الجمعة، 26 ديسمبر 2014

حدث في الخامس من ربيع الأول

في الخامس من ربيع الأول من عام 182 توفي في بغداد، عن 69 سنة، الإمام أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، العلامة المحدث المجتهد، أفقه أصحاب الإمام أبي حنيفة وناشر علمه من بعده، وأول من خوطب بلقب قاضي القضاة.
ويعود نسب أبي يوسف إلى الصحابي سعد بن بحير البجلي الأنصاري الكوفي، الذي عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو صغير، مع رافع بن خديج وعبد الله بن عمر، قال أبو يوسف: أتي بجدي سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فاستغفر له ومسح برأسه فتلك المسحة فينا الى الساعة. فهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خُنيس بن سعد بن بَحير بن معاوية الأنصاري الكوفي.
ولد أبو يوسف في الكوفة في سنة 113، وتوجه لطلب العلم وهو صغير، وتتضارب الرواية حول أهله، فمنها من يذكر أن أباه كان فقيراً له حانوت ضعيف، وهو بحاجة لأن يعمل ابنه ويأتي بدخل إضافي، وتروي عن أبي يوسف قوله: كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة، فإن أبا حنيفة خبزه مشوي، وأنت تحتاج إلى المعاش! فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي، فجلست، فلما انصرف الناس دفع إلي صرة وقال: استمتع بها، فنظرت فإذا فيها مئة درهم، فقال لي: الزم الحلقة وإذا فرغت هذه فأعلمني. فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إليّ مئة أخرى، ثم كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلة قط ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه كان يُخبر بنفادها، حتى استغنيت وتمولت.
وهناك رواية أخرى تقول إن والد أبي يوسف مات وخلف أبا يوسف طفلاً صغيراً، وأن أمه هي التي أنكرت عليه حضور حلقة أبي حنيفة، وتروي عن أبي يوسف قوله: توفي أبي وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي فتأخذ بيدي فتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يُعنى بي، لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه! فقال لها أبو حنيفة: مُرِّي يا رعناء، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق! فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك. ثم لزمته فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب كل منها فليس في كل يوم يعمل لنا مثلها، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مم ضحكك؟ فقلت: خيراً، أبقى الله أمير المؤمنين، قال: لتخبرني، وألح علي، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم لينفع دنيا وديناً، وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه.
ولعل الرواية الأولى حول نشأته في ظل والده أرجح، فقد قال أبو يوسف: صحبت أبا حنيفة 17 سنة لا أفارقه في فطر ولا أضحى إلا من مرض. وهذا يعني أنه صحب أبا حنيفة إلى وفاته سنة 150، أي أنه بدأ الأخذ عليه وهو في العشرين، وليست هذه سن ولد صغير تحتاج أمه لعتاب أبي حنيفة، ثم هو من قبل أبي حنيفة قد أخذ العلم على الإمام ابن أبي ليلى، محمد بن عبد الرحمن، قاضي الكوفة المولود سنة 74 والمتوفى سنة 148، وفي هذا السياق قال أبو يوسف: ما كان في الدنيا مجلسٌ أجلسه أحب إلي من أبي حنيفة وابن أبي ليلى، فاني ما رأيت فقيها أفقه من أبي حنيفة، ولا قاضيا خيرا من ابن أبي ليلى. وكان أبو يوسف رحمه الله شديد الوفاء لأبي حنيفة دائم الذكر له والاعتراف بفضله، وكان يقول: ما صليت صلاة قط ولا غيرها إلا دعوت الله لأبي حنيفة واستغفرت له.
ولم يقتصر وفاء أبي يوسف لأبي حنيفة في الدعاء له، بل سار على سنته في تعهده لطلبة العلم وأهله بالرعاية والنفقة، وكان في عصره محدث كبير من خيار الناس، هو عفيف بن سالم الموصلى موطناً والبجلي ولاء، والمتوفى سنة 183، وكان عفيف رحالاً في طلب العلم، سمع مالك بن أنس في المدينة ورحل إلى اليمن فأملق حتى باع ما يستغني عنه من ملابسه، قال عفيف: كنت باليمن فنفذت نفقتي ولم يبق معي شيء إلا جبة فرو ليس تحتها ولا فوقها شيء، فكنت أدخل القرية فأسأل بقدر ما أحتاج إليه فآكل ثم أمسك، حتى قدمت بغداد. وفي بغداد دخل عفيف على أبي يوسف فأعطاه ألفي درهم.
وإلى جانب تفقهه على يد أبي حنيفة، طلب أبو يوسف الحديث فأخذ عن محدث الكوفة عطاء بن السائب المتوفى سنة 136، وعن يزيد بن أبي زياد الكوفي المتوفى سنة 137، وعن التابعي الكوفي أبي إسحاق الشيباني، سليمان بن فيروز، والمتوفى سنة 138، وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، القاضي المولود بالمدينة والمتوفى بالعراق سنة 143، وكان من أكابر أهل الحديث، وعن حجاج بن أرطأة بن ثور النخعي، قاضي البصرة المتوفى سنة 145، وعن عبيد الله بن عمر المتوفى سنة 145، وعن التابعي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، المولود بالمدينة سنة 61 والمتوفى ببغداد سنة 146، وعن الإمام المحدث سليمان بن مهران الأعمش، المولود في حدود 61 والمتوفى سنة 149. قال أبو يوسف: سألني الأعمش عن مسألة، فأجبته فيها فقال لي: من أين لك هذا؟ فقلت: من حديثك الذي حدثتنا أنت، ثم ذكرت له الحديث، فقال لي: يا يعقوب إني لأحفظ هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك، وما عرفت تأويله حتى الآن!
وقال هلال بن يحيى المعروف بهلال الرأي: كان أبو يوسف يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب، وكان أقل علومه الفقه، ولم يكن في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف.
وروى الحديث عن أبي يوسف عدد من كبار المحدثين وأئمتهم مثل خلف بن أيوب الإمام المحدث عالم أهل بلخ، المولود سنة 136والمتوفى سنة 205، ومثل الفقيه المالكي أسد بن الفرات قاضي القيروان المجاهد الفاتح، المولود سنة 142 والمتوفى سنة 213، والذي سمع منه في رحلة للمشرق سنة 172، ومثل  علي بن الجعد، شيخ بغداد في عصره والمولود سنة 133 والمتوفى سنة 230، والإمام يحيى بن معين المولود سنة 158 والمتوفى سنة 233، ومثل الحافظ الثقة أحمد ين منيع البغوي، المولود سنة 160 والمتوفى سنة 244، والإمام أحمد بن حنبل المولود سنة 164 والمتوفى سنة 241، قال: أول ما طلبت اختلفت إلى أبي يوسف القاضي. روى إمام بغداد وفقيهها في وقته إبراهيم بن جابر، المتوفى سنة 310، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: كتب أبي عن أبي يوسف ومحمد ثلاثة قماطر. فقلت له: كان ينظر فيها؟ قال: كان ربما نظر فيها، وكان أكثر نظره في كتب الواقدي.
ولا توافينا المصادر المتوفرة بتحديد السنة التي أصبح فيها أبو يوسف إماماً مجمعاً على إمامته، والأرجح أن ذلك كان بعد وفاة أبي حنيفة الذي تفرس في أبي يوسف أن يكون خليفته، وتروي بعض الكتب قصة في ذلك أوردها وإن كان في النفس شيء من شطرها الثاني المتعلق بجلوس أبي يوسف للدرس في حياة أبي حنيفة، حدث الفضل بن غانم قال:
كان أبو يوسف مريضا شديد المرض، فعاده أبو حنيفة مرارا فصار إليه آخر مرة فرآه مقبلا فاسترجع ثم قال: لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير. ثم رُزِق العافية وخرج من العلة، فأُخبِرَ أبو يوسف بقول أبي حنيفة، فارتفعت نفسه، وانصرفت وجوه الناس إليه، فقعد لنفسه مجلسا في الفقه، وقصر عن لزوم مجلس أبي حنيفة، فسأل عنه فأخبر أنه قد قعد لنفسه مجلسا، وأنه قد بلغه كلامك فيه، فدعا رجلا كان له عنده قدر فقال: صر إلى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصَّار ثوبا ليقصُره بدرهم، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب فقال له: القصار مالك عندي شيء! وأنكره، ثم إن رب الثوب رجع إليه، فدفع إليه القصار الثوب مقصورا؛ أله أجرة؟ فإن قال: له أجرة، فقل أخطأت! وإن قال: لا أجرة له، فقل: أخطأت! فصار إليه فسأله فقال أبو يوسف: له الأجرة، فقال: أخطأت، فنظر ساعة ثم قال: لا أجرة له، فقال: أخطأت! فقام أبو يوسف من ساعته فأتى أبا حنيفة فقال: له ما جاء بك إلا مسألة القصار؟! قال: أجل، قال: سبحان الله من قعد يُفتي الناس، وعقد مجلسا يتكلم في دين الله وهذا قدره؛ لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات؟! فقال: يا أبا حنيفة علمني. فقال: إن كان قصره بعد ما غصبه، فلا أجرة له لأنه قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن يغصبه، فله الأجرة لأنه قصره لصاحبه. ثم قال: من ظن أنه يستغني عن التعلم فليبكِ على نفسه.
وكانت لمكانة أبي يوسف في علم الحديث أهمية كبيرة في استمرار واستقرار وقبول المذهب الحنفي، الذي بناه أبو حنيفة على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص وفقاً لقواعد ومقايسات عامة بسيطة ومركبة، وعلى المناظرات الفقهية المبنية على فرضيات واحتمالات، وهو أمر قد يبدو لنا اليوم بدهياً في فقه المذاهب الأربعة، ولكنه كان في ذلك الوقت بدعة جديدة تلقاها الناس ما بين مرحب ومستغرب ومستنكر، وكان على رأس المستغربين والمستنكرين رواة الحديث وحفاظه، فقد كانوا بمثابة الأمناء على هذه دين هذه الأمة، وها هم يرون مكانة الحديث ينافسها القياس والمنطق! فاعتبر ككثير منهم ذلك أمراً إدَّا، منهم من صرح ومنه من لمح.
وغفل كثير من أهل الحديث عن أن منهجهم في قيام المعاملات على الفتيا بعد الواقعة، كان صالحاً للمجتمع الصغير عندما كانت الحياة فيه بسيطة ساذجة والتعامل بين سكانه قائم على المعرفة والثقة والتذمم، فلما أصبح المشرِّع إزاء مجتمعات يعد سكانها بمئات الألوف، ويتنوع سكانها في لغاتهم ومعايشهم، ويتباينون في فهمهم وإدراكهم وتذممهم، كان لا بد له أن يضع القواعد المتسقة التي تضبط أصول التعامل ومنها أن يصدر الأحكام على ما قد يقع وإن لم يحدث، وأن تكون الأحكام منسوجة على منوال واحد لا يتبدل ولا يحابي، وكان من نتائج هذا أن انقسم العلماء إلى أهل الحديث وأهل الرأي أو القياس، وهو انقسام كانت له ذيوله المؤسفة إلى يومنا هذا.
قال أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، المتوفى سنة 277: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سألت أبي عن أسد بن عمرو فقال: كان صدوقاً، وأبو يوسف صدوق، لكن أصحاب أبي حنيفة ينبغي أن لا يروى عنهم شيء! وأسد بن عمرو المذكور هو أسد بن عمرو بن عامر القشيري البجلي، المتوفى سنة 188، ولي القضاء بواسط ثم ببغداد، وهو أول من كتب كُتُب أبي حنيفة.
وإذ تولى رئاسة المذهب الحنفي محدث كبير مثل أبي يوسف فإن من شأن ذلك أن يدحض قول من زعم ابتعاد المذهب عن الأصل الثاني من أصول الشريعة ألا وهو الحديث النبوي الشريف ،ومع ذلك يقول الإمام محمد بن جرير الطبري: وتحامى حديثه قوم من أهل الحديث من أجل غلبة الرأي عليه وتفريعه الفروع والأحكام، مع صحبة السلطان وتقلده القضاء.
ونورد هنا بعض الأخبار المبينة لمكانته في علم الحديث، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: أول ما كتبت الحديث اختلفت إلى أبي يوسف، كان أميل إلى المحدثين من أبي حنيفة ومحمد. وقال يحيى بن معين يقول: ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث، ولا أحفظ، ولا أصح رواية من أبي يوسف؛ صاحب حديث، صاحب سنة.
وقال الحسن بن أبي مالك، المتوفى سنة 204، والعباس بن الوليد النرسي، المتوفى سنة 237، قالا: كنا نختلف إلى أبي معاوية الضرير، محمد بن خازم، المولود سنة 113 والمتوفى سنة 195، في حديث الفقه من حديث الحجاج بن ارطأة فقال لنا أبو معاوية: أليس أبو يوسف القاضي عندكم؟ قلنا: بلى، فقال: أتتركون أبا يوسف وتكتبون عني؟ كنا نختلف إلى الحجاج، فكان أبو يوسف يحفظ والحجاج يملي علينا، فإذا خرجنا كتبنا من حفظ أبي يوسف.
وروى الحسن بن زياد اللؤلؤي قال: حججنا مع أبي يوسف فاعتلَّ في الطريق فنزلنا بئر ميمون فأتاه سفيان بن عيينة يعوده فقال لنا: خذوا حديث أبي محمد. فروى لنا أربعين حديثا فلما قام سفيان قال لنا أبو يوسف: خذوا ما روى لكم. فرد علينا الأربعين حديثا حفظا على سنه وضعفه وعلته وشغله بسفره!
وإلى جانب الحديث، كان أبو يوسف شبيه أبي حنيفة في أن الله عز وجل وهبه سعة العقل والقدرة على تفريع المسائل، وقد أمد الله في عمره أكثر من 30 سنة بعد وفاة الإمام، فاستطاع أن يشيد البنيان على ما أسسه أبو حنيفة رحمه الله، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، قال عمار بن أبي مالك الجنبي: ما كان فيهم مثل أبي يوسف! لولا أبو يوسف ما ذُكِر أبو حنيفة ولا ابن أبي ليلى، ولكنه نشر علمهما وبث قولهما. وكان يقال: أفقه أهل الكوفة علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وأفقه أصحابهما علقمة، وأفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، وأفقه أصحاب حماد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد أبو عبد الله الشافعي، رحمهم الله تعالى.
وعين الخليفة المهدي أبا يوسف في منصب قاضي القضاة في سنة 166، وأقره عليه الهادي سنة 169 ثم هارون الرشيد حين تولى الخلافة سنة 170 فبقي فيه 17 سنة حتى وفاته سنة 183، وكان في قضائه مثال الإنصاف والحيدة، ويضيق المجال عن أن نورد ما له قصص في دعاوى رفعها العامة على الخلفاء تبين عدله وحسن تأتيه للأمور.
وكان قاضي القضاة هو الذي يعين القضاة في المدن والأقاليم، ومن عينهم قاضي القيروان عبد الله بن عمر بن غانم تلميذ الإمام مالك، المولود سنة 128 والمتوفى سنة 190، قيل إن أبا يوسف قال لأمير أفريقية روح بن حاتم المهلبي عند خروجه إلى القيروان: إن بمدينة القيروان فتى يقال له عبد الله بن غانم، فقد فقه، فوله قضاء أفريقية، فولاه في سنة 171 ولما بلغت مالكاً ولايته سُرَّ بها، وأعلم بذلك أصحابه. وكان ابن غانم يكتب إلى مالك وإلى أبي يوسف فيما ينزل به من نوازل الخصوم، فيأخذ عليها الأجوبة.
وقد زعم ابن حزم أن أبا يوسف كان لا يعين إلا من كان على مذهبه ولذلك انتشر، قال: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف يعقوب صاحب أبي حنيفة كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إليه وإلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم وداعياً إلى قبول رأيه لديهم.
وهذا الزعم يقتضي تمحيصاً إحصائياً لمعرفة صحته، فإن لابن حزم افتراضات مبنية على التصور والتقدير لا تثبت على النقد، وبفرض صحة قول ابن حزم، فإن للأمر تعليلاً آخر، فات ابن حزم في شنآنه للمذاهب، وهو أن الفتوى قد تختلف باختلاف المفتين، أما أحكام القضاء في المعاملات فينبغي أن تكون على نسق واحد لا تتغير في القضايا المتشابهة ولو عرضت على قضاة مختلفين، وإن لم تكن كذلك تعطلت مصالح الناس واضطربت ترتيباتهم في الزواج والطلاق والعقود والديون وغيرها من التعاملات الاجتماعية والمالية، ولعل ذلك أحد أسباب رغبة الخليفة المنصور في أن يحمل الناس على اتباع كتاب الموطأ الذي جمعه الإمام مالك رحمه الله.
بقي أن نشير لأمر يعلمه طلبة العلم بله العلماء، وهو أن الإمامين أبا يوسف ومحمد بن الحسن مجتمعين وعلى حدة قد خالفا الإمام أبي حنيفة في كثير من المسائل، وهذا أولاً من سعة الإسلام، وثانيا من مرونة المذهب الحنفي وتقبله للتعدد والتنوع، وهو أمر ليس حكراً على المذهب الحنفي اليوم، ولكنه أثرى مكتبته الفقهية في وقت مبكر قبل أن تصل المدارس الفقهية الأخرى لهذه المرحلة وتتساوى فيها.
ونورد بتصرف مثالاً لطيفاً على ذلك يتعلق بالحجر على مال السفيه، أورده الإمام علاء الدين البخاري، عبد العزيز بن أحمد، المتوفى في بخارى سنة 730، وذلك في شرحه لكتاب أصول الفقه لأبي الحسن علي بن محمد بن الحسين البَزْدَوي، وأسمى كتابه كشف الأسرار، قال علاء الدين البخاري رحمه الله:
وأجمعوا أن السفيه يمنع مالَه في أول ما يبلغ بالنص ... لقوله تعالى في سورة النساء ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا* وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾، أي لا تؤتوا المبذرين أموالكم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ... أضاف الأموال إلى الأولياء وهي في الحقيقة أموال غيرهم لأنها من جنس ما يقيم الناس به معايشهم ... لو ضيعتموها لضعتم، فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم.
ثم علق الإيتاء بإيناس الرشد ... أي عرفتم ورأيتم فيهم صلاحا في العقل وحفظا للمال ... فقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا بلغ السفيه خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس منه الرشد دفع المال إليه.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يُدفع إلى السفيه ما لم يؤنس منه الرشد ... ألا ترى أنه عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع إليه المال بهذه الآية، فكذا إذا بلغ خمسا وعشرين سنة؛ لأن السَفَه يستحكم بطول المدة، ولأن السفه في حكم منع المال بمنزلة الجنون والعَتَه، وأنهما يمنعان دفع المال إليه بعد خمس وعشرين سنة كما قبلها، فكذلك السفه.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله بقوله تعالى ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ معناه مخافة أن يكبروا فيلزمكم دفع المال إليهم، وبقوله تعالى في أول سورة النساء ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، والمراد البالغون، وسموا يتامى لقرب عهدهم به، فهذا تنصيص على وجوب دفع مال اليتيم إليه بعد البلوغ، إلا أنه قام الدليل على منع المال منه عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد، فإنه تعالى قال ﴿ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾، وحرف الفاء للوصل والتعقيب، فيكون بيانا أن دفع المال إليه عقيب البلوغ بشرط إيناس الرشد ... فأما إذا بَعُدَ عن ذلك، فوجوب دفع المال إليه مطلق ... غير معلق بشرط، والمعنى فيه أن منع المال بعد البلوغ لبقاء أثر الصِبا... وأثره قد يبقى إلى أن يمضي عليه زمان، وينقطع بعدما بلغ خمسا وعشرين سنة لتطاول الزمان، فيجب دفع المال، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لم يمنع منه المال؛ لأن... منع المال على سبيل التأديب له ... ما لم ينقطع رجاء التأديب، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس رشده، فقد انقطع رجاء التأديب.
ومن آراء أبي يوسف الفقهية الجديرة بالذكر، والتي سارت عليها الدول الرأسمالية الكبرى، أنه عندما تناول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن مَعْمَرِ بن عبد الله: لا يحتكر إلا خاطئ. ومع أن موضوع الحديث ومناسبته احتكار الطعام، إلا أن أبا يوسف في فقهه الواسع قال: كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار، وإن كان ذهبا أو ثيابا.
ومن حكم أبي يوسف رحمه الله: صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة.
وكان يقول: رؤوس النعم ثلاثة: فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها، والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، والثالثة نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها.
وكان أبو يوسف يقول: من طلب المال بالكيمياء؛ أفلس، ومن طلب الدين بالكلام؛ تزندق، ومن تتبع غريب الحديث؛ كذب. وتفسير هذا أن الكيمياء التي يتحدث عنها الإمام هي طريقة لتحويل المعادن الرخيصة كالرصاص إلى معدن نفيس كالذهب أو الفضة، ومصداق كلام أبي يوسف قصص كثيرة في التاريخ عن من جرى وراء هذا الوهم فكان عاقبة أمره خسرا.
ويشبه هذا قولَه الذي كان الإمام إبراهيم الحربي، المولود سنة 198 والمتوفى سنة 285، معجباً به وذكره أبو أيوب سليمان بن إسحاق الجلاب، المتوفى سنة 334، قال: قال لي إبراهيم الحربي: تدري إيش قال أبو يوسف، وكان من عقلاء الناس؟ قال: لا تطلب الحديث بكثرة الرواية فتُرمى بالكذب، ولا تطلب الدنيا بالكيميا فتفلس ولا تحصل بيدك شيء، ولا تطلب العلم بالكلام فإنك تحتاج تعتذر كل ساعة إلى واحد.
ومن أقواله التي كان والدي يكررها رحمها الله: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعض كنت على غَرر.
كان آخر أعمال أبي يوسف قبل وفاته هو التفكر في مسائل الفقه، فقد زاره إبراهيم بن الجراح التميمي المازني الكوفي ثم القاضي نزيل مصر، المتوفى سنة 217، وكان قد تفقه على أبي يوسف وسمع منه الحديث، قال إبراهيم: أتيته أعوده فوجدته مغمى عليه فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم ما تقول في مسألة؟ قلت: في مثل هذه الحال؟! قال: ولا بأس بذلك؛ ندرس فينجو به ناج. ثم قال: أيما أفضل في رمي الجمار، أن ترميها راكبا أو ماشيا؟ فقلت: راجلا. فقال: أخطأت. فقلت: راكبا. فقال لي: أخطأت. ثم قال: أما ما كان يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن ترميها راجلا لأنه أشد لتمكنك وأغزر لدعائك، وأما ما كان لا يوقف عنده، فالأفضل أن ترميها راكبا لأنه أسرع لتنحيك. ثم قمت من عنده فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه وإذا هو قد مات.
كان لأبي يوسف ابن اسمه يوسف كان فقيهاً محدثاً، ولي القضاء في الجانب الغربي من بغداد في حياة أبيه، وأقره الرشيد على عمله بعد وفاة والده، وصلى بالناس الجمعة في مدينة المنصور بأمر هارون الرشيد، ولم يزل على القضاء إلى أن مات في سنة 192ببغداد.

الجمعة، 19 ديسمبر 2014

حدث في السابع والعشرين من صفر

في السابع والعشرين من صفر من سنة 1168=1754 توفي في استانبول، عن 60 سنة، السلطان محمود الأول بعد أن أمضى 25 سنة على عرش السلطنة العثمانية، اتسمت بخوض الدولة العثمانية حروب كبيرة مع ثلاث دول هي إيران وروسيا والإمبراطورية النمساوية، وخروجها من هذه الحروب ظافرة منتصرة.
ولد السلطان محمود الأول في أدرنة سنة 1108=1696، وكان أبوه السلطان مصطفى الثاني، ووالدته تدعى صالحة سبقتي، وهي يونانية الأصل من سكان استانبول، وتوفيت في أيام ابنها سنة 1152.
وكان والده، المولود سنة 1074 والمتوفى سنة 1115= 1703، قد تسنم العرش سنة 1107 ثم عزله الأنكشارية سنة 1115، وملّكوا أخاه السلطان أحمد الثالث المولود سنة 1083=1673، وتوفي الوالد بعد بضعة شهور من عزله، وفي سنة 1126=1714 توفي ابن عمه فعيّنه عمه ولياً للعهد.
ودام حكم السلطان أحمد الثالث مدة 27 سنة، واتسم بالحروب مع إيران وروسيا التي كان يحكمها بطرس الأول، وحققت الجيوش العثمانية في أول أيام السلطان أحمد بعض الانتصارات ثم توالت الهزائم عليها وذلك لضعف تدبير رجال بلاطه وبسبب روح الارتزاق التي نخرت في الأنكشارية، ولأن الدولة العثمانية لم تواكب التقدم الذي سارت عليه أوروبا في التنظيمات والأسلحة العسكرية الحديثة، وقرر السلطان أن يعيد تأسيس الجيش على أسس حديثة، فثار عليه الأنكشارية بزعامة بترونا خليل في سنة 1143=1730، وطالبوا بإعدام الصدر الأعظم الداماد إبراهيم باشا وتنازلِ السلطان أحمد عن العرش، وتعيين ابن أخيه سلطاناً على البلاد، فقبل السلطان أحمد مطالبهم واعتزل العرش وعاش في المنفى حتى وفاته سنة 1149، وأصبح الحكم للسلطان محمود الأول وعمره 35 سنة.
درس السلطان محمود على يد كبار العلماء في الدولة العثمانية من أمثال شيخ الإسلام فيض الله أرضروملي، وهو أول من بايعه عند جلوسه، وكان محمود ذا مواهب أدبية وفنية، فكان يقرض الشعر ويلحن الأغاني، ويصمم الأختام ويحفرها، ولم يرزق بأولاد رغم تزوجه من 11 زوجة، ويلقب كذلك بالأحدب لوجود تحودب في ظهره، أما شخصيته فكانت تتسم بالعقل والوقار والدقة والحذر، وعلى قدر عال من الثقافة والخُلق، ويذكر المرادي في ترجمته في سلك الدرر لجده السيد محمد بن مراد المرادي، المولود سنة 1094 والمتوفى سنة 1069، والمتزهد سنة 1132، أن السلطان محمود أرسل في سنة 1065 يطلبه إلى استانبول، فسار إلى أن وصلها: فقابله السلطان المذكور بوافر الإنعام ومزيد الاحترام، واجتمع به مرات، وأعطاه الأوامر السلطانية المتوّجة بخطه الشريف في مصالح الجِد، وصار له اعتبار تام من رجال الدولة وأركانها، ثم أذن له بالحج بدلاً عن السلطان المذكور، فحج بدلاً عنه في تلك السنة، ثم عاد بعد عوده بأمر سلطاني إلى اسلامبول، ونزل بالمكان الذي هيئ له من طرف الدولة كالمرة الأولى، واجتمع به ثانياً.
وفي البداية لم يكن السلطان الجديد سوى صورة يحركها المتمرد بترونا خليل الذي أصبح الحاكم الحقيقي في البلاد، وكان بترونا خليل مغامراً جريئاً، ينحدر من ألبانيا، تقلب في الوظائف الوضيعة حتى عمل نادلاً في حمّام، ثم عمل جندياً عادياً وكان من محرضي العصيان بين الأنكشارية، وصار له نفوذ في الدولة لتأثيره على مواطنيه من الأنكشارية المنحدرين من ألبانيا، وهم الذين أطلقوا عليها لقب بترونا أي نائب الأدميرال، فلما جاء بالسلطان محمود للحكم ظن أن الأمور قد جرت على هواه، فأخذ باسم السلطان يعزل من يشاء ويعين من يشاء، وركب مع السلطان يوم تنصيبه ليحضر مراسيم تقليده سيف عثمان كما هي العادة، وكان وقحا يحضر أمام السلطان حافياً وبلباس الجندية العادي، في تهديد مبطن للسلطان.
وكان بترونا خليل قد اقترض مبلغاً من المال من جزار يوناني اسمه ياناكي لينفقه على تدبير الشغب وتحريك مثيري الاضطرابات، وتجاوز باترونا خليل كل حدود الوقاحة حين أراد أن يكافئ ياناكي فطلب من السلطان محمود تعيينه أميراً على مولدافيا.
وما كانت الدولة العثمانية لتقبل بمثل هذا الأفاك مسيطراً على أمورها، وبخاصة أن تصرفاته الفجة الحمقاء أثارت عليه استنكار العقلاء وحسد السفهاء، وكذلك تألب عليه رؤوساء الأنكشارية من غير الألبان، أضف إلى كل هذا انعدام الأمن في استانبول بسبب تعدي جماعة بترونا خليل على أموال الناس وأعراضهم، وما مرت سنة حتى لقي بترونا خليل مصرعه في أوائل 1144 بعد مواجهة حادة مع السلطان، فقد جاء خليل إلى الديوان وأملى أوامره على السلطان أن يعلن الحرب على روسيا، فرفض ذلك السلطان وأمر بخنقه، ثم أمر بقتل ساعده الأيمن ياناكي وبقتل كل الأنكشارية من أصل ألباني، ويقدر عددهم بحوالي 7.000 جندي، وانتهت بذلك سنوات الفوضى والتمرد.
وبعد أن انتهى السلطان من أمر بترونا خليل بدأت أمور الدولة في الانتظام، وعادت لمعالجةالقلاقل على حدودها الشرقية مع الدولة الإيرانية الصفوية، فقد كان طهماسب الثاني ابن الملك حسين الصفوي، ويقال له طهماز كذلك، والمولود سنة 1116، قد استطاع في سنة 1142=1729 أن يستعيد حكم إيران بمساعدة الزعيم نادر شاه، وكان أول أهداف طهماسب أن يسترجع ما فقدته إيران من أراض في حروبها السابقة مع الدولة العثمانية، ولما لم تستجب الدولة العثمانية لمطالبه قام طهماسب بشن حملة لاسترداد يروفان هزمت هزيمة منكرة واستولت على مزيد من الأراضي، فطلب طهماسب الصلح، واتفق في منتصف 1144= 1732 مع الدولة العثمانية يتخلى لها بموجبه عن كل ما فتحته باستثناء مدن تبريز وهمذان وباقي إقليم لورستان، وبدا لساسة الدولة العثمانية أنهم تخلصوا من التهديد الصفوي ليتفرغوا لروسيا القيصرية.
ولكن الرجل القوي نادر شاه رفض هذا الاتفاق، وعزل طهماسب في سنة 1145=1732 وعين ابنه الصغير عباس ملكاً، وسمي الملك الطفل عباس الثالث، ونصب نفسه وصياً عليه ونائباً للملك، ثم هاجم مدينة بغداد سنة 1146=1733 ليقايض بها، فهزمه الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم السابق عثمان باشا طوبال، فقام نادر شاه بتجميع قواته من جديد واتجه إلى الموصل فكركوك، ثم استولى على تفليس ويرَوفان مستغلاً انشغال العثمانيين بالحرب التي اندلعت مع روسيا في أول سنة 1149، فمال الصدر الأعظم علي باشا حكيم أوغلو للصلح، ولكن الحاشية اعترضت على ذلك، فأقال السلطان الصدر الأعظم ولكن خَلَفه إسماعيل باشا تابع ذلك وأجرى مفاوضات انتهت باتفاق استانبول في 11 جمادى الآخرة 1149=1736، الذي نص على اعتراف الدولة العثمانية بنادر خان ملكا على إيران، وعلى أن تعيد إليه الأراضي التي أخذتها في الحروب الماضية، وأن تكون حدود الدولتين كما تقرر بمعاهدة سنة 1049=1639 المبرمة في زمن السلطان مراد الرابع.
وفي أثناء هذه التطورات اندلعت الحرب بين روسيا وبين الدولة العثمانية في سنة 1149=1736، وكان السبب الظاهري للحرب ادعاء روسيا أن فرسان التتار وهم في طريقهم إلى جورجيا لينضموا للجيش العثماني في قتال الصفويين هاجموا بعض حلفائها، ولكن السبب الحقيقي كان انتخاب البرلمان البولندي الملك ستانسلاس الأول ملكاً على بولندا!
ذلك إن بولندا كانت ضعيفة متفرقة، فطمع فيها جيرانها السويديون والروس والنمساويون وتنافسوا وتحاربوا من أجل السيطرة عليها، وكانت روسيا في سنة 1722 قد اتفقت سراً مع الإمبراطورية النمساوية أن تتحكما معاً في تعيين ملك بولندا، ولكل أهدافه من وراء ذلك، فالنمسا لا تريد أن تنضم بولندا المستقلة لمنافستها اللدودة فرنسا، وروسيا تطمع وفقاً لمخططات بطرس الأكبر أن تبقى بولندا رهينة الاضطرابات حتى تضعف فتستولي عليها كلها أو تقتسمها مع النمسا، فيسهل عليها الاستيلاء على السويد ثم على الدولة العثمانية.
ومن مظاهر ما ذكرنا أن الملك شارل الثاني عشر ملك السويد غزا بولندا في سنة 1702وأجبر النبلاء على خلع ملكها أوغست الثاني وأجلس محله الأمير ستانسلاس ليزنيسكي، ولكن الروس تصدوا للملك السويدي وهزموه سنة 1709 في معركة بولتافا، فعاد أوغست الثاني للعرش وغادر ستانسلاس البلاد إلى فرنسا وزوَّج في سنة 1725 ابنته لملك فرنسا لويس الخامس عشر، وفي سنة 1733 توفي أوغست الثاني ملك بولندا، فانتخب البرلمان بأغلبية ساحقة الأمير ستانسلاس ليزنيسكي ملكا عليهم باسم ستانسلاس الأول، وذلك بتأييد واضح من فرنسا التي كان من صالحها انتخاب حليفها ذي النزعة الاستقلالية ملكاً على بولندا.
ولم تتردد روسيا والنمسا في إعلان الحرب على بولندا فقد كانتا تخشيان قيام تحالف سويدي فرنسي بولندي، وكذلك لم يطل الأمر حتى أعلنت فرنسا الحرب على النمسا دفاعاً عن حق بولندا في انتخاب ملكها بحرية ونزاهة، وبذلت الدولة الفرنسية جهوداً قوية لتنضم إليها الدولة العثمانية في محاربة النمسا وروسيا، وكان الواسطة في ذلك ضابط عثماني فرنسي الأصل هو كلود الكساندر دو بونفال، الذي أسلم واشتهر باسم أحمد باشا قمبرجي، وكان قائد المدفعية العثمانية، ووضحت فرنسا للعثمانيين أن مصلحتهم تقتضي بقاء بولندا مستقلة قوية فلا يخلو الجو لروسيا في تحقيق أحلامها في امتلاك القسطنطينة، ولكن وزراء السلطان محمود لم يتجاوبوا مع هذه الجهود، وكانت نتيجة ذلك أن احتلت روسيا بولندا وخلعت الملك ستانسلاس الأول ووضعت مكانه الملك أوغست الثالث ابن الملك أوغست الثاني، واعترفت فرنسا مضطرة بذلك في معاهدة فيينا التي عقدتها مع النمسا سنة 1738.
نعود إلى الحرب العثمانية الروسية، فنقول إنه في 9 محرم 1149=1736 أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية وهاجمت القوات الروسية يقودها المشير كريستوف فون مونيش النمساوي التحصينات العثمانية في القرم واستطاعت الاستيلاء على مدينة بخشي سراي، ولكنها تراجعت إلى الأراضي الأوكرانية بسبب صمود المدافعين من الأتراك صموداً بطولياً أضعف موجة الهجوم، واجتمع معه قلة الذخائر وانتشار الأوبئة بين جنودها، وبعدها بشهر قامت القوات الروسية البرية والبحرية بهجوم استولت فيه على قلعة أزوف، وحققت عدداً من الانتصارات هزمت فيها جيش خان القرم، ولكنها في النهاية اضطرت للانسحاب إلى أوكرانيا بسبب نقص الذخائر، وتسببت حملة القرم هذه في خسارة روسيا قرابة 30.000 جندي معظمهم مات بسبب المجاعة والأمراض.
وأتت الحملة الروسية في القرم من نهب وتحريق وتخريب ما يندى له الجبين، ونقل الأستاذ محمد كرد علي في مجلة المقتبس عن المؤرخ الفرنسي المركيز جابريل كاستلنو في كتابه أبحاث في التاريخ القديم والحديث لروسيا الجديدة، المنشور سنة 1820، والذي أهداه في المقدمة للقيصر الروسي اسكندر الأول: إن الحملة لم تشرف روسيا فإن بلاد القرم أُحرقت ودمرت، وربما كان مثل هذا العمل يغتفر على عهد البربر لما فطروا عليه من الجهل، ولكن إحراق المدن في القرن الثامن عشر، وتخريب أهم المباني والآثار، وتدمير المعابد والمدارس، وإدخال الظلام على العقول بإحراق خزائن كتب الأمة التي تريد الانتفاع بها في إنارة أفكارها، وإلقاء الشيوخ والنساء والأولاد طعمة للنيران، لا يُقصد منه الحرب بل إفناء شعب عن بكرة أبيه.
وفي سنة 1150=1737 أعلنت النمسا الحرب على الدولة العثمانية، وبدأت هجوماً على بلاد البوسنة والصرب والأفلاق، وهي اليوم رومانيا، ولكن الصدر الأعظم محمد باشا الذي كان قد تقلد منصب الصدارة في تلك السنة كان قد توقع ذلك وأعد له عدته، فلم تلق النمسا في هجماتها سوى الهزائم ومن أبرزها في أول الحرب معركة بانجالوكا، في البوسنة اليوم، حيث انتصر الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم السابق علي باشا حكيم أوغلو على الجيش النمساوي الذي قاده الأمير جوزيف أمير ساكس هيلدبرج هاوسن، رغم التفوق العددي للجيش النمساوي، وأبرزها في آخر الحرب معركة جروكا في سنة 1152=1739 التي استخف فيها القائد النمساوي المشير واليس بالجيش العثماني وأمر خيالته بالهجوم عليهم فور لقائهم، فكانت النتيجة هزيمة ساحقة لهم ومقتل وجرح نصفهم، وأصبح الطريق إلى بلغراد مفتوحاً أمام العثمانيين الذين حاصروها قرابة شهرين، وأرسل الصدر الأعظم الذي كان على رأس الجيوش يعلم السلطان أن الجيوش النمساوية قد سحقت على كافة الجبهات، وطلب الإذن للهجوم على المجر واستعادتها، ولكن السلطان محمود في حذره المعهود لم يوافق على ذلك.
وكان لهذه الهزائم وقع سيء في البلاط النمساوي الذي كان يتوقع انتصارات سريعة حاسمة، وعزل المشير واليس عن رئاسة الجيش، ومالت النمسا ميلاً شديداً لإنهاء القتال، ووسطت فرنسا في ذلك، وبدأت التفاوض مع العثمانيين التي استغلوا رغبة النمسا في السلم العاجل، واستطاعوا التوصل في 16 جمادى الأولى 1152 إلى معاهدة، سميت معاهدة بلغراد، منحتهم كثيراً من التنازلات حتى الأراضي التي تنازلت عتها الدولة العثمانية في معاهدة بسّارويتز سنة 1130=1718، حيث أعادت النمسا إليهم كل ما احتلته من أراض في البلقان بما فيها بلغراد التي رجعت للعثمانيين بعد 22 سنة من خسارتهم لها.
ورغم أن روسيا حققت انتصارات على العثمانيين في الجبهة الشرقية إلا أن خروج النمسا من القتال واستعداد السويد لمهاجمة روسيا أجبر الإمبراطورة حنة على توقيع معاهدة نيش، أو نيسّا في شرق صربيا، مع العثمانيين بعد ذلك بشهر في 25 جمادى الآخرة 1152=1739، وتخلت روسيا في المعاهدة عن أية مطالب لها في القِرِم أو مولدافيا، وكان التنازل الوحيد الذي حصلت عليه هو السماح لها ببقاء ميناء آزوف بعد هدم قلعته والتعهد بعدم تجديدها، وألا يكون لروسيا أي أسطول حربي أو تجاري في البحر الأسود، وبعد الاتفاقية بسنة ماتت هذه الإمبراطورة المغرمة بالحفلات والمساخر مكروهة من الشعب بسبب هذه الحرب التي قدم فيها الروس تضحيات باهظة لم تتناسب مع الأراضي التي استولت روسيا عليها إذ لم يتحقق الحلم الأكبر: ميناء على البحار الدافئة.
وينبغي أن نشير أن الدولة العثمانية كانت في أثناء الحرب قد أمدت السويد بهبة مالية كبيرة مقابل وعد أن تفتح جبهة شمالية على روسيا، ولكن ذلك لم يتحقق لأن الدنمارك دخلت الحرب إلى جانب روسيا، فتعذر على السويد دخول الحرب، وبعد انتهاء الحرب أبرمت الدولة العثمانية رسمياً مع السويد معاهدة دفاع مشترك في سنة 1153=1740، خشية أن يحل بها ما حل ببولندا التي صارت تحت النفوذ الروسي.
وكان من نتائج هذه الحرب أن ملك بولندا  أوغست الثالث مع كونه واقعاً تحت النفوذ الروسي بدأ في التقرب من الدولة العثمانية، وأكد لها أنه لن يصدر منه ما يهددها أو يسيء إليها، ولذا تحسنت علاقاتها معه واعترفت به ملكاً على بولندا وتبادلت معه المراسلات وأصدرت أوامرها لولاتها المتاخمين لبولندا ألا يفعلوا أي شيء من شأنه تكدير العلاقات مع بولندا.
وتحسنت علاقات الدولة العثمانية مع فرنسا تحسناً واضحاً، وفي نفس السنة، 1153=1740، وقعت الدولة معها معاهدة تضمنت تجديد الامتيازات القنصلية والتجارية السابقة مع بعض تسهيلات جديدة، وأرسل السلطان سعيد محمد أفندي، ابن محمد جلبي السفير السابق لدى فرنسا، سفيرا إلى باريس ليقدم صورة المعاهدة إلى ملك فرنسا لويس الخامس عشر مع كثير من الهدايا الثمينة، فقابله الملك بالاحتفاء والإكرام، وعند عودته أرسل معه مركبين حربيين وعدداً من ضباط المدفعية الفرنسية ليكونوا مدربين في الجيش العثماني على نظم الحرب الحديثة.
وبعد قرابة شهر من هذه المعاهدة توفى إمبراطور النمسا شارل السادس وتولت بعده ابنته ماريا تيريزا، فاعتقدت فرنسا أن الفرصة قد سنحت لهزيمة عدوتها اللدودة والحصول على ممتلكاتها، فشكلت تحالفاً مع أسبانيا وإمراء بافاريا وساكسونيا وبروسيا ضد النمسا، وشجعت الشقاق الداخلي بين ورثة التاج النمساوي، ونتجت عن ذلك حرب دامت 8 سنوات عرفت بحرب الوراثة النمساوية.
وحاولت فرنسا أن تضم إلى جانبها الدولة العثمانية، وبين سفيرها لدى الباب العالي فوائد تحالف الدولة على محاربة النمسا، وعرض عليها احتلال بلاد المجر واسترجاعها إلى أملاكها بحيث تعود حدود الدولة إلى ما كانت عليه من الاتساع أيام سليمان القانوني، وبذا تستطبع احتواء روسيا وأطماعها التي لا تخبو، وبذا تخضد الدولة العثمانية شوكة أكبر عدوين لها: الإمبراطورية النمساوية وروسيا  القيصرية.
ولم تلق مساعي فرنسا نجاحاً يذكر في البلاط السلطاني الذي آثر ساسته ألا يدخلوا في حروب أخرى وبخاصة أنهم كانوا في خضم الاشتغال بالاصلاحات الداخلية، وأرادوا لعب دور المصلح فقاموا بمحاولة للتوسط بين هذه الدول ودعوتهم للتصالح والبعد عن الحرب، وبالطبع لم يستجب أحد لهذه المساعي، إذ لم تكن الدولة العثمانية مؤهلة لها، كما كانت الخصومات بين هذه الدول قد تجاوزت حد الإصلاح، ويعد بعض المؤرخين هذا الموقف من الأخطاء الاستراتيجية للدولة العثمانية، فقد كانت النصيحة الفرنسية صادقة، وإن كانت لها أسبابها النفعية، ويعتبرون أن الدولة العثمانية أضاعت فرصة لو انتهزتها لاسترجعت ما فصل عنها من الفتوحات بدون كثير عناء.
ولئن كان الموقف السابق قابلاً للجدال، فقد ارتكب رجال الدولة خطأً آخر كانت له عواقب شديدة سيئة على المدى الطويل، فقد كانت سياسة الدولة العثمانية في إقليمي رومانيا والصرب تعيين أمرائهما من أشراف البلاد، ولكنهم في هذه الفترة غيروا هذه السياسة بحجة الخوف من تمردهم وطلبهم الاستقلال، وبدأوا في تعيين بعض أغنياء الروم من تجار الاستانة أمراء على هذه المناطق مقابل مبلغ سنوي يدفع للخزانة السلطانية، وكانت هذه المناصب تعطى لمن يدفع أكثر من غيره، وبدهي أن من يتعهد بمثل هذه المبالغ الطائلة عازم أن يسترجع ما دفعه أضعافا مضاعفة ظلماً وجوراً من الأهالي، فاستبد هؤلاء المعينون بالسكان وساموهم الذل والخسف، وفتكوا بالأشراف الأصليين وقتلوا كل من خالفهم منهم، وباعوا ألقاب الشرف جهارا حتى انقرضت أغلب العائلات الأثيلة التي بنت مجدها في خدمة السكان والإحسان إليهم، وحلت محلها عائلات جديدة أغلبها من تجار الأروام الذين اشتروا الألقاب بدراهم معدودة، وكانت نتيجة هذه السياسة أن سئم الأهالي هذه السلطة ومالوا إلى روسيا التي كانت حامية الديانة الأرثوذكسية، ووجهوا أنظارهم لها معتقدين أنها ستكون منقذتهم من هذه المظالم المستمرة، وهكذا بذرت هذه السياسة الخاطئة الظالمة بذرة الاستقلال في هذين الإقليمين الذين كان أهلوهما من قبل راضين بالعيش في ظل الراية العثمانية.
ولم يكن هذا مقصوراً على هاتين الولايتين بل انتقل المرض إلى غيرهما، فنجد أن ذلك في بلاد الشام حيث يذكر المؤرخون أن أسعد باشا العظم فعل مثل ذلك في منصبي ولاية حماة في سنة 1154، حيث بذل الأموال حتى صارت: مالكانة له بعناية الوزير الكبير بكر باشا!
ولعل أحد أسباب هذا التقاعس في إدارة الأمور بالحزم المعهود هو أن محمود الأول بعد أن قضى على تمرد بترونا خليل تابع نهجاً معيشياً يطلق عليه مؤرخو الأتراك اسم: لاله دوري. أي طور الزنبق، كان قد بدأ في سنة 1130=1718 وساد في استانبول والمدن الكبرى ثم انتهى مع نشوب الحرب مع إيران سنة 1142=1730، ويعنون به ملل المجتمع من ويلات الحروب والانقلابات وانصرافه إلى التمتع بملذات الحياة المادية من بنيان وحدائق وفنون وموسيقى، وفيه أصبحت هواية زراعة الزهور، وبخاصة الزنبق، الشغل الشاغل للناس، ومن الآثار المعبرة عن هذه الفترة جامع نورعثمانية في استانبول الذي بناه السلطان محمود وانتهى في عهد خلفه عثمان الثالث.
من الناحية السياسية الداخلية، تعلم محمود مما جرى مع أسلافه على يد من تبؤوا منصب الصدر الأعظم حين تعاظم نفوذهم فحجروا عليهم أو خلعوهم، ولذلك كان يغير رؤوساء الوزراء يصورة مستمرة، وفي فترة حكمه التي دامت 25 سنة أجرى 15 تغييراً  في هذا المنصب، وكان منصب شيخ الإسلام يسامي منصب الصدر الأعظم في الأهمية، وهو الذي يضفى الشرعية على قرارت الحاشية والصدر الأعظم، وقد أجرى محمود الثاني 12 تغييراً في هذا المنصب طيلة حكمه.
وأراد محمود الأول متابعة تجديد الجيوش العثمانية، واستقدم من فرنسا ضابطاً هو الكونت كلود الكساندر دو بونفال، الذي أسلم واشتهر باسم أحمد باشا قمبرجي، وأراد هذا الضابط تعديل نظام الخدمة العسكرية لنقله من الارتزاق إلى الاحتراف، واقترح  تقسيم فرق الأنشكارية إلى وحدات صغيرة يقودها ضباط شباب، واهتم بالتصنيع العسكري فأنشأ المصانع والورش لصناعة المدافع والبنادق والألغام، وافتتح مدرسة للهندسة العسكرية، ولكن الأنكشارية عارضوا كل هذه الإصلاحات، ولم يرغب السلطان ومن حوله في مواجهتهم والحروب تدور، فاكتفى بونفال بالعمل على تأسيس سلاح المدفعية وصناعة المدافع والقنابل.
من إنجازات محمود الأول المعمارية بناؤه سنة 1740 كلية إلى جانب جامع أياصوفيا شملت مكتبة ومدرسة للأولاد وسكناً للطلبة، وبذلك اتسعت فكرة وقف المكتبات لتتضمن المدارس والمساجد، وتوجد الكتب التي وقفها في المكتبة السليمانية اليوم تحت اسم مجموعة أياصوفيا الخاصة، أما المدرسة فهي اليوم مركز للتوثيق والتصوير والبحوث وقاعة لمعارض وأنشطة مرتبطة بمتحف أياصوفيا، وأنشأ محمود الأول كذلك 3 مكتبات أخرى ألحقها بجوامع الفاتح سنة 1742 والوالدة وغلطة سراي سنة 1754، وأنشأ كبار رجال دولته مكتبات وقفية مثل مكتبة حكيم باشا أوغلو في سنة 1738، ومكتبة عاطف أفندي سنة 1741، ومكتبة حاجي بشير آغا سنة 1754.
ومن منجزاته المعمارية في أياصوفيا نافورة جميلة رشيقة على ضخامتها، تستند قبتها على 8 أعمدة، تخرج منها صنابير برونزية، وتتوسطها الآية الكريمة: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .
توفي السلطان محمود الأول بعد مرض لزمه سنتين، ودفن في يني جامع قرب والده مصطفى الثاني، وتلاه أخوه عثمان الثالث الذي كان عمره 55 سنة، وهي أكبر سن تولى عندها سلطان السلطنة، ولم يدم حكمه سوى 3 سنوات توفي بعدها، وتلاه السلطان مصطفى الثالث ابن عمه السلطان أحمد الثالث، وفي عهده اندلعت الحرب مع روسيا من جديد في سنوات 1182- 1203= 1789-1807 وخسرت الدولة كثيراً من مكاسبها التي حققتها في زمن السلطان محمود الأول.

الجمعة، 12 ديسمبر 2014

حدث في العشرين من صفر

في العشرين من صفر من عام 1357، الموافق 21 أبريل 1938، توفي في لاهور، عن 63 سنة، الشاعر محمد إقبال، أعظم شعراء اللغةالأردية في العصر الحديث، والفيلسوف الذي دعا لنهضة المسلمين وتجديد الروح الإسلامية، وفي سبيل ذلك أرسى الأسس الفكرية لقيام دولة إسلامية مستقلة في شبه القارة الهندية كانت هي الباكستان.
ولد إقبال في سنة 1294=1877 في مدينة سيالكوت، في شمال شرقي باكستان اليوم، وينحدر من سلالة أسرة وثنية في كشمير كانت تنتمي إلى طبقة بانديت، أي العلماء، والتي تعد عند البراهمة أرقى الطبقات في النظام الهندوسي، دخل أفرادها في الإسلام منذ 300 سنة على يد أحد مشايخ الصوفية، ثم هاجرت إلى البنجاب، وكان والده، شيخ نور محمد، الذي لم يتلق تعليماً نظامياً، يعمل خياطاً وكان معروفاً بالصلاح والإقبال على الطاعات، وكانت أمه امرأة ذات أدب وتواضع محبوبة بين جيرانها لمساعدتها الفقير وإصلاحها بين الناس .
درس إقبال في سيالكوت في الكُّتاب ثم دخل المدرسة الإرسالية الإسكوتلندية الثانوية، وبعد إتمامها بتفوق درس في كلية سيالكوت على العالم الكبير مير حسن الذي كان يشار له بالبنان في الأدب الفارسي والعربي، وهو الذي بثّ في نفسه حب الأدب الشرقي، وتعلم منه إقبال اللغة الفارسية والعربية، وتخرج منها في سنة 1895.
ثم انتقل إقبال إلى الكلية الحكومية في مدينة لاهور وعاصمة البنجاب القريبة، وتخرج منها سنة 1899 وتابع دراسته فيها فنال الماجستير سنة 1899، وكان الأول على أقرانه فعُين مدرساً للفلسفة فيها، وكان من أساتذته في لاهور المستشرق سير توماس أرنولد، المولود سنة 1280=1864 والمتوفى في لندن سنة 1349=1930، وفي هذه الفترة بدأ إقبال يقرض الشعر وأصبح من الشعراء المرموقين، وفي نفس الوقت تخرج من كلية الآداب بامتياز وصار مدرساً للفلسفة في إحدى الكليات،
وفي هذه الفترة نظم إقبال، وهو في السابعة والعشرين، نشيد الشعب الهندي: سارِ جهان، وفيه يفتخر بالهند وأقوامها ومحبة أبنائها لها، ونورد بعضاً منه لنلحظ التطور الفكري لإقبال، من معتز بالقومية الهندية إلى منادٍ بالرابطة الإسلامية في نشيده الإسلامي المعروف:  الصين لنا والهند لنا، الذي نظمه بعد 5 سنوات، يقول إقبال:
هندنا أجمل بلدان العالم، نحن البلابل وهي دوحتنا
ولئن طرنا بعيداً في غربتنا فإن قلبنا يبقى في الوطن
وما نحن إلا حيث يوجد فؤادنا
والدين لا يعلمنا أن نحمل حقداً فيما بيننا
نحن الهنود أبناء الهند
قد أفلت دون أثر شمس اليونان ومصر والرومان
وبقي اسم الهند وشعار الهند وخصال الهند
من يقدر أن يمحي وجودنا حتى ولو عادانا الزمن قروناً كثيرة
إيه إقبال! لا يوجد قريب نبثه أشجاننا في هذا العالم
من عساه يدرك ما نخفي من آلام
ونظراً لتفوقه نال إقبال منحة دراسية وسافر في سنة 1905 إلى جامعة كامبريدج في بريطانيا لمتابعة دراسته، ونال منها شهادة الفلسفة في سنة 1906، ثم قدم امتحان المحاماة في نفس السنة ونجح فيه، وفي سنة 1907 ذهب إلى جامعة ماكسميليان في ميونيخ في ألمانيا ونال منها درجة الدكتوراه في الفلسفة في سنة 1908، وكان موضوع رسالته تطور فكر ما وراء الطبيعة في فارس، ثم رجع إلى إنكلترا والتحق بجامعة لندن ونال منها شهادة المحاماة.
ولم يندفع إقبال وراء ملاهي الغرب ومغرياته، بل كان يسعى لخدمة الإسلام والدعوة له، وألقى في غضون إقامته في إنجلترا محاضرات عن الإسلام بين العامة والخاصة كان لها وقع كبير ، ذلك إن المسلمين في ذلك الوقت كانوا جزءاً كبيراً وهاماً من رعايا التاج البريطاني.
ورجع الدكتور إقبال إلى الهند سنة 1908، وقد سبقته شهرته وأعماله فأقيم له حفل استقبال شارك فيه حشد كبير من جميع الأجناس والطبقات والأديان والملل، وعمل لفترة وجيزة محامياً لدى محكمة لاهور العليا، ثم ترك العمل وتفرغ للأدب، وأصبح عضواً نشيطاً في جمعية حماية الإسلام، ورفض إقبال غير مرة المناصب الحكومية التي عرضت عليه، وآخرها منصب ممثل الحكومة الهندية لدى حكومة جنوب أفريقيا، وهو منصب ذو مرتب وفير وشرف عظيم، فقد كان إقبال رجلاً قنوعاً، عزيز النفس؛ يقنع بالكفاف ويرضى بالميسور، قال في ديوانه رسالة الشرق:
أنا لا أتحمل مِنّة الملوك ولا ذلة اليد السفلى
يا من خدعك الطمع: اعتبر بهمة هذا الفقير
وعمل إقبال مع رابطة مسلمي عموم الهند التي كانت تسعى لتقوية مكانة المسلمين في الهند والحصول على حقوقهم، ولكنه أصيب بخيبة أمل عندما رأى أغلب زعمائها منشغلين بالنزاعات بين كتلهم المختلفة، ورغم اختلافه مع محمد علي جناح وانتقاده له في عدد من المواقف، إلا أنه كان يرى أنه الزعيم السياسي الوحيد الذي يمكنه توحيد المسلمين للحصول على حقوقهم، ولذا كانت علاقته مع جناح علاقة وثيقة جداً، وهنا نتوقف قليلاً لنتحدث عن حركة استقلال الهند عن الاستعمار البريطاني.
تعود جذور حركة الاستقلال في الهند إلى منظمة المؤتمر الهندي الوطني التي تأسست سنة 1885 بصفة جمعية فكرية، وتحولت مع الأيام إلى حركة تتحدث باسم الهند في الظاهر، والهندوس في الواقع، وانضم إليها فيما بعد أعضاء مسلمون كان محمد علي جناح من أبرزهم، ومرت على الحركة أطوار فكانت تسودها النزعة الهندوسية أحياناً كثيرة وأحياناً تخبو هذه النزعة مثلما حصل في أيام المهاتما غاندي، وأصبح المؤتمر القوة الرئيسة في الهند التي تستطيع القول إنها تمثل كافة الهنود من مختلف الأعراق والأديان والطبقات.
أصدر إقبال بعد عودته ديوانين باللغة الفارسية هما أسرار خودي في سنة 1915، أي أسرار الروح، وفي سنة 1918 رموز بيخودي، أي رموز إنكار الذات، فنالا إعجاب أهل الأدب والعلم في الهند، وكان لهما وقع خاص في صفوف الشباب المسلم، لما تضمناه من أفكار تدعو لنهضة إسلامية، وترجم الأول إلى الإنجليزية في سنة 1920 المستشرق رينولد نيكولسون، المولود 1868 والمتوفى سنة 1945، فذاع به صيت إقبال في الأوساط الأدبية والفلسفية الغربية، ومنحته الحكومة البريطانية في سنة 1922 لقب سير تقديراً لشاعريته وأفكاره الفلسفية.
وفي سنة 1926 ناشده أحبابه وأصدقاؤه وأهالي لاهور أن يرشح نفسه لعضوية المجلس التشريعي في إقليم البنجاب، فلم يقبل، فلما ألحوا عليه كثيراً قبل ذلك، وانتخب عضواً بأكثرية ساحقة، وفي المجلس سعى إقبال سعياً حثيثاً لتخفيف الضرائب الفادحة عن كاهل الفلاح الهندي، وبمساعيه سن إقليم البنجاب قانوناً يعاقب كل من يطعن في شرائع دين لا ينتمي إليه أو أحد رؤساء ذلك الدين، وهدف القانون ضمان السلم الاجتماعي والبعد عن الإثارة والتوتر في المجتمع، وقدم إقبال كذلك مشروع قانون يهدف إلى تقليص شرب الخمور بغرض تحريمها البتة في مدة 15 سنة، وفي سنة 1928 أثار إقبال في المجلس التشريعي قضية إن كانت الأراضي هو ملك الحكومة أم ملك الشعب؟ وفي سنة 1932 عند مراجعة المجلس لميزانية الحكومة كانت له كلمة أثبت بالدلائل الناطقة والشواهد الصادقة أن الأراضي ليست ملكاً للحكومة فلا يجوز لها إثقال كاهل الفلاح بالضرائب الفادحة على أراضيه.
وفي أواخر سنة 1928 دعته جمعية إسلامية في مَدَراس في جنوبي شرقي الهند لإلقاء محاضرة عن الإسلام، فلبى الدعوة، فلما وصل إلى مدراس احتفل به أهاليها من جميع الأجناس والملل احتفالاً باهراً، وأقيمت لتكريمه مآدب كثيرة من قبل جمعيات مختلفة منها جمعية العلماء البراهمة وغيرها من جمعيات الهندوس، ومن مدراس توجه إقبال إلى حيدر آباد تلبية لدعوة مير عثمان علي نظام حيدر آباد، فمر بإمارة ميسور، وهي إمارة هندوسية كبيرة في جنوب إمارة حيدر آباد، فلما وصل إلى بانجلور استقبله حشد كبير من الطلبة والعلماء والوجهاء، وكان بينهم رئيس وزراء ميسور أمين المُلك ميرزا إسماعيل، فسافر معهم إلى العاصمة ميسور، ونزل ضيفاً على مهراجا ميسور الهندوسي، وأقيمت لتكريمه مآدب كثيرة أهمها مأدبة جامعة ميسور التي خطب فيها عالم هندوسي كبير وهو أستاذ الفلسفة بالجامعة فقال: إن المسلمين مهما قالوا إن إقبال منهم، فإن الحقيقة أنه منا جميعاً، هو ليس من ملك دين واحد أو جماعة واحدة، فإن افتخر المسلمون بأنه من أبناء دينهم، فلسنا نحن الهندوس بأقل فخراً منهم بأنه من أبناء وطننا الهند.
ومن ميسور توجه إقبال إلى حيدر آباد، فاستقبله جمع غفير من جميع الأجناس والملل، بينهم كبار الحكومة وأساتذة الجامعة وطلبتها وغيرهم، واصطف طلبة المدارس في محطة القطار والشوارع ينشدون نشيد المسلم الذي نظمه إقبال باللغة الأردية والمشهورة ترجمته:
الصين لنا والهند لنا ... والعرب لنا والكل لنا
أضحى الإسلام لنا ديناً ... وجميع الكون لنا وطنا
ونزل إقبال ضيفاً على نظام حيدر آباد، وألقى محاضرات عديدة بالجامعة العثمانية بحيدر آباد، ثم توجه من حيدر آباد إلى الجامعة الإسلامية في عليكره تلبية لدعوتها، فحاضر فيها كذلك، وجمع إقبال هذه المحاضرات، وعددها ست، في كتابه تجديد الفكر الديني في الإسلام.
ويدعو إقبال في كتابه إصلاح الفكر الديني في الإسلام إلى إعادة النظر في الأسس الفكرية التي اتسمت بها الفلسفة الإسلامية في السابق، والتي قامت على أساسها المجتمعات وتعامل وفقها الأفراد في أمورهم الدينية والدنيوية، وينطلق إقبال من أن التغيير المستمر والسعي وراء التطور هو سنة الله في الخلق، ولا مناص للمسلمين أن يتجاوبوا مع السنن الإلهية، وما تجلبه من مستجدات، ولذا فلا بد أن يراجعوا على ضوئها فلسفتهم في أساليب الحياة الفردية والمجتمعية وكيف يتمثلون رسالة الإسلام فيها، وعلى سبيل المثال يرى إقبال: أن نظام الحكم الجمهوري علاوة على انسجامه تمام الإنسجام مع روح الإسلام، فإنه قد أصبح ضرورة في عالم اليوم نظراً لما طرأ من تغير على القوى المؤثرة اليوم في المجتمعات والبلاد الإسلامية. وهو يرى كذلك أن: الدعوات الصوفية الصادقة قامت في السابق بعمل جليل لا شك فيه في تشكيل وتوجيه الحياة الإسلامية في مجتمعاتها، ولكن قادتها اليوم، وبسبب انغلاقهم وجهلهم بالفكر المعاصر، أصبحوا عاجزين تمام العجز عن استيحاء أية تجديد من الأفكار والتجارب المعاصرة، فهم يكررون أساليباً استحدثت وثبت صلاحها ولكن في أزمنة وأجيال مختلفة جد الاختلاف في  الثقافة والمدارك والظروف عن أجيال اليوم.
وفي سنة 1349=1930 انعقد في لاهور المؤتمر السنوي لرابطة مسلمي عموم الهند، وألقى فيه إقبال خطاب الرئاسة، الذي تحدث فيه صراحة عن إقامة دولة مسلمة في الهند، قال إقبال في خطابه: إنني أتطلع لأن أرى البنجاب وولاية الحدود الشمالية الغربية والسند وبلوشستان تنضوي في دولة واحدة، وتتمع بالحكم الذاتي ضمن الإمبراطورية البريطانية أو خارجها، إنني أعتقد أن قدر المسلمين الهنود، أو على الأقل من هم في شمالي شرقي الهند، أن ينخرطوا في دولة مسلمة في شمال غربي الهند. وكان لخطاب إقبال دوي هائل في الأوساط الهندية مسلمها وهندوسيها، فقد كانت هذه أول مرة يتحدث فيها المسلمون من محفل عام وبصورة شبه رسمية عن رغبتهم في الانفصال عن الهند والاستقلال في دولة يكونوا الأغلبية فيها.
وهنا افترق مسير إقبال عن درب محمد علي جناح الذي بقي في المؤتمر محبذاً استقلال الهند في دولة واحدة متعددة الأديان والأعراق، أما إقبال فقد عارض المؤتمر ومقترحاته حول الاستقلال التي لم تتضمن أن تتمتع الولايات ذات الأغلبية المسلمة بقدر كبير من الاستقلال أو بحكم ذاتي، وذلك ما كانت عليه في ظل الاستعمار البريطاني أغلب الولايات المسلمة أو التي يحكمها المسلمون، وبقي إقبال يدعو لمبدأ أمتين في دولتين حتى آخر أيامه، واستطاع أن يجتذب لهذه الفكرة حشود الشباب والطبقات الدنيا والوسطى من المسلمين، ذلك إن إقبال في دعوته لإقامة دولة مسلمة هاجم كذلك الإقطاعيين الذين يسخرون الفقراء ولا يكترثون بمعاناتهم ولا يحترمون حقوقهم، والمحتكرين الذين يتلاعبون بمعايش الناس وأقواتهم، وكان لذلك صدى كبير في بلد كالهند يموج بالفقراء المسحوقين.
وفي سنة 1931 انتخبت حكومة البنجاب محمد إقبال عضواً ليمثلها في مؤتمر المائدة المستديرة المنعقد في لندن بشأن الإصلاح الدستوري في الهند، فسافر إلى لندن، وألقى في جامعة كامبردج محاضرة مما جاء فيها: إنني أنصح الطلبة الشباب أن يأخذوا حذرهم من الإلحاد والمادية، وأقول إن أكبر خطأ اقترفته أوربا هو الفصل بين الكنيسة والدولة، فقد حرم ذلك ثقافتها من روحها الأخلاقية وجعلها مادية ملحدة. لقد قلت هذا منذ 25 عاماً، في سنة 1907، وما تنبأت به صار حقيقة، لقد كانت الحرب الأوربية [العالمية الأولى] نتيجة لهذه الأخطاء  التي ارتكبتها الأمم الأوربية. وفي عودته إلى الهند بالسفينة، عرج إقبال على القدس تلبية لدعوة من المؤتمر الإسلامي بالقدس، وزار مصر أيضاً وألقى باللغة الإنجليزية محاضرة في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة كان موضوعها: دور الإسلام في التغييرات التاريخية.
وفي سنة 1933 كانت أفغانستان تحت حكم الملك نادر شاه خان، المولود بالهند سنة 1300=1883 والمتوفى غيلة سنة 1358=1933، وكان هذا الملك قد تسنم الحكم قبل سنوات 3، بعد الإطاحة بالملك أمان الله خان بسبب جنوحه للتغريب على منهج أتاتورك، فأراد نادر شاه متابعة الإصلاح ولكن على منهج يناسب البلاد وتمسكها بالإسلام وتشددها في تقاليدها القبلية، وفي سنة 1932 بدأت جامعة كابل في قبول أول طلابها، فأراد نادر شاه أن يكون لها نصيب من أفكار إقبال التجديدية، فدعاه مع عالمين كبيرين هنديين وهما الأستاذ الحقوقي رُسّ مسعود رئيس الجامعة الإسلامية بعليكره، المولود سنة 1306=1889 والمتوفى سنة 1356=1937، والشيخ العلامة السيد سليمان بن حكيم الندوي من ندوة العلماء بلكنو، والمشهور بكتاباته في السيرة النبوية، فلبى إقبال وصاحباه الدعوة، ومما ذكره الأستاذ  الندوي أنه حينما زار محمد إقبال الملك نادر شاه أول مرة في كابل جعلا يبكيان ساعة من الزمن، والقوم صامتين ينظرون إلى مسلمَين مخلصَين، أحدهما حكيم والآخر ملك، يتكلمان بدموع العين. وفي هذا السفر صنف إقبال ديوانه المسمى مسافر باللغة الفارسية.
وفي سنة 1934 سافر إقبال لزيارة البلاد الإسلامية في المغرب ولمشاهدة الآثار الإسلامية في الأندلس وصنف في هذا السفر ديواناً باللغة الأردية سماه بال جبريل، أي جناح جبريل، وفي أواخر السنة دُعي إلى إنجلترا لإلقاء محاضرات في فلسفة الدين فلبى الدعوة.
وبقي إقبال في ما تبقى من عمره يؤيد الرابطة الإسلامية ويعمل في حشد التأييد لها وجمع التبرعات المالية لدعمها في الهند وخارجها، في سفر دائم ودأب لا ينقطع، وابتدأ المرض به في سنة 1933 وتسلل إليه رويداً رويداً حتى صار قعيد الفراش في معاناة شديدة من تباريح الوجد والشوق إلى زيارة بيت الله الحرام وقبر النبي صلى الله عليه وسلم  التي لم تقدر له، إلى أن وافته المنية ونعته الجهات الرسمية والشعبية، ورثاه المسلمون والهندوس، ولم تتحق أمنيته في قيام دولة مسلمة إلا حين شعر محمد علي جناح بعد وفاة إقبال بسنتين أن المؤتمر الوطني الهندي لا يريد أن ينصف المسلمين في حقوقهم وتطلعاتهم، فاتجه لفكرة الدولتين التي دعا إليها إقبال، فوجد جناح أرضاً خصبة وجماهير جاهزة، بفضل جهاد إقبال ودعوته.
لا يكتمل الحديث عن إقبال إن لم نعرج على شعره ونقف في ساحه، ولذلك نرجع إلى دراسة في مجلة الرسالة عن شعر إقبال للسيد أبي النصر أحمد الحسيني الهندي وأخرى للأستاذ مسعود الندوي، نقتبس منهما تقسيم مراحل الشاعرية لدى إقبال إلى ثلاثة مراحل:
المرحلة الأولى هي دور نشأته إلى سنة 1905: ويبدأ من حين كان إقبال لا يزال فتى يافعاً وطالباً بالمدرسة، حين بدأ ينظم الشعر باللغة الأردية، وينال عليه استحسان زملائه الطلبة، ويجمعهم حوله اغتباطهم بحدة ذكائه وتفوقه عليهم في الشعر، فكانت شهرة إقبال في الشعر بادئ ذي بدء محصورة بين أترابه وأقرانه، فلما انتقل من كلية سيالكوت إلى كلية الحكومة بلاهور بدأ يشترك في مجالس الشعراء ويقول القصائد في الاحتفالات السنوية لجمعية حماية الإسلام الشهيرة بلاهور، فذاع صيته بين الخاص والعام.
ومعظم شعره في هذا الدور باللغة الأردية، ويتميز بسعة الخيال، وابتكار المعاني، وتتجلى فيه روح الحب وطلب الجمال، ولكنه خال من دقة الفكر والتعمق بالنسبة إلى شعره في الأدوار أخرى.
ويتعلق الدور الثاني بالزمن الذي قضاه إقبال في أوروبا من سنة 1905 إلى سنة 1908، وكان نظمه في هذا الدور أقل غزارة من الدورين الآخرين، ويمتاز بأن أثر مشاهدات أوربا بادٍ فيه، ولكن روح الحب وطلب الجمال لا تزال متجلية فيه، وأكبر مزية لهذا الدور أن بدأت فيه أفكاره الشعرية تعلو وتتسع حتى ضاق عنها نطاق اللغة الأُردية الحديثة السن فمال إلى الفارسية وبدأ يعبر بها عن إلهامه الشعري.
وأما الدور الثالث فيبتدئ من بعد عودة إقبال من أوروبا إلى الهند في سنة 1908، وهو الأهم، فالنزر القليل الذي فاضت به قريحته في تلك الفترة قد جاء وعليه مسحة من الشعور الديني العميق، والاشمئزاز من مظاهر التمدن الحديث، والتبرم بالمتفرنجين من أبناء الإسلام، وأحس في أوربا بعظمة الجامعة الإسلامية وشعر بأن الوطنية الجغرافية لا تزيد المسلمين إلا تماديا في الغي وبعدا عن منهج الإسلام الصحيح، فتحولت فكرته الوطنية إلى فكرة دينية إسلامية، شاملة لكل من يدين بكلمة الإسلام.
ومن أشعاره في هذا الدور:
لا يمكن تخليص الشرق من براثن الاستعمار ونجاته من سلطته إلا إذا اتحد المسلمون، واجتمعت كلمتهم
ولكن أهل آسيا لا يزالون يجهلون هذه الحكمة البالغة.
حذار أن تبقى متلهياً بالنظريات السياسية الباطلة، وادخل في حمى الدين من جديد
فليتحد المسلمون وليكونوا كتلة واحدة متضامنة للذود عن بيت الله الحرام من النيل إلى أرض كاشغر
والذي يفرق في ذلك بين اللون والدم، سوف ينعدم وجوده من وجه الأرض
سواء في ذلك التركي الأبي والعربي النبيل
وإن آثرت أيها المسلم عنصرك وسلامتك على دينك، فلن يبقى لك في هذه الدنيا عين أو أثر
أما رأي إقبال في الحضارة الجديدة المادية فيقول مشيراً إلى ما شنته من حروب واستعمرته من شعوب:
تعجبكم هذه الحضارة الحديثة ويبهر عيونكم جمالها
وما هي إلا كفصوص موهتها يد الصناع وجَلَتها فاختطف الأبصار لمعانها الكاذب
الحكمة التي يفتخر بها حكماء الغرب ويتشدقون ببركتها
ها هي قد عادت بأيديهم سيوفا تقطر دماً
أترون أن هذه الحضارة يكتب لها الخلود بالحيل التي يدبرها لها ساستها؟
كل حضارة أُسِّس بنيانُها على التنافس في الأموال والتكالب على الشهوات سوف تنهار وتتبدد
ونستعرض فيما يلي دوواين إقبال مرتبة حسب تاريخ نشرها:
1.    بابك درا: أي صوت الجرس، وهو ديوان بالأردية يحتوي على باكورة أشعاره المختلفة، وهو أكثر دواوينه دعوة إلى الجهاد وتذكيراً بالماضي واستهزاء بالحضارة الجديدة وبالتعليم العصري ونتائجه السيئة.
2.    أسرار خودى: أي أسرار الروح وهو أول دواوينه بالفارسية، وشعره من النوع المثنوي، وفيه يخاطب إقبال الإنسان شخصاً مفرداً، ويقول في المقدمة: أين هذا الإنسان الصالح الذي لا يرى تقدمه في استعباد العباد، وقهر النفوس؟ أين هذا الإنسان الذي يسعى بكل إخلاص من أجل الإنسان كل الإنسان، في الأرض كل الأرض؟ ثم يبسط وجهة نظره فيقول: إن سر وجود الإنسان هو ما نفخ فيه الله من روح، وبفضلها أمر الملائكة أن تسجد لآدم، ولكن سمو الروح لا يتحقق إلا بالمجاهدة الدائمة، فهذه الحياة جهاد مستمر، والرجل الحي حقاً هو الذي يوقظ كل قواه، ويستخرج كل ما في فطرته، ويتأهب بمواهبه وأدواته للجهاد. السكون موت، والتقليد فناء، والحركة حياة، والاستقلال وجود، فالحياة بنظر إقبال سعي دائم من خلال المجاهدة الروحية والسعي العلمي للسمو بالروح نحو الكمال البشري حتى يستحق الإنسان حقيقة لقب خليفة الله في الأرض.
ولتحقيق الذات وبلوغها الكمال، لابد أن تجتاز ثلاث مراحل: مرحلة الخضوع للشريعة، ومرحلة ضبط النفس، ومرحلة الخلافة الإلهية. فلا بد في المرحلة الأولى من أن يسلك الإنسان طريقاً واضحة وفقاً لقانون يخضع له، وتلك طاعة الشريعة، أما مرحلة ضبط النفس فذلك لأن النفس الإنسانية أمارة بالسوء، معجبة بذاتها، أبية، عنيدة، لا تهتم إلا بأمر نفسها، ولذا فهي محتاجة إلى الضبط والتهذيب، وخير طريق لذلك هو إقامة أحكام الشريعة، فالصلاة تنقذها من الفحشاء والمنكر، والصوم يقتل غلمتها وترفها، والحج يذيقها لذة الهجر ويخفف عنها سلطان الحب للوطن ويضمها إلى المجتمع الإسلامي العام فيجعلها تشعر بجنسية الإسلام، والزكاة تبيد حبها للمال وتعلمها المساواة. أما الخلافة الإلهية فهي النهاية القصوى للتقدم الإنساني على سطح الأرض، ففيها يتحول تشتت الأفكار وتنافرها إلى التناسق والتوافق، فتقدر على حل جميع المعضلات الصعبة المرام، ومن حاز هذه المرتبة كان آخر ثمرة لدوحة الإنسانية، وظهوره يبرر جميع آلام الارتقاء ومحنه لأنها كانت قائمة لأجله، ويستحق أن يكون حاكما حقيقيا على البشر، وتكون حكومته حكومة إلهية على الأرض، وهو يسبغ من كرم طبعه على الآخرين بحبوحة الحياة، ويقربهم إلى نفسه، وكلما تقربواإليه تتدرج حياتهم في مدارج التقدم والكمال.
ومن الأشعار التي وردت في أسرار خودي التي تميز بين العبودية والحرية:
العبد في سلاسل من زمانه، والتعلل بالقضاء والقدر وِردُ لسانه
وهمة الحرَّ هي إشارة القضاء، تصوَّر يدُه الحادثات كما تشاء
1.    رموز بيخودي: أي رموز إنكار الذات، وهو ديوانه الثاني باللغة الفارسية وشعره من نوع المثنوي، وهو كالتكملة للأول الذي خاطب فيه الفرد وهنا يخاطب الشعوب المسلمة، ويرى أن الفرد صورة عن مجتمعه والمجتمع انعكاس لأعضائه، ولا بد من تدريب الفرد ليعمل ضمن المجتمع، ولا يتقدم المجتمع إلا بنمو روح الجماعة لدى أفراده، فتتخلى ذواتهم عن أنانيتها وتتعلم النقطة أن تذوب في البحر حباً وهياماً، ولا بد للمسلمين أن يحافظوا على النظام في حياتهم، ولا يتحقق ذلك إلا بوحدتهم وتعاضدهم، واتخذ من تاريخ المسلمين رجالهم وجماعتهم مُثُلا لتطبيق هذه الآراء، وفي هذا الصدد يرى إقبال دوراً أساسياً للمرأة فهي الأم التي تغرس في أولادها هذه القيم النبيلة.
2.    بيام مشرق: أي رسالة الشرق، وهو باللغة الفارسية، نشره في سنة 1923 في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد صنفه جواباً للشاعر الفيلسوف الألماني الشهير جوتيه في ديوانه: الديوان الشرقي للشاعر الغربي. ومحاولة من إقبال لجلب الدفئ إلى أفكار الغرب الباردة، ومن قوله في عصبة الأمم التي أنشئت سنة 1920 في جنيف:
ما عرفنا قبل اليوم أن جماعة من سُّراق الأكفان ألفوا عصبة لتقسيم القبور
3.    زبور عجم: ديوان باللغة الفارسية، نشره في سنة 1926، وهو أكثر دوواينه شاعرية يحتوي على أرق العواطف وغوامض الحكم ما تهش له النفس ويفرح به القلب. 
4.    جاويد نامه: أي كتاب جاويد، ونشره في سنة 1932، وهو ديوان باللغة الفارسية، جعله نصيحة لجيل المستقبل، ولذا سماه باسم أصغر أبنائه، وسلك فيه إقبال مسلك المعري في رسالة الغفران ودانته الإيطالي في الكوميديا المقدسة، وفي الديوان يتخيل إقبال أنه كان في صحبة مولانا جلال الدين الرومي وارتقى معه في عالم الخيال درجات السماء، فلقي هنالك أرواح المجاهدين وأسر إليها بمكنون نفسه ووصف لها علل الأمة واستفسر عن دوائها، فوصفوا له الدواء الناجع، وتحدث عن خيانة مير جعفر البنغالي ومير صادق الدكني التي مكنت للإنجليز في الهند بتسببها في هزيمة سراج الدولة في البنغال والسلطان تيبو في ميسور، فقال: إن جهنم احتجت أن يكون الخونة بين ظهرانيها، وحمل حملة شعواء على اللورد كتشنر بلسان المهدي السوداني وأنبه على نبش قبره تأنيباً شديداً، ومما جاء فيه مشيراً لأتاتورك:
ليست قوة الغرب من العود والرباب، ولا من رقص الفتيات بغير حجاب
ولا من سحر ورديات الخدود، ولا من الساق العارية والشعر المجدود
لقد غفل التركي عن نفسه، وسكِر بخمر الإفرنج رأسه
فشرب من يدهم السم حلو المذاق، وترك عامداً ترياق العراق
5.    مسافر: وهو ديوان صغير باللغة الفارسية، شعره من نوع المثنوي، يحتوي على ما جادت به قريحته حين سافر في سنة 1933 إلى أفغانستان تلبية لدعوة ملكها نادر شاه خان، وفيه نصائح لشبان بلاد الأفغان ورجالهم.
6.     منظومة نظمها أثناء حرب إيطاليا على الحبشة، وجعل عنوانها: ماذا يجب أن نعمل يا أمم الشرق؟
7.    بال جبريل: أي جناح جبريل، نشر سنة 1932 باللغة الأردية، ومعظم أشعاره تدور حول ما شاهده وتأثر به خلال أسفاره في سنة 1931 إلى لندن وباريس وروما والأندلس وبلاد العرب عام 1931، وقد أجمع النقاد أن هذا الديوان مقتصر على الحكمة، ومن خصائصه أن إقبال ولأول مرة انتقد فيه انتقاداً لاذعاً المشايخ والمتصوفين الذين يطلق عليهم لقب مُلا في الهند، ومن ذلك قوله:
لقد أفتى الشيخ بأن هذا عصر القلم، وأما السيف فلم يبق له اليوم عمل يذكر؛
ولكني أسائل حضرة الشيخ: أو لا يعرف أن هذه الموعظة لا تجدي اليوم شيئاً في المساجد
فأين السيوف والمدافع بأيدي المسلمين؟
وإن كانت، فكيف والقلوب قد ذهلت عما في الموت من لذة؛
وكيف وقد سكنت القلوبَ خشيةُ الموت
حتى لا يرضوا أن يضحوا بنفوسهم تضحية الكفار
من لي بهم أن ينفضوا عنهم غبار الجبن والخمول
ويبذلوا مهجهم وأرواحهم بذل المسلمين المخلصين؟
وما أحرى الذين يرتعد العالم خوفاً من آلاتهم الجهنمية
أن يُلَقَّنوا الأمن والسلام ويُدعوا إلى ترك الجهاد: جهادهم الباطل!
أليست الحرب شراً في الغرب، إذا كانت كذلك في الشرق؟
يزعم الأبله أن الإسلام حر في هذه الديار
كأني به لا يعرف من الدين إلا الركوع والسجود فقط
8.    ضرب كليم: أي ضربة موسى كليم الله، إشارة إلى إلقاء موسى عصاه لتلقف ما يأفكون، وهو شعر بسيط مجرد عن الفلسفة والزخارف، قال إقبال إنه: إعلان حرب على العصر الحاضر! فند فيه آراء أهل الغرب والمتفرنجين، وانتقد جميع نظرياتهم السياسية؛ وانتقد فيه القاديانيين وغلامهم الكذاب، فذكرهم غير مرة وكشف الغطاء عن دجلهم وكيدهم للإسلام والمسلمين.
9.    أرمغان حجاز: أي هدية الحجاز، وهو الديوان الذي ظهر بعد وفاته، رحمه الله، بالفارسية والأردية، وقد سماه هدية الحجاز، لأنه سافر إلى بلاد أوربا مراراً وزار بعض بلاد العرب أيضاً، لكنه ما قدر له أن يتشرف بزيارة الحرمين الشريفين، على ما به من تباريح الوجد والشوق إلى زيارة بيت الله الحرام وقبر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من أمنيته أن يتمتع بها، ويعود بحصيلة من الإلهام الشعري يقدمه إلى عشاق أدبه والمفتتنين بحكمه، إلا أن مرضه الأخير قد أنهك قواه، وبقى يتقلب على أحر من الجمر زهاء عامين يتجرع غصص النوى حتى وافاه الأجل المحتوم، ولما يقض لبانته. وفي أيام المرض العصيبة جادت قريحته بأبيات ومقطوعات لا تنسى أبد الدهر:
ليت شعري، أيعود من جديد رجع الحادي الذاهب؟
ليت شعري، أتهب من جديد ريح الحجاز بعد سكون؟
أضحت في نهايتها أيام هذا الحقير الفقير إلى الله
ليت شعري أيأتي حكيم آخر يكشف الحجب؟
وكانت آخر أشعار إقبال قوله على فراش المرض قبل وفاته بأيام:
هناك في الدار الآخرة جنة للمتصدقين الأسخياء بأموالهم
وجنة للعباد الزهاد المنقطعين إلى ذكر الله
قل للمسلم الهندي لا تحزن ولا تتألم فإن هناك جنة أخرى غيرها؛
هي التي ينعم بها على الذين يجاهدون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون
ونختم بالاقتباس من دراسة عن شعر إقبال كتبها في مجلة الرسالة المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام، المولود سنة 1312=1894 والمتوفى سنة 1378=1959، وكان عالماً جليلاً ومسلماً صادقاً غيوراً، متخصصاً في الأدب واللغة الفارسية، قال رحمه الله:
منظومات إقبال فيها سعة النفس العظيمة التي لا تحد؛ ولكن يستطيع قارئها أن يتبين أصولا خمسة يدور حولها كثير من شعره:
1.    الحياة هي الجهاد الدائم وتسخير قوى العالَم، فهو يقول:
ما هي الحياة؟ هي ان تستأسر العالم لنفسك
ولكن أنى لك ذلك ما دمت أنت أسيراً للعالم!
2.    وإنما يصلح الإنسان للجهاد بتقوية نفسه، واستخراج كل ما فيها من قوى. ومن كلامه في بيام مشرق:
أخرج النغمة التي هي أساس فطرتك. أيها الضالَّ عن نفسه! خل نفسك من نغمات غيرك
3.    وتقتضي هذه الذاتية الحرية، وحرَّية إقبال ألا يحدَّ النفس شيء حتى الزمان والمكان
هو بالأمس خبير بغدِ ... وهو اليومَ نجيُّ الأبد
4.    العلم وحده حجاب دون الحقائق وعقبة في سبيل الحياة... لا بد مع العلم من العشق... أي الوجدان اليقظ، وهذه الحرقة التي تسمو بالإنسان عن السفاسف إلى العظائم، وتدفعه إلى الحق والخير، وتوجهه إلى الله.
5.    يكره إقبال النزعات الوطنية الضيقة ويشيد بالأخوة الإسلامية العامة، وفي نشيده الذائع الذي يسمى نشيد الأمة يقول:
الصين لنا والهند لنا ... والعرب لنا والكل لنا
أضحى الإسلام لنا ديناً ... وجميع الكون لنا وطنا

 
log analyzer