكم بن حزام، يتجسسون الأخبار.
وكان العباس بن عبد المطلب هاجر في تلك الأيام، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحُليفة، فبعث ثِقْلَه إلى المدينة، وانصرف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا، فالعباس من المهاجرين من قبل الفتح، ورُويَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: هجرتك يا عم آخر هجرة، كما أن نبوتي آخر نبوة.
وذُكر أيضاً أن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهو ابن عم الرسول وأخاه من الرضاعة، ومعه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، أخو أم سلمة أم المؤمنين، لقياه بنِيق العُقاب مهاجرَين؛ فاستأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأذن لهما، وتألم مما كان عليه أبو سفيان من عداوة له، فكلمته أم سلمة فأذن لهما، فأسلما.
فلما نزلوا بمَر الظهران أسفِت نفس العباس على ذهاب قريش، إن فجئهم الجيش قبل أن يأخذوا لأنفسهم فيستأمنوا، فركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ونهض، فلما أتى الأراك وهو يطمع أن يرى حطّاباً أو صاحب غنم يأتي مكة فينذرهم؛ فبينما هو يمشي كذلك، إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتساءلان وقد رأيا نيران عسكر النبي صلى الله عليه وسلم، وبُديل يقول لأبي سفيان: هذه والله نيران خُزاعة. فيقول له أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون لها هذه النيران. فلما سمع العباس كلامه ناداه: يا أبا حنظلة. فميز أبو سفيان صوته، فقال: أبو الفضل؟ قال: نعم. فقال له أبو سفيان: ما الشأن فداك أبي وأمي؟ فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش! فقال له أبو سفيان: وما الحيلة؟ فقال له العباس: والله إن ظفر بك ليقتلنك، فارتدِفْ خلفي وانهض معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأردفه العباس، فأتى به العسكر، فلما مر على نار عمر، نظر عمر إلى أبي سفيان فميزه، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسابقه العباس، فسبقه العباس على البغلة، وكان عمر بطيئاً في الجري، فدخل العباس ودخل عمر على أثره، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بلا عقد، فأذن لي أضرب عنقه. فقال العباس: يا رسول الله، قد أجرتُه. فرادّه عمرُ الكلام، فقال العباس: مهلاً يا عمر، فلو كان من بني عَدي بن كعب ما قلتَ هذا، ولكنه من بني عبد مَناف. فقال عمر: مهلاً، فوالله لإسلامُك يوم أسلمتَ  كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفتُ أن إسلامَك كان أحبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.
وروي عن ابن عباس عن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: اذهب به، فقد أجرته لك، فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت. قال العباس: فلما أصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك، يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عني شيئا بعد. قال: يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك أما هذه؛ فوالله إن في النفس منها لشيئا بعد. قال العباس فقلت: ويحك، اشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا عبده ورسوله قبل - والله - أن تُقتل! فقال: فشهد شهادة الحق، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقال العباس: : يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار حَكيم بن حِزام فهو آمن - وهى بأسفل مكة - ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن - وهى بأعلى مكة - ومن أغلق بابه فهو آمن
فلما جاء الصبح قام المسلمون إلى طُهورهم، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل! ما للناس؟ أُمِروا فيَّ بشيء؟ قال: لا، ولكنهم قاموا إلى الصلاة، وأمر العباس أبا سفيان فتوضأ، وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة كبّر وكبّر الناس، ثم ركع، فركعوا، ثم رفع، فرفعوا، ثم سجد فسجدوا، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم طاعة! قومٌ جَمَعَهم من ههنا وههنا، ولا فارس الأكارم، ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم له، يا أبا الفضل أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك، فقال العباس: إنه ليس بملك، ولكنها النبوة، قال: أوَ ذاك.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بعد ما خرج: احبِسه بمضيق الوادي إلى خَطْم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها. وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، أشبه ما يكون بالعروض العسكرية اليوم، ومرت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها، فكان أول من قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في بني سليم، وهم ألف، قال  أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال العباس: خالد بن الوليد. قال: الغلام؟ قال نعم. فلما حاذى خالد العباس وإلى جنبه أبو سفيان، كبر ثلاثا، ثم مضوا، ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمسمئة، منهم مهاجرون وأفناء العرب، ومعه راية سوداء، فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثا وكبر أصحابه، فقال: من هذا؟ قال: الزبير بن العوام. قال ابن أختك؟ قال نعم. ومر بنو غفار في ثلاثمئة يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: يا أبا الفضل من هؤلاء؟ قال: بنو غِفار. قال: مالي ولبني غفار. ثم مضت أسلم في أربعمئة فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال أسلم. قال: يا أبا الفضل مالي ولأسلم ما كان بيننا وبينها مَرَة قط. قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو عمرو بن كعب في خمسمئة، قال: من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. قال: نعم، هؤلاء حلفاء محمد فلما حاذوه كبروا ثلاثا، ثم مرت مُزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية وفيها مئة فرس يحمل ألويتها النعمان بن مقرن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو، فلما حاذوه كبروا، فقال: من هؤلاء؟ قال مزينة. قال: يا أبا الفضل مالي ولمزينة قد جاءتني تُقَعْقِعُ من شواهقها. ثم مرت جهينة في ثمانمئة مع قادتها، فيها أربعة ألوية، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، ثم مرت كنانة، بنو ليث، وضمرة وسعد بن بكر في مئتين، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم؛ أهل شؤم والله! الذين غزانا محمد بسببهم، أما والله ما شُووِرتُ فيه ولا علمتُه، ولقد كنت له كارها حيث بلغني، ولكنه أمرٌ حُم قال: العباس قد خار الله لك في غزو محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلتم في الإسلام كافة. ثم مرت أشجع،  وهم آخر من مر وهم ثلثمئة معهم لواءان، فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد! فقال العباس: أدخل الله الإسلام في قلوبهم، فهذا من فضل الله عز وجل.
فسكت ثم قال: ما مضى بعد محمد؟ قال العباس: لم يمض بعد؛ لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد صلى الله عليه وسلم رأيت الحديد والخيل والرجال وما ليس لأحد به طاقة قال: أظن والله يا أبا الفضل ومن له بهؤلاء طاقة؟ فلما طلعت كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضراء طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون، كل ذلك يقول: ما مر محمد؟ فيقول العباس: لا. حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأُسيد بن حضير وهو يحدثهما، قال العباس: هذا رسول الله في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطن من الأنصار راية، ولواء في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ولعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها زجل، وعليه الحديد، بصوت عال وهو يزعجها، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل من هذا المتكلم؟ قال: عمر بن الخطاب. قال: لقد أمِرَ أمرُ بني عدي بعد - والله - قلة وذلة. فقال العباس: يا أبا سفيان، إن الله يرفع من يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام. ويقال كان في الكتيبة ألف دارع.
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة، فلما مر سعد براية النبي صلى الله عليه وسلم نادى: يا أبا سفيان؛ اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الُحرمة! اليوم أذل الله قريشا! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين مر بنا قال: يا أبا سفيان؛ اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الُحرمة! اليوم أذل الله قريشا! وإني أُنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس وأرحم الناس وأوصل الناس.
قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله ما نأمن سعدا أن يكون منه في قريش صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليوم يوم المرحمة، اليومَ أعز الله فيه قريشا. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فعزله وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج من سعد حين صار لابنه، فأبى سعد أن يسلِّم اللواء إلا بأمارة من النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامته، فعرفها سعد فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
قال العباس لأبي سفيان: فانْجُ ويحك فأدرك قومك قبل أن يُدخَل عليهم. فخرج أبو سفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل من كُداء، حتى انتهى إلى هند بنت عتبة، فأخذت برأسه فقالت: ما وراءك؟ قال هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد وقد جعل لي: من دخل داري فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن. قالت: قبحك الله رسولَ قوم! وجعل يصرخ بمكة: يا معشر قريش، ويحكم إنه قد جاء ما لا قبل لكم به؛ هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد فأسلِموا، قالوا: قبحك الله وافد قوم! وجعلت هند تقول: اقتلوا وافدكم هذا، قبحك الله وافد قوم. ويقول أبو سفيان: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، رأيتُ ما لم تروا رأيت الرجال والكراع والسلاح، فلا لأحد بهذا طاقة.
وقد كان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو قد دعوا إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضَوَى إليهم ناس من قريش وناس من بني بكر وهُذيل، وتلبسوا السلاح ويقسمون بالله لا يدخلها محمد عنوة أبدا، فكان رجل من بني الديل يقال له حماس بن قيس بن خالد الديلي، لما سمع برسول الله جلس يصلح سلاحه فقالت له: امرأته لمن تُعِد هذا؟ قال لمحمد وأصحابه، فإني أرجو أن أخدُمَك منهم خادما فإنك إليه محتاجة. قالت: ويحك، لا تفعل ولا تقاتل محمدا، والله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمدا وأصحابه. قال: سترين.
وانتهى المسلمون إلى ذي طُوى، فوقفوا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاحق الناس، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وهو على ناقته القصواء معتجرا بشقة بُرد حِبرة، وإن عُثنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه تواضعا لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال: العيشُ عيش الآخرة. قال: وجعلت الخيل تمعج بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت حيث توسطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الأنصار إلى جنبه فقال: كيف قال حسان بن ثابت؟ فقال:
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع من كتفي كَداء
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل من كُدى، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كَداء، والراية مع ابنه قيس، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل من أذاخر.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال، وأمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة؛ عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومِقْيَس بن صُبابة الليثي، والحويرث بن نقيذ، وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي، وهند بنت عتبة بن ربيعة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وقينتين لأبي خطل.
فلما دخل خالد بن الوليد وجد جمعا من قريش وأحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول وشهروا السلاح ورموا بالنبل وقالوا: لا تدخلها عنوة أبدا! فصاح خالد بن الوليد في أصحابه وقاتلهم فقتل منهم أربعة وعشرين رجلا من قريش، وأربعة من هذيل، وانهزموا أقبح الانهزام حتى قتلوا بالـحَزورة وهم مولّون في كل وجه، وانطلقت طائفة منهم فوق رءوس الجبال واتبعهم المسلمون، فجعل أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن. فجعل الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم، ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذها المسلمون.
ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية أذاخر نظر إلى البارقة فقال ما هذه البارقة. ألم أنه عن القتال؟ قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد قوتل ولو لم يقاتل ما قاتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى الله خيرا
وأقبل حماس بن خالد منهزما حتى أتى بيته فدقه ففتحت له امرأته فدخل وقد ذهبت روحه، فقالت: أين الخادم الذي وعدتني؟ ما زلت منتظرتك منذ اليوم! تسخر به قال: دعي عنك، أغلقي بابي، فإنه من أغلق بابه فهو آمن. قالت: ويحك ألم أنهك عن قتال محمد؟ وقلتُ لك: ما رأيته يقاتلكم من مرة إلا ظهر عليكم، وما بابنا؟ قال: إنه لا يفتح على أحد بابه.
قال جابر بن عبد الله: كنت ممن لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر، فلما أشرف على أذاخر نظر إلى بيوت مكة، ووقف عليها فحمد الله وأثنى عليه ونظر إلى موضع قبته فقال: هذا منزلنا يا جابر حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها. قال جابر: فذكرت حديثا كنت أسمعه منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالمدينة: منزلنا غدا إن شاء الله إذا فتح الله علينا مكة في الخيف، حين تقاسموا علي الكفر، وكنا بالأبطح وجاه شعب أبي طالب حيث حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم ثلاث سنين.
ويتباين المؤرخون في يوم فتح مكة فمنهم من يقول كان في الثالث عشر من رمضان ومنهم من يقول في العشرين من رمضان.
وضرب أبو رافع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة بالحجون من أدَم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى القبة ومعه أم سلمة ميمونة، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال فهل ترك لنا عقيل بمكة رباعاً؟ وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أدخل البيوت. فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا، وكان يأتي لكل صلاة إلى المسجد من الحجون.
وكانت أم هانئ بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي، فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها؛ عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، والحارث بن هشام، فاستجارا بها وقالا: نحن في جوارك؟ فقالت: نعم أنتما في جواري. قالت أم هانئ: فهما عندي إذ دخل عليٌّ فارسا، مدججا في الحديد، ولا أعرفه فقلت له: أنا بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت: فكف عني وأسفر عن وجهه فإذا علي عليه السلام، فقلت: أخي. فاعتنقته وسلمت عليه، ونظر إليهما فشهر السيف عليهما، فقلت: أخي من بين الناس يصنع بي هذا! وألقيت عليهما ثوبا، وقال: تجيرين المشركين؟ وحِلتُ دونهما فقلتُ: والله لتبدأن بي قبلهما. قالت: فخرج ولم يَكَدْ فأغلقت عليهما بيتا، وقلت: لا تخافا.
فذهبت إلى خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فلم أجده ووجدت فيه فاطمة فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ أجرت حموين لي من المشركين فتفلَّت عليهما ليقتلهما!؟ فكانت أشد علي من زوجها وقالت: تجيرين المشركين؟ قالت: إلى أن طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رهجة الغبار فقال: مرحبا بفاختة أم هانئ. وعليه ثوب واحد فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ ما كدت أنفلت منه؛ أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان ذاك قد أمَّنا من أمََنت، وأجرنا من أجرت. ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا فاغتسل ثم صلى ثمان ركعات في ثوب واحد ملتحفا به، وذلك ضحى في فتح مكة.
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله ساعة من النهار، واطمأن واغتسل، ثم دعا براحلته القصواء فأدنيت إلى باب قبته ودعا للبس السلاح والمغفر على رأسه وقد صُف له الناس، فركب براحلته، ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فرآها ومعه المسلمون، تقدم على راحلته، فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون لتكبيره، فرجّعوا التكبير حتى ارتجت مكة تكبيرا، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليهم اسكتوا، والمشركون فوق الجبال ينظرون، ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت على راحلته آخذ بزمامها محمد بن مسلمة وحول الكعبة ثلاثمئة صنم وستون صنما مرصصة بالرصاص وكان هُبل أعظمها، وهو وِجاهُ الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما مر بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. فيقع الصنم لوجهه.
قالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ناحية من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بمفتاح الكعبة، وكان عثمان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص مسلما قبل الفتح،  فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة. قال عثمان: نعم. فخرج عثمان إلى أمه وهي بنت شيبة، ورجع بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال نعم، ثم جلس بلال مع الناس، فقال عثمان لأمه والمفتاح يومئذ عندها: يا أمه أعطني المفتاح فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلي وأمرني أن آتي به إليه. فقالت أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه. قال: فوالله لتدفعنه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حجزتها وقالت أي رجل يدخل يده هاهنا؟ فبينا هم على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر  وعمر في الدار وعمر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان يا عثمان اخرج إلي، فقالت أمه: يا بني خذ المفتاح فأن تأخذه أنت أحب  إلي من أن يأخذه تيم وعدي. فأخذه عثمان فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناوله إياه.
قال أسامة بن زيد: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فرأى فيها صورا، فأمرني أن آتيه في الدلو بماء فيبل الثوب ويضرب به الصور، ويقول قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون. وأمر رسول صلى الله عليه وسلم بالكعبة فغلقت عليه ومعه أسامة بن زيد. وبلال بن رباح، وعثمان بن طلحة، فمكث فيها ما شاء الله،  ثم صلى ركعتين، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد يذب الناس عن الباب، حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشرف على الناس وقد ليط بهم حول الكعبة فهم جلوس.
وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم خطبة أعلن فيها العفو العام ليحل محل الأمان السابق، ثم عدَّد فيها كثيراً من قواعد التي ينبغي أن يسير عليها المجتمع في العلاقات المالية والاجتماعية وشؤون البيئة، قال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ماذا تقولون، وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدَرَت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقول كما قال أخي يوسف ﴿لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مال أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شِبه العَمد الدية مغلظة مئة ناقة منها أربعون في بطونها أولادها، إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم من آدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم، ألا إن الله حرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد كائن بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار - يقصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا - لا يُنفَّر صيدُها ولا يُعضد عِضاهُها، ولا تحل لُقَطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها. فقال العباس وكان شيخا مجربا: إلا الإذخِرَ يا رسول الله، فإنه لا بد منه إنه للقبر وطهور البيوت. قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال.
وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا وصية لوارث، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة تعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومُشدِّهم على مُضعِفهم، وميسرتُهم على قاعدهم، ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جَلَب، ولا جَنَب، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى ويوم الفطر، وعن لِبستين؛ لا يحتب أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه المفتاح، فتنحى ناحية المسجد فجلس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض السقاية من العباس، وقبض المفتاح من عثمان، فلما جلس قال: ادعوا إلي عثمان. فدعي له عثمان بن أبي طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوما، وهو يدعوه إلى الإسلام ومع عثمان المفتاح، فقال: لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت. فقال عثمان: لقد هلكتْ إذا قريشُ وذلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عَمُرت وعزَّت يومئذ. قال عثمان: فلما دعاني بعد أخذه المفتاح ذكرت قولة ما كان قال، فأقبلت فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف. قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ فذكرت قوله لي بمكة فقلت: بلى، أشهد أنك رسول الله.
ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم السقاية إلى العباس فكان العباس يليها دون بني عبد المطلب في الجاهلية وولده بعدهم، فكانت بيد عبد الله بن عباس بعد أبيه لا ينازعهم فيها منازع ولا يتكلم فيها متكلم، وكان للعباس مال بالطائف، كرم كان يحمل زبيبه إليها فينبذ في الجاهلية والإسلام ثم كان عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك ثم كان علي بن عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك إلى اليوم.

الجمعة، 19 يونيو 2015

حدث في الثاني من رمضان

في الثاني من رمضان من سنة 702 تواجهت جيوش المغول بقيادة مع جيوش الدولة المملوكية في مصر والشام بقيادة الملك الناصر والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير والجاشنكير هو الذي يتصدى لذوق المأكول والمشروب قبل السلطان خوفاً من أن يدس عليه فيه سُّم ونحوه، ووقعت المعركة في مرج الصُفر شرقي شقحب، وهي قرية في أول منطقة حوران على بعد 40 كيلومتراً جنوبي دمشق، وقبل أن نتحدث عن المعركة ينبغي توضيح بعض الحقائق التاريخية.
أولاً: تتحدث كتب التاريخ الإسلامي عن التتار، ويسمونهم كذلك التتر أو الططر، عند الحديث عن الاجتياح المغولي للمشرق الإسلامي ثم للشرق العربي، وهو في الواقع غزو مغولي، والمغول قبائل رُحَّل تقطن منغوليا وكانت في العادة تدين بالولاء لإمبراطور الصين، ثم أتى جنكيزخان فوحدها، وسيطر على أغلب المناطق الصينية، ثم قام حفيده هولاكو في فترة حكمه التي دامت 11 عاماً، بالاستيلاء على الشرق الإسلامي، واجتاح بغداد ودمرها ودخل دمشق حتى وصل إلى حدود مصر. أما التتار فهم أحد شعوب أو قبائل وسط آسيا، ومنطقتهم الأصلية شمالي شرق منغوليا، وهم يتكلمون لغة تركية، ولم يكونوا ضمن قبائل المغول، وإن انضموا لهم أو خضعوا لسطانهم في بعض الحقب. وقد أطلق المؤرخون المسلمون وبعض مؤرخي الغرب اسم التتار على المغول لمعرفتهم أكثر بالتتار، فقد كان منهم مماليك في المنطقة، وجرى استعماله ودرج، وإن كان بعض المؤرخين قد استعمل الاسم الصحيح: المغول أو المُغل.
ثانياً: كانت المعركة بين جيشين مسلمين، على الأقل من الناحية الإسمية، ونبين ذلك فيما يلي:       
مات هولاكو في سنة 663 وخلّف ثلاثة أولاد هم أَبَغا وتراقاي وتكودر، وكانت  والدة هولاكو نسطورية وزوجته طُقُز خاتون مسيحية، تولى الحكم بعد هولاكو ابنه أَبَغا ودام حكمه 17 عاماً، ومات في سنة 681، ووتولى الملك بعده أخوه تكودر  الذي اعتنق الإسلام وتسمى بأحمد، وتوجه للتصالح مع الدولة المملوكية، وبقي تكودر خاناً بعد أبغا لمدة تقارب السنتين قبل أن يثور ضده أرغون ابن أخيه أبغا ويقتله ويتولى الحكم وينقض كل إصلاحاته الإسلامية.
وكان أرغون بوذياً شديد التمسك ببوذيته، وعين يهودياً معادياً للمسلمين في منصب الوزير هو سعد الدولة، ومات أرغون سنة 690، ومرت سنوات أربع مضطربة تولى الحكم فيها ابنه كيخاتو ثم ابن أخيه بيدو، ثم ابنه غازان -  وتسميه بعض المصادر قازان -  وكانوا جميعاً على الديانة البوذية.
وكان نائب غازان واسمه نوروز مسلماً خيِّراً صحيح الإسلام، يحفظ كثيرا من القرآن والرقائق والأذكار، فأقنع غازان أن يتحول إلى الإسلام، فأعلن إسلامه بعد قليل من توليه السلطة في سنة 694، وتسمى بمحمود وتلقب بمعز الدين، وكانت سنه 24 عاماً، وكان يوم إسلامه يوما عظيما، اغتسل وجمع مجلسا وشهد شهادة الحق في الملأ العام، ولقنه نوروز شيئا من القرآن وعلمه الصلاة وصام رمضان تلك السنة، وصار في بلاطه عدد كبير من العلماء والفقهاء والأدباء والمؤرخين المسلمين.
ولكن إسلام غازان وإسلام أغلب المغول المنضوين تحت رايته لم يحدث تغييراً فورياً وجذرياً في سلوكيات كثير من المغول ولا في سياساتهم الخارجية أو استراتيجيتهم العسكرية، وتسبب ذلك في أن بقي كثير من المسلمين يعتبرونهم كفاراً أو ضلالاً، فقد بقي شرب الخمر وغيرها من الموبقات شائعاً دون إنكار بين المغول، واستمروا في محاولاتهم للسيطرة على المشرق العربي وسعوا للتحالف مع الفرنج وراسلوا البابا في هذا الصدد، وتحالفوا مع الأرمن في آسيا الصغرى، ولما استولوا على دمشق أوكلوا أمرها لحليفهم الأرمني الذي أساء التعامل والمعاملة مع سكانها من المسلمين، وبقيت استراتيجية المغول العسكرية قائمة على ترويع الخصم وقصم ظهره دون شفقة أو رحمة، وإن بدا عنصر الاعتدال تجاه المسلمين يظهر فيها، وما جرى من جيوش المغول في دمشق يعد أمراً خفيفاً إذا قورن بما فعلوه في بغداد من قبل.
وقد أتاح انتماؤهم للإسلام الفرصة لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء أن يحاججوهم في كثير من تصرفاتهم، وكذلك استنكر المغول واستهجنوا بعض التصرفات من الدولة المملوكية وولاتها التي تتناقض مع الإسلام، وحاججوهم بالرجوع إلى الشريعة!
و أورد فيما يلي صورة عن المعركة مجموعة من الروايات التاريخية، مع إبقاء كلمة التتار:
تواترت الأخبار بنزول جيش التتار على الفرات بقصد دمشق في عساكر عظيمة تبلغ ثمانين ألفاً، وكتب قطلوشاه نائب غازان إلى الأمير عز الدين أيبك نائب الملك الناصر بدمشق يرَّغبه في طاعته، وأقبل الناس من حلب وحماة إلى دمشق جافلين من التتار، فاستعد أهل دمشق للفرار ولم يبق إلا خروجهم، فنودي بدمشق: من خرج منها حلَّ مالُه ودمه.
وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية دور كبير في رفع الروح المعنوية لدى أمراء وسكان دمشق، حيث حثهم على الصمود والبقاء في البلد في وجه الغزاة، وأرسل من قبل إلى الأمير أرجواش نائب قلعة دمشق يقول له: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت. ولما اقتربت المعركة أكد حتمية النصر وحلف الأَيمان بذلك فقالوا له: قل إن شاء الله! فقال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
واجتمعت بعض الجيوش الإسلامية عند حماة، ولحق بهم عساكر طرابلس وحمص، وبلغ التتار ذلك فبعثوا طائفة كثيرة إلى القريتين - قرية كبيرة في بادية حمص - فأوقعوا بهم، فتوجه إليهم بعض قادة المسلمين في ألف وخمسمئة فارس، فطرقوهم بمنزلة عَرَض في حادي عشر شعبان على غفلة، وافترقوا عليهم أربع فرق، وقاتلوهم قتالاً شديداً من نصف النهار إلى العصر حتى كسروهم وأفنوهم - وكان التتار، فيما يقال، أربعة آلاف - واستنقذوا الأسرى من أيدي التتار، وهم نحو ستة آلاف أسير، ولم يُفقد من العسكر الإسلامي إلا ثمانية وخمسون قتيلاً، وكُتب إلى السلطان بذلك ودٌقَّت البشائر بدمشق.
ودخل الأمير بيبرس الجاشنكير بمن معه من جيوش مصر إلى دمشق في نصف شعبان، ولبث يستحث السلطان في القاهرة على الخروج، واجتمع أمراء مصر والشام بدمشق واختلف رأيهم في الخروج إلى لقاء العدو أو انتظار قدوم السلطان؛ ثم خشوا من مفاجأة العدو فنادوا بالرحيل؛ وركبوا في أول شهر رمضان من دمشق، فاضطربت دمشق بأهلها، وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمئة درهم والجمل بألف درهم، وترك كثير منهم حريمه وأولاده ونجا بنفسه إلى القلعة؛ فلم يأت الليل إلا وبوادر التتار في سائر نواحي المدينة، وسار العسكر مُـخِفَّاً، وبات الناس بدمشق في الجامع يضجون بالدعاء إلى الله تعالى؛ فلما أصبحوا رحل التتار عن دمشق بعد أن نزلوا بالغوطة.
وكان السلطان المملوكي الملك الناصر محمد قد خرج بعساكره وأمرائه من الديار المصرية إلى جهة البلاد الشامية في ثالث شعبان، وخرج بعده المستكفي بالله الخليفة العباسي في مصر، وبلغ الأمراء قدوم السلطان فتوجهوا إليه من مرج راهط فلقوه على عقبة الشحورا في ثاني رمضان، واتفق أن ساعة وصول التتار  إلى الجيش في خمسين ألفاً مع قطلوشاه نائب غازان، وصل السلطان بباقي العساكر الإسلامية، فلبس العسكر بأجمعه السلاح، واتفقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب؛ وكان قطلوشاه قد وقف على أعلى النهر، فصفت العساكر الإسلامية، فوقف السلطان في القلب وبجانبه الخليفة، ومشى السلطان على التتار والخليفة بجانبه ومعهما القُرَّاء يتلون القرآن ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة، وصار الخليفة يقول: يا مجاهدون؛ لا تنظروا لسلطانكم. قاتلوا عن دين نبيكم صلى الله عليه وسلم وعن حريمكم! والناس في بكاء شديد، ومنهم من سقط عن فرسه إلى الأرض، وتواصى الأميران بيبرس وسلار على الثبات في الجهاد، وكل ذلك والسلطان والخليفة يكران في العساكر يميناً وشمالاً، ثم عاد السلطان والخليفة إلى مواقفهما، ووقف خلفهما الغلمان والأحمال والعساكر صفاً واحداً، وقال لهم: من خرج من الأجناد عن المصاف فاقتلوه ولكم سلبه.
فلما تم الترتيب زحفت كراديس التتار كقطع الليل، وكان ذلك وقت الظهر من يوم السبت ثاني رمضان، وحمل قائد التتار قطلوشاه على ميمنة المسلمين فثبتت لهم الميمنة وقاتلوهم أشد قتال حتى قُتِلَ من أعيان الميمنة من أمراء المماليك الأمير حسام الدين لاجين، وأوليا بن قرمان، والأمير سنقر الكافوري، والأمير أيدمر الشمسي القشاش، والأمير آقوش الشمسي الحاجب، وحسام الدين علي بن باخل، ونحو الألف فارس، كل ذلك وهم في مقابلة العدو والقتال عمّال بينهم، فلما وقع ذلك أدركتهم الأمراء من القلب ومن الميسرة، وصاح سلار: هلك والله أهل الإسلام! وصرخ في بيبرس وفي المماليك البرجية فأتوه دفعة واحدة، فأخذهم وصدم بهم العدو، وقصد مقدم التتار قطلوشاه، وتقدم عن الميمنة حتى أخذت الميمنة راحة، وأبلى سلار في ذلك اليوم هو وبيبرس الجاشنكير بلاء حسناً، وسلموا نفوسهم إلى الموت. فلما رأى باقي الأمراء منهم ذلك ألقوا نفوسهم إلى الموت، واقتحموا القتال؛ وكانت لسلار وبيبرس في ذلك اليوم اليد البيضاء على المسلمين - رحمهما الله تعالى - واستمروا في القتال إلى أن كشفوا التتار عن المسلمين.
وكانت الميمنة لما قُتِلَ الأمراءُ منها انهزم من كان معهم، ومرت التتار خلفهم، فجفل الناس وظنوا أنها كسرة؛ وأقبل السواد الأعظم على الخزائن السلطانية فكسروها ونهبوا ما فيها من الأموال؛ وجفل النساء والأطفال، وكانوا قد خرجوا من دمشق عند خروج الأمراء منها، وكشف النساء عن وجوههن وأسبلن الشعور، وضج ذلك الجمع العظيم بالدعاء، وقد كادت العقول أن تطيش وتذهب عند مشاهدة الهزيمة، واستمر القتال بين التتار والمسلمين إلى أن وقف كل من الطائفتين عن القتال إذ حال الليل بين الفريقين.
ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب منه، وصعد عليه وفي نفسه أنه انتصر، فلما صعد الجبل رأى السهل والوعر كله عساكر، والميسرة السلطانية ثابتة وأعلامها تخفق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحير واستمر بموضعه حتى كمل معه جمعه، وأتاه من كان خلف المنهزمين من الميمنة السلطانية ومعهم عدة من المسلمين قد أسروهم، منهم: الأمير عز الدين أيدمر نقيب المماليك السلطانية، فأحضره قطلوشاه وسأله: من أين أنت؟ فقال: من أمراء مصر، وأخبره بقدوم السلطان؛ وكان قطلوشاه ليس له علم بقدوم السلطان بعساكر مصر إلا ذلك الوقت؛ فعند ذلك جمع قطلوشاه أصحابه وشاورهم فيما يفعل، وإذا بكوسات - صنوج من نحاس شبه الترس الصغير، يدق بأحدها على الآخر - السلطان والبوقات قد زحفت وأزعجت الأرض وأرجفت القلوب بحسها، فلم يثبت بولاي أحد قواد قطلوشاه وخرج من تجاه قطلوشاه في نحو العشرين ألفاً من التتار، ونزل من الجبل بعد المغرب ومر هارباً.
وبات السلطان وسائر عساكره على ظهور الخيل والطبول تضرب، وتَلاحَق بهم من كان انهزم شيئاً بعد شيء، وهم يقصدون ضرب الطبول السلطانية والكوسات؛ وأحاط عسكر السلطان بالجبل الذي بات عليه التتار، وصار بيبرس وسلار وقبجق والأمراء والأكابر في طول الليل دائرين على الأمراء والأجناد يوصونهم ويرتبونهم ويؤكدون عليهم في التيقظ، ووقف كل أمير في مصافه مع أصحابه، والحمل والأثقال قد وقف على بعد، وثبتوا على ذلك حتى ارتفعت الشمس.
وشرع قطلوشاه في ترتيب من معه، ونزلوا مشاة وفرساناً وقاتلوا العساكر، فبرزت المماليك السلطانية بمقدميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعملوا في قتالهم عملاً عظيماً، فصاروا تارة يرمونهم بالسهام وتارة يواجهونهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضاً بقتال من في جهتهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميراً بعد أمير، وألحت المماليك السلطانية في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعة والفروسية ما لا يوصف حتى إن بعضهم قتل تحته الثلاثة من الخيل.
واتفق أن بعض من كان أسره التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعرَّفه أن التتار قد أجمعوا على النزول في السَحَر لمصادمة العساكر السلطانية، وأنهم في شدة من العطش، فاقتضى الرأي أن يفرج لهم عند نزولهم ويركب الجيش أقفيتهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا، ركب التتار ونزلوا من الجبل فلم يتعرض لهم أحد وساروا إلى النهر فاقتحموه؛ فعند ذلك ركبهم بلاء الله من المسلمين وأيدهم الله تعالى بنصره حتى حصدوا رؤوس التتار عن أبدانهم ووضعوا فيهم السيف ومروا في أثرهم قتلاً وأسراً إلى وقت العصر.
واستمر التتار في الانسحاب شرقاً حتى وصلوا  إلى نهر الفرات وهو في قوة زيادته، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلى جهة بغداد، فانقطع أثرهم على شاطئ الفرات وهلكوا من الجوع، وأخذت منهم العربان جماعة كثيرة، وأخلف الله تعالى بهذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف الذي كان ببلد حمص قرب مجمع المروج في سنة 699.
وعادت الجيوش إلى السلطان وعرفوه بهذا النصر العظيم، فكتبت البشائر في البطائق، وسُرِّحتْ الطيور بهذا النصر العظيم إلى غزة.
وأصبح أهل دمشق يوم الأحد يتحدثون بكسر التتار، وخرج ناس إلى ناحية الكسوة، فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب ورؤوس التتار، وصارت أدلة الكسر تقوى قليلاً قليلاً، ولكن الناس مما عندهم من شدة الخوف لا يصدقون.
ثم ركب السلطان في يوم الاثنين من مكان الواقعة، وبات ليلته بالكسوة وأصبح يوم الثلاثاء وقد خرج إليه أهل دمشق، فسار إليها ومعه الخليفة في عالم عظيم من الفرسان والأعيان والعامة والنساء والصبيان لا يحصيهم إلا الله تعالى، وهم يضجون بالدعاء والهناء والشكر لله سبحانه وتعالى على هذه المنة! وتساقطت عبرات الناس فرحاً، ودقت البشائر بسائر الممالك؛ وكان هذا اليوم يوماً لم يشاهد مثله. وسار السلطان حتى نزل بالقصر الأبلق، وقد زُينت المدينة.

الجمعة، 12 يونيو 2015

حدث في الخامس والعشرين من شعبان

 
في الخامس والعشرين من شعبان من سنة  137 أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بقتل أبي مسلم الخراساني، عبد الرحمن بن مسلم، أحد القائمين بالدعوة للخلافة العباسية وأهم من قاموا بنصرتها وتأييدها، وجاء قتل أبي مسلم بعد 8 أشهر من تولي المنصور الخلافة.
وتكاد حياة أبي مسلم الخراساني تكون مواكبة لمسيرة الدعوة العباسية في نجاحها بانتزاع الخلافة من الأمويين، وكما هي الحال في أخبار كثير من  كبريات الشخصيات التاريخية، فإن الروايات تتعدد وتتباين حول أسرته ونشأته، ولعل أقربها للصحة أن والده كان يملك عدة أراض قريباً من مرو، في جنوبي تركمنستان اليوم، وكان في بعض الأحيان يجلب إلى الكوفة مواشي، فاشترى منها مرة جارية، وطُلب في مستحق له على الخراج، فهرب إلى أذربيجان، فاجتاز بأراض يسكنها أمير عربي هو عيسى بن معقل العجلي، فترك الجارية عنده، فأدركته المنية هناك، وكانت الجارية قد حملت منه، وفي حدود سنة 100 وضعت الجارية وليدها أبا مسلم في رستاق عيسى العجلي، وهو جد الأمير أبي دلف العجلي المشهور بالمروءة والكرم والشجاعة.
ونشأ أبو مسلم في رعاية عيسى بن معقل، فلما ترعرع أرسله مع ولده إلى المكتب، فخرج أديباً لبيباً يشار إليه في صغره، ثم إن أمير العراقين خالد بن عبد الله القسري أمر بحمل عيسى بن معقل وأخيه إدريس إليه في الكوفة بسبب مستحقات عليهما لديوان الخراج، ثم أمر بسجنهما، فقام أبو مسلم برعاية أملاكهما، ولحق بهما في الكوفة، حيث نزل في بني عجل، وكان يتردد إلى السجن ويتعهد عيسى وإدريس فيه.
وكان دعاة العباسيين ونقباؤهم يطوفون الأمصار يلتمسون من يؤيدهم وينصرهم، ولقيت دعوتهم قبولاً وانتشاراً في خراسان ثم العراق، وهي قائمة على أن خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يكون من أهل بيته، وأنه بعد مقتل الحسين انتقلت الإمامة لأخيه محمد بن علي بن أبي طالب، المعروف بابن الحنفية، ويخالفهم في هذا الشيعة الإمامية فيقولون: انتقلت إلى علي بن الحسين زين العابدين، ثم بنيه واحداً بعد واحد إلى المهدي المنتظر؛ القائم بأمر الله محمد بن الحسن.
أما العباسيون فيقولون إن محمد بن الحنفية أوصى بها إلى ابنه عبد الله، وأن عبد الله قصد دمشق وافداً على هشام بن عبد الملك في سنة 98، فرأى من فصاحته ورياسته وعلمه ما دفعه إلى أن يقتله بالسم، فأدركه الموت وهو راجع إلى المدينة، فعدل إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس في الحُميمة، قرب الشوبك اليوم في الأردن، فأوصى إليه إذ لم يكن له عقِب، وكان في صحبته جماعة من الشيعة فسلمهم إليه وأوصاه فيهم، ويؤيد العباسيون أحقيتهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ لعبد الله بن العباس أن يكون والد ملوك المسلمين، ويزعمون أن العباس أتاه بابنه عبد الله بعد ولادته فدعا له وقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. ثم دفعه إلى أبيه وقال له: خذ إليك أبا الأملاك.
وجرى تعديل على هذه العقيدة في زمن الخليفة المهدي الذي استند على قاعدة أن أولى الذكور بالرسول من من بني هاشم هو عمه العباس بن عبد المطلب، وقال: إن الإمامة كانت للعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أولى الناس به وأقربهم إليه، ثم من بعده عبد الله بن العباس، ثم بعده علي بن عبد الله، ثم من بعده محمد بن علي، ثم من بعده إبراهيم بن محمد، ثم أبي العباس السفاح، ثم أبي جعفر المنصور، ثم المهدي، ثم مدَّها في ولد المهدي.
ولما صارت الخلافة عتد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، شرع في بث الدعاة سراً، وبعد وفاته سنة 126 قام بها ابنه إبراهيم الإمام، وأكثر من إرسال الدعاة إلى الأطراف، خصوصاً إلى خراسان، حيث لقيت دعوتهم إقبالاً واسع النطاق، وصارت معقد آمالهم في قيام دولتهم المرتقبة.
ذلك إن الدعوة العباسية أدركت أن الحجاز وأهله قليلون لا تقوم عليهم دولة، وأما شيعتهم الكثر من أهل الكوفة والبصرة فكانوا لا يثقون بهم بعد ما جرى منهم من الخذلان على أمير المؤمنين علي وابنيه الحسن والحسين، رضوان الله عليهم أجمعين،  وأما أهل الشام ومصر فكانوا مع بني أمية ظاهراً وباطناً، فلم يبق للعباسيين من يتوسمون فيه النصرة من أهل الأمصار إلا أهل خراسان، وسنورد بعد قليل نظرة العباسيين إلى جميع هؤلاء.
وفي نحو سنة 118 جاء الكوفة جماعة من نقباء الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب مع بعض من شيعة خراسان، فدخلوا على العجليين السجن مسلمين، فصادفوا أبا مسلم عندهم، فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه وأدبه، ومال هو إليهم، فكشفوا له حقيقة أمرهم وأنهم دعاة إلى إعادة الخلافة لورثتها الشرعيين؛ أبناء عم الرسول العباس بن عبد المطلب.
وهرب عيسى وإدريس من السجن، ولم يعد لهم بأبي مسلم حاجة إذ كان وجوده في مكان يدل عليهم، فتحول أبو مسلم من دور بني عجل وسكن مع النقباء، ثم خرج معهم إلى مكة المكرمة، حيث التقى هناك بالإمام الجديد إبراهيم بن محمد الذي تولى الإمامة بعد وفاة أبيه، وقدم النقباء للإمام الجديد ما جمعوه من التبرعات: 20.000 دينار و200.000 درهم، وقدموا إليه العضو الجديد أبا مسلم، فأعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه، وقال لهم: هذا عُضْلة من العُضَل. أي داهية من الدواهي، وأقام أبو مسلم عند الإمام إبراهيم يخدمه حضراً وسفراً.
وكانت خراسان من أولى الولايات التي ظهرت فيها بوادر التمرد العباسي، فقد خرج فيها سنة 117 مالك بن الهيثم الخزاعي وسليمان بن كثير الخزاعي ومعهم عدة من زعماء القبائل العربية المستوطنة هناك، فأفشل التمرد أسد بن عبد الله القسري، وقبض عليهم، ولكنه أطلقهم لضعف الدولة وتفلت أمورها، فتابعوا نشاطهم، وكان للإمام العباسي 12 نقيبا في خراسان، 7 من العرب و5 من الموالي، وكان أكبر دعاة بني العباس في خراسان: أبو سلمة الخلال، حفص بن سليمان الهمداني، مولي السَّبيع، وكان أقدم في الدعوة من أبي مسلم، وأول من أشخصه إبراهيم الإمام بالكتب إلى نقباء خراسان، كان يُعرف بوزير آل محمد، وهو أول من سُمي باسم الوزير في الإسلام.
واحتاج إبراهيم إلى رجل يثق بكتمانه ورجاحة عقله ليكون صلة الوصل بينه وبين خراسان، فوقع اختياره على أبي مسلم الخراساني، وقال: إني قد جربت هذا الأصبهاني، وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حجر الأرض! فأرسله إلى خراسان وجعله بمثابة الممثل الشخصي له، وأمر من هناك بالسمع والطاعة له، فكان أبو مسلم يختلف ما بين الحميمة وخراسان، ونظراً لشخصيته وكون عائلته من تلك الأصقاع، سرعان ما أصبح أبو مسلم الرجل القوي والمدير الفعلي للدعوة العباسية في خراسان، وما لبث أبو مسلم أن أعلن تمرده علانية في آواخر سنة 129 في مدينة مرو التي منها أصله.
ففي الخامس والعشرين من رمضان من هذه السنة، عقد أبو مسلم اللواء الذي بعثه إليه الإمام، ويدعى الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام أيضا، وتدعى السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، وهما سوداوان، وهو يتلو قوله تعالى في سورة الحج﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾، ولبس أبو مسلم وسليمان بن كثير وأتباعهم السواد، وصار شعارهم، وأوقدوا في هذه الليلة نارا عظيمة يدعون بها أهل تلك النواحي، وكانت علامة بينهم فتجمعوا.
ومعنى تسمية إحدى الرايتين بالسحاب أن السحاب كما يطبق جميع الأرض كذلك بنو العباس تطبق دعوتهم أهل الأرض، ومعنى تسمية الاخرى بالظل أن الأرض كما أنها لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الأرض من قائم منهم.
وكان والي خراسان الأموي يومئذ نصر بن سيار الليثي يخوض حرباً دامت قرابة سنة مع الخوارج الحرورية الذين قادهم شيبان بن مسلمة السدوسي، وتغلبوا على سَرْخَس وطوس، في شمالي شرقي إيران اليوم، ولم تكن تلك سوى إحدى متاعبه، فقد كان نصر على فضله رجلاً فيه عصبية لقومه، فقدمهم على الناس، فثارت العصبية في عرب تلك الديار وتحزبوا؛ أهل اليمن من ربيعة مع أبي مسلم، وأهل نجد والحجاز من مضر مع الأمويين، فزاد أمر نصر بن سيار  ضِغثاً على إبالة، فكتب إلى الخليفة الأموي مروان بن محمد في دمشق يطلب منه العون، ولكن مروان لم يمده بما يريد فقد كان مشغولاً عنه بالخوارج الذين انتهزوا كذلك وهن الدولة الأموية، فخرجوا عليها في الجزيرة الفراتية، فكتب له الأبيات المشهورة:
أرى خَلَل الرماد وَميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضِرام
فإن النار بالزندين تُورى ... وإن الحرب أولها كلام
لئن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثثٌ وهام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظٌ أمية أم نيام
فإن كانوا لحينهم نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام
ونقف هنا لنتحدث عن الدعوة العباسية فنقول إن من ثمرات هذه الحركة تقدم العنصر غير العربي، وبخاصة الفرس، واحتلاله المناصب المفصلية فيها ثم في الدولة العباسية، ولذلك أسباب أهمها أن أهل البيت من علويين وعباسيين كانوا ساخطين على العرب لأنهم شهدوا ما يفعله بهم الأمويين من تنكيل وظلم وتشريد ولم ينصروهم على هؤلاء المغتصبين، بل كانوا لهم أعواناً بما كان الأمويون يبذلون لهم من العطايا السخية.
ومن ناحية أخرى فتح المسلمون فارس وهي أرض حضارة عريقة فخورة، وكان العرب كذلك، فيهم الاعتداد بأنفسهم والفخر بأنسابهم عريقاً منذ أيام الجاهلية، وبعد الإسلام كانوا يرون أنفسهم أجدر بالرياسة وأولى بالشرف، لأنهم الذين أقاموا الملك ونشروا الدين، وكانت دولة الأمويين عربية، وقليل من غير العرب من استطاع أن يصل فيها إلى المناصب العليا، فسخط الفرس من أجل ذلك على العرب وعلى الدولة الأموية، واستعان بهم الثائرون على الأمويين مرة تلو الأخرى، وعلى سبيل المثال كان الموالي أغلب جيش المختار بن أبي عبيد الذي كان أول من طلب ثأر الحسين بن علي.
وهكذا كان العلويون والعباسيون يلتقون مع الفرس في كراهة الأمويين، وهو أحد الأسباب التي جمعت بين التشيع والفرس منذ أمد بعيد، فلما جاءت الدعوة العباسية رآها الفرس فرصتهم لينتصفوا من الأمويين ويأخذوا مكانهم المناسب في قيادة الأمة الإسلامية، فأخلصوا لها وتفانوا في إقامتها، وكانت مشاعرهم حيالها خليطاً من الدين والعصبية الفارسية، ولذا قال البيروني عن الدولة العباسية: دولة خراسانية شرقية.
ويميل بعض المحللين إلى جعل حركة أبي مسلم الخراساني حركة إحياء مجوسية، وهذا غير صحيح فأبو مسلم كان فارسيا مسلماًً وأسلم بمساعيه كثير من دهاقين الفرس، ومنهم المتنبيء الفارسي به آفريد، والذي أراد بعد إسلامه إحياء الزردشتية ودعا إليها، فقتله أبو مسلم، وكان أهل خراسان يسمون الرماح التي خرجوا بها لنصرة العباسيين: كافركوب، أي مضارب الكفار، فكانوا يرون خروجهم انتصاراً للإيمان على الكفر، وقد كان من نتائج الحركة العباسية وقيام دولتها أن نال العنصر الفارسي نصيبه في الدولة، ثم تمكن فيها واختلط بالعرب ثقافة وديناً وتزاوجاً، ولذا صارت خراسان مصدر عدد لا يحصى من العلماء والأدباء الذين قامت عليهم حضارة الإسلام في تلك الحقبة الذهبية.
ويظهر يأس العباسيين من العرب في وصية محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أول من آلت إليه قيادة الدعوة السرية من العباسيين، حين وجه دعاته إلى الأمصار، قال لهم: أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف تقول: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة الفراتية فحَرورية مارقة وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق نصارى، وأما أهل الشام فليسوا يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، وعداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتوزعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحي وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق، والى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق.
وقفَّى على هذه الوصية إبراهيم بن محمد بن علي حين قال لأبي مسلم الخراساني حين أمّره على خراسان: يا عبد الرحمن، إنك رجل منا أهل البيت فاحفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر فإنهم العدو القريب الدار، فاقتل من شككت فيه، ومن كان في أمره شبهة، ومن وقع في نفسك منه شئ؛ وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله!
وبهذه الفتوى الجائرة من إبراهيم الإمام لم يكن من الغريب أن يجعل أبو مسلم هدفه استئصال العرب في مناطق نفوذه، فقد كانوا هم الأمراء ويدينون بالولاء للأمويين الذين عينوهم، وكان بذلك يجتذب تأييد غير العرب بل وحتى العرب من اليمانية الذين لم يكن لهم في الحكم كبير نصيب عند الأمويين، وحاول الأمير نصر بن سيار انتشال العرب من الفرقة والتحزب، وكتب إلى علي بن الكرماني: إن الحرب كانت بيننا على الحمية، وقد كانت لبعضنا على بعض فيها بقية ترجع إلى ألفة العرب، وقد نجم بين أظهرنا من همته استئصالنا جميعا، قد بلغك ما أوقع هؤلاء القوم بنسا وطالقان ومرو الروذ وآمُل، وقلة إبقائهم على حرمة العرب، فهلم فلتجتمع أيدينا عليهم فإذا حصدناهم عاودنا ما كنا فيه، أو حكمناك فأنفذنا حكمك، ورضينا بذلك.
وعلم أبو مسلم بهذه المحاولة فكتب إلى ابن الكرماني يخدعه ويقول: أنا معك. وانخدع ابن الكرماني وانحاز إليه فقاتلوا نصر بن سيار، وأراد نصر أن يشق معسكر أبي مسلم فكتب إليه: إني أبايعك، وأنا أحق بك من ابن الكرماني. وزاد هذا من قوة أبي مسلم المعنوية بين الناس، وكثر جيشه، وهرب نصر بن سيار، ومات في طريقه إلى العراق في أول سنة 131، وكانت ولايته بخراسان عشر سنين. وبعث أبو مسلم جيشاً إلى سرخس استطاع هزيمة شيبان الحروري وقتله.
وكانت الدعوة العباسية قائمة على السرية المطلقة، ولم يكن أغلب أنصارها يعلمون من هو زعيمها وإمامها، بل كانوا حين يعطون البيعة يبايعون رجلاً من آل البيت لا يعرفون هويته، ولكن الخليفة الأموي مروان أتي في سنة 132 بكتاب من إبراهيم الإمام لأبي مسلم الخراساني يوبخه فيه حيث لم ينتهز الفرصة التي أمكنته من نصر، ويعاتبه على تأخره في القضاء عليه، فانكشف أمر الإمام إبراهيم بن محمد، وأرسل مروان من قبض عليه في أراضيه بالحُميمة، وأحضره إلى حرَان حيث قتله، وكان عمره 51 سنة، ولكن إبراهيم بن محمد كان قبل مغادرته الحميمة قد أوصى بالأمر لأخيه عبد الله، المعروف بأبي العباس السفاح، وأمر العباسيين بالمسير إلى الكوفة حيث أنزلهم أبو سلمة الخلال وكتم أمرهم.
ويجدر أن نذكر أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أخرج علي بن عبد الله بن العباس من دمشق وأنزله الحميمة في سنة 95، ولم يزل أولاده بها إلى أن زالت دولة بني أمية، وولد له بها نيفٌ وعشرون ولداً ذكراً، ونذكر كذلك أن السفاح لُقب بذلك لأنه في أول خطبة له في الكوفة قال: أنا السفاح المبيح، والثائر المبير.
وفي أول سنة 132 وثب أبو مسلم على والي نيسابور فقتله، وقعد في الديوان وسُلِّم عليه بالإمرة، وصلى وخطب ودعا لأبي العباس السفاح أول خليفة عباسي، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وصفت له خراسان، وانقطعت عنها ولاية بني أمية، ولم يمض شهر ونيف حتى ظهر أبو العباس السفاح بالكوفة وبويع بالخلافة.
وبأمر الإمام الذي سبق كان أبو مسلم لا يتردد في سفك الدماء حتى قيل إنه قتل ستمئة ألف شخص وقيل مليوني شخص، وأياً كان العدد فهو كارثة شديدة لأنه يشكل نسبة كبيرة من عدد السكان آنذاك، وقام بهذه المقتلة تحت شعار الشك في ولائهم، وشقهم عصا الطاعة لسلطان الرايات السوداء الذي بشر به الرسول في حديث ضعفه العلماء ورد عند الإمام أحمد مرفوعاً عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من خراسان فأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي.
وفي سنة 132 قتل أبو مسلم سليمانَ بن كثير، الذي كان أسبق منه في الدعوة العباسية في خراسان ورأسها، ولعل ذلك ليخلو من أي منافس على زعامته ولتبقى بيده وحده مقاليد الأمور في خراسان، وممن قتلهم كذلك أبو مسلم؛ المحدث الزاهد إبراهيم بن ميمون الصائغ المروزي، وكان أبو مسلم أيام بني أمية قد عاهده على القيام بالحق، والذب عن الحُرِم، فلما ملك أبو مسلم وبسط يده، دخل عليه إبراهيم الصائغ، فوعظه ونهاه دون خوف أو وجل، فلم يلبث أبو مسلم أن قتله في سنة 131، وبلغ خبره أبا حنيفة فبكى عليه بكاء شديداً إذ كان من مشايخه في الحديث.
وبسبب هذا الإمعان في القتل ثار على أبي مسلم شريك بن شيخ المهري، الذي كان من أنصاره في بخارى، ثم نقم عليه سفكه الدماء، فخرج ثائرا عليه في سنة 133، وقال: ما على هذا اتبعنا آل محمد! أن تسفك الدماء وأن يعمل بغير الحق. وآزره أكثر من ثلاثين ألفا، فوجه إليه أبو مسلم جيشا، فقاتله إلى أن قتل.
وكان السفاح قد تحرك من الكوفة إلى ناحية الموصل، فأعد الخليفة الأموي مروان بن محمد جيشاً للقضاء عليه من 100.000 رجل جمعه من القبائل العربية التي كانت في أغلبها مؤيدة للحكم الأموي، وجاء أبو مسلم على رأس جيش من خراسان لقتال لينضم إلى الجيوش العباسية التي كان يرأسها عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح، والتقت هذه الجيوش مع مروان على نهر الزاب بين الموصل وإربل، وتخاذل أصحاب مروان ثم تنادو بالفرار، وانكسر عسكر مروان وهرب هو إلى الشام، ونظر إلى أصحابه مع كثرة عَددهم وقوة عُددهم ولِـما قد ظَهَرَ فيهم من الفشل، وما حل بهم من الجزع والوجل، فقال: إذا انقضت المدة، لم تنفع العدة.
وتبعه عبد الله بن علي إلى دمشق، ونازلها وحاصرها وفتحها بالسيف، وقتل من أهلها كثيراً، وتتبع بني أمية دانيهم وقاصيهم وأسرف في قتلهم، ولم يرقب فيهم إلاًّ ولا ذمة، وهرب مروان بن محمد من الشام إلى مصر، فأقام عبد الله بدمشق، وأرسل جيشاً وراءه حتى أدركه في قرية بوصير عند الفيوم فقتلوه بها في 27 ذي الحجة سنة 132، واحتزوا رأسه وبعثوه إلى السفاح، فبعثه السفاح إلى أبي مسلم وأمره يطيف به في بلاد خراسان، واستقل السفاح بالخلافة، ولم يعد له من منازع، واستوزر أبا سلمة الخلال، وكان السفاح كثير التعظيم لأبي مسلم لما صنعه ودبره.
وكان أبو مسلم يقول: ارتديت الصبر، وآثرت الكتمان، وحالفت الأحزان والأشجان، وسامحت المقادير والأحكام حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي. وأنشد في ذلك:
أدركتُ بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومةٍ لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنماً في أرض مَسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
ولا بد أن نشير أن الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد كان صاحب رأي وتدبير ومبادرة، ولُقِبَ بالحمار لما أبداه من جَلَد في محاربة أعدائه من الخوارج والعباسيين والروم، كان يخرج من معركة إلى معركة، ولكن كثرت البثوق عليه، قيل لمروان: ما الذي أصارك إلى هذا قال: قلة مبالاتي بكتب نصر بن سيار لما استنصرني وهو بخراسان. وقيل لأبي مسلم: ما كان سبب خروج الدولة عن أبي أمية؟ فقال: لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقةً بهم، وأدنوا أعداءهم تألفاً لهم، فلم يصر العدو بالدنو صديقاً، وصار الصديق بالبعاد عدواً.
و في سنة 132 اغتيل أبو سلمة الخلال ولما تمض عليه 4 أشهر في الوزارة، وذلك بعد أن خرج في الليل من سمره عند أبي العباس السفاح؛ وثب عليه جماعة وخبطوه بالسيوف، وأصبح الناس يقولون: قتله الخوارج، وتناولت الشائعات مقتله، فمنها من يزعم أن السفاح اطّلَع أن الخلال يريد خلع بني العباس وأن تصير الخلافة إلى آل علي بن أبي طالب، فأمر أبا مسلم بتدبير مقتله سراً، ويدللون على ذلك بأنه لم يُبْد أسفاً على مقتله، ومنها من يتهم أبا مسلم وحده بقتله ليخلو له وجه السفاح، ولعل هذا هو الأصح، فقد كان أبو سلمة صيرفياً ثرياً أنفق أموالاً كثيرةً في إقامة الدولة العباسية، وكان السفاح يأنس به لأنه كان ذا مفاكهةٍ حسنةٍ، ممتعاً في حديثه، أديباً عالماً بالسِّياسة والتدبير، ولعل مما يؤكد ذلك أن يتمنى سليمان بن المهاجر البجلي لمن يكرهه أن يلي الوزارة، فقال في مقتل الخلال:
إنَّ المساءة قد تسرُّ وربِّما ... كان السُّرور بما كرهت نذيرا
إنَّ الوزير وزير آل محمدٍ ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
وفي سنة 136 استأذن أبو مسلم الخراساني أبا العباس السفاح في الحج، ولما كان هذا يعني أن يجعله أمير الحاج لمكانته وسابق يده في الدولة، أوعز أبو العباس لأخيه أبي جعفر وولي عهده أن يعلن نيته في الحج، وجعله على الحاج، ولما كانا في طريق العودة جاء الخبر من العراق أن أبا العباس السفاح، المولود سنة 104، قد توفي بالأنبار بعلة الجدري، وأن الأمير عيسى بن موسى، ابن عم السفاح والمنصور، قد أخذ البيعة للمنصور من الناس، وتلقب أبو جعفر بالمنصور، وكانت سنه آنذاك 41 سنة.
ولكن الأمور لم تستتب للمنصور، فقد أبى بيعته عمه عبد الله بن علي، والبالغ من العمر 33 سنة، وكان قائد الجيوش التي سارت إلى الشام فأخضعتها وأزالت ملك الأمويين عنها، ودعا إلى نفسه، وأقام شهودا بأن السفاح جعله الخليفة من بعده، وأنه على ذلك سار لحرب آخر خليفة أموي؛ مروان بن محمد بن عبد الملك بن مروان فهزمه واستأصله.
وطلب المنصور أبا مسلم الخراساني وقال له: إنما هو أنا أو أنت، فسِرْ إلى عبد الله عمي، فسار بجيوشه من الأنبار، وسار عبد الله لحربه، وخشي عبد الله أن يخونه الخراسانيون الذين في جيشه، فأمر بقتل سبعة عشر ألفا منهم! ونزل على نصيبين، في جنوبي تركيا اليوم، وأقبل أبو مسلم بجيوشه واستعمل المكيدة مع عبد الله فكتب إليه: إني لم أومر بقتالك، وإن أمير المؤمنين ولاني الشام وأنا أريدها، فتنح عن طريقي. وكان هدفه من ذلك بث القلق على الأهل والأولاد في صفوف الشاميين من جند عبد الله، والذين قالوا لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا فيقتل ويسبي؟ ولكن نعود إليها لنمنعه عنها. فقال لهم: إنه ما يريد الشام، ولئن أقمتم، ليقصدنكم. فأبوا إلا المسير إلى الشام، فارتحل عبد الله نحو الشام، فنزل أبو مسلم في معسكر عبد الله، وغوَّر ما حوله من المياه، فقال لأصحابه: ألم أقل لكم؟! ورجع فنزل في مكان عسكر أبي مسلم الذي كان به أولاً.
وكان المنصور قد أرسل مع أبي مسلم الحسنَ بن قحطبة وهو أحد القادة الشجعان المتمرسين بالحرب، فأرسل رسالة إلى أبي أيوب المورياني وزير المنصور يقول فيها: إني قد رأيت أبا مسلم إذ يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحكان استهزاء، فلما ألقيت الرسالة إلى أبي أيوب ضحك وقال: نحن لأبي مسلم أشد اتهاما منا لعبد الله بن علي، إلا أنا نراعي أمراً وهو أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله بن علي وقد قتل منهم من قتل.
 وجرت بين الطائفتين وقعات مختلفة على مدة خمسة أشهر، انتصر فيها أهل الشام أكثر من مرة فقد كانوا أكثر فرسانا، وأكمل عدة، وكاد جيش أبي مسلم أن ينهزم، وأبو مسلم يثبتهم ويرتجز:
من كان ينوي أهله فلا رجع ... فر من الموت وفي الموت وقع
وفي إحدى المعارك مكر أبو مسلم بخصمه، فأمر الميمنة أن تتحول إلا القليل إلى الميسرة، فلما رأى ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاء الميسرة التي تعمرت، فأرسل حينئذ أبو مسلم إلى القلب أن يحمل بمن بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام فحطموهم، فجال أهل القلب والميمنة من الشاميين فحمل الخراسانيون على أهل الشام، فانهزموا وانهزم عبد الله بن علي، وأمَّن أبو مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم أحدا، واحتاز ذخائر عبد الله، وكانت خزائن عظيمة، لأنه كان قد استولى على جميع أموال بني أمية، وكتب أبو مسلم إلى المنصور بذلك، فكتب إليه المنصور: احتفظ بما في يدك، وأرسل مولاه أبا الخصيب ليحصي الأموال، ولم يخف أبو مسلم غضبه من ذلك واعتبره تخويناً له، وقال: أنكون أمناء في الدماء وخونةً في الأموال؟!
واستوسقت الأمور لأبي جعفر المنصور بعد هذا النصر الذي أتاه به أبو مسلم الخراساني، ولم يعد عبد الله بن علي وأخوه عبد الصمد يشكلان أي تهديد له، وهرب عبد الله إلى أخويه سليمان وعيسى بالبصرة فتوسطا له عند المنصور فأمنَّه، وتوفي سنة 147، سقط عليه البيت، واتُهم المنصور بتدبير ذلك.
وأراد المنصور التخلص من أبي مسلم الخراساني، فلم تكن بينهما مودة من قبل، وهو أمر نصح به السفاحَ عندما أرسله في سنة 133 إلى أبي مسلم في خراسان ليأخذ عليه البيعة، فرأى رأي العين قوة أبي مسلم، وسفكه للدماء، فلما رجع من عنده وقال للسفاح: لستَ بخليفة إن أبقيتَ أبا مسلم. قال: ولماذا؟ قال: ما يصنع إلا ما يريد. قال: فاسكت واكتمها. ولما تولى المنصور الحكم ما كان ليقبل أن يكون بجانبه أبو مسلم يظلله بنفوذه أو دالته، ولا يخضع له تمام الخضوع، ولذلك عزم على قتله واستشار عدة أشخاص منهم سَلَم بن قتيبة بن مسلم الباهلي فقال له: ما ترى في أمر أبي مسلم؟ فقال له الآية من سورة الأنبياء: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾، فقال: حسبك يا ابن قتيبة، لقد أودعتها أذناً واعية.
وكان هناك جانب شخصي أجج العداوة، فقد كان أبو مسلم يستخف بالمنصور وهو أمير، وكان آخر ما نقمه عليه المنصور أنهما لما حج معاً، تصرف أبو مسلم ليطغى وجوده على المنصور، فتقدم بالإحسان إلى الوفود، وإصلاح الطريق والمياه، ليصير الذكر له.
ولم يكن أبو مسلم الخراساني غاقلاً عن نفور المنصور منه، وأن مآله معه هو القتل، وإلا فالسجن في أحسن الأحوال، فعاد يريد خراسان مركز قوته، ولكن المنصور احتال عليه وكتب إليه: إني قد وليتك الشام ومصر، وهما خير من خراسان، فابعث إلى مصر من شئت، وأقم أنت بالشام، لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين، إذا أراد لقاءك كنت منه قريبا.
وتخوف أبو مسلم من هذا التعيين والتفَّ عليه بأن قال: قد ولاني الشام ومصر، ولي ولاية خراسان، فإذاً أذهبُ إليها وأستخلفُ على الشام ومصر. وأرسل إلى المنصور رسالة تعبر عن مخاوفه جاء فيها: وقد كنا نُروى عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إراداتها نقضتُ ما أبرمتُ من عهدك ضنا بنفسي عن مقامات الذل والاهانة.
فأرسل إليه المنصور برسالة جاء فيها: ليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فلم سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الامر على ما أنت به، وقد حمل أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسالة ليسكن إليها قلبك إن أصغيت إليها، وأسأله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك.
ثم استمال المنصور من حول أبي مسلم من الأمراء، فكتب إلى خليفة أبي مسلم على خراسان ؛ الأمير أبي داود خالد بن إبراهيم، يعده بالإمارة بعد أبي مسلم، فكتب ذلك إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله، وأهل بيت النبوة، فلا تخالفن إمامك. وأرسل أبو مسلم من يثق به من أمرائه إلى المنصور يستطلع له الأمر، فقال له المنصور: اصرفه عن وجهه، ولك إمرة بلاده. فرجع وقال: لم أر مكروها، ورأيتهم معظمين لحقك، فارجع، واعتذر.
ومال أبو مسلم إلى الذهاب إلى المنصور، فقال له أحد خلصائه المعارضين لذلك:
ما للرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الاقوام
خار الله لك، احفظ عنى واحدة: إذا دخلت على المنصور فاقتله، ثم بايع من شئت فإن الناس لا يخالفونك.
وجاء أبو مسلم إلى المنصور في مكان يدعى بالرومية قرب المدائن، فأمر المنصور أكابر دولته فتلقوه، فلما دخل عليه، سلَّم عليه قائما،  وفي اليوم الثاني كان قد أعد له مجموعة من حرسه الثقات فقتلوه بإشارة من المنصور.
وهناك روايات كثيرة عن اللقاء الأخير بين أبي مسلم وبين أبي جعفر المنصور، وكيف أن المنصور رتب المنصور جماعة غير ظاهرين فإذا ضرب يداً على يد ظهروا وضربوا عنق أبي مسلم، وأنه عاتب أبا مسلم على ما بدا منه في السابق تجاه المنصور، فقال أبو مسلم: ما يقال هذا لي بعد سعيي واجتهادي وما كان مني! فقال له المنصور: يا ابن الخبيثة، إنما فعلت ذلك بجَدِّنا وحظنا، ولو كانت مكانك أَمَة سوداء لعملت عملك! ألست الكاتبَ إليَّ تبدأ بنفسك؟ قبلي ألست الكاتب تخطب عمتي آسيا وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن العباس؟! لقد ارتقيت لا أم لك مرتقىً صعباً. فأخذ أبو مسلم بيده ليقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم صفق بإحدى يديه على الأخرى، فخرج إليه القوم وخبطوه بسيوفهم، وكان أبو مسلم قد قال عند أول ضربة: استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك، فقال: لا أبقاني الله أبداً إذاً، وأي عدو أعدى منك؟!
ويقال إن المنصور قال في ذلك شعراً، منه:
زعمت أن الدَين لا يُقتضى ... فاكْتَل بما كِلتَ أبا مجرم
وأشرب كؤوساً كنت تسقي بها ... أمرَّ في الحلق من العلقم
حتى متى تضمر بغضاً لنا ... وأنت في الناس بنا تنتمي
وانزاح بمقتل أبي مسلم الخراساني همٌّ ثقيل عن صدر المنصور، إذ كان أبو مسلم الرجل الأقوى في الدولة على الحقيقة، لما له من يد على العباسيين في تأسيس دولتهم وما أكسبه ذلك من رهبة ورغبة في قلوب الجنود وبخاصة أهل خراسان، وكانت تصرفاته قبل تولي المنصور الخلافة وبعدها تشير إلى استخفاف مبطن بالخليفة، وسلسلة من الحركات الهادفة لإضعاف مكانة الخليفة، ولا شك أنه كان يتمنى لو أن المنصور ترك الخلافة لسبب أو آخر، وجاء مكانه خليفة يكون أكثر طواعية له من المنصور الذي كان قوي الشخصية صلب الأرادة مستبد الرأي.
ويحكى أنه لما قتله أدرجه في بساط، فدخل عليه جعفر بن حنظلة فقال له المنصور: ما تقول في أمر أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنتَ أخذتَ من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل ثم اقتل! فقال المنصور: وفقك الله، ها هو في البساط. فلما نظر إليه قتيلاً قال: يا أمير المؤمنين، عد هذا اليوم أول خلافتك. وأعجب العرب بجرأة أبي جعفر المنصور على قتل أبي مسلم وهو في أوج قوته ، فجعلوها من الفتكات التي يضرب بها المثل. وكان المنصور قد هم بقتل صاحب حرس أبي مسلم، وبقتل نصر بن مالك الخزاعي، فنصحه مستشار له، وقال: يا أمير المؤمنين، إنما جنده جندك، أمرتَهم بطاعته، فأطاعوه. فأعطاهما المنصور مالا جزيلا، وكتب بعهد خراسان للأميرخالد بن إبراهيم كما كان وعده.
وتابع المنصور بناء الدولة العباسية، وامتد عهده 22 سنة إلى حين وفاته في آخر سنة 158 في مكة المكرمة، ودفن ما بين الحجون وبئر ميمون، ومن هنا سمي حي المنصور، وكان من أفراد الدهر حزماً ورأياً ودهاءً وجبروتاً، شجاعاً مهيباً، تاركاً للهو واللعب، كامل العقل، له حظ من صلاةٍ وتدينٍ وعلم وفقه نفسٍ، تخالطه أبهة الملك بزي النساك، تقبله القلوب وتتبعه العيون، وكان مِسِّيكاً حريصاً على جمع المال، كان يلقب أبا الدوانيق لمحاسبته العمال والصناع على الدوانيق والحبات، ولما مات خلّف في بيوت الأموال مبلغ 950 مليون درهم.
وكان أبو مسلم الخراساني قصيرا أسمرا، جميلا، نقي البشرة، أحور العين، خافض الصوت، فصيحا بالعربية وبالفارسية، حلو المنطق، وكان راوية للشعر، عارفا بالأمور، لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا في وقته، وكان لا يكاد يقطب في شئ من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة، فلا يرى مكتئبا، وكان إذا غضب لم يستفزه الغضب، واشتُهر بالصيد بالفهود، وكان أقلَ الناس طمعا: مات وليس له دار ولا عقار ولا عبد ولا أمة ولا دينار. قال المأمون، وقد ذُكِر أبو مسلم عنده: أجلُّ ملوك الأرض ثلاثة، وهم الذين قاموا بنقل الدول: الإسكندر وأردشير وأبو مسلم الخراساني.
وأبو مسلم الخراساني شخصية تاريخية هامة، ولكنها تكاد تكون ثانوية في الرؤية العربية للتاريخ، وبخاصة المعاصرة منها، ولعلها لم تكن كذلك في السابق لأننا نجد أن العلامة الكاتب محمد بن عمران المرزبان، المولود سنة 297 والمتوفى سنة 384، قد صنف كتاباً في أخبار أبي مسلم الخراساني، وللإمام الذهبي كتاب في سيرته أسماه: أخبار أبي مسلم الخراساني.
والرؤية الفارسية للتاريخ تضع أبا مسلم الخراساني في مصاف القادة الكبار والشخصيات الفارسية التاريخية ذات المكانة الأسطورية، وإلى يومنا هذا يبقى أبو مسلم الخراساني من أكبر الأبطال في الذاكرة المجتمعية الفارسية، تظهر صورته على طوابع البريد الإيرانية، وتسمى باسمه المدارس والفرق الرياضية، ولهذا مبرراته التاريخية الحقيقية، فهو المناصر الأقوى للدعوة العباسية والمؤسس العملي لخلافتها، ومن منظور سياق التاريخ الفارسي فإن أبا مسلم رد للفرس اعتبارهم ضمن الحضارة الإسلامية، وقتلُ المنصور له على هذه الصورة لم يحد من النفوذ والتأثير الفارسي في الدولة العباسية، وكان كثير من قادة أبي مسلم محل ثقة الخلفاء، فصار منهم أمراء الولايات والوزراء وكبار موظفي الدولة، ومن ناحية أخرى تأثرت الدولة العباسية تأثراً كبيراً واضحاً بالتراث الفارسي ذي التقاليد القائمة على الفخامة والبهرجة في بلاط السلطان وطبقات الحاشية ودواوين الحكومة والإدارة المالية وجباية الخراج والضرائب، وكذلك في اللباس، فكانت على النقيض من الدولة الأموية التي بقيت على البساطة العربية إلى حد كبير، واقتبست بعض التقاليد البيزنطية في إدارة دواوينها.
ويرى الفرس في مقتل أبي مسلم الخراساني بهذه الصورة عنواناً لجحود العباسيين لتضحياتهم وخيبة الأمل الكبيرة فيهم، وهكذا نرى أن سنباذ الفارسي المجوسي بعد مقتل أبي مسلم يثور على المنصور منادياً بالثأر لأبي مسلم، فيستجيب له مئة ألف من أهل الجبال الذين بقوا على مجوسيتهم، ويستفحل أمره فأرسل له المنصور جمهور بن مرار العجلي في عشرة آلاف فارس، فهزمه وقتل من عسكره نحو من ستين ألفا، ثم قُتل سنباذ بأرض طبرستان.
وتلت ذلك ثورات أخرى أكثرها مصحوب بذكر أبي مسلم الخراساني، أهمها حركة المقنَّع الخراساني الذي ظهر في سنة 163 وكان يعرف السحر والحيل فأظهر للناس بعض الخوارق، وادعى الربوبية، وكان يقول بالتناسخ، أي: أن اللّه تعالى تحول إلى صورة آدم، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له، ويقرأ من سورة الانفطار: ﴿في أي صورة ما شاء ركبك، ثم يزعم أنه سبحانه وتعالى تحول إلى صورة نوح ثم إلى صورة إبراهيم وغيرهم من الأنبياء والحكماء والفلاسفة، ثم إلى صورة أبي مسلم الخراساني، ثم مِنْ بعدِ أبي مسلم إلى صورة نفسه، فعبده بعض الجهلة، وكان لا يكشف وجهه، بل اتخذ له قناعاً من الذهب؛ ولذلك قيل له: المقنَّع، فجهز الخليفة العباسي المهدي عسكراً لحربه، فحصروه في قلعته قرب بخارى، فلما عرف أنه مأخوذ سقى نساءه السم ثم تناوله فماتوا جميعا.

 
log analyzer