السبت، 31 أكتوبر 2015

حدث في الثامن عشر من المحرم

في الثامن عشر من المحرم من عام 1385 الموافق 20 أيار/مايو 1965 توفي في الجزائر، عن 79 سنة، الإمام المجاهد والعالم الأديب والخطيب المصقع الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، أحد رواد النهضة الإسلامية في الجزائر والمغرب العربي.
ولد محمد البشير  بن محمد السعدي بن عمر الإبراهيمي في 13 شوال 1306=منتصف 1889، في بليدة تدعى أولاد ابراهيم، وهي اليوم تتبع بلد رأس الوادي في ولاية برج بوعريريج من الجزائر، والتي تقع في منطقة الهضاب العليا الشرقية، وتبعد قرابة 150 كيلومترا عن ميناء بجاية على البحر الأبيض المتوسط، وغالب سكانها من البربر.
ولأسرة الإبراهيمي تاريخ قديم في العلم يرجع إلى قرون، وكانوا مرجعا في الفتيا الدينية، والصلح بين العشائر، وملاذا لطلبة العلم لا تخلو بيوتهم من عشرات منهم يرحلون إليهم من أقاصي البلاد، فيقومون بإطعامهم وتعليمهم، ومنهم من لا يخرج من بيتهم إلّا عالما، وكان جده لأبيه الشيخ عمر الإبراهيمي عالمهم الكبير، وقد أدركه محمد البشير قبل وفاته، وكان البشير الولد الوحيد لوالده من الذكور.
تلقى البشير الإبراهيمي تعليمه الأول على يد عمه شقيق أبيه الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي، الذى لاحظ أن الولد قد رزق حافظة عجيبة وذاكرة قوية، فاستغلها في تعليمه؛ فجعل له برنامجاً تعليمياً في ليله ونهاره، وكان يملي عليه من شعر العرب القدماء والمحدثين، وحفظ البشير القرآن الكريم مع معالم مفرداته وهو ابن تسع سنين، وحفظ مع ذلك في أثناء هذه المدة المتون المهمة في العلم، وتفقه في قواعد النحو والفقه والبلاغة، وشهد في يفاعته في منطقته كيف هجر الفرنسيون كافة القبائل التي حاربتهم في جبال البيبان دون رحمة أو شفقة، وسميت هذه الجبال بالبيبان لوعورة مسالكها وارتفاع قممها.
وتوفي عمه سنة 1320=1903 وقد ترك تلميذا نجيباً وعالماً متمكناً، فخلفه الإبراهيمي في التدريس، وانثال عليه طلبة العلم من البلدان القريبة، والتزم والده بإطعامهم والقيام عليهم كعادة الأسرة، وفي سنة 1326= 1908 خرج والده من الجزائر إلى المدينة المنورة هرباً من ظلم المستعمر الفرنسي، وفي سنة 1330=1911 لحق الإبراهيمي بوالده، وفي طريقه مكث في القاهرة 3 أشهر درس فيها على بعض علماء الأزهر، وزار الشاعرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وفي المدينة المنورة تابع تعليمه في الفقه والحديث والنحو واللغة، وكان أكبر شيوخه في دراسته الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، قال البشير الإبراهيمي: كانت إقامتي بالمدينة المنوّرة أيام خير وبركة عليّ، فكنت أنفق أوقاتي الزائدة في إلقاء دروس في العلوم التي لا أحتاج فيها إلى مزيد كالنحو والصرف والعقائد والأدب، وكنت أتردّد على المكتبات الجامعة، فلا يراني الرائي إلا في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، حتى استوعبت معظم كتبها النادرة قراءة، وفي المكتبات الغاصة بالمخطوطات.
وفي سنة 1331=1913 زار المدينةَ الشيخُ عبد الحميد بن باديس المولود سنة 1307=1889 والتقى بالإبراهيمي الذي ذكر أنهما لم يفترقا مدة إقامة ابن باديس بالمدينة المنورة، وأنهما كانا يقضيان الليل كله يدرسان أوضاع الجزائر، ويتلمسا شروط ووسائل نهضتها، وزار المدينة في الفترة ذاتها الشيخ العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات التبسي، المولود سنة 1302=1895، وهو من تبسة في أقصى شرقي الجزائر، وكان يدرس في الزيتونة بتونس، وكان في المدينة كذلك الشيخ الطيب بن محمد العقبي، المولود بسيدي عقبة سنة 1307=1889، والمتوفى سنة 1385=1965، وكان مقيماً مع أهله الذين هاجروا إليها وهو صغير، وكان لقاء هؤلاء المشايخ أمر ستكون له أهميته فيما بعد في عملهم الإسلامي والجهادي المشترك في الجزائر، فقد كانوا هم أقطابه ومن أرسى أسسه وأعلى بنيانه، وفي رحاب المدينة المنورة تبلورت خطتهم الإصلاحية لإعلان شأن الإسلام في الجزائر ومقاومة مخططات المستعمر الفرنسي الذي احتلها منذ سنة 1830.
وشبت نار الحرب العالمية الأولى في منتصف سنة 1914، وقام الشريف الحسين بن علي بثورته على الأتراك في منتصف سنة 1916، وبدأت قواته في قتال الأتراك وحاصرت المدينة المنورة التي دافعت عنها حاميتها ولم تسلمها إلا بعد انتهاء الحرب، وبسبب الحصار وقلة الطعام أجْلَت الحكومة التركية سكان المدينة المنورة إلى الشام وتركيا، فغادر الإبراهيمي المدينة إلى دمشق في سنة 1335=1916، حيث اشتغل في دمشق بالتدريس، وشارك في تأسيس المجمع العلمي الذي كان من غاياته تعريب الإدارات الحكومية، ولقي من علماء دمشق وأدبائها من حسن الوفادة وكرم الصحبة، ما جعله يقول عنهم بعد ثلاثين سنة من عودته إلى الجزائر: ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلاً، فأشهد صادقاً أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها هي الجزء العامر في عمري الغامر، ولا أكذب الله، فأنا قرير العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن؛ الجزائر، ولكن... مَن لي فيه بصدر رحب، وصحب كأولئك الصحب؛ ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادَتْها الهوامع وسقت، وأفرغت فيها مـا وسقت، فكم كانت لنا فيها من مجالس نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية.
ورحيل الإبراهيمي إلى دمشق ليس بغريب وإعجابه بما لقيه ليس بجديد، فطالما ضمت دمشق عدداً كبيراً من أعلام المغرب العربي من علماء وأدباء ومجاهدين، ووجدوا من أهلها وفي رحابها ما كاد ينسيهم أهلهم وأوطانهم، ومن بقي منهم في دمشق صاروا أعلاماً في العلم والدعوة، ويكفي أن نشير لأسرة المبارك الجزائرية الأصل التي كان زميله في التدريس عميدها الأستاذ عبد القادر المبارك والد الأستاذ المرحوم محمد المبارك علم التربية والتعليم ومثال التجرد والإخلاص، وأخيه الأستاذ مازن المبارك علامة اللغة العربية، أطال الله في عمره.
وبعد إقامة سنوات خمس، وخمود نار الحرب العالمية الأولى في آخر سنة 1918، عاد الإبراهيمي في سنة 1338= 1920 إلى الجزائر، ليبدأ دعوته إلى الإصلاح ونشر التعليم الديني، وبدأ ذلك في مدينة سطيف القريبة من مسقط رأسه، وكانت حكومة المستعمر الفرنسي تسيطر على المساجد وتتحكم برسالتها، فكان من أول أهدافه إقامة مسجد حر فيها لا يتحكم برسالته المستعمر الفرنسي.
وكان الشيخ عبد الحميد بن باديس قد عاد إلى الجزائر عام 1913، واستقر في بلده مدينة قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري، وشرع في تنفيذ خطته في العمل التربوي والتي كان المسجد محورها، فبدأ في رحابه بدروس للصغار ثم للكبار، ثم انتقل منها لوضع إطار مؤسسة دعوية تشمل الجزائر كلها، فكانت فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبدأ في مشاورات بشأنها مع عدد من العلماء الذين رجعوا من المشرق ومن تونس، وتبلورت معالمها في اجتماع عقده هؤلاء في سنة 1928 كان مقدمة لإعلان تأسيس الجمعية في سنة 1931 في نادي الترقي بالجزائر العاصمة.
وكانت فرنسا قد احتفلت في سنة 1930 بمرور مئة عام على احتلالها للجزائر، وبدا تماما أن الفرنسيين في سكرة نشوتهم قد اعتقدوا أن شعب الجزائر قد أصبحت فرنسي الثقافة والمشرب إلى غير رجعة، وجاء تأسيس الجمعية وخطتها التربوية التعليمية رداً عملياً على هذه الأحلام الاستعمارية.
وكان الثقل في الساحة الدعوية في الجزائر حكراً على أهل الطرق الصوفية الذين شكلوا تحالفاً ضمنياً، وظاهراً في بعض الأحيان، مع سلطات المستعمر، وفحواه أن لا يثيروا الناس على الاستعمار مقابل أن يخلي الساحة الإسلامية لصالحهم وطالحهم، وأهل المغرب العربي يطلقون على هؤلاء الطُرقيين، وعن ذلك الوضع يقول الإبراهيمي: فأجمعنا في معرض الرأي الفاصل على أننا أمام استعمارين يلتقيان عند غاية، أحدهما استعمار روحاني داخلي يقوم به جماعة من إخواننا الذين يُصلُّون لقبلتنا باسم الدين، وغايتهم استغلال الأمة، ووسيلتهم صد الأمة عن العلم، حتى يستمرّ لهم استغلالها، وهؤلاء هم مشائخ الطرق الصوفية التي شوّهت محاسن الإسلام، والثاني استعمار مادي تقوم به حكومة الجزائر باسم فرنسا، وغايته استغلال الأمة، ووسيلته سد أبواب العلم في وجه الأمة حتى يتم لها استغلالها، والاستعماران يتقارضان التأييد، ويتبادلان المعونة، كل ذلك على حساب الأمة الجزائرية المسكينة، أولئك يضلّونها، وهؤلاء يذلّونها، وجميعهم يستغلّونها. كنا نتّفق على هذا، ولكننا نجمل الرأي في أي الاستعمارين، يجب أن نبدأ بالهجوم عليه، ولم يكن من الصعب علينا الاتفاق على الهدف الأول للهجوم، فاتفقنا على أن نبدأ بالهجوم على الاستعمار الأول وهو الطرق الصوفية، لأنها هي مطايا الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ووسطها وغربها، ولولاها لم يتم له تمام.
ولهذا السبب تلطَفَ المؤسسون في تأسيس جمعيتهم، فوجهوا الدعوة  إليها من طرف هيئة مؤسِّسة مؤلفة من أشخاص حياديين ينتمون إلى نادي الترقي غير معروفين بالتطرف، ولا يثير ذكرهم حساسية أو شكوكا لدى سلطات المستعمر، ولا عند الطرقيين، وأعلنوا: أن الجمعية دينية تهذيبية تسعى لخدمة الدين والمجتمع، لا تتدخل في السياسة ولا تشتغل بها. ويذكر الشيخ خير الدين البسكري أن ابن باديس دعا الشيخ محمد عبابسة الأخضري وطلب إليه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العاصمة، وكلفه أن يختار ثلة من جماعة نادي الترقي الذين لا يثير ذكر أسمائهم شكوك الحكومة، أو مخاوف أصحاب الزوايا، حتى يتم الاجتماع في هدوء وسلام، وتتحقق الغاية المرجوة من نجاح التأسيس، وأن ابن باديس خطَّط أن لا يلبي دعوة الاجتماع ولا يحضر يومه الأول حتى يقرر المجتمعون استدعاءه ثانية بصفة رسمية، فيكون بذلك مدعوا لا داعيا، ويتجنب ما قد يكون من ردود فعل السلطة الفرنسية وأصحاب الزوايا، ومن يتحرجون من كل عمل يقوم به ابن باديس.
وحضر الاجتماع التأسيسي أكثر من سبعين عالما من مختلف جهات الجزائر، ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية: مالكيين وإباضيين، مصلحين وطرقيين، موظفين وغير موظفين، وانتخبوا مجلسا إداريا للجمعية يتكون من ثلاثة عشر عضوا برئاسة الشيخ ابن باديس واختاروا البشير الإبراهيمي نائباً له، وعهد ابن باديس إلى الشيخ البشير الإبراهيمي أن يتولى العمل الذي يجري في غرب الجزائر انطلاقا من تلمسان، وإلى الشيخ الطيب العقبي، نائب الأمين العام للجمعية، أن يشرف على العمل في العاصمة وما جاورها، وأبقى ابن باديس قسنطينة وما جاورها تحت إشرافه شخصيا.
وبادر الإبراهيمي لما ندبته إليه الجمعية، فأسس المدارس الحرة، وبث روحاً إسلامية جديدة في غرب الجزائر مستخدماً ما آتاه الله من براعة في الخطابة والأدب،وما لبثت الفئات المتنفذة المتعاونة مع فرنسا من السياسيين والطُرقيين أن تنبهت لما يمثله من تهديد، فبدأت في معاداته وسعت وراء إبعاده، ولكن الشيخ استمر في نشاطه، وبرزت المدارس العربية في وهران التي كانت تعتبر معقلاً حصيناً للصوفية الطرقيين.
ووجدت الجمعية وبرامجها استجابة شعبية واسعة، لثقة الناس بصدق وأخلاص مؤسسيها والقائمين عليها، وقدم الناس لها التبرعات فاستطاعت أن تؤسس المساجد وتنشئ المدارس والنوادي بأموالها الخاصة، وتفرِّغ العلماء وتيسِّر لهم الاضطلاعَ بمهامهم، ونمت فروعها في الجزائر بسرعة لم يتوقعها أحد، وأقبل الجزائريون على مدارسها ودروسها بأعداد كبيرة، ففي السنة الأولى تم تأسيس 22 شعبة، وفي سنة 1936 كان عدد الشعب 33 شعبة، ووصل في سنة 1938 إلى 58 شعبة، وذلك رغم العقبات التي بدأت توضع في طريقها، وانتشرت مدارسها في جميع مدن الجزائر وقراها، وكان من حكمة القائمين على الجمعية أن جعلوها ذات تصميم معماري واحد لتُعرف به ويقر في نفوس الناس توسعها ونجاحها، وإزاء هذا النمو المبارك بادر ابن باديس بوضع إطار فكري تنظيمي للجمعية لتسير على هديه في نشاطها الإصلاحي والتعليمي، وذلك في سنة1937 في مقال نشره في مجلة الشهاب التي كان يصدرها تحت عنوان: دعوة جمعية العلماء وأصولها. ثم طُبع ووزع على عموم الناس في لفتة ذكية، إذ بذلك أصبح ميثاقاً واضحاً بين الجمعية وبين جمهورها العريض من الشعب الجزائري.
وأصدرت الجمعية جريدة الدفاع "La Defense" باللغة الفرنسية حتى تصل إلى المتعلمين بلغة الاستعمار وتطلعهم على أهداف الجمعية وأنشطتها، وعهدت برئاسة تحريرها إلى الأمين العام لجمعية علماء المسلمين؛ الشيخ محمد الأمين العمودي المولود سنة 1891=1308 والمتوفى سنة 1377=1957، والذي كان صاحب خبرة عريقة في الصحف إذ قد أصدر عدة صحف قبلها.
وأصدرت الجمعية عدة صحف باللغة العربية ينبغي أن نذكرها وهي جريدة السنة النبوية المحمدية التي صدرت في آخر سنة 1351=1933 ثم أوقفتها سلطات الاستعمار في أول سنة 1352=1933،  فأصدرت الجمعية جريدة الشريعة النبوية المحمدية بعدها بثلاثة أسابيع فعطلها المستعمر بعد 7 أسابيع، فأصدرت بعدها بأسبوعين جريدة الصراط السوي التي صدر منها 17 عددا حتى أوقفت في رمضان 1352=1934، فقدمت الجمعية طلب ترخيص آخر وافقت عليه السلطة الاستعمارية بعد قرابة سنتين، وصدرت جريدة البصائر في شوال 1354= 1935، ورأس تحريرها الشيخ الطيب العقبي، وتوقفت بعد 180 عدداً بسبب الحرب العالمية الثانية في أواخر سنة 1939، وعادت إلى الصدور بعد انتهائها في سنة 1947 بإشراف وإدارة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، إلى أن قرر القائمون عليها التوقف في سنة 1956 بسبب احتدام ثورة التحرير الجزائرية وتأزم الأوضاع.
وفي سنة 1936دعا ابن باديس إلى مؤتمر إسلامي يضم التنظيمات السياسية كافة من أجل دراسة قضية الجزائر، وقد وجه دعوته من خلال جريدة الدفاع، واستجابت أكثر التنظيمات السياسية لدعوته، وكذلك بعض الشخصيات المستقلة، وأسفر المؤتمر عن تشكيل جمعية سياسية تحت اسم: المؤتمر الإسلامي، تهدف إلى المطالبة ببعض الحقوق للجزائر، وشكل المؤتمر وفداً من الشخصيات الجزائرية سافر إلى فرنسا لعرض هذه المطالب، وضم الوفد ابن باديس والإبراهيمي والطيب العقبي ممثلين لجمعية العلماء، ولكن فرنسا لم تستجب لأي مطلب وفشلت مهمة الوفد، وتوقف نشاط الجمعية بعد ذلك.
ومع إرهاصات الحرب العالمية الثانية والضعف الواضح في موقف فرنسا العسكري إزاء ألمانيا، كتب الإبراهيمي في سنة 1939 مقالاً في جريدة الإصلاح التي كان يصدرها الشيخ الطيب العقبي، طالب  فيه ببعض الإصلاحات، فنفته فرنسا إلى بلدة أفلو في شمال الصحراء الجزائرية، وبعد وفاة ابن باديس في سنة 1940 انتخب رئيساً لجمعية العلماء وهو لا يزال في المنفى، ولم يُفرج عنه إلا عام 1943، ثم اعتقل مرة ثانية عام 1945 وأفرج عنه بعد سنة.
وفى عام 1947 عادت مجلة البصائر للصدور ورأس تحريرها البشيرالإبراهيمي وكانت مقالاته فيها على قدر من البلاغة ومن الصراحة والنقد القاسي لفرنسا وما يسميهم عملاء فرنسا، يقول عن زعماء الأحزاب السياسية: ومن خصومها (أي الجمعية) رجال الأحزاب السياسية من قومنا من أفراد وأحزاب يضادّونها كلما جرَوا مع الأهواء فلم توافقهم، وكلما أرادوا احتكار الزعامة في الأمة فلم تسمح لهم، وكلما طالبوا تأييد الجمعية لهم في الصغائر - كالانتخابات - فلم تستجب لهم، وكلما أرادوا تضليل الأمة وابتزاز أموالها فعارضتهم.
وكان الإبراهيمي في مقالاته يهاجم الفرنسة والمتفرنسين ويؤكد على مكانة اللغة العربية ومستقبلها في الجزائر فيقول: اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة، ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي مشتدة الأواصر مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل.
وفي ظل ما نراه اليوم في كثير من البلدان قد يستغرب القارئ صدور جريدة البصائر واستمرارها تحت سمع وبصر المستعمر الفرنسي، وتفسير ذلك أن المستعمر على ضراوته في جوانب كان يحافظ على الحد الأدنى من الحرية والمظاهر الإجرائية، ومن ناحية أخرى كان البشير الإبراهيمي يلجأ كثيراً للتلميح لا التصريح وللرموز بدلاً من الحقائق، قال الأستاذ أنور الجندي في مجلة الرسالة: تطرق الحديث إلى الوسائل التي يستطيع بها رجال جمعية العلماء إعلان آرائهم دون أن يقف الاستعمار في وجههم، فقال لنا السيد البشير الإبراهيمي: إن الأدب الرمزي هو الوسيلة الوحيدة لهذا، وإنه قد ابتدع لونا من فنون الأدب هو: سجع الكهان، استطاع عن طريقه أن يفصح عن كثير من آرائه الجريئة الحرة في الكثير من المسائل والأشخاص.
ولذا رأينا البصائر تقف مع مصر في سنوات 1951-1952 في أوج فورانها للتخلص من المستعمر البريطاني، بل ويصدر البشير الإبراهيمي عدداً خاصاً من البصائر عن مصر ونضالها افتتحه بمقالة تبين حكمته وتقواه جاء فيها: فلعمرك - يا مصر - إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من النهار؛ ثم بالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالقلم الذي يزين الفاحشة، وبالبغي التي تخرب البيت، وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثل الفجور، وبالراقصة التي تغري بالتخنث، وبالمهازل التي تقتل الجد والشهامة، وبالخمر التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب. فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة... ثم تصومي عن هذه المطاعم الخبيثة كلها... إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم... وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها... فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك وانصرفوا.. وماذا يصنع المرابي في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟
ولم تقتصر أنشطة جمعية العلماء المسلمين الجزائرية على الجزائر، فقد كانت فرنسا محط كثير من الجزائريين الذين استقروا فيها للعمل أو الدراسة، ولذلك أسست الجمعية مراكز بفرنسا تحت مسمى النوادي، كانت أول مراكز إسلامية في أوروبا، وأرسل ابن باديس الشيخ سعيد صالحي مبعوثا إلى فرنسا سنة 1938 للقيام بسلسلة من المحاضرات في مختلف المدن الفرنسية، يعلم فيها أعضاء الجالية أساسيات دينهم، ويحثهم على تعليم أبنائهم اللغة العربية، ولما زاد عدد الجزائريين في فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ قاتل كثير منهم ضمن القوات الفرنسية، وكذلك قصدها بعد الحرب عدد كبير من العمال لحاجتها إليهم في البناء الذي أعقب الحرب، أوفد البشير الإبراهيمي في سنة 1947 الأمين العام للجمعية الشيخ سعيد صالحي إلى فرنسا ليدرس الأحوال ويمهد الأمور، وسرعان ما عاد النشاط وتوسع ولم يقتصر على العمال الجزائريين بل شمل حتى طلبة الكليات بفرنسا من أبناء الجزائر.
وفي سنة 1952 كلفت جمعية علماء مسلمي الجزائر الشيخ البشير الإبراهيمي بالسفر للشرق والسعي لدى الحكومات العربية لقبول أبناء الجزائر الذين تبتعثهم الجمعية في معاهدها وجامعاتها، وطلب العون المادي من حكومات العرب والمسلمين حتى تستطيع الجمعية أن تواصل أعمالها بقوّة، بعد أن اتسع ميدان عملها، فزار الشيخ مصر ثم باكستان والعراق وسوريا والحجاز.
وفي الباكستان التقى الإبراهيمي بالأستاذ أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية وأعجب به أيما إعجاب، ويقول في رسالة إليه: ذلك أنني عميق التأمل في تاريخ الإسلام ومراحله المتدرجة في الكون مع الدهر، وطالما وقف هذا التأمل بي على أن البدء تتبعه إعادة، وأن هذا الانحطاط قد بلغ غايته ولم يبق إلّا الارتقاء، سنة الله في الأديان وحامليها، وإذا كانت الإرهاصات مقدمات للنبوة والدين، فإنها كذلك مقدمات لتجديد شباب الدين، ويقيني أن هذه البوارق ستتبعها صواعق، وأن هذه الرعود سيتبعها غيث مدرار، وأن وجودكم ووجود عصبة من أمثالكم، متفرقة في الأقطار الإسلامية، لإيذان من الله جلت قدرته بقرب تبلج الفجر الصادق المرتقب بعد هذا الليل الطويل الحالك.
قامت ثورة الجزائر المسلحة في سنة 1374=1954 وتطورت وتوسعت في نضال دام مرير استمر قرابة  8 سنوات لم تترك فيها فرنسا وسيلة إلا واستعملتها لقمعها، ومع انطلاقة الثورة الجزائرية انتقل البشير الإبراهيمي إلى مصر، حيث كانت حكومة الرئيس جمال عبد الناصر من أقوى الداعمين للثورة، والممدين لها بالسلاح والعتاد، ومن مصر أصدر البشير الإبراهيمي بياناته المؤيدة للثورة دون تردد أو شك، في وقت كثر فيه المشككون والمرجفون، وهو موقف جريء تتضح قوته لو استحضرنا الثورات والانتفاضات الجزائرية السابقة التي لم تكلل بالنجاح، وأورد هنا مقتطفات من أحد بياناته التي أصدرها في آخر سنة 1954 تحت عنوان: نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد، نعيذكم بالله أن تتراجعوا! وخاطب البيان المسلمين الجزائرين قائلاً:
حياكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نورا يمشي من بين يديها ومن خلفها. هذا هو الصوت الذي يُسمع الآذان الصم ... وهذه هي اللغة التي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة... كان العالم يسمع ببلايا الاستعمار الفرنسي لدياركم، فيعجب كيف لم تثوروا... وكانت فرنسا تسوق شبابكم إلى المجازر البشرية في الحروب الاستعمارية، فتموت عشرات الآلاف منكم في غير شرف ولا محمدة، بل في سبيل فرنسا، وتوسيع ممالكها، وحماية ديارها، ولو أن تلك العشرات من الآلاف من أبنائنا ماتوا في سبيل الجزائر، لماتوا شهداء وكنتم بهم سعداء.
اذكروا غدر الاستعمار ومماطلته، احتلت فرنسا وطنكم منذ قرن وربع قرن... فما رعت في حربها لكم دينا ولا عهدا، ولا قانونا ولا إنسانية، بل ارتكبت كل أساليب الوحشية، من تقتيل النساء والأطفال والمرضى، وتحريق القبائل كاملة، بديارها وحيواناتها وأقواتها.
ثم حاربتم معها وفي صفها، وفي سبيل بقائها نصف هذه المدة، ففتحت بأبنائكم الأوطان وقهرت بهم أعداءها، ورحمت بهم وطنها الأصلي، فما رعت لكم جميلًا، ولا كافأتكم بجميل، بل كانت تنتصر بكم، ثم تخذلكم، وتحيا بأبنائكم، ثم تقتلكم، وما كانت قيمة أبنائكم الذين ماتوا في سبيلها، وجلبوا لها النصر، إلّا أنها نقشت أسماء بعضهم في الأنصاب التذكارية، فهل هذا هو الجزاء؟
طالبتموها من أربعين سنة، بأن ترفق بكم، وتنفس عنكم الخناق قليلا، فما استجابت! ثم طالبتموها بحقكم الطبيعي، يقركم عليه كل إنسان، وهو إرجاع أوقافكم ومعابدكم وجميع متعلقات دينكم، فأغلقت آذانها في إصرار وعتوّ، ثم ساومتموها على حقوقكم السياسية بدماء أبنائكم الغالية التي سالت في سبيل نصرها، فعميت عيونها عن هذا الحق الذي يقرره حتى دستورها.
لم تبقِ لكم فرنسا شيئًا تخافون عليه، أو تدارونها لأجله، ولم تبقِ لكم خيطا من الأمل تتعللون به. أتخافون على أعراضكم وقد انتهكتها؟ أم تخافون على الحرمة وقد استباحتها! لقد تركتكم فقراء تلتمسون قوت اليوم فلا تجدونه؟ أم تخافون على الأرض وخيراتها، وقد أصبحتم فيها غرباء حفاة عراة جياعًا، أسْعَدُكُم من يعمل فيها رقيقًا زراعيًّا يباع معها ويُشْتَرى، وحظكم من خيرات بلادكم النظر بالعين والحسرة في النفس؟ أم تخافون على القصور، وتسعة أعشاركم يأوون إلى الغيران كالحشرات والزواحف؟ أم تخافون على الدين؟ ويا ويلكم من الدين الذي لم تجاهدوا في سبيله، ويا ويل فرنسا من الإسلام: ابتلعت أوقافه وهدمت مساجده، وأذلت رجاله، واستعبدت أهله، ومحت آثاره من الأرض، وهي تجهد في محو آثاره من النفوس.
أيها الإخوة المسلمون! إن التراجع معناه الفناء، إن فرنسا لم تبقِ لكم دينا ولا دنيا، وكل إنسان في هذا الوجود البشري إنما يعيش لدين ويحيا بدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها.
إنكم في نظر العالم العاقل المنصف لم تثوروا، وإنما أثارتكم فرنسا بظلمها الشنيع وعُتُوِّها الطاغي، واستعبادها الفظيع لكم قرنا وربع قرن، وامتهانها لشرفكم وكرامتكم، وتعديها المريع على مقدساتكم... وقد قمتم الآن قومة المسلم الحر الأبي فنعيذكم بالله وبالإسلام أن تتراجعوا أو تنكصوا على أعقابكم؛ إن التراجع معناه الفناء الأبدي والذل السرمدي.
إن شريعة فرنسا أنها ... تنظر إليكم مسالمين أو ثائرين نظرة واحدة،... ووالله لو سألتموها ألف سنة، لما تغيرت نظريتها العدائية لكم، وهي بذلك مصممة على محوكم، ومحو دينكم وعروبتكم، وجميع مقوماتكم، إنكم مع فرنسا في موقف لا خيار فيه، ونهايته الموت، فاختاروا ميتة الشرف على حياة العبودية التي هي شر من الموت.
أخلصوا العمل وأخلصوا بصائركم في الله واذكروا دائما، وفي جميع أعمالكم، ما دعاكم إليه القرآن من الصبر في سبيل الحق، ومن بذل المهج والأموال في سبيل الدين، واذكروا قبل ذلك كله قول الله ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله وقول الله ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
كان البشير الإبراهيمي على علاقة وثيقة برجال العروبة والإسلام في مصر، وعلى رأسهم جماعة الأخوان المسلمين التي كان يعتلي منبر مركزها العام للحديث عن جهاد الجزائر إزاء الاستعمار الفرنسي وتسلّطه على الشعب الجزائري المسلم، ولما حصلت الجفوة بين جماعة الإخوان المسلمين ورجال الثورة المصرية سنة 1954، بسبب انقلاب جمال عبد الناصر على الرئيس محمد نجيب وبقاء الجيش في الحكم، ظن  الإبراهيمي أن في مقدوره الوساطة بين الطرفين وبدأ يتلمس طريقه للإصلاح والتوفيق، ولكنه وجد الطريق مسدوداً فقد كان عبد الناصر يريد القضاء على الإخوان حتى يستطيع حكم مصر حكماً فردياً مطلقاً لا شورى فيه ولا محاسبة.
وقدرت فرنسا في بداية الأمر أنها ستستطيع القضاء على هذه الثورة كما قضت على الثورات السابقة، ولكن خاب فألها فقد اختلفت الظروف المحلية والعالمية، فقد أبدى الشعب الجزائري استعداداً للتضحية والبذل مكن الثورة الجزائرية من الصمود وإنهاك المستعمر، رغم النكسات العديدة التي تعرضت لها، وقام البشير الإبراهيمي وصحبه من رجالات جمعية العلماء المسلمين بجهود مضنية نجحت في توحيد الصف الجزائري والتوفيق بين أطراف الثورة المتنافسة المتناحرة، وقامت الدول العربية التي استقلت حديثاً مثل مصر وسوريا بدعم الثورة بالمال والسلاح، بل منحت الباكستان جواز سفر دبلوماسي لأحمد بن بلة زعيم الثورة الأبرز، ولقيت الثورة تأييداً معنوياً ومادياً من دول العالم الثالث التي تخلصت عن قريب من ربقة الاستعمار، كذلك تغيرت سياسة أمريكا الخارجي بفضل الرئيس الأمريكي الحكيم العاقل دوايت إيزنهاور الذي تولى السلطة في سنوات 1953-1961، فتحولت أمريكا من تأييد الاستعمار إلى تقليم أظافر الدول الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا والحد من نفوذها في دول العالم الثالث، وكل ذلك جعل فرنسا تدرك أن لا مناص هذه المرة من التفاوض مع الثوار، فدخلت في مفاوضات معهم عرفت بمفاوضات إيفيان انجلت عن الاتفاق على استفتاء سكان الجزائر حول الاستقلال، وانتهت باستقلال الجزائر بعد قرابة 130 من الاحتلال الفرنسي، وفي كل هذه المراحل كان البشير الإبراهيمي يسعى لرأب الصدع ولملمة الشمل، فقد كانت الخلافات لا تكاد تتوقف بين زعماء الثورة بين من هم في الداخل وبين من هم في الخارج، وكثيراً ما كانت تستعين به في هذا الصدد الحكومة المصرية التي تبنت الثورة الجزائرية ورعتها حتى نجاحها، وكان ذلك أحد ردودها على العدوان الثلاثي في سنة 1956 والذي تحالفت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الهجوم على مصر واحتلال قناة السويس.
وعاد البشير الإبراهيمي وصحبه من المشايخ والعلماء إلى الجزائر بعد استقلالها، وفي الرابع من جمادى الآخرة 1382= 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1962 ألقى البشير الإبراهيم خطبة الجمعة في جامع كتشاوة بالجزائر العاصمة، وكانت أول جمعة تقام في المسجد بعد 124 عاماً من تحويل الاحتلال الفرنسي هذا المسجد إلى كاتدرائية حملـت اسم القديس فيليب، وقد صرح الإبراهيمي في خطبته ببقاء التبعية الفكرية للاستعمار بعد زوال الاستعمار العسكري فقال: إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ. فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
وكان من المدعوين للحفل الأستاذ الشاعر الكبير الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري والذي ألقى فيه قصيدة حذر فيها من عواقب أن تحيد الدولة الوليدة عن طريق الإسلام، فقال:
يجلجل الحق والأكوان آذان... بأن آية هذا النصر إيمان
جزائر المجد، والدنيا لها دُول ... ودولة الحق آباد وأكوان
قالوا: العروبة، قلنا: إنها رحِمٌ  ... وموطن ومروءات ووجدان
أما العقيدة والهدي المنير لنا ... دربَ الحياة، فإسلام وقرآن
وشرعة قد تآخت في سماحتها ... وعدلها الفذ أجناس وألوان
جزائر المجد، غيض الماء وانعقدت ... لك الحياة، ولم يغلبك طوفان
دهر من الظلم، لا عام ولا مئة ... ولا ثلاثون، بل كفر وبهتان
قد انمحى فاسجدي لله شاكرة ... فاليوم عدل، وتوحيد، وشكران
فحاذري أن يحيد السعي عن جَدد ...  الإيمان إن صراط الحق ميزان
وغيرة الله لا تنفك مسلطة ... يقظى، وللحكم عند الله إبّانُ
صلى البشير بكتشاوا وقد خلصت ... شيخاً تهدم، والآمال فتيان
هيهات تقدر أن تجتث ما غرست ... يدُّ الإله طواغيتٌ وأوثان
وإضافة إلى نزوع الحكومة الجزائرية إلى سلوك الطريق الاشتراكي، كانت مظاهر الاحتفالات تخفي وراءها أزمة شديدة في أوساط الطبقة السياسية دارت بين الحكومة الجزائرية المؤقتة وبين كبار ضباط الجيش، وانتهت بسيطرة أحمد بن بلة ومن ورائه رجل الجيش القوي هواري بومدين على مقاليد الأمور، وأعقب ذلك تمرد بعض رفاق الأمس من قادة جبهة التحرير الجزائرية ومعهم بعض القطعات العسكرية، ولكن حكومة بن بلة استطاعت القضاء على كل هذه المحاولات، لينتقل الصراع إلى داخل الحكومة بين بن بلة وبين حليفه السابق بومدين الممسك بالجيش، ومحوره: من سيحكم الجزائر، الجيش أم المدنيون في جبهة التحرير.
وما لبث بومدين أن أطاح بالرئيس بن بلة في منتصف 1965 لأنه: خرج عن خط الثورة الجزائرية واستأثر بالسلطة وأصبح ديكتاتوراً شوفينياً! وقال بومدين إنه لجأ إلى الانقلاب: إنقاذا للثورة وتصحيحا للمسار السياسي، وحفاظا على مكتسبات الثورة الجزائرية! وبالطبع كانت الديمقراطية آخر شيء يفكر في تحقيقه بومدين الذي أقدم على حل كل المؤسسات الدستورية التي أنشئت في عهد بن بلة، وبدأ في إبعاد من يخشى خطرَهم من الإنقلابيين في تكرار مزر لما حدث قبل 10 سنوات في مصر من انقلاب عبد الناصر على محمد نجيب.
ولم يكن البشير الإبراهيم بعيداً عن كل هذه المصائب التي تدور في صفوف طبقة الشباب التي تولت السلطة، ولم تخف عنه ميولها الماركسية الاشتراكية ومآلاتها الكارثية، فأصدر بياناً في أبريل/نيسان من عام 1964 رأى فيه بعين بصيرته ما تقود إليه هذه السياسات الخرقاء، ومما جاء في البيان: كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر، ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنية مرتاح الضمير، إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق، والنهوض باللغة العربية- ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله- إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن، ولذلك قررت أن ألتزم الصمت.
غير أني أشعر أمام خطورة الساعة، وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، أنه يجب علي أن أقطع ذلك الصمت، ان وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة، ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها، ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل.
ولكن المسؤولين- في ما يبدو- لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء إلى الوحدة والسلام والرفاهية، وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم، يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب أجنبية.
لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألا يقيموا وزنًا إلّا للتضحية والكفاءة، وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم، وقد آن أن يرجع لكلمة الاخوة- التي ابتذلت- معناها الحق، وأن نعود إلى الشورى التي حرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيدوا جميعا مدنية تسودها العدالة والحرية، مدنية تقوم على تقوى من الله ورضوان.
وأنَّى للشباب المغرور بالسلطة وجبروتها، والمستلَب بالماركسية ودعاويها، أن يصيخ لصوت الحق والعدل، أو أن يُعنى بالشورى التي ستطيح به أول ما تطيح، فوضعت الحكومة الجزائرية الشيخ قيد الإقامة الجبرية، وبقي رهنها قرابة سنة حتى توفاه الله في بيته، ورثاه الشاعر الكبير الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله بقصيدة منها:
قالوا: أتبكي؟ كيف لا أبكي أبًا وأخًا وأستاذًا فريد زمانه
أبكي المودة والوفاء سجية والنُّبْل، كان يشعّ من أردانه
أبكي الفضيلة والمروءة والنَّدَى والمكرمات تسير في ركبانه
أبكي الثقافة والحصافة والحِجا والذوق وازَى العلم في ميزانه
أبكي بصيرته وحِكْمَةَ فَصْلِهِ أبكي سَدادَ الرأي في إبَّانِه
 
كان الإمام محمد البشير الإبراهيمي إلى جانب إمامته في في الجهاد إماماً في الشريعة واللغة أديباً شاعراً خطيباً مفوهاً، ولذا اختير عضواً في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وعضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق، وله عدد من المؤلفات الدعوية واللغوية، قال بتواضعه: لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلًا، ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالًا، وعملت لتحرير عقوله تمهيدًا لتحرير أجساده، وصححت له دينه ولغته فأصبح مسلمًا عربيًا، وصححت له موازين إدراكه فأصبح إنسانًا أبيًّا، وحسبي هذا مقرِّبا من رضى الرب ورضى الشعب.
عاش للبشير الإبراهيمي من الأولاد ابنتان وولدان؛ ابنه البكر محمد الذي توفي بعد مرض عضال، والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، المولود سنة 1932، والذي ناضل في صفوف الثورة الجزائرية وتبوأ منصب وزير خارجية الجزائر، وأسس حزب الوفاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
عاش للبشير الإبراهيمي من الأولاد ابنتان وولدان؛ ابنه البكر محمد الذي توفي بعد مرض عضال، والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، المولود سنة 1932، والذي ناضل في صفوف الثورة الجزائرية وتبوأ منصب وزير خارجية الجزائر، وأسس حزب الوفاء.
 

الجمعة، 23 أكتوبر 2015

حدث في الحادي عشر من المحرم

في الحادي عشر من المحرم من عام 1335 الموافق 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1916 قتلت القوات البريطانية سلطان دارفور علي دينار، وقضت بذلك على سلطنة الفُور في غرب السودان التي حكمت أكثر من 400 سنة، ودار فور تعني بلاد الفُور، وإضافة إلى محافظة دارفور الواقعة غرب السودان اليوم، فقد كانت حدود نفوذها تمتد في الماضي إلى بعد تشاد غرباً وحتى أوغندا والكونغو جنوباً، وكانت عاصمتها مدينة الفاشر، ولغتها الرسمية اللغة العربية إلى جانب لغة الفور، وتتميز بقبائلها ذات الأصول والأسماء العربية.
ولد السلطان علي بن زكريا بن السلطان محمد فضل، الملقب بدينار، في حدود سنة 1273=1856في قرية تدعى الشاواية غربي مدينة نيالا في دارفور، وينتمي إلى الأسرة الكيراوية التي نشرت الإسلام في تلك البلاد وعمقت جذوره فيها، وكان عمه أبو الخيرات سلطان البلاد حتى وفاته سنة 1307=1890، وأصبح هو مكان عمه على إمرة دارفور التي كانت عاصمتها مدينة الفاشر.
وهنا نعود للوراء قليلاً لنتحدث عن بداية الوجود البريطاني في السودان والذي كان لأسرة محمد علي، الحاكمة في مصر، دور أساسي فيه، فنقول: كان السودان منذ عهد المماليك يعترف بسياد ة الدولة المصرية عليه اعترافاً تفاوتت متانته حسب موازين القوى وإقدام الحاكم المصري أو تريثه، وكانت آخر حملة مصرية عسكرية كبيرة تلك التي أعدها محمد علي باشا في سنة 1820وعهد بقيادتها لابنه إسماعيل، وهو في الخامسة والعشرين، فاستولى على البلاد واحدة تلو الأخرى دون أن يواجه مقاومة ذات معنى، وتوج انتصاراته في 13 يونيو 1821 حين وقع ملك الفونج بادي السادس على وثيقة تنازل فيها عن جميع سلطانه لخليفة المسلمين في القسطنطينية، وأفلت بذلك شمس هذه السلطنة المسلمة التي دامت أكثر من 300 سنة.
وأرسل محمد علي بعدها حملة أخرى قادها صهره محمد بك الدفتردار للاستيلاء على أملاك سلطنة الفور في شرقي السودان؛ كُردفان ودارفور، فهزمت في موقعة بارة القوات التي أرسلها جد علي دينار السلطان محمد الفضل، وكانت تلك أول مرة تظهر فيها الأسلحة النارية في شرق السودان، واستولى محمد بك الدفتردار على كردفان قبل أن يأمره محمد علي بترك دارفور وشأنها، وأساء الولاة الذين أرسلهم محمد علي السيرة في الولايات السودانية وأمعنوا في اضطهاد أهلها وإذلال كبرائها، ولم يترددوا في سفك الدماء، بل جعلوا ذلك وسيلتهم المثلى للسيطرة على الأهالي المساكين، الذين هاجر كثير منهم إلى الحبشة ودارفور والمناطق النائية البعيدة عن بطش الدفتردار ومن تلاه من الولاة.
وبقىت دارفور مستقلة يحكمها الكيراويون، ولكنها بقيت ضمن مخططات أسرة محمد علي للتوسع في السودان، ولذا فرض الخديوي ما يشبه الحصار عليها، ومنع الاتجار معها في الأسلحة النارية، وبقيت الحالة على هذا الاستقرار القلق حتى أيام الخديوي إسماعيل، الذي تولى الحكم سنة 1863، حين ظهر القائد السوداني الزبير رحمة والذي كان له الدور الأكبر في بسط السيادة المصرية على دارفور في سنة 1874.
كان الزبير رحمة رجلاً ذا علم شرعي، ومن كبار التجار بين أفريقيا وبين مصر، وأسس محطات تجارية محروسة للقوافل في منطقة بحر الغزال جنوبي دارفور، وانتهى ذلك به إلى أن أسس فيها حكومة قائمة على الشورى والتعاون أقرتها الحكومة المصرية ومنحته رتبة البكوية، وعارضته قبائل الرزيقات فقمعهم معتدياً على حمى سلطان دارفور الذي يدينون له بالولاء، والذي أبدى رفضه لما حدث، فقرر الزبير أن يخضعه كذلك، وطلب العون العسكري من الحكمدار المصري في الخرطوم، معلناً ولاءه للدولة العلية العثمانية التي تمثلها مصر وذلك بدافع من عقيدته الدينية القائمة على توحيد بلاد المسلمين، فأمده الحكمدار وعاضده حتى استولى على الفاشر عاصمة الفور في أواخر سنة 1874، ومنحه بسببها الخديوي إسماعيل رتبة فريق العسكرية وأنعم عليه بمرتبة الباشوية.
واختلف الزبير مع الحكمدار بسبب الضرائب التي فرضها على السكان، فقد كان الزبير يرى الاكتفاء بالزكاة الشرعية، أما الحكمدار فكان مثالاً لأسرة محمد علي في فرض الضرائب الباهظة، واعتقد الزبير أن له من الدالة على الخديوي ليقنعه بتغيير ذلك، فطلب الإذن بالسفر إلى القاهرة حيث رحب به الخديوي وأبقاه فيها ليخلو له حكم السودان.
وفي سنة 1874 عين الخديوي إسماعيل الجنرال البريطاني غوردون باشا حاكماً على مقاطعة خط الاستواء، ومنحه مئة ألف جنيه من الخزينة المصرية نفقة لحملته، كانت كما قال مصطفى كامل تمويلاً لاستيلاء بريطانيا على السودان، وفي سنة 1877 جعله حاكماً عاماً على السودان باسم: حكمدار عموم السودان.
وكانت نتائج فرض الضرائب الباهظة وسلوك الأساليب القاسية في تحصيلها أن عاد رجال الفُور فتجمعوا حول ابن عم علي دينار؛ السلطان هارون الرشيد ابن الأمير سيف الدين ابن السلطان محمد الفضل، وثاروا في أوائل سنة 1877 وحاصروا الفاشر حتى جاءها المدد من الخرطوم فانسحبوا وتحصنوا بمرتفعات جبل مرة، وعاودوا هجومهم بعد سنة وحققوا بعض الانتصارات قبل أن يهزموا ويقتل السلطان هارون الرشيد في أوائل سنة 1880 في معركة مع قوات سلاتين باشا، Rudolf Slatin الضابط النمساوي الذي عينه غوردون مديراً على دارفور، وهو لما يتجاوز الخامسة والعشرين، وهو مثال لعدد من الأوربيين الذين أتى بهم غوردون لإدارة السودان، تحفز كثيراً منهم الروح الصليبية، كما يفتقر كثير منهم إلى الخبرة أو الحنكة أو كليهما، وأطلق غوردون يد البعثات التنصيرية فكانت تخرج من الأُبيض إالى جبال النوبة لتنصير أهلها، وزاد كل ذلك في غضب السودانيين وحقدهم على حكومة الخديوي التي جاءتهم بهؤلاء الكفرة الفجرة.
وظهر في تلك الأثناء الزعيم السوداني محمد بن عبد الله المتلقب بالمهدي، والمولود سنة 1260=1844، وأعلن حركته في حوالي سنة 1297=1880 وهزم الحملات التي جردتها مصر وبريطانيا، واستولى على الخرطوم في 8 ربيع الآخر من سنة 1302=25 كانون الثاني/يناير 1885، وقتل غوردون باشا، ودانت له السودان بأكملها، بما فيها دارفور التي جاءه منها علي مادبو زعيم قبائل الرزيقات فبايعه ثم عاد إليها ليقاتل سلاتين باشا النمساوي، والذي بادر فأعلن إسلامه واستسلامه لما رأى أن لا قبل له بمواجهة أهل دارفور وخشي من تمرد جنوده وانضمامهم للمهدي، وتسمى بعبد القادر سلاتين، فأرسل له المهدي محمد خالد زقل حاكماً على دارفور، وكان من قبل مساعداً لسلاتين، وأمره أن يرسل سلاتين ليكون عند المهدي، وكان تحت إمرة زقل في دارفور جيش كبير قوامه 1000 فارس و 3000 آلاف جندي مسلحين بالبنادق و 30000 مجاهد من المشاة.
وتوفي المهدي في 9 رمضان سنة 1302=22 حزيران/يونيو 1885، وخلفه بعهد منه عبد الله التعايشي، نسبة إلى قبيلة التعايشة في دارفور، ومع التعايشي آخران يخلفانه، وحوَّل التعايشي الحكم بالتدريج من الشورى إلى الاستبداد فأقصى كبار أمراء المهدي وأبعد خليفتيه، وأعطى أخاه وابنه مناصب لم يكونا يستحقانها، فأصبحت الدولة المهدية خاوية من جوهرها النقي الذي جذب إليها القبائل قريبها وبعيدها.
ورغم بسط الدولة المهدية سلطتها على السودان إلا أن البلاد لم تهدأ مطلقاً، ولأسباب مختلفة كانت القبائل تتمرد على المهدي ثم خليفته التعايشي، وترفض أن تخضع لسلطانه، وكان عامل المهدية على دارفور هو الأمير يوسف بن إبراهيم الكيراوي، فانتهز انشغال الخليفة عبد الله التعايشي في سنة 1887 بقمع ثورات قبائل الرزيقات والكبابيش ورفاعة الهوى، وانساق وراء استعادة ملك آبائه وأجداده والاستقلال بدارفور عن الدولة المهدية، وشعر الخليفة بهذا التحرك فأرسل يطلبه إلى أم درمان ليجدد بيعته للخليفة، وماطل يوسف في الأمر ثم أعلن عصيانه فأرسل إليه الخليفة جيشاً هزمه وقتل يوسف وذلك في يناير 1888.
ولم يقض ذلك على النزعة الاستقلالية لدى الفُور، فاستمرت الدعوة سراً للأمير أبي الخيرات أخي الأمير القتيل يوسف، وظهرت في أثناء ذلك حركة دينية استقلالية تزعمها رجل مغمور أطلق عليه لقب أبو جميزة، لأنه كان يجلس تحت شجرة جميزة كبيرة، واجتمع حوله عدد كبير من قبائل الفور وفيهم أبو الخيرات وعلي دينار، فأرسل التعايشي الجيوش لقمعهم، ولكن أبو جميزة انتصر عليها مرتين، وتقدم نحو الفاشر ليستولي عليها، ولكنه مات بالجدري في طريقه إليها في يناير 1889، وخلفه أخوه إساغة في زعامة الحركة، ولكن جيش الدولة المهدية هزمه هزيمة ساحقة بعد قرابة شهر، في معركة رهيبة لم تقم بعدها للحركة قائمة.
وكانت حركات التمرد محاولات محلية كان إخفاقها محتماً، واستطاعت الدولة المهدية القضاء عليها واحدة تلو الأخرى، ولكنها كلفتها كثيراً من المال والرجال والاستقرار، في الوقت الذي كانت فيه جيوش الأوربيين الطامعين تنهش في السودان من جميع جهاته، فإلى جانب بريطانيا التي يعضدها حلفاؤها من أسرة محمد علي في مصر، كانت لدى كل من بلجيكا وإيطاليا وفرنسا خططها لبسط سلطانها على جزء من السودان، وزاد من ضعف الدولة المهدية المجاعة التي ضربت البلاد في سنة 1891 وقضت على عدد كبير من سكانها ونشرت بينهم الأمراض.
وتوفي أبو الخيرات في سنة 1307= 1890 فخلفه في الإمارة علي دينار لكونه الوريث الشرعي بين الكيراويين، وكانت الإمارة إسمية معنوية فقد كانت السلطة للتعايشي وأميره في دارفور؛ عبد القادر دليل، وتحسباً لأي تمرد محتمل من قبله طلب التعايشي من علي دينار أن يترك دارفور وينضم إليه في أم درمان، ففعل وبقي معه عدة سنوات.
وفي سنة 1896 قامت بريطانيا بالتعاون مع الخديوي في مصر بشن حملة عسكرية للقضاء على الدولة المهدية وإخضاع السودان، ولما كان حزب الأحرار يعارض الحملة، مهدت حكومة المحافظين لها بحملة دعائية في بريطانيا لجر الرأي العام إلى جانبها، ووصفت المهدي وخليفته بالقسوة والظلم والتخلف والهمجية، وكان سلاتين باشا النمساوي قد هرب من سجن المهدي سنة 1895 وألف كتاباً أسماه النار والسيف في السودان، ولم يترك فيه نقيصة إلا وألصقها بالمهدية، وكان له أثر كبير في إثارة المشاعر ضد الحركة المهدية.
وقاد الحملة الضابط البريطاني كتشِنر باشا، ومعه سلاتين باشا، وتألفت الحملة من 26.000 مقاتل ثلثهم من البريطانيين، والباقون من المصريين والسودانيين، وكانت مسلحة بالبنادق والمدافع والمدافع الرشاشة التي كانت قد برزت من جديد، ونجحت الحملة في الاستيلاء على دنقلا ثم على كل السودان، وبلغت أوجهها في هزيمة المهدية في معركة كرري في 15 ربيع الثاني 1316= 2 أيلول/سبتمبر 1898 التي حصدت فيها المدافع الرشاشة أكثر من 10.000 مجاهد سوداني، قال عنهم ضابط بريطاني شارك في الحملة: تقدموا موجة تلو الأخرى بقلوب لا تهاب الموت، ولم يتقهقروا حتى رأوا أنه يستحيل عليهم اختراق هذه النيران.
واستولى كتشنر على أم درمان عاصمة المهدي، بعد أن دكتها سفنه بقنابل مدافعها، وفي 18 سبتمبر 1898 نسف كتشنر ضريح المهدي ونبش قبره واستخرج جثته وقطع رأسها وأرسله إلى المتحف البريطاني بلندن وأمر ببعثرة ما تبقى من العظام، وانتهت الدولة المهدية بمقتل التعايشي في معركة قرية جديد في 24 نوفمبر 1899، وأطلق البريطانيون على السودان اسم السودان الإنجليزي المصري إيذانا بقيام حكم ثنائي فيه، ولكنه في حقيقنه حكم بريطاني لا يد لمصر فيه، وفيه يقول الشاعر حافظ إبراهيم:
رويدك حتى يخفق العلمان ... وننظر ما يجري به الفتيان
فما مصر كالسودان لقمة جائع ... ولكنها مرهونة لأوان
أرى مصر والسودان والهند واحداً ... بها اللورد والفيكونت يستبقان
وأكبر ظني أن يوم جلائهم ... ويوم نشور الخلق مقتربان
وكان علي دينار قد انتهز فرصة خروج القوات المهدية إلى معركة كرري بينها وبين البريطانيين، وما أعقب هزيمتها من فوضى، فانسل من أرض المعركة وعاد إلى أم درمان مع عدد قليل من رجاله وعاد منها إلى دارفور، وتلاحق به أتباعه فما دخل الفاشر إلا وقد صار معه ألفا مقاتل، واستولى عليها دون قتال وأعلن نفسه سلطاناً عليها.
وكان كتشنر قد أسر في إحدى المعارك أحد أفراد الأسرة المالكة في دارفور ويدعى إبراهيم علي، فأرسله بعد انهيار المهدية إلى الفاشر على أمل أن يصبح حاكم دارفور، ولكنه وجد أن موقع علي دينار لا يمكن زحزحته، واستنجد بكتشنر ليرسل له بعض القوات، ولكن علي دينار أرسل إلى كتشنر رسالة يعرض فيها أن يرفع العلمين البريطاني والمصري وأن يدفع للحكومة مبلغاً سنوياً مقابل أن يترك وشأنه سلطاناً على دارفور، وقبل كتشنر هذا الترتيب فقد كان في غنى عن مزيد من المعارك.
وواجهت علي دينار مشاكل عديدة وكبيرة في حكمه لدارفور، أولها أن الحكومة في الخرطوم كانت ساكتة على مضض عن منحه هذه الحرية في إدارة شؤون بلاده، وكانت تريد حاكماً تابعاً لها يطيع أوامرها، ولذا كانت لا توفر فرصة أو مناسبة لإنقاص سلطاته، وثانيها أن قبائل الرزيقات كانت قد أبت أن تنصاع لسلطانه، وثالثها أن الفرنسيين بدأوا في بسط سلطانهم على المناطق الغربية من سلطنته، ورابعها أن البريطانيين رفضوا إمداده بالسلاح الذي يحتاجه لمواجهة الرزيقات أو الفرنسيين، فقد طلب منهم البنادق فأرسلوا له بندقية واحدة هدية! وكان البريطانيون يخشون أن يورطهم في مواجهة غير مدروسة مع الفرنسيين، ينتج عنها احتلال الفرنسيين لغربي دارفور، ذلك إن اتفاقهم مع فرنسا لم يحدد بدقة حدود مناطق السيطرة المتفق عليها فيما بينها، وأخيراً لم يخف على البريطانيين طموحه على المدى البعيد لضم مديرية كُردفان حتى تستعيد إمارة الفور أراضيها التاريخية.
ولما نشبت الحرب العالمية الأولى في أواخر سنة 1332= منتصف سنة 1914 بين بريطانيا وحلفائها وبين ألمانيا وأنصارها، قامت الحكومة البريطانية بإعلان حمايتها لحكم أسرة محمد علي في مصر، ففصلت مصر، ومعها السودان، حتى من الناحية النظرية عن الدولة العثمانية التي كانت تمثل الخلافة الإسلامية الواحدة.
والحقيقة المرة أن حكومة الاتحاد والترقي التي كانت قائمة في استانبول لم تكن حكومة جديرة بتمثيل الخلافة الإسلامية، فقد كانت حكومة انقلاب عسكري قام به ضباط مغامرون مغرورون، ظاهرهم غير باطنهم، ولم يكونوا يعتبرون أنفسهم حكومة خلافة إلا بمقدار ما يخدم ذلك أغراضهم، وانحازت هذه الحكومة إلى جانب ألمانيا في الحرب، وزج أنور باشا وأخوه نوري باشا البلاد في أتون حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، وأرسلت حكومة الاتحاد والترقي مبعوثين إلى أنحاء البلاد الإسلامية الواقعة تحت السيطرة البريطانية تستصرخ غيرة أمرائها وحكامها وتدعوهم للثورة على البريطانيين، وتعدهم بإمدادهم بالمال والسلاح إن هم فعلوا ذلك، وهي دعوة حق أريد بها باطل من حكومة بعيدة عن الإسلام وعن الشورى، وقد خلعت بالأمس السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين، وتعلم أنها لا تستطيع المحافظة على وعودها هذه، وأنْ ستذهب ضحيتها الأرواح والأموال، ولا غرابة، فقد كان الاستهتار سمة هذه العصبة الإنقلابية.
وكان السلطان علي دينار أحد ضحايا هذه الحكومة الإنقلابية الفاشلة التي ناشدت باسم الإسلام إيمانه وضميره لكي يتمرد على البريطانيين ويثور، وكتب إليه أنور باشا رسالة أعلمه فيها أن الخليفة قد أعلن الجهاد المقدس ضد المعتدين، ومن هنا أصبح الجهاد فرضا على كل المسلمين، وأنه سيرسل إلى أفريقيا مندوبا من تركيا، هو جعفر بك العسكري، وأنه سيقود حملة لإنقاذ مصر، وأن النصر سيكون حليفه وحليف أصدقائه الألمان.
وقد انخدع علي دينار بهذه الدعوة الزائفة لأنه كان صاحب إيمان وصدق وإخلاص لم يتوقع أن يخدعه مقام الخلافة الإسلامية، ويبدو ذلك في رسالة أرسلها للحكومة التركية قال فيها: وقد أحاطت أيدي النصارى الكفار بالمسلمين من يميننا وشمالنا وورائنا وأمامنا، وحازوا ديار المسلمين كلها، ممالك البعض سلطانها مقتول، والبعض سلطانها مأسور، والبعض سلطانها مقهور، يلعبون بأيديهم كالعصفور، ما عدا بلادنا دارفور قد حفظها الله من ظلمات الكفار. والداعي أنهم حالوا بيننا وبين الحرمين الشريفين اللذين حرسهما الله ومنحكم بخدمتهما، ولم نر حيلة نتوسل بها لأداء الفرض الذي فرضه الله علينا من حج بيته الحرام، وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام.
وأغراه بالتحرك أن تركيا وألمانيا في بادئ الأمر كانتا تزودان بالسلاح والذخائر السيد أحمد السنوسي في ليبيا، وأن نوري باشا، أخو أنور، جاء إلى ليبيا لينسق مع السنوسية، وأرسلت تركيا جعفر العسكري إلى بنغازي على متن غواصة ألمانية ليقود الهجوم على الحدود الغربية لمصر ويشغل بريطانيا وقواتها، وأسرته بريطانيا جريحاً بعد شهور في مرسى مطروح، ولما كانت العلاقة بين الفور وبين الحركة السنوسية متصلة وثيقة، لم يلبث علي دينار أن تحرك وأعلن الجهاد وهاجم قوات الحكم الثنائي، ولكنه انتظر وانتظر ولم تصله المساعدات والإمدادات الموعودة سوى 250 بندقية مع شيء من الذخيرة وصلته من السنوسي.
ولم تكن نوايا علي دينار وتحركاته خافية عن الحكومة في الخرطوم التي كان لها عيونها في كل مكان، ولذا خشيت أن تكون هذه الشحنة مقدمة لشحنات أخرى، وقرر السير ونجيت الحاكم العام للسودان أن يبادر للقضاء عليه، فأرسل حملة يرأسها الضابط الإنجليزي كِلْي على رأس قوة من 2000 جندي مسلحين بالبنادق والمدافع العادية والرشاشة، ونصفها أو أكثر من المجندين السودانيين والمصريين والعرب، وحمل ذخائر الحملة ولوازمها 1200 جمل، وعضدتها 4 طائرات استطلاع، وكان التحدي الأكبر الذي يواجه الحملة هو الانتقال بالقطار مسافة 700 كيلو متراً من الخرطوم إلى الأُبيض، حيث انتهت السكة الحديدية التي مدها البريطانيون، ثم السير منها براً إلى الفاشر مسافة 650 كيلومتراً وهي مفازة محفوفة بالمخاطر وتقل وتتباعد فيها الآبار ومياه الشرب.
أما جيش السلطان فكان يتكون من 800 فارس و 3000 من المشاة المسلحين بالبنادق مع ذخيرة قليلة، وإلى جانبهم 2000 من المتطوعة المسلحين بالرماح، والتقى الجيشان في 22 مايو 1916 في معركة بِرنجية على بعد 20 كيلومتراً من الفاشر، والتي دامت قرابة ساعة والتي انجلت عن هزيمة عسكر السلطان ومقتل 400 من جنوده، كما قتل فيها قائد جيشه رمضان بُرّة ونائبه سليمان علي، وتقدمت على إثرها القوات البريطانية لتحتل الفاشر عاصمة السلطان علي دينار.
وانسحب السلطان إلى جبال مَرّة الشاهقة ليعيد تنظيم قواته، ولكن رجاله بدأوا يتخلون عنه ويتسللون من حوله، فأرسل إلى القائد البريطاني رسولاً يحمل وعده بالتخلي عن السلطنة والاستسلام مقابل منحه الأمان وتركه يعيش في بلاده وبين أهله، ولكن كلي رد عليه أنه سيمنحه الأمان ليعيش في منفى تختاره الحكومة البريطانية، ووافق علي دينار على ذلك واعداَ أن يقوم بذلك بعد انتهاء موسم الأمطار، ولما انتهى الموسم طلب مزيداً من الوقت متعللا أنه لم يستطع إقناع كل رجاله بالاستسلام. واتضح للقائد البريطاني أن علي دينار كان يناور كسباً للوقت، ولذا لا بد من القضاء عليه.
وفي 7 أكتوبر 1918 أرسل كِلي قوة من 250 جندي يقودها الرائد هدلستون لتتعقب السلطان وتأتي به حياً أو ميتاً، وعلم هدلستون بوجود زكريا ابن السلطان الأكبر مع مجموعة من مقاتليه فأغار عليهم في 13 أكتوبر وقتل زكريا وأغلب من كانوا معه،  وأخبره جواسيسه أن السلطان يختبأ في قرية تدعى كُلمة وأن من بقي معه في حالة سيئة جداً من الجوع والمرض، فسار إليها واحتلها في 3 نوفمبر دون أية مقاومة، واستسلم له عدد كبير من أتباع السلطان بما فيهم بعض أفراد أسرته، أما السلطان فهرب إلى جبل جوبا ولاحقه إليه هدلستون، وتمكن في السادس من أكتوبر من الاقتراب مخيم السلطان دون أن يُكتشف، ولما أطلق نيرانه هرب رجال السلطان، ولاحقهم جنوده ليجدوا السلطان علي دينار قتيلاً برصاصة في جبهته، ووصفه القائد البريطاني أنه كان رجلاً قوي البنية ذا وجه نبيل.
ولأن السودان كان نظرياً يتبع الحكومة المصرية القابعة تحت الحماية البريطانية، فقد قامت هذه الحكومة بتغطية نفقات هذه الحملة التي بلغت نصف مليون جنيه استرليني، وتحققت للمرة الثانية كلمات الزعيم المصري مصطفى كامل من أن مصر قدمت الرجال والمال لتحتل بريطانيا السودان، وكافأت الحكومة البريطانية رجالها؛ فرقَّت الجنرال وينجِت ليصبح المندوب السامي البريطاني في مصر، وعينت الضابط كِلي في منصب الحاكم العام لدارفور، التي ضمتها للسودان، بعد قرون من الاستقلال.
كان السلطان علي دينار من أعظم السلاطين الذين حكموا دارفور، وتمتع بالشجاعة والحكمة وبعد النظر والطموح، مع قدر كبير من التقوى والعلم، وكان يقرض الشعر وله ديوان أسماه: ديوان المديح في مدح النبي المليح، ولا شك أنه كان رجل دولة تفوق على ظروف زمانه ومكانه، وأراد تأسيس دولة إسلامية في وسط أفريقيا، كان من إحدى معالمها أنه أرسل كسوة للكعبة المشرفة لسنوات عديدة.
كان لعلي دينار زوجات وحظايا بلغ عدد أولاده الذكور منهم 125 ولداً، ولا تزال سلالته العديدة محافظة على نسبها وتميزها والتزامها الديني، وقد برزت منها ومن مصاهريها شخصيات كبيرة من أهل السياسة والعلم في السودان.
وقد بنى السلطان علي دينار قصراً سلطانياً في مدينة الفاشر، هو اليوم متحف يحمل اسمه، ولما دخلته القوات البريطانية وصفه أحد ضباطها أنه: قصر الحمراء على الطراز السوداني، تتوزع في أرجائه الحدائق الصغيرة الظليلة وبرك الاسماك والأقواس والعرائش. كما حوى القصر الهدايا والغنائم القيمة التي كانت ترد إلى السلطان، وأصبح القصر المقر الرسمي للكولونيل كلي عندما صار الحاكم العام بدارفور، ثم مقر محافظة دارفور حتى عام 1976، عندما أمر الرئيس الراحل جعفر النميري بتحويله إلى متحف أصبح ثاني متحف في السودان بعد المتحف القومي، ويضم مقتنيات السلطان علي دينار وآثاره.

الجمعة، 16 أكتوبر 2015

حدث في الرابع من المحرم

في الرابع من المحرم من سنة 554 ولد في بغداد يعقوب بن صابر الـمَنجنيقي الشاعر الأديب والخبير العسكري.
ولد أبو يوسف نجم الدين يعقوب بن صابر بن بركات في بغداد، وأصل أسرته من حرّان، وهي اليوم Harran جنوبي أورفا في جنوب تركيا، وعمل في صناعة المنجنيقات، والمنجنيق كلمة معربة أصلها اليوناني اللاتيني Mangonel، وهي آلة تقذف الحجارة على المعاقل من أجل أن تدكها، أو ترمي شعلة من نار حتى تشب النار في الموضع المحاصر، وكانت المنجنيق على مر العصور القديمة من أهم آلات الحصار ودكّ القلاع والحصون، ويتراوح ضخامة وتعقيداً، فمنه ما كان ينصب على المآذن، ومنه ما كان يحتاج إلى مئتي جمل لحمل أجزائه، ولما انتزع السلطان المملوكي الملك الأشرف خليل بن قلاوون الصالحي عكا من الإفرنج سنة 690، وعمره 24 عاماً، حاصرها 44 يوماً ونصب عليها 82 منجنيقاً.
عمل يعقوب المنجنيقي في صناعة المنجنيق، وتقدم فيها حتى صار مقدم المنجنيقيين في بغداد، ولم يلحقه أحد من أبناء زمانه في درايته وفهمه لذلك، وإلى خبرته العملية كان يعقوب المنجنيقي واسع الأفق موسوعي التفكير، فألف كتابا سماه عمدة السالك في سياسة الممالك، ورتبه أبواباً، كل باب منه يشتمل على فصول، ويتضمن الكتاب أحوال الحروب وتعبئة الجيوش، وفتح الثغور، وبناء المعاقل، وأساليب الفروسية وحيلها، والهندسة وحصار القلاع والرياضة الميدانية والحيل الحربية، وفنون العلاج بالسلاح، وعمل أداة الحرب والكفاح، وصنوف الخيل وصفتها. ولم يتم يعقوب تأليف هذا الكتاب فلعله ألفه في أواخر حياته المديدة رحمه الله تعالى.
وكان شيخاً هشاً مليحاً لطيفاً فكهاً طيب المحاورة، شريف النفس متواضعاً، فيه تودد وبشر وسكون، وعلى عادة اهل الفضل في ذلك الزمان، سمع المنجنيقي الحديث في صغره من أبي المظفر هبة الله بن عبد الله ابن السمرقندي المتوفى سنة 563، وروى هو وحدَّث.
وأدركته حرفة الأدب، واشتهر بالشعر، وكان شاعراً مكثراً مجيداً ذا معان مبتكرة، مليح الشعر لطيفه، ذا معان مطبوعة، وألفاظ سهلة، وجمع من شعره كتاباً مختصراً سماه مغاني المعاني، ومدح الخلفاء، وكانت له منزلة عند الخليفة العباسي الناصر لدين الله المتوفى سنة 622 والذي تولى الحكم سنة 575 فدامت خلافته 47 عاماً.
وكان يعقوب بن صابر المنجنيقي كثير الدخول على الوزير ناصر بن مهدي الحسني وزير الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وكان الوزير في بداية تعيينه يأمر حجابه بإدخاله عليه دون تأخير، ثم أمرهم بعد فترة أن يُـجلَس ظاهرَ الستر، فقال ابن صابر المنجنيقي:
قولوا لمولانا الوزير الذي ... أضاع ودي ونوى هجري
وصرتُ إن جئتُ إلى بابه ... أجلسني في ظاهر الستر
إن كان ذنبي إنني شاعرٌ ... فاصفح فقد تبت من الشعر
ثم انقطع عنه مدة، فلما دخل إليه أنكر عليه انقطاعه، فقال:
وقالوا قد صددت وملت عنا ... فقلت أبيت تكرار المحال
أنفت من الوداد إلى إناس ... رأوا حالي ولم يرثوا لحالي
ثم هجاه فقال:
ألا مبلغٌ عني الخليفة أحمداً ... توقَّ وُقيتَ السوءَ ما أنت صانعِ
وزيرُك هذا بين أمرين فيهما ... صنيعك يا خير البرية ضائع
لئن كان حقا من سلالة أحمد ... فهذا وزير في الخلافة طامع
وأن كان فيما يدعي غير صادق ... فأضْيَعُ ما كانت لديه الصنائع
وقد عزا بعضهم إلى هذه الأبيات قِصَرَ ولاية الوزير التي دامت أقل من سنتين.
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان: وكانت أخباره في حياته متواصلة إلينا وأشعاره تنقلها الرواة عنه، ويحكون وقائعه وما جراياته وما ينظُم في ذلك من الأشعار الرائقة والمعاني البديعة، ولم تتفق لي رؤيته مع المجاورة وقرب الدار من الدار، لأنه كان ببغداد ونحن بمدينة إربل، وهما متجاورتان، لكن لكثرة اطلاعي على أخباره وما يتفق له من النظم المنقول عنه في وقته كأني كنت معاشره، وما زلت مشغوفاً بشعره مستعذباً أسلوبه فيه، واجتمعت بخلق كثير من أصحابه والناقلين عنه، منهم صاحبنا الشيخ عفيف الدين أبو الحسن علي بن عدلان المعروف بالمترجم الموصلي، فإنه أنشدني له شيئاً كثيراً
ثم أورد ابن خلكان قوله يندب حظه إذ لم يتذوق الناس شعره فهم وأسوار القلاع الصماء سواء:
كَلِفتُ بعلم المنجنيق ورميه ... لهدم الصياصي وافتتاح الـمَرابطِ
وعُدت إلى نظم القريض لشِقوتي ... فلم أخلُ في الحالين من قصد حائط
وأورد له أيضاً في ألا يغتر الإنسان بسكون عدوه:
لا تكن واثقاً بمن كظم الغيظَ اغتيالاً وخفْ غِرارَ الغَرور
فالظِبا المرهفات أقتلُ ما كانت إذا غاض ماؤها في الصدور
وأورد له أيضاً في جارية سوداء كان يهواها، وهي حبشية:
وجارية من بنات الحبوش ... وذات جفون صحاح مِراضِ
تعشقتها للتصابي فشِبتُ ... غراماً ولم أك بالشيب راض
وكنت أعيّرها بالسواد ... فصارت تعيرني بالبياض
ولابن صابر أبيات في ذم الشيب:
قالوا بياضُ الشيب نورٌ ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياءَ
حتى سَرَت وخطاتُه في مفرقي ... فوددت أن لا أفقد الظلماء
وعدلت أستبقي الشباب تعللا ... بخضابها فصبغتها سوداء
لو أن لحية من يشيب صحيفةٌ ... لـمَعاده ما اختارها بيضاء
وأنشد في جماعة من الصوفية أضافهم فأكلوا جميع ما قدمه لهم فكتب إلى شيخهم يذكر حاله معهم:
مولاي يا شيخ الرباط الذي ... أبان عن فضل وعلياء
إليك أشكو جور صوفية ... باتوا ضيوفي وأودائي
أتيتهم بالزاد مستأثراً ... وبت تشكو الجوع أحشائي
مشوا على الخبز ومن عادة ... الزهاد أن يمشوا على الماء
وهم إلى الآن ضيوفي فجُدْ ... لهم بخبز وبحلواء
أو لا فخُذهُم واكفِنيهمُ فما ... يُحسن في مثلهم رائي
ولما كبر ابن صابر وضعفت حركته صار إذا مشى يتوكأ على عصا، فقال في ذلك:
ألقيت عن يدي العصا ... زمن الشبيبة للنزول
وحملتها لما دعا ... داعي المشيب إلى الرحيل
وكان ببغداد شخص يقال له ابن بشران، وكان كثير الأراجيف، فمُنِعَ من ذلك، فقعد على الطريق ينجم، فقال فيه ابن صابر:
إن ابن بشران ولست ألومه ... من خيفة السلطان صار منجماً
طُبِعَ المشومُ على الفضول فلم يُطق ... في الأرض إرجافاً فأرجف في السما
ومما كتب به ابن صابر إلى بعض الرؤساء ببغداد يشكره على معروف أسداه إليه:
ما جئت أسألك المواهب مادحاً ... إني لما أوليتني لشكورُ
لكن أتيتُ عن المعالي مخبراً ... لك أنَّ سعيك عندها مشكور
ومن أحسن شعره قصيدة فيها تعزية عظيمة لجميع الناس وهي:
هل لمن يرتجي البقاءَ خلودُ ... وسوى الله كل شئ يبيدُ
والذي كان من تراب وإن ... عاش طويلا إلى التراب يعود
فمصير الأنام طُرَّاً إلى ما ... صار فيه آباؤهم والجدود
أين حواء أين آدم إذ فاتهم الخلد والثوى والخلود؟
أين هابيل أين قابيل إذ هذا لهذا معاند وحسود؟
أين نوح ومن نجا معه بالفلك والعالَـمون طُرّاً فقيد
أسلمته الأيام كالطفل للموت ولم يغن عمره الممدود
أين عادٌ؟ بل أين جنة عاد ... أم تُرى أين صالح وثمود؟
أين إبراهيم الذي شاد بيت الله فهو المعظم المقصود
أين إسحاق أين يعقوب أم أين بنوه وعَدُّهم والعديد
حسدوا يوسفا أخاهم فكادوه ومات الحاسدون والمحسود
وسليمان في النبوة والملك ... قضى مثل ما قضى داود
فغدوا بعد ما أطاع لذا الخلق وهذا له ألين الحديد
وابن عمران بعد آياته التسع وشقِّ الـخِضَمِّ فهو صعيد
والمسيح ابن مريم وهو روح الله كادت تقضي عليه اليهود
وقضى سيد النبيين والهادي إلى الحق أحمدُ المحمود
وبنوه وآله الطاهرون الزهر صلى عليهم المعبود
ونجوم السماء منتثرات ... بعد حين وللهواء ركود
ولنار الدنيا التي توقد الصخر خمود وللماء جمود
وكذا للثرى غداة يؤم الناس منها تزلزل وهمود
هذه الأمهات نار وترب ... وهواء رطب وماء برود
سوف يفنى كما فنينا فلا ... يبقى من الخلق والد ووليد
لا الشقي الغوي من نُوَب الأيام ينجو ولا السعيد الرشيد
ومتى سلت المنايا سيوفا ... فالموالي حصيدها والعبيد
توفي ابن صابر  في بغداد في الثامن والعشرين من صفر لسنة 626 عن 82 عاماً، رحمه الله تعالى.

 
log analyzer