الجمعة، 24 أبريل 2015

حدث في الخامس من رجب

في الخامس من رجب من عام 1329 الموافق 7 يوليو من عام 1911، أرسلت ألمانيا الطرّاد البحري بانثر إلى ميناء أغادير المغربي الواقع على المحيط الأطلسي، بحجة حماية المصالح والرعايا الألمان من عواقب الاضطرابات التي اجتاحت المغرب، وكان ذلك في الواقع تلويحاً بالقوة لفرنسا بعد احتلالها فاس عاصمة المغرب بدعوى المحافظة على الأمن والنظام، وكان لهذه الحادثة، التي تسمى أزمة أغادير، انعكاسات هامة على صعيد الاستعمار الأوربي في أفريقيا، وتعد إحدى المعالم المؤدية للحرب العالمية الأولى.
ويبدأ السياق التاريخي لهذا النزاع بين الدولتين من احتلال فرنسا للجزائر منذ سنة 1830، وإعلانها في سنة 1870 أن الجزائر جزء من فرنسا وبدئها في توطين الفرنسيين فيها، وكان من الطبيعي لدولة بنت سياستها الخارجية على  الاحتلال والاستعمار أن تخطط للتوسع الاستعماري جنوباً في تشاد وغرباً في المغرب الأقصى الذي كان يدعى آنذاك مراكش.
ولم تكن فرنسا تتوسع في فراغ فقد كان الاستعمار والتسلط على الشعوب الضعيفة أساس سياسة الدول الأوربية الكبرى في تلك الحقبة، وكانت فرنسا تنافس بريطانيا وألمانيا وأسبانيا وإيطاليا وبلجيكا في احتلال البلاد وبسط سيطرتها عليها، ولذا فقد كانت هذه الحادثة حلقة في سلسلة متصلة من المنافسة بين الدول الأوربية الاستعمارية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، والتي ابتدأت بين ألمانيا وبين بريطانيا من جهة، وبين كل منها وبين فرنسا من جهة أخرى، وتوصلت بريطانيا وألمانيا إلى تفاهم توجتاه في سنة 1890 بعقد معاهدة لتخطيط الحدود بين مستعمراتهما في أفريقيا، ثم عقدت بريطانيا وفرنسا في سنة 1898 معاهدة لتحديد مستعمراتهما في حوض النيجر وغرب إفريقية، ثم عقدتا معاهدة أخرى في سنة 1899 على إثر حادثة فاشودة في السودان وفيها تنازلت فرنسا عن دعاويها في أعالي النيل.
وفي نيسان/أبريل من سنة 1904 عقدت فرنسا معاهدة سرية مع أسبانيا تقاسمتا فيها المغرب، ثم توصلت مع بريطانيا إلى ما سمي بالاتفاق الودي Etente Cordiale، والذي اتفق بموجبه البلدان على تحديد مناطقهما الاستعمارية في شمال ووسط وغرب أفريقيا وفي جنوبي شرق آسيا، وتضمن الاتفاق فيما يتعلق بالمغرب ألا تعارض فرنسا الاحتلال البريطاني لمصر مقابل إطلاق يدها في المغرب، مع تعهدها بمراعاة المصالح الأسبانية فيه.
وجرت هذه الأحداث وسلطان المغرب هو المولى عبد العزيز بن الحسن الأول العلوي المولود سنة 1298=1881، والذي تولى الحكم بعد وفاة والده سنة 1894= 1311 تحت وصاية الوزير القدير الداهية أحمد بن موسى، وكان وزيراً ابن وزير ابن وزير، والذي حكم لوحده البلاد فعليا، وبقي المولى عبد العزيز كالمحجور عليه في قصره رغم ظهوره أمام المغاربة في المناسبات الدينية والرسمية.
ولما توفى الوزير سنة 1318= 1900 باشر مولاي عبد العزيز الحكم بنفسه، وكان مشغوفاً مسحوراً بالمخترعات الغربية مثل السيارة والكهرباء والتصوير والسينما والمناطيد والألعاب النارية، يقضي جزءاً كبيراً من وقته لاهياً فيها، وينفق عليها الأموال الطائلة دون حساب، وأحاط نفسه بمستشارين مغاربة وأوربيين كان همهم الأكبر إثراء خزائنهم على حساب الدولة، فأثار بذلك غيرة الطبقة الحاكمة ونقمة الشعب، وبخاصة أنه كان يسخر من رجال الدين ويحتقرهم، فمهد هذا السلوك الأجواء لاندلاع تمردين خطيرين استنفدت مواجهتهما خزينة الدولة، وأغرق السلطان البلاد في الديون التي اقترضها من البنوك الأوربية لقمعهما وكذلك لمصاريفه الخاصة.
وكان العرش العلوي يواجه تمرداً داخلياً ينمو ويشتد منذ أن قام به في سنة 1901 متمرد تمتع بالحنكة والدهاء والخبرة بالسلطة وهو عمر بن إدريس الجيلالي الزرهوني، المولود سنة 1860، والذي لقب بوحمارة لأنه في بداية دعوته كان يتنقل على حمارة.
وكان هذا المتمرد قد عمل من قبل في القصر السلطاني فعرف دخائل الأمور وكيف تدار الدولة، وانتهز فرصة المشاكل الداخلية والخارجية التي أحاطت بالسلطان الشاب عبد العزيز، فدعا لنفسه قائلاً إنه محمد ابن السلطان الحسن الأول، والذي كان مسجوناً عند أخيه، واستخدم بوحمارة الإرهاب والإمعان في التنكيل والقتل مع خصومه، واستطاع في سنة 1902 هزيمة جيش السلطان فصار كيانه محترماً معتبراً، وبسط سلطته على أواسط المغرب بتأييد وإمداد من فرنسا وأسبانيا اللتي رأت فيه خير وسيلة لإضعاف السلطان الشرعي، وبخاصة عندما منح شركات فرنسية وأسبانية امتيازات مناجم الرصاص والحديد.
وكان التمرد الثاني هو تمرد الشريف أحمد بن محمد الريسوني، المولود سنة 1270=1854، الذي خرج على السلطان في سنة 1904 ودعا إلى ثورة عامة على حكومة المخزن وعلى الفرنج، واستولى على ما حول طنجة من الريف الخاضع للسلطة الفرنسية، واختطف الريسوني رعايا أجانب مقيمين في طنجة ونواحيها، فأرسلت الولايات المتحدة وبريطانيا سفنها الحربية إلى السواحل المغربية، فاضطر السلطان عبد العزيز إلى مصالحته اتقاء لشره وليتفرغ لمواجهة ثورة بوحمارة، وانتهى الأمر بتعيينه معتمدا للسلطان عبد العزيز في طنجة، فأعاد الامن إليها وإلى ضواحيها، وكان له شبه استقلال فيها، يحكم باسم السلطان عبد العزيز ولا سلطان لعبد العزيز عليه.
وكان عبد العزيز في خضم هذه الأحداث يركن إلى بريطانيا ودعمها ليوازن بها المطامع الفرنسية في بلاده، فلما صار الاتفاق الودي بين بريطانيا وبين فرنسا كان ضربة قاصمة له، فمال لتنمية العلاقات مع ألمانيا، فقد كان الاتفاق الودي وما يمهد له من توسع استعماري يتعارض مع مصالح ألمانيا السياسية والاقتصادية، فمن الناحية السياسية كان من شأن التفاهم البريطاني الفرنسي أن يزيد من عزلة ألمانيا ويضعفها في مواجهة منافستيها اللتين لا تكنان لها مشاعر المودة، ومن الناحية الصناعية كانت ألمانيا آنذاك الدولة الأولى أو الثانية في العالم، وكانت أسواق المستعمرات البريطانية و الفرنسية موصدة الأبواب أمام المنتجات التي لم تصنعها الدولة المستعمرة، ولذا نادت ألمانيا بسياسة الباب المفتوح التي تسمح لمنتجاتها بالدخول دون عوائق.
ولتظهر عدم موافقتها على الاتفاق الودي، استعرضت ألمانيا قوتها، وقام الإمبراطور الألماني وليلم الثاني بزيارة ميناء طنجة المغربي، والتقى فيه بمولاي عبد العزيز، وفي يوم 31 آذار/مارس 1905 ألقي القيصر من على متن يخته خطبة ندد فيها بسياسة فرنسا الاستعمارية، وأيد فيها استقلال المغرب وسلامة أراضيه، ودعا إلى تسوية المسألة في مؤتمر دولي، فاستنكرت فرنسا فعله واعتبرته عملاً عدائياً وعارض الرأي العام فيها المشاركة في المؤتمر، ودفع ذلك ألمانيا للتهديد بتوقيع اتفاق تحالف دفاعي مع السلطان المغربي، فزاد ذلك في توتر الأجواء الدولية وتلبدت سحب الحرب في سماء أوربا، ولكن الرئيس الأمريكي روزفلت تدخل بعد تردد ليدرأ خطر الحرب، وأقنع فرنسا بالمشاركة في المؤتمر وبخاصة أن بريطانيا دعمت الموقف الفرنسي إذ لم ترغب في أن يكون لمنافستها الأقوى، ألمانيا، نجاح في طموحاتها السياسية الدولية.
وعقد المؤتمر في مدينة الجزيرة Algeciras في جنوب شرقي أسبانيا، وذلك في أول سنة 1906، وشاركت فيه ألمانيا والنمسا وبريطانيا وفرنسا وروسيا وأسبانيا وأمريكا وإيطاليا وهولندا والسويد والبرتغال وبلجيكا وأخيراً المغرب، و بعد قرابة 3 أشهر من انعقاده انفض المؤتمر على غير النتائج التي توختها ألمانيا، فقد أظهر المؤتمر عزلة ألمانيا الأوربية، وقرر الألمان القبول باتفاق يبدو في ظاهره استجابة لمطالبهم، ولكنه من الناحية العملية تمخض عن امتيازات جديدة لصالح فرنسا وأسبانيا، جاءت تمهيداً لاحتلالهما للمغرب.
فقد أعلنت الدول الأوربية المجتمعة التزامها باحترام سيادة سلطان مراكش، ووحدة بلاده، وبقائها بلاداً مفتوحة لتجارة الدول، وميداناً للنشاط الأممي، ولكن بحجة منع تهريب السلاح الذي قد يستعمل في قتل الأجانب، أعطى المؤتمر فرنسا وأسبانيا حق تنظيم الشرطة في الموانيء المغربية الست التي يوجد فيها رعايا أجانب، وأن يكون المفتش العام للشرطة  من سويسرا، وبحجة ضبط الإنفاق الحكومي على أساس متوازن، لا يتم فيه إصدار النقد إلا إن كان مغطى بالذهب، أنشأ المؤتمر بنك المغرب الحكومي الذي سيقوم عليه مصرفيون أوربيون من البنوك المقرِضة لمدة 40 سنة، وبحجة تشجيع الاستثمار منح المؤتمر الأوربيين حق تملك الأراضي المغربية، ولضبط موارد الدولة أوكل المؤتمر إلى فرنسا مراقبة مصلحة الجمارك المغربية كما قرر فرض الضرائب لتمويل المنشآت العامة كالطرق والجسور والسكك الحديدية.
ورفضت البعثة المغربية المصادقة على قرارات المؤتمر التي أثارت غضب الأوساط الدينية والشعبية لما تضمنته من فرض وصاية مقنعة على مقدراته الاقتصادية، ولا تزال مضرب المثل اليوم في المغرب للشروط التعجيزية القاسية، فيقال: مثل شروط الخزيرات، وعمَّ الاستياء من الملك الشاب القليل الحنكة والضعيف التدبير، وبدأت سيطرته على الدولة والبلاد في التفلت، وبخاصة بعدما أصدر مرسوماً بالموافقة على قرارات المؤتمر في يوليو 1906، وقامت فرنسا بعد المؤتمر بشهر بتوقيع ميثاق قرطاجة مع أسبانيا وبريطانيا الذي التزمت فيه هذ الدول بعدم تغيير الأوضاع القائمة في غرب المتوسط وشواطئ الأطلسي، وتحت ستار الاتفاق احتلت فرنسا وجدة في سنة 1907، ثم قام 6000 جندي فرنسي في سنة 1908 باحتلال الدار البيضاء.
وكان عبد العزيز في سنة 1904 قد عين أخاه الكبير المولى عبد الحفيظ، المولود سنة 1280=1863، عاملاً له على مراكش، فلما عم الغضب والاستياء دعا الزعيم المدني الكلاوي والقبائل التي معه لتولي السلطنة في سنة 1325=1907، وانقسمت الدولة بين عبد العزيز في فاس وأخيه عبد الحفيظ في مراكش، واتخذ عبد الحفيظ من الفرنسيين أولياء، وكان عبد العزيز كما رأينا يستند إلى الألمان، وأنعمت فرنسا على عبد العزيز بوسام جوقة الشرف ومنحته قرضاً كان بأمس الحاجة إليه لمقاومة أخيه، فزادت المشاعر المعادية له بين العلماء والناس، وقام علماء فاس بخلعه في آخر سنة 1326=1908 وبايعوا أخاه مولاي عبد الحفيظ، وأراد شن حملة سارت من الرباط إلى مراكش بعد ذلك بشهور، ولكن جيشه انفض من حوله وهرب هو إلى القوات الفرنسية في الدار البيضاء، ثم اتفق مع أخيه على أن يتنازل له عن العرش، في أواخر سنة 1326=1908، وقضى بقية حياته في طنجة حتى توفى سنة 1362=1943.
ومما ورد في بيعة السلطان عبد الحفيظ التي أنشأها علماء فاس: ويسعى جهده في رفع مـا أضر بهم من الشروط الحادثة في الخزيرات، حيث لم توافق الأمة عليها ولا سلمتهـا، ولا رضيت بأمانة من كان يباشرها، ولا علـم لها بتسليم شئ منها، وأن يعمـل وسعه في استرجاع الجهات المأخوذة مـن الحدود المغربية، وأن يباشر إخراج الجنس المحتل من المدينتين اللتين احتل بهما، ويزين صحيفته الطاهرة بحسنة استخلاصهما، وأن يستخير الله في تطهير رعيته من دنـس الحمايات، والتنزه عن اتباع إشارة الأجانب في أمور الأمة، لمحاشاة همتـه الشريفة عن كل ما يخل بالحرمـة، وإن دعت الضرورة إلى اتحاد أو تعاضد، فليكن مع إخواننا المسلمين كآل عثمان وأمثالهـم ببقية الممالك الإسلامية المستقلة، وإذا عرض ما يوجب مفاوضة مـع الأجانب في أمـور سياسية أو تجـارية، فلا يبرم منها إلا بعـد الصدع به للأمة، كما كان يفعله سيدنا المقـدس الحافظ للذمة، حتى يقـع الرضا منها بما لا يقدح في دينها ولا في عوائدهـا ولا في استقـلالها وسيادة سلطانها، وأن يوجـه أيده الله وجهتـه الشريفة لاتخاذ وسـائل الاستعداد، للمدافعـة عـن البلاد والعباد، لأنها أهم ما تصـرف فيه الذخائر والجبايات، وأوجب ما يقدم في البدايات والنهايات.
وكان لشابين من علماء الأسرة الكتانية في المغرب دور هام بين علماء القرويين في خلع السلطان عبد العزيز، فقد كتب محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، المولود سنة 1305=1888 والمتوفى سنة 1382=1962، وصاحب الثبت المشهور: فهرس الفهارس، كتاباً أسماه: مفاكهة ذوي النبل والإجادة،قال فيه عن السلطان عبد العزيز: استبدل مجالسة أهل العلم والاقتباس بالأرذال المتجردين عن المعارف واللطائف! وأدان الكتاني تلاعب الوزراء بميزانية الدولة واختلاسهم وتسلطهم على أموالها، وكان عاقبة ذلك أن سجنه السلطان سنة 1907، ولعل ذلك سبب ما يقوله عنه الأستاذ الزركلي في الأعلام: وكان منذ نشأته على غير ولاء للاسرة العلوية المالكة في المغرب ... ولما فُرضت الحماية الفرنسية على المغرب انغمس في موالاتها.
والشاب الآخر هو أخوه أبو الفيض الكتاني، محمد بن عبد الكبير، المولود سنة 1290=1873 والمتوفى سنة 1327= 1907، ومؤسس الطريقة الكتانية بالمغرب، والذي كتب شروط البيعة للسلطان عبد الحفيظ، والتي تضمنت كما رأينا تقييد السلطان بالشورى، فحقدها السلطان عليه، فساءت حالة وضاقت معيشته فخرج من فاس سنة 1327 قاصدا بلاد البربر، ومعه جميع أسرته من رجال ونساء، فأرسل السلطان الخيل في طلبه وأعيد بالامان، فلم يلبث أن اعتقل مصفدا بالحديد هو ومن كان معه حتى النساء والصبيان، وسجن حتى مات.
وحشد السلطان الجديد ما توفر لديه من قوات وهاجم القوات الفرنسية في الدار البيضاء، ولكن الفرق كان شاسعاً بين جيشه وبين الحامية الفرنسية ففشل الهجوم، وكان هذا أول فشل يعترضه، وكان الفشل الثاني والأهم هو عجزه عن معارضة قرارات مؤتمر الجزيرة الخضراء، فقد تعرض لتهديد الدول الأوربية التي قررت عدم اعترافها به إلا بعد اعترافه بتلك القرارات، مما أجبره على قبولها، وتمكن السلطان عبد الحفيظ من الحصول على قرض من فرنسا بمبلغ 104 مليون فرنك مما مكنه من تمويل الجيوش التي سيرها للقضاء على ثورة بوحمارة وقتله في سنة 1909، واتصل السلطان بالدولة العثمانية التي كانت تحت سيطرة جمعية الاتحاد والترقي، واستقدم بعثة عسكرية منها قوامها 11 ضابطاً يرأسهم جمال بك الغزي، ولكنها لم تحقق أهدافها في الحلول محل البعثة العسكرية الفرنسية وتدريب جيش مغربي حديث، فلم يتعاون معها القادة المغاربة وعملوا على إفشالها، وكلفوها بقيادة حملات لقمع بعض المناطق المتمردة دون أن يكون لدى أفرادها خبرة في الأرض وأهليها، ففشلت هذه الحملات وعادت البعثة من حيث أتت.
وفي سنة 1911 قام أخو السلطان المولى زين العابدين بثورة في مكناس ونجح في الاستيلاء عليها، وألف حكومة، ودعا إلى نفسه، وحاصرت قواته العاصمة فاس، ولم يكن لدى عبد الحفيظ ما يستطيع به دفع هذا التمرد، فطلب من الحكومة الفرنسية التدخل، وسرعان ما أجابت وساعدته في القضاء على ثورة أخيه، فعفا عنه.
وإزاء هذا التوسع الفرنسي في بسط النفوذ والسيطرة على المغرب، قامت أسبانيا باحتلال كل من العرائش والقصر الكبير وأصيلة، واعتبرت ألمانيا ذلك خرقاً لمعاهدة مؤتمر الجزيرة الخضراء، و كما أشرنا في البداية بادرت بإرسال الطرّاد بانثر لسواحل أغادير بحجة الاستجابة لنداء مُقاوِلِين ألمان بِوادي سوس كان عددهم أربع أشخاص فقط،  ثم لحقت به البارجة برلين، وطالب القيصر الألماني أن يكون لألمانيا مكانة تحت الشمس تناسب قوتها الاقتصادية والعسكرية.
وكانت ألمانيا تقدر أن بريطانيا ستقف إلى جانبها مستنكرة خرق معاهدة مؤتمر الجزيرة، وأن هذا بدوره سيضعف التقارب الفرنسي البريطاني الذي أسسه الاتفاق الودي، ولكن رياح السياسة جرت بما لا تشتهي برلين، فقد أعلنت بريطانيا مساندتها لفرنسا بعد اندلاع الأزمة، فلم يكن من مصلحتها البتة أن يكون للحكومة الألمانية نفوذ أو وجود قريب من مضيق جبل طارق، ورفضت الحكومة الفرنسية بصرامة أية تنازلات، ولم تستبعد إمكانية إعلانها الحرب على ألمانيا، وحشدت فرنسا أسطولها بالقرب من سواحل المغرب في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وحرك البلدان قواتهما إلى مناطق الحدود بينهما، وتصاعد قرع طبول الحرب حتي قيل إنها وشيكة لا ريب فيها.
ولكن الحكومات الواعية تتجنب خوض الحروب إلا مع خصم ضعيف ضمنت انتصارها عليه، وأدركت الحكومة الفرنسية رغم تصلبها مخاطر وتكاليف اندلاع الحرب بين فرنسا وبين ألمانيا، فأجرت الدولتان مفاوضات انجلت عن تخلي ألمانيا عن موقفها من الوجود الفرنسي في المغرب مقابل أن أن تتخلـى لها فرنسا عن قسم من مستعمراتها في أفريقيا الوسطى، ووقع الطرفان الاتفاق في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1911، وغادرت السفن الألمانية خليج أغادير بعد 3 أسابيع.
ولتضفي فرنسا على احتلالها شكلاً قانونياً، أجبرت عبد الحفيظ في 30 آذار/مارس 1912 على توقيع معاهدة جعلت المغرب محمية فرنسية، ولا يزال المغرب يعاني من آثارها إلى يومنا هذا في الصحراء المغربية، فقد قامت فرنسا في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام بتوقيع اتفاقية مع أسبانيا تقاسمتا فيها المغرب، وحصلت بموجبها أسبانيا على محمية في شمال المغرب تضم الريف في المنطقة الشمالية المحيطة بطنجة، وإفني على ساحل الأطلسي في الجنوب الغربي، والصحراء الغربية في الجنوب، وما عدا ذلك يبقى تحت الحماية الفرنسية باستثناء مدينة طنجة التي خضعت لحماية دولية.
وعلى إثر معاهدة الحماية انتفضت مدن المغرب واستطاعت جيوش قبائله في الشمال أن تهدد المحتل الفرنسي تهديداً خطيراً، وكان السلطان عبد الحفيظ على اتصال بالثوار، فقد كان عدوا لدودا لمعاهدة الحماية، وحاربها طويلا، ووضع أمامها العقبات، ولذلك أجبره المقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي على التنازل عن العرش لأخيه يوسف، وكان السبب الرسمي: انحراف صحته، ورحل على طراد فرنسي إلى مرسيليا، ومنها ذهب إلى فيشي، ففرساي، وعاد إلى طنجة،  وذهب إلى الحج في سنة 1913 فنشبت الحرب العالمية الأولى في إبان ذلك، فحرمت عليه فرنسة العودة إلى بلاده، فاستقر في أسبانيا إلى سنة 1925 حيث سمحت له فرنسا  بالسكنى في قرية فرنسية تدعى أنجيان لو بان فبقي فيها حتى وفاته سنة 1356=1937، وحمل إلى المغرب ودفن بفاس. وكان عبد الحفيظ فقيها أديبا، له مؤلفات في مصطلح الحديث والأصول والفقه، وله قصيدة من ستين بيتا في كتابه براءة المتهم، يصف فيها إحباطه من إعراض قومه عن الجهاد وإقبالهم على الدنيا، يقول فيها:

أآمر بالقتال وجُلُّ قومي ... يرى أن الحماية فرض عين
أآمر بالجهاد ومال قومي ... تلاشى في لذائذ خصلتين
فإسراف النكاح وشر أكل ... فلا ترجى الكنوز لغير ذين

وهكذا تولى عرش المغرب في سنة 1330=1912 المولى يوسف، وهو أصغر إخوته وولد سنة 1297=1880، الذي بويع له وهو في الرباط، فنقل العاصمة إليها من فاس، ثم جاءته بيعة مكناس وفاس، ولكن الهيمنة الفرنسية دعت ثائراً آخر ليعلن الجهاد وإنقاذ البلاد في أطراف مراكش، وهو أحمد الهيبة ابن الشيخ ماء العينين الشنقيطي، الذي كان والده شيخا للسلاطين من قبل ثم واليا على تندوف، ثم ثار على الفرنسيين وقاتلهم حتى وفاته سنة 1910، وأعلن الهيبة أن اتفاقية فاس تنقض بيعة السلطان ودعا إلى نفسه فلبته أسر عريقة وقبائل قوية، فحاصر مراكش ودخلها عنوة، بعد بيعة المولى يوسف بأربعة أيام، وبويع فيها سلطانا للمغرب الأقصى، فأرسلت الحكومة الفرنسية جيشا قاتله في معركة سيدي بوعثمان، ففر من أمامهم، ومالبث بعض حلفائه أن خانه واستجاب لإغراءات للفرنسيين وانفض من حوله، فانسحب الهيبة إلى سوس، ولم يتوقف عن مقاومة الاحتلال حتى وفاته في سنة 1337=1919، ليتابع أخوه الجهاد من بعده.
واندلعت في سنة 1921 ثورة في شمال المغرب الذي يسمى الريف، وهو أغلب سواحل الشمالية المطلة على المتوسط والأطلسي، قادها الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، المولود سنة 1299=1882، والذي كان سليل بيت علم وجهاد، من قبيلة ورياغل إحدى كبريات القبائل البربرية في جبال الريف، وكان حافظاً للقرآن ومن خريجي القرويين بفاس، ودرس القانون في أسبانيا كذلك، وتولى قضاء مليلة للأسبان، ولما بدأت أسبانيا في استعمار الشمال على الطريقة الفرنسية التي تهدف لمسخ الهوية العربية المسلمة تحول آل الخطابي من التعايش مع الأسبان إلى مقاومتهم، وكان والده أول من عارضهم، وتوفي والده بعدها بقليل فآلت لمحمد رئاسة قبيلة ورياغل، فقاتل الأسبان، وكانت نقطة التحول في ثورته عندما انتصر على الأسبان في معركة أنوال في أواخر 1339= يوليو 1921، فظفر بهم ظفراً أذلهم بعد أن تبجح الجنرال سلفستري أنه سيهزم الخطابي ويشرب الشاي في بيته.
وتتابعت معارك الخطابي مع الأسبان المستعمرين، وانضمت إليه قبائل البرير حتى قدر جيشه بمئة ألف، وفي سنة 1340=1921 أسس جمهورية الريف، وأدارها كدولة حديثة فيها معالم الدول المستقلة كالدستور والبرلمان والإدارة والجباية والتعليم والمستشفيات، وأرسل الوفود لدول العالم يشرح قضية الريف ويطالبها بالاعتراف بجمهوريته، وهو في الوقت ذاته يدعو الأسبان للتفاوض على الانسحاب من بلاده، ولما تلكأت أسبانيا في التفاوض، كان من جواب حكومته: إن الحكومة الريفية -التي تأسست على قواعد عصرية وقوانين مدنية- تعتبر مستقلة سياسيا واقتصاديا آملة أن تعيش حرة كما عاشت قرونا وكما تعيش جميع الشعوب ... وإننا نعجب أيضا كيف أنكم تجاهلتم أن مصالح أسبانيا نفسها هي مسالمة الريف والاعتراف بحقوقه واستقلاله والمحافظة على علائق الجوار وتمتين عرى الاتحاد مع الشعب الريفي عوضا عن التعدي عليه وإهانته وهضم حقوقه ... ولا يسعني إلا أن أصرح لكم تصريحا نهائيا أن الريف لا يعدل ولا يغير خطته التي سار عليها الوفد وهو أنه لا يفتح المخابرة في الصلح إلا على أساس اعتراف إسبانيا باستقلال الريف.
وخاف الفرنسيون امتداد الثورة إلى داخل المغرب فحالفوا الأسبان، وأطبقت عليه الدولتان، واستعملت أسبانيا في حربه الأسلحة الكيماوية، فاستسلم مضطرا إلى الفرنسيين في 12 ذي القعدة سنة 1344=  25 مايو 1926،  بعد أن وعدوا بإطلاقه، ولكنهم نكثوا وعدهم ونفوه مع أخ له وبعض أقربائهما إلى مستعمرة جزيرة رينيون في بحر الهند، شرقي إفريقية حيث مكثوا عشرين عاما، وأريد نقلهم إلى فرنسا سنة  1366، فلما بلغت باخرتهم قناة السويس في مصر كان شباب من المغاربة قد هيأوا لهم أسباب النزول من الباخرة في بور سعيد فنزلوا واستقروا في القاهرة، واتصل الخطابي بدعاة مصر وفضلائها وكبارها، وعلى رأسهم الأستاذ حسن البنا وأعجب به وبدعوته، ولم يتوقف من التردد عليه حتى اغتياله، وتوفي بسكتة قلبية في رمضان من سنة 132= 1963، رحمة الله عليه.
وسار الفرنسيون في ترسيخ الحماية والسيطرة على المغرب على هدي خبرتهم في الجزائر وتونس، فنزعوا جلائل الاعمال من أيدي المغاربة، فأزيلت وزارة البحر والخارجية لأن المقيم العام الفرنسي صار وزير الخارجية والحربية للسلطان، وتولى إدارة المالية موظفون فرنسيون، ووضعت فرنسا يدها على الحبوس والأوقاف، وانتزعت أملاك الدولة لتوزعها على المستعمرين من الفرنسيين، وبقي السلطان المولى يوسف لا حول له ولا طول حتى توفي سنة 1346=1927.
ولكن كانت هناك فروق هامة بين المغرب وبين الجزائر وتونس، أولها أن المغرب تمتع باستقلال عريق دام قرابة 1000 سنة، ولم يخضع حتى للسلطنة العثمانية رغم علاقاته الودية معها بناء على آصرة الإسلام، والأمر الآخر أن العلم الشرعي كان مزدهراً لقرون طويلة في المغرب، فأوجد طبقة من العلماء وفيرة العدد وئيقة العلاقة بالسلطان وقوية التأثير في قيادة المجتمع،  وثالثها أن مؤتمر الجزيرة الخضراء على ازدواجية مقرراته أكد على استقلال المغرب وسلامة أراضيه، ولذا اضطر الفرنسيون للمحافظة على خرافة أن السلطان يحكم مستقلاً وهم يقدمون النصيحة لا غير!
وتلا المولى يوسف ابنه الملك محمد الخامس، المولود سنة 1329=1911، ولم يكن محمد أكبر إخوته وإنما قدَّمه للعرش توهم الفرنسيين فيه الانقياد إليهم، لهدوء طبعه وصغر سنه، فعكف على الدرس، يأخذ عمن في قصره من العلماء، والتفت إلى إصلاح القرويين بفاس وتنظيم خزانته وترميم بعض المساجد، وأنشأ مدارس، منها كلية ابن يوسف بمراكش، ولما اكتمل شبابه اتصل في الخفاء بأهل الوعي من حملة الفكرة التحررية في بلاده، متجاوبا معهم في نجواهم وشكواهم.
وأصدر الفرنسيون سنة 1930 ما يسمى الظهير البربري، جاعلين للبربر حق التقاضي على أساس العرف عندهم والعادات، إبعادا لهم عن محاكم سائر المسلمين، فكانت احتجاجات المغاربة عليه، عربا وبرابر، أول مظاهر اليقظة العامة في المغرب، ولما نشبت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939 وهزم الألمان الجيوش الفرنسية هزيمة مخزية، وأنشأوا حكومة فيشي العميلة في فرنسا، قوى ذلك من عضد الملك محمد الخامس فاتخذ عدداً من القرارات عصى فيها رغبة فرنسا الفيشية، منها قرار للتمييز ضد اليهود، ولما نزلت القوات الحليفة على سواحل المغرب في سنة 1942 رفض أمر المقيم الفرنسي أن يرحل إلى الداخل، والتقى في سنة 1943 بالرئيس الأمريكي روزفلت في زيارته للمغرب لحضور مؤتمر الدار البيضاء، وذكّره بالعلاقات الوطيدة بين البلدين وأن المغرب كان أول دولة اعترفت بالولايات المتحدة الأمريكية عند ثورتها واستقلالها عن المستعمر البريطاني، وترك هذا اللقاء أثراً طيباً في نفس الرئيس الأمريكي الذي أصبح من أنصار استقلال المغرب وزوال الاستعمار الفرنسي.
وألفت مجموعة من الوطنيين المغاربة كتلة العمل الوطني السرية التي ظهرت  إلى العلن في سنة 1937 تحت اسم حزب الاستقلال، وكان من أبرز رجاله الزعيم المغربي علال بن عبد الواحد الفاسي، المولود سنة 1326=1908 والمتوفى سنة 1394=1974، وكان محمد الخامس يؤيد الحزب سراً، وفي سنة 1944 قدمت الشخصيات الوطنية المغربية عريضة إلى السلطان والحكومات الحليفة بما فيها فرنسا  تطالب فيها بالاستقلال، فرفضتها فرنسا وزجت بالوطنيين في السجون، وانتقل محمد الخامس إلى العلن في تشجيعه لحركة الاستقلال، يحرض على الفرنسيين وينصر المطالبين بجلائهم، ويمتنع عن إمضاء ما يعرضون عليه من مراسيم، فخلعوه في 20 أغسطس 1953، ونفوه إلى إلى جزيرة أجاكسيو في كورسيكا، ثم إلى مدغشقر، ونصبوا على العرش صنيعة لهم من الأسرة العلوية هو ابن عم الملك محمد بن عرفة.
ورفض العلماء والشعب مبايعة السلطان الذي أتى به الفرنسيون وثار المغرب حواضره وبواديه مدة سنتين، فعاد الفرنسيون إلى مفاوضة محمد الخامس في منفاه، وأخرجوا ابن عرفة إلى طنجة، وعاد محمد الخامس إلى المغرب وأعلن استقلال المغرب في 3 مارس 1956، ليبدأ صفحة جديدة في تاريخه العريق.

الجمعة، 17 أبريل 2015

حدث في السادس والعشرين من جمادى الآخرة

في السادس والعشرين من جمادي الآخرة من سنة 1250، توفى في صنعاء، عن 73 سنة، الإمام المجتهد المحدث المؤرخ الشوكاني، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، نسبة إلى هجرة شوكان، وهي قرية من قرى خولان بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم، قال عنها الشوكاني: معمورة بأهل الفضل والصلاح والدين من قديم الأزمان.
ولد الشوكاني في 28 من ذي القعدة سنة 1172 لأسرة علم تنتمي إلى المذهب الزيدي، وتولى والده، المولود نحو سنة 1130 والمتوفى سنة 1211، القضاء في صنعاء للإمام المهدي العباس بن الحسين فبقي فيه 40 سنة، وولد الابن في شوكان حين أتاها أبوه زائراً، واتسم الوالد بالقناعة والبساطة والتقشف؛ مات وهو لا يملك بيتاً يسكنه، وقد اهتم الوالد بأن يتوجه ولده لطلب العلم فقام بإعانته ورعايته المادية والمعنوية ليتفرغ لذلك بكليته، فأرسله للمكتب في صنعاء حيث ختم حفظ القرآن والتجويد، ثم حفظ أحد المتون الأساسية في فقه الزيدية وهو كتاب الأزهار في فقه الأئمة الاطهار، من تأليف الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى، المولود سنة 775  والمتوفى سنة 840، وألفه وهو مسجون قبل إمامته، ودرس الشوكاني كذلك مختصرات أخرى في التجويد والأدب والنحو والفرائض والعروض، وكان يحب المطالعة فطالع في صغره كثيراً من كتب التاريخ والأدب.
ولما ترك المكتب وأقبل على طلب العلم، قرأ على والده شرح كتاب الأزهار لابن مفتاح، عبد الله بن أبي القاسم، المتوفى سنة 877، وبعد والده قرأ على عدد من أعلام المشايخ في عصره ودرس عليهم النحو واللغة والبلاغة والفقه والمواريث والحساب والمساحة وعلوم الحديث، وقرأ عليهم الصحيحين وعدداً من كتب السنن وشروحها، ونورد ترجمة مختصرة لبعض مشايخه، مرتبين على سني الوفاة، مستقاة مما أورده هو في كتابه الماتع البدر الطالع، مع الإشارة أنهم جميعاً من المذهب الزيدي، وقد توسعت في ذلك ليأخذ القارئ الكريم فكرة عن أعلام المذهب الزيدي في تلك الحقبة وما اتسموا به من علم وزهد وعمل، ولنرى تقارب هذا المذهب كثيراً في أصوله وسلوكه مع مذاهب أهل السنة.
فمنهم أحمد بن عامر الحدائى ثم الصنعاني، المتوفى سنة 1197 في أرض السبعين، وقد قرأ عليه الشوكاني الأزهار وشرْحَه مرتين والفرائض وشرْحَها للناظري، وقال عنه: كان زاهدا متقللا، مواظبا على الطاعات، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، يغضب إذا بلغه ما يخالف الشرع، وفيه سلامة صدر زائدة، وكان مواظبا على التدريس لا يمنعه منه مانع، فإنه يقع المطر العظيم الذي يمنع من خروج من هو في سن الشباب، فلا يكون ذلك عذرا لدى صاحب الترجمة، لرغبته في الخير وحرصه على إفادة الطلبة.
ومنهم السيد إسماعيل بن الحسن بن أحمد بن الحسن ين الإمام القاسم بن محمد، المولود بعد سنة 1120 والمتوفى سنة 1206، قرأ عليه ملحة الإعراب للحريري وشرحها، وقال عنه الشوكاني: له مشاركة قوية في علم الصرف والمعاني والبيان والأصول، وكان رحمه الله يواظب على التدريس مع ضعفه وعلو سنه وكنت أراه يقعد للتدريس وقد أثر فيه البرد مع الحركة تأثيرا قويا، وكانت له فيَّ عناية كاملة.
ومنهم السيد عبد القادر بن أحمد المولود سنة 1135 والمتوفى سنة 1207، والذي درس عليه الشوكاني الصحيحين وشروحهما، والسنن وشروحهما، وسمع منه الأحاديث المسلسلة، وبعض المنتقى في أحاديث الأحكام عن خير الأنام لابن تيمية الجد مجد الدين عبد السلام بن عبد الله، ودرس عليه كذلك اللغة والعروض والفقه، قال الشوكاني عنه: شيخنا الإمام المحدث الحافظ المسند المجتهد المطلق، وكانت القراءات جميعها يجري فيها من المباحث الجارية على نمط الاجتهاد في الإصدار والإيراد ما تُشد إليه الرحال، وربما أنجر البحث إلى تحرير رسائل مطولة، وكنت أحرر ما يظهر لى فى بعض المسائل، وأعرضه عليه، فان وافق ما لديه من اجتهاده فى تلك المسئلة قرظه، وإن لم يوافق كتب عليه، ثم أكتب على ما كتبه، ثم كذلك ... وهو رحمه الله من جملة من رغبني في تأليف شرح على المنتقى، فشرعت فيه في حياته، وعرضت عليه كراريس من أوله، فقال: إذا كمل على هذه الكيفية كان في نحو عشرين مجلدا، وأهل العصر لا يرغبون فيما بلغ من التطويل الى دون هذا المقدار! ثم أرشدني إلى الاختصار، ففعلت فكمل بحمد الله، وبيضته في أربع مجلدات، ولم يكمل إلا بعد موته بنحو ثلاث سنين.
ومنهم الحسن بن اسماعيل بن الحسن بن محمد المغربي، نسبة إلى مغارب صنعاء، ثم الصنعاني، المولود بعد سنة 1140 والمتوفى سنة 1208، قرأ عليه الشوكاني البلاغة والمنطق والحديث وشرحه، وقال عنه: كان رحمه الله زاهدا ورعا عفيفا متواضعا متقشفا لا يعد نفسه في العلماء، ولا يرى له حقا على تلامذته فضلا عن غيرهم، ولا يتصنع في ملبوس، بل يقتصر على عمامة صغيرة وقميص وسراويل وثوب يضعه على جنبيه، ويقضى حاجته من الأسواق، ويقود دابته ويسقيها بنفسه، واستمر على حاله الجميل لا يزداد إلا تواضعا وتصاغرا وتحقيرا لنفسه وهكذا فليصنع من أراد الوصول إلى ثمرة العلم والبلوغ إلى فائدته الأخروية، والحاصل أنه من العلماء الذين اذا رأيتهم ذكرت الله عز وجل، وكان رحمه الله يقبل علي إقبالا زائدا، ويعينني على الطلب بكتبه، وهو من جملة من أرشدني إلى شرح المنتقى، وشرعت فيه في حياته بل شرحت أكثره وأتممته بعد موته، وكان كثيرا ما يتحدث في غيبتي أنه يخشى عليَّ من عوارض العلم الموجبة للاشتغال عنه فما أصدق حدسه وأوقع فراسته فإني ابتليت بالقضاء بعد موته بدون سنة.
ومنهم القاسم بن يحيى الخولاني ثم الصنعاني، المولود سنة 1162 والمتوفى سنة 1209، درس عليه الشوكاني في أوائل طلبه العلم، وأخذ عنه النحو والصرف والمنطق والأصول وآداب البحث والمصطلح، قال عنه الشوكاني: شيخنا العلامة الأكبر، كان رحمه الله يطارحني في البحث مطارحة المستفيد تواضعا منه، ثم ترافقنا في الطلب على شيخنا السيد العلامة عبد القادر بن أحمد وعلى شيخنا العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي، وجرت بيني وبينه مباحثات في مسائل تشتمل عليها رسائل، ولم تر عيناي مثله في التواضع وعدم التلفت إلى مناصب الدنيا مع قلة ذات يده وكثرة مكارمه.
ومنهم السيد عبد الرحمن بن قاسم المداني، المتوفى سنة 1211 وقد قارب التسعين، أخذ عنه شرح الأزهار في الفقه الزيدي في مرحلة كان فيها الشوكاني قد قدّم طلب علم الفقه على غيره، وقال عنه: كان زاهدا ورعا متقللا، عفيفا حسن الأخلاق، جميل المحاضرة، راغبا في الفوائد العلمية، بحيث أنه صار عاجزا لا يمشى إلا متوكيا على العصا، وكان إذا لقيني قام واعتمد على العصا ثم باحثنى بمباحث فقهية دقيقة.
ومنهم أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر القابلي، المولود سنة 1158 والمتوفى سنة 1227، وقد لازمه الشوكاني 13 سنة يدرس عليه كذلك الفقه والفرائض قراءة بحث وإتقان وتحرير وتقرير، وقال عنه: شيخ شيوخ الفروع بلا مدافع، عكف عليه الطلبة وانتفعوا به، وتنافسوا في الأخذ عنه، وصارت تلامذته شيوخا ومفتيين وحكاما، وله عافاه الله قدره على حسن التعبير وجودة التصوير مع فصاحة لسان ورجاحة عقل وجمال صورة ووفور حظ عند جميع الخلق، لا ترد له شفاعة، ولا يكسر له جاه، وقد خُطِب للأعمال الكبيرة فقبل منها ما فيه السلامة فى دينه ودنياه، وأرجع ما عداه، واجتمع له من ذلك دنيا عريضة صانه الله بها عن الوقوع فيما لا يشتهى من التورطات.
ومنهم عبد الله بن إسماعيل بن حسن بن هادي النهمي، المولود بعد 1150، والمتوفى سنة 1228، درس عليه النحو والصرف و المنطق والمعاني والبيان والأصول، قال عنه الشوكاني: وله عناية تامة بتخريج الطلبة، والمواظبة على التدريس وتوسيع الأخذ وجلب الفوائد إليهم بكل ممكن، ولا يمل حتى يمل الطالب، وكان يؤثرني على الطلبة وإذا انقطعت القراءة يوما أو يومين لعذر تأسف على ذلك. ويتحدث الشوكاني كيف استاء الشيخ لما تركه إلى غيره، ويلمح إلى خصومة وقعت في بداية ذلك، وضرب عنها الصفح الشوكاني، ولما ارتفع قدره وخمل ذكر أستاذه كان يبره ويحسن إليه، وفي هذا ملمح من شخصيته الطيبة الكريمة، قال الشوكاني: ولما فرغت من القراءة عليه، ولم يبق عنده ما يوجب البقاء، وقرأت على من له خبرة بما لم يكن لديه من العلوم، لم تطب نفسه بذلك في الباطن لا في الظاهر، وحال تحرير هذه الأحرف قد فتر عزمه عن التدريس ولم يبق للطلبة رغوب إليه، وصار معظم اشتغاله بما لابد منه من أمر المعاش مع ركة حاله لاطفه الله، ولم أزل راعيا لحقه معظما لشأنه معرضا عما بدر منه مما سلف، وأبلغ الطاقة في جلب الخير إليه بحسب الإمكان.
وبدأ الشوكاني في التدريس وهو لا يزال طالباً حيث فرّغ جزءاً من وقته لإفادة الطلبة فكانوا يأخذون عنه في كل يوم زيادة على عشرة دروس في التفسير والحديث والأصول والنحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والفقه والجدل والعروض، ولم يقتصر في تدريسه على العلوم الذي أخذها عن مشايخه، بل درس علوماً قرأها بنفسه مثل علم الرياضيات والطبيعة والهيئة، والتدريس كما يعلم مزاولوه يشحذ الهمم ويجلو الغامض ويوضح الملتبس.
وابتدأ الشوكاني وهو في العشرين من عمره يفتي في صنعاء ومن يرد إليها، واشتهر بالفتوى فصارت تدور عليه من العوام والخواص والحاضر والبادي وشيوخه إذ ذاك أحياء، وهذا شرف كبير ومرتبة عظيمة، وكان لا يأخذ على الفتيا شيئا تنزها فإذا عوتب في ذلك قال أنا أخذت العلم بلا ثمن فأريد إنفاقه كذلك.
وقرر الشوكاني قبل أن يبلغ الثلاثين أن يترك التقليد ويجتهد رأيه اجتهادا مطلقا غير مقيد، وقد جرَّ هذا عليه عداوات الحاسدين والمستنكرين، قال عن هذا: قد جفاني جماعة من الذين لا يعرفون الحقائق لصدور اجتهادات مني مخالفة لما ألفوه وعرفوه، وهذا دأبهم سلفا عن خلف، لا يزالون يعادون من بلغ رتبة الاجتهاد، وخالف ما دبوا عليه ودرجوا من مذاهب الآباء والأجداد. وإذا أحببت أيها القارئ الكريم مزيداً من منهج الشوكاني في هذا فراجع في كتابه البدر الطالع ترجمة الإمام ابن الوزير، محمد بن إبراهيم، المولود سنة 775 والمتوفى سنة 840.
تولى الشوكاني وهو في السابعة والثلاثين القضاء للإمام المنصور بالله الزيدي، وذلك عندما توفي في سنة 1209 القاضي يحيى بن صالح الشجري السحولي،  عن 75 سنة، ولم يكن قبول الشوكاني لهذا المنصب الذي يلي الإمام في الدولة إلا بعد تردد، فقد خُلق عالماً بحاثة، وأدرك أن المنصب سيشغله عما نذر نفسه له، وننقل هنا بتصرف بعض ما قاله الشوكاني في البدر الطالع:
فلما مات فى ذلك التاريخ، وكنت إذ ذاك مشتغلا بالتدريس في علوم الاجتهاد والإفتاء والتصنيف، منجمعا عن الناس، لاسيما أهل الأمر وأرباب الدولة، فإني لا أتصل بأحد منهم كائنا من كان، ولم يكن لى رغبة فى سوى العلوم، وكنت أدرس الطلبة في اليوم الواحد نحو ثلاثة عشر درسا ... فلم أشعر إلا بطُلاَّب لي من الخليفة بعد موت القاضي المذكور بنحو أسبوع، فعزمت إلى مقامه العالي فذكر لي أنه قد رجح قيامي مقام القاضي المذكور، فاعتذرت له بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال: القيام بالأمرين ممكن، وليس المراد إلا القيام بفصل ما يصل من الخصومات إلى ديوانه العالي في يوميّ اجتماع الحكام فيه، فقلت: سيقع منى الاستخارة لله، والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله ففيه الخير.
فلما فارقته ما زلت مترددا نحو أسبوع ولكنه وفد إليَّ غالبُ من ينتسب إلى العلم في مدينة صنعاء وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأنهم يخشون أن يدخل في هذا المنصب الذي إليه مرجع الأحكام الشرعية في جميع الأقطار اليمنية من لا يوثق بدينه وعلمه، وأكثروا من هذا، وأرسلوا إليّ بالرسائل المطولة، فقبلت مستعينا بالله ومتكلا عليه، ولم يقع التوقف على مباشرة الخصومات في اليومين فقط، بل انثال الناس من كل محل، فاستغرقت في ذلك جميع الأوقات إلا لحظات يسيرة قد أفرغتها للنظر فى شئ من كتب العلم أو لشئ من التحصيل وتتميم ما قد كنت شرعت فيه، واشتغل الذهن شغلة كبيرة، وتكدر الخاطر تكدرا زايدا، ولا سيما وأنا لا أعرف الأمور الاصطلاحية في هذا الشأن، ولم أحضر عند قاض في خصومة ولا في غيرها، بل كنت لا أحضر في مجالس الخصومة عند والدي رحمه الله من أيام الصغر فما بعدها، ولكن شرح الله الصدر وأعان على القيام بذلك الشأن، ومولانا الخليفة حفظه الله ما ترك شيئا من التعظيم إلا وفعله، وكان يجلني إجلالا عظيما وينفذ الشريعة على قرابته وأعوانه بل على نفسه... وأسأل الله بحوله وطَوله أن يرشدني إلى مراضيه، ويحول بيني وبين معاصيه، وييسر لى الخير حيث كان، ويدفع عنى الشر، ويقيمني في مقام العدل، ويختار لي ما فيه الخير في الدين والدنيا.
وهنا أنتهز الفرصة لأقدم أنموذجاً عن أئمة الزيدية الحاكمين في تلك الفترة، والذي من أهم صفاتهم عند الزيدية العدل والفقه الشرعي، فأورد شيئاً من ترجمة الإمام المنصور بالله الزيدي، العباس بن الحسين، مختصرة مما أورده الشوكاني نفسه: ولد سنة 1151 في ولاية والده الإمام المهدي بالله، وتولى الإمامة بعد وفاته في سنة 1189، فبايعه العلماء والحكام آل الإمام وسائر الناس على اختلاف طبقاتهم، ولم يتخلف عنه أحد، وفرحوا به واغتبطوا بخلافته وأحبهم وأحبوه، وهو آخذ من علم الشرع بنصيب، قرأ قبل مصير الخلافة إليه في الفقه والنحو على العلامة الحسن بن علي حنش الذي صار وزيرا له، وله شغف شديد بالكتب النفيسة ومطالعتها، بحيث لا يقف في مكان إلا وعنده منها عدة، وله في التواضع ما لا يصدِّق بذلك إلا من تاخمه وجالسه، فإنه لا يعد نفسه إلا كأحد الناس، ثم له من حسن الأخلاق أوفر حظ وأكرم نصيب، وهو مجبول على الغريزتين اللتين يحبهما الله ورسوله الكرم والشجاعة، مع ما جبل عليه من حسن النية وكرم الطوية، وتفويض الأمور إلى خالقه، والوقوف تحت المشيئة، وبهذا السبب ظفره الله بمن يناويه ونصره على جميع من يعاديه فلم تقم لباغ عليه قايمة.
ثم يتحدث الشوكاني عن اتباع الشرع وتواطئ الحاشية لإخفاء الأمور عن الإمام، فيقول: وإذا وقع في جانب الرعية ما لا يناسب الشرع فهو بسبب من غيره، وأما هو فلا يحب إلا الخير ولا يريد إلا العدل، وإذا اتضح له ذلك أبطله ولم يرض به، وكثيرا ما يخفى عليه ذلك بسبب مصانعة بعض من يتصل به للبعض الآخر، فمن هذه الحيثية قد يقع أمر لا يريده ولا يرضى به، وقد اشتُهِر هذا بين الناس حتى لا يقع التوجع منه في شئ أبدا، بل لجميع الرعية فيه غاية المحبة بحيث أنه مرض في بعض السنين فكانوا يجتمعون ويبكون ويدعون له بالبقاء، وقل أن يتفق مثل هذا لأحد من الأئمة والسلاطين في المتقدمين والمتأخرين.
ولما توفي المنصور في سنة 1224 وتمت بيعة ابنه المتوكل أحمد، كان الشوكاني بصفته القاضي أول من بايعه ثم تولى أخذ البيعة له من أخوته وأعمامه وسائر آل الإمام القاسم  وجميع أعيان العلماء والرؤساء، ولما توفى المتوكل في سنة 1231 قام بعده ابنه عبد الله وتلقب بالمهدي، وكان الشوكاني كذلك أول من بايعه ثم أخذ له البيعة من الأمراء والحكام والأعيان.
ومن فوائد الشوكاني في القضاء حفظاً لحقوق النساء الضعيفات من المتسلطين الطامعين، ما ذكره في ترجمته للقاضي السيد هاشم بن يحيى ابن القاسم، المولود سنة 1104 والمتوفى سنة 1158: كان يرى أن إقرارات النساء لقرابتهن وتمليكهن لهم وإباحتهن ونحو ذلك لا يصح عنده، لضعف إدراكهن وعدم خبرتهن، ووصل إليه بعض أهل صنعاء بقريبة له وقد كتب مرقوما تضمن أنها ملَّكته أموالا، وجاء بجماعة يعرِّفونها فقرأ عليها ذلك المرقوم فأقرت به، فقال لها: هل معك خاتم في يدك؟ قالت: نعم، قال: أريد أنظر إليه. فأعطته خاتماً كان بإصبعها فقال لها: وهذا اجعليه من جملة التمليك. فقالت: لا أفعل، إنه لي! وكرر ذلك عليها فلم تقبل. قال: فعلمتُ من ذلك أن المرأة لا تعد ما غاب عنها ملكا لها. ثم مزق المكتوب.
ثم أبدى الشوكاني رأيه في ذلك: لا ريب أن غالب النساء ينخدعن ويفعلن لا سيما للقرابة كما يريدونه بأدنى ترغيب أو ترهيب، خصوصا المحجبات، وقد يوجد فيهن نادرا من لها من كمال الإدراك ومعرفات التصرفات وحقائق الأمور ما للرجال الكملاء، وقد رأيت من ذلك عجائب وغرائب، والذي ينبغي الاعتماد عليه والوقوف عنده: هو البحث عن حال المرأة التى وقع منها ، فإن كانت ممارِسة للتصرفات ومطلعة على حقائق الأمور، وفيها من الشدة والرشد ما يذهب معه مظنة التغرير عليها، فتصرفها صحيح كتصرف الرجال، وإن لم يكن كذلك فالحكم باطل، لأن وصاياها التى لا تتعلق بقربة تخصها من حج أو صدقة أو كفارة أو الواجب وكذلك تخصيصها لبعض القرابة دون بعض بنذر أو هبة أو تمليك أو إقرار يظهر فيه التوليج، وأما تصرفاتها بالبيع إلى الغير والمعاوضة فالظاهر الصحة، وإذا ادعت الغبن كانت دعواها مقبولة وإن طابقت الواقع، ولا يحل دفعها بمجرد كونها مكلفة متولية للبيع ولا غبن على مكلف، فإنها بمن ليس بمكلف أشبه إلا في النادر.
نشأ الشوكاني في بيئة ومن أسرة تلتزم المذهب الزيدي، ودرس على كبار علمائه، وهو يحترمهم ويقر لهم بالإمامية والفضل، ويثني على السابق واللاحق منهم الثناء العطر، ويقول في ترجمته لابن الوزير: وكيف يمكن شرح حال من يزاحم أئمة المذاهب الأربعة فمَن بعدهم من الأئمة المجتهدين في اجتهاداتهم، ويضايق أئمة الأشعرية والمعتزلة في مقالاتهم، ويتكلم في الحديث بكلام أئمته المعتبرين مع إحاطته بحفظ غالب المتون ومعرفة رجال الأسانيد شخصا وحالا وزمانا ومكانا، وتبحره في جميع العلوم العقلية والنقلية على حد يقصر عنه الوصف ...  ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم لأطال عنان قلمه في الثناء عليه، فإنه يثني على من هو دونه بمراحل... وكذلك السخاوي لو وقف على العواصم والقواصم لرأى فيها ما يملأ عينيه وقلبه، ولطال عنان قلمه في ترجمته، ولكن لعله بلغه الاسم دون المسمى.
ثم يتأسف الشوكاني أن لا يهتم علماء السنة بعلماء الزيدية فيعطوهم حقهم من التقدير والاعتبار، فيقول: ولا ريب أن علماء الطوائف لا يكثرون العناية بأهل هذه الديار لاعتقادهم في الزيدية ما لا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال، فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عددا يجاوز الوصف، يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية، وما يلتحق بها من دواوين الإسلام المشتملة على سنة سيد الأنام، ولا يرفعون إلى التقليد رأسا، لا يشوبون دينهم بشئ من البدع التى لا يخلو أهل مذهب من المذاهب من شيء منها، بل هم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتاب الله، وما صح من سنة رسول الله، مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التى هي آلات علم الكتاب والسنة من نحو وصرف وبيان وأصول ولغة، وعدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية، ولو لم يكن لهم من المزية إلا التقيد بنصوص الكتاب والسنة وطرح التقليد، فإن هذه خصيصة خص الله بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا توجد في غيرهم إلا نادرا.
ولكن يصعب أن نعد الشوكاني من الزيدية وإن انتمى إليهم، فهو، كما أشرنا من قبل ونذكره فيما بعد،  يعتبر نفسه مجتهداً مستقلا تمام الاستقلال لا يلتزم مسبقاً برأي لمن سبقوه من العلماء والفقهاء.
واحترام الصحابة جميعاً هو نهج أصيل عند الزيدية، ولكن بعضهم قد يحيدون عنه بتأثير من لا خلاق له من مشايخهم والساعين وراء استقطاب الجماهير من خلال إثارة الغوغاء بالتطرف الأجوف فيهاجمون بعض الصحابة رضوان الله عليهم مسايرين في ذلك للرافضة من الشيعة، وقد تصدى لهذه الظاهرة الإمام الشوكاني فألف في سنة 1208 رسالة أسماها إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي، ونقل فيها إجماع أئمة الزيدية من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أوما يقاربه، فتعرض الشوكاني لغضب أولئك المتاجرين بأعراض صحابة رسول الله، قال عن ذلك في البدر الطالع: فقامت قائمة جماعة من الرافضة الذين بصنعاء المخالفين لمذاهب أهل البيت، فجالوا وصالوا وتعصبوا وتحزبوا، وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة، وكتبوا أبحاثا نقلوها من كتب الإمامية والجارودية، وكثرت الأجوبة حتى جاوزت العشرين وأكثرها لا يُعرف صاحبه، واشتغل الناس بذلك أياما، وزاد الشر وعظمت الفتنة، فلم يبق صغير ولا كبير ولا إمام ولا مأموم الا وعنده من ذلك شئ وأعانهم على ذلك جماعة ممن له صولة ودولة... وكل من عنده أدنى معرفة يعلم أنى لم أذكر فيها إلا مجرد الذب عن أعراض الصحابة الذين هم خير القرون، مقتصرا على نصوص الأئمة من أهل البيت، ليكون ذلك أوقع في نفوس من يكذب عليهم وينسب الى مذاهبهم ما هم منه برآء، ولكن كان أهل العلم يخافون على أنفسهم ويحمون أعراضهم فيسكتون عن العامة، وكثير منهم كان يصوِّبهم مداراة لهم، وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن وتسلط العامة عليهم وخمول ذكرهم وسقوط مراتبهم، لأنهم يكتمون الحق، فإذا تكلم به واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم وأوهموهم إنهم على الصواب، فيتجرأون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء وهضم شأنهم، ولو تكلموا بالصواب، أو نصروا من يتكلم به، أو عرَّفوا العامة إذا سألوهم الحق وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم، لكانوا يدا واحدة على الحق، ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شئ من الفتن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي نفس الموضوع يتحدث الشوكاني عن فتنة طائفية بين أهل السنة وبين الزيدية وقعت في صنعاء  سنة 1216 بتدبير من بعض رجال الدولة لغرض دنيوي سياسي، وكان محراكها شيخه في علم الفرائض والوصايا والمساحة، السيد يحيى بن محمد الحوثي، وقد رغبت في إيرادها لما تعطيه من صورة حول العصر والقضية وحول الشوكاني كذلك، وأنقل بتصرف هنا شيئاً مما أورده عنها في البدر الطالع:
وهو رجل خاشع متواضع كثير الأذكار سليم الصدر إلى غاية يعتريه في بعض الأحوال حدة مفرطة ... أقعده بعض أهل الدولة ممن يتظاهر بالتشيع، مع الجهل المفرط والرفض باطنا، على كرسي أكابر العلماء المتصدرين للوعظ في جامع صنعاء، وأمره أن يملي على العامة كتاب تفريج الكروب في مناقب علي كرم الله وجهه، ولكن لم يتوقف صاحب الترجمة على ما فيه، بل جاوز ذلك إلى سب بعض السلف مطابقة لغرض من حَمَلَه على ذلك لقصد الإغاظة لبعض أهل الدولة المنتسبين إلى بني أمية، كل ذلك لما بين الرجلين من المنافسة على الدنيا والقُرب من الدولة وعلى جمع الحطام، فكان صاحب الترجمة يصرخ باللعن على الكرسي فيصرخ معه من يحضر لديه من العامة، وهم جمع جم وسبب حضورهم هو النظر إلى ما كان يسرج من الشمع وإلى الكرسي لبعد عهدهم به، وليسوا ممن يرغب في العلم، فكان يرتج الجامع ويكثر الرهج ويرتفع الصراخ، ومع هذا فصاحب الترجمة لا يفهم ما في الكتاب لفظا ولا معنى، بل يصحف تصحيفا كثيرا، ويلحن لحنا فاحشا ويعبر بالعبارات التى يعتادها العامة ويتحاورون بها في الأسواق.
فلما بلغ ذلك مولانا خليفة أشار إلى عامل الأوقاف أن يأمر صاحب الترجمة أن يرجع إلى مسجده، فحضر العامة تلك الليلة على العادة ومعهم جماعة من الفقهاء الذين وقع الظلم بهذا الاسم بإطلاقه عليهم فإنه أجهل من العامة، فلما لم يحضر صاحب الترجمة في الوقت المعتاد لذلك وهو قبل صلاة العشاء ثاروا في الجامع ورفعوا أصواتهم باللعن، ومنعوا من إقامة صلاة العشاء، ثم انضم إليهم من في نفسه دغل للدولة أو متستر بالرفض، ثم اقتدى بهم سائر العامة فخرجوا من الجامع يصرخون في الشوارع بلعن الأموات والأحياء، وقد صاروا ألوفا مؤلفة، ثم قصدوا بيوت بعض الفقهاء فرجموها وأرادوا قتل بعضهم فهربوا.
ثم بعد ذلك عزم هؤلاء العامة وقد تكاثف عددهم إلى بيت السيد علي بن إبراهيم ورجموه وأفزعوا في هذه البيوت أطفالا ونساء وهتكوا حرما، وكان السبب في رجمهم بيته أنه كان في تلك الأيام يتصدر للوعظ في الجامع، ولم يكن رافضيا لعانا، ثم عزموا جميعا وهم يصرخون إلى بيت الوزير الحسن بن عثمان العلفي وإلى بيت الوزير الحسن بن علي حنش، والبيتان متجاوران فرجموهما، وسبب رجم بيت الأول كونه أموي النسب، ورجم بيت الآخر كونه متظهرا بالسنة متبريا من الرفض، واستمروا على ذلك نحو أربع ساعات، ثم بعد ذلك غار بعض أولاد الخليفة وأصحابه فكفوهم فانكفوا وقد فعلوا ما لايفعله مؤمن ولا كافر.
وفي اليوم الآخر أرسل الخليفة حفظه الله للوزير والأمراء، وقد حصل الخوف العظيم من ثورة العامة، فاستشارني فأشرت عليه أن الصواب المبادرة بحبس جماعة من المتصدرين في الجامع للتشويش على العوام وإيهامهم أن الناس فيهم من هو منحرف عن العترة، وأن التظاهر بما يتظاهرون به من اللعن ليس المقصود به إلا إغاظة المنحرفين، ونحو هذا من الخيالات التى لا حامل لهم عليها إلا طلب المعاش والرياسة والتحبب إلى العامة، وكان من أشدهم في ذلك السيد إسماعيل بن عز الدين النعمي، فإنه كان رافضيا جلدا مع كونه جاهلا جهلا مركبا، وفيه حدة تفضي به إلى نوع من الجنون، وصار يجمع مؤلفات من كتب الرافضة ويمليها في الجامع على من هو أجهل منه، ويسعى في تفريق المسلمين ويوهمهم أن أكابر العلماء وأعيانهم ناصبة يبغضون عليا كرم الله وجهه، ومع هذا فهو لا يدري بنحو ولا صرف ولا أصول ولا فروع ولا تفسير ولا حديث، بل هو كصاحب الترجمة في التعطل عن المعارف العلمية لكن صاحب الترجمة يعرف فنا من فنون العلم كما قدمنا، وأما هذا فلا يعرف شيئا إلا مجرد المطالعة لمؤلفات الرافضة الإمامية ونحوهم الذين هم أجهل منه.
ثم أشرت عليه حفظه الله أن يتتبع من وقع منه الرجم ومن فعل تلك الأفاعيل، فوقع البحث الكلي منه ومن خواصه، فمن تبين أنه منهم أودع الحبس والقيد، وأرسل بجماعة منهم إلى حبس زيلع وجماعة إلى حبس كمران، وأما صاحب الترجمة ومن شابههه في هذا المسلك فإنه حبس نحو شهرين ثم أطلق هو ومن معه، ووقى الله شرالفتنة بالحزم الواقع بعد أن وجلت القلوب وخاف الناس، وبعد هذه الواقعة بنحو سنة عول صاحب الترجمة في أن يكون أحد أعوان الشرع ومن جملة من يحضر لدى، فأذنت له وصار يعتاش بما يحصل له من أجرة تحرير الورق، وذلك خير له مما كان فيه إن شاء الله.
وابتدأ الشوكاني رحلته المديدة مع التأليف في سن مبكرة نسبياً، كما رأينا أنه باشر شرح المنتقى لابن تيمية الجد قبل وفاة شيخه العلامة عبد القادر بن أحمد في سنة 1208، ويضيق المجال عن تعداد مصنفاته التي تزيد على مائة كتاب ورسالة، ولكن نشير إلى أهمها:
كتاب نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، وهو الشرح الذي أشرنا إليه من قبل، وكان يقول: إنه لم يرض عن شيء من مؤلفاته سواه لما هو عليه من التحرير البليغ. وتتبدى فيه شخصيته الاجتهادية التي لا تتقيد باجتهاد الأسلاف، ويقول في مقدمة الكتاب: فدونك يا من لم يذهب ببصر بصيرته أقوال الرجال، ولا تدنست فطرة عرفانه بالقيل والقال، شرحا يشرح الصدور، ويمشي على سنن الدليل وإن خالف الجمهور، وإني معترف بأن الخطأ والزلل، هما الغالبان على من خلقه الله من عجل، ولكني قد نصرت ما أظنه الحق بمقدار ما بلغت إليه الملَكة، ورُضت النفس حتى صفت عن قذر التعصب الذي هو بلا ريب الهلكة.
ومن بابة هذا الكتاب، كتابه أدب الطلب ومنتهى الأرب، الذي حققه الأستاذ يحيى عبد الله السريحي، وهو بمثابة منهج يضعه الشوكاني لطالب العلم ليسلك طريق الاجتهاد ويبتعد عن التقليد، ويتضح فيه منهجه الاجتهادي الذي لا يأخذ بالاعتبار غير السنة النبوية، ويعرض عن القياس والإجماع وغيرها من أصول الفقه الرئيسة والفرعية.
كتاب فتح القدير؛ الجامع بين فني الرواية والدراية من التفسير، وهو تفسيره للقرآن الكريم، ويعتمد فيه على الحديث والفقه واللغة، دون إطالة وإغراب أو اختصار وإخلال، في ترتيب جامع واضح ولغة سلسلة مريحة، وقد قوبل على مؤلفه سنة 1235.
كتاب إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، في أصول الفقه، وهو تقعيد لمنهج الشوكاني المتفرد في الاجتهاد، وقد صنفه كما قال في المقدمة تداركاً فقد: صار كثير من أهل العلم واقعا في الرأي، رافعا له أعظم راية، وهو يظن أنه لم يعمل بغير علم الرواية، حملني ذلك على هذا التصنيف، في هذا العلم الشريف، قاصدا به إيضاح راجحه من مرجوحه، وبيان سقيمه من صحيحه، موضحا لما يصلح منه للرد إليه، وما لا يصلح للتعويل عليه، ليكون العالم على بصيرة في علمه يتضح له بها الصواب، ولا يبقى بينه وبين درك الحق الحقيق بالقبول الحجاب.
كتاب البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، وهو كتاب ماتع مفيد، صنفه الشوكاني في سنة 1213، ورجع إليه بعد ذلك بأكثر من 20 سنة فأضاف عليه وذكر وفيات من توفوا فيما مضى، وقد ترجم فيه لأعلام العرب والعجم من علماء وزهاد وسلاطين وأمراء، وتراجمه لأهل اليمن فيها توسع يثرينا بصورة دقيقة عن الحالة العلمية والسياسية في اليمن في حقبته، أما تراجمه لغيرهم فأغلبها مختصر ولكنها وافية تماماً في استعيابها لمعالم حياتهم، وهذا من نباهة ودقة هذا العالم الكبير.
ومن ناحية أخرى يظهر الكتاب طبع الإنصاف والسماحة الذي اتسم بها الشوكاني وهما خصلتان أساسيتان لدى المؤرخ العادل الصادق، وقال هو في ذلك: صنت هذا الكتاب عن ذكر المعايب، وطهرته عن نشر المثالب، لا كما يفعله كثير من المترجمين من الاستكثار من ذلك، فإن الغيبة قبيحة إذا كانت بفلتات اللسان التى لا تحفظ ولا يبقى أثرها بل تنسى في ساعتها، فكيف بها إذا حررت بالأقلام وبقيت أعواما، ولا سيما إذا لم يتعلق بها غرض الجرح والتعديل، فإنها من حصايد الألسنة التى تكب صاحبها على منخره في نار جهنم، نسأل الله السلامة.
وأذكر مثالا على ذلك ما أورده في ترجمة أمير كوكبان السيد شرف الدين بن أحمد، والذي اختلف معه الشوكاني بصفته القاضي الأول في اليمن، في مسائل فقهية وأخرى إجرائية تتعلق بالقضاء، ولكنه أنصفه فقال: وما كنت أود له التصميم فى مثل هذا الأمور الشرعية فإنه كثير المحاسن لولا هذه الخصلة التى كادت تغطي على محاسنه... ولكنه ليس ممن يناظر في المسائل ويعارض في الدلائل. ثم يقول: وهو محبوب عند رعيته، وذلك دليل عدله فيهم. ثم يروي الشوكاني أن الإمام غزا كوكبان وجعل عليها غير هذا الأمير الذي وضعه تحت الإقامة الجبرية في صنعاء، فسنحت الفرصة للشوكاني ليلتقي بخصمه السابق، ويقول: وعند الاجتماع به فى كثير من الأوقات لا سيما بعد دخوله صنعاء في الحضرة الإمامية، وجدت فيه من الظرافة واللطافة وحسن المحاضرة وجميل المعاشرة وقوة الدين وكثرة العبادة ما يفوق الوصف، وما زلت أعول على مولانا الإمام حفظ الله بإرجاعه بلاده على ما كان عليه، وكثّرت في ذلك حتى ألهمه الله إلى ذلك، فلله الحمد. أي أن الشوكاني رحمه الله سعى في إعادة هذا الأمير إلى إمارة كوكبان، وهذا من تمام فضله ومروءته.
كتاب السيل الجرار على حدائق الأزهار، وهو آخر مؤلفاته، وهو كتاب فقه يشتمل على تقرير ما دل عليه الدليل، ودفع ما خالفه، والتعرض لما ينبغي التعرض له والاعتراض عليه من شروح الكتاب السابقة، وكان يكتبه عند تصنيفه البدر الطالع فقال عنه: وهذا الكتاب، إن أعان الله على تمامه، فسيعرف قدره من يعترف بالفضائل، وما وهب الله لعباده من الخير.
سار الشوكاني على منهج والده في العزلة والبساطة، فعاش كما يقول: منجمعا عن بني الدنيا، لم يقف بباب أمير ولا قاض، ولا صحب أحدا من أهل الدنيا، ولا خضع لمطلب من مطالبها، بل كان مشتغلا في جميع أوقاته بالعلم درسا وتدريسا وإفتاء وتصنيفا، عائشا في كنف والده رحمه الله، راغبا في مجالسة أهل العلم والأدب وملاقاتهم والاستفادة منهم وإفادتهم، وهو يختم ترجمته الذاتية في البدر الطالع بدعاء في غاية الرقة والتصوف، يقول فيه: وهو الآن يسأل الله الذي لا إله إلا هو الحليم الكريم رب العرش العظيم، أن ينزع حب الدنيا من قلبه حتى ينظر إلى الحقيقة فيفوز بنيل دقائق الطريقة. اللهم اجذبه إلى جنابك العلىِّ جذبة يصحى عندها من سكر غروره، افتح له خوخة يتخلص بها عن حجابه المظلم إلى المعارف الحقة، ولا تخرجه من هذه الدنيا إلا بعد أن يسبح في بحار حبك، ويغسل أدران قلبه بمياه قربك. وفي هذا الصدد ينبغي أن نذكر أن الشوكاني قد تلقى في سنة 1234 الذكر على الطريقة النقشبندية الصوفية من السبد عبد الوهاب بن محمد الحسني الموصلى عندما زار صنعاء واتصل به.
كان الشوكاني شاعراً، وأي فقيه في اليمن ليس بشاعر؟ ولكن شعره يجيء في مناسبات كالمطارحات الأدبية والفقهية والمراسلات الإخوانية والتعازي والمدائح لمشايخه، وقد جمع ما كتبه من الأشعار لنفسه وما كُتب به إليه في نحو مجلد، ومن شعره يفتخر:

ولي سلف فوق المجرة خيموا ... سرادقهم من دونه كل كوكب
وما بي عن أوساطهم من تخلف ... ولا ركبوا في مجدهم غير مركبي
ولكنها الأيام يلبسها الفتى ... على قدر من غالب أو مغلب
وإني امرؤ أما نِجاري فخالص ... وأما فِعالي فاسأل الدهر واكتب
ولست بلَّباس لثوب مزور ... ولكن ضوء الشمس غير محجب
وإن فتى يغشى الدنايا وبيته ... على قمة العليا فتى غير معتب
هذه سيرة إمام مجتهد مأجور مشكور، ونختم ببيتين من شعره:
أنا راض بما قضى ... واقف تحت حكمه
سائل أن أفوز بالخير ... من حسن ختمه

الجمعة، 10 أبريل 2015

حدث في التاسع عشر من جمادى الآخرة

في التاسع عشر من جمادى الآخرة من عام 739 صدر أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بتعيين قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي السُّبكي قاضياً للشافعية على دمشق، وذلك بعد وفاة قاضي القضاة جلال الدين القزويني فغادر القاهرة إلى دمشق وأمضى فيها 16 سنة وشهراً، ثم عاد مريضاً إلى القاهرة ليتوفى فيها في سنة 756.
ولد تقي الدين السبكي في مستهل صفر من سنة 683 في سبك، وهي قرية من أعمال المنوفية بمصر، وتنتمي أسرته إلى بطن من قبيلة الخزرج الأنصارية يقال له أسلم، وكانت أسرة عريقة في العلم والفضل فجده الثاني كان يلقب بالوزير، أما والده زين الدين عبد الكافي فكان من علماء العصر وفضلائه، أدرك الإمام الكبير تقي الدين ابن دقيق العيد، محمد بن علي، المولود سنة 625 والمتوفى سنة 702، وصحبه وأخذ عنه وتأثر به، ولما قبل ابن دقيق العيد منصب قاضي القضاة في سنة 695 جعل الوالد من أعيان نوابه إذ ولاه قضاء الشرقية والغربية. وتوفي والده في سنة 735  ثم توفيت والدته بعده بأربعين يوماً.
وكان كثير من أقاربه قبله وبعده من العلماء والقضاة، ومنهم عمه يحيى بن علي، المتوفى سنة 725، فقدكان إماماً عارفاً بأصول الفقه، وتولى قضاء المحلة، ودرَّس بالمدرسة السيفية في القاهرة ثم باشرها بعده تقي الدين.
وقد توجه تقي الدين منذ صغره إلى العلم وانصرف عن اللهو واللعب، حكى عنه ابنه الإمام تاج الدين: أنه كان يخرج من البيت صلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فروجا، فيأكل؛ ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب؛ فيأكل شيئاً حلوا لطيفاً، ثم يشتغل بالليل؛ وهكذا لا يعرف غير ذلك، وكأن الله قد أقام والده ووالدته للقيام بأمره، فلا يعرف شيئاً من حال نفسه، وعجب أبوه من هذا التوجه الجاد والانغماس في العلم، فأشار على أمه أن تعطيه درهما أو درهمين عله أن يرى في السوق شيئا يشتهيه فيشتريه، فعقدت له أمه منديلا على نصف درهم، وهو يروح به ويغدو، إلى أن ضاق بحمله، فألقاه إلى أمه، وقال لها: ما شأني بهذا، وما أصنع به؟
وتفقه تقي الدين على والده وحفظ مختصر أبي إسحاق الشيرازي في فروع الفقه الشافعي المسمى التنبيه، وكان والده يصطحبه في زيارته للعلماء في القاهرة، مثل ابن دقيق العيد والوزير الفقيه ابن بنت الأعز، عبد الرحمن بن الوهاب، المتوفى سنة 695، فأتى به والده إلى القاهرة وفي نيته أن يتركه فيها لطلب العلم، ولكن ابن دقيق العيد أشفق على الشاب الصغير فقال لأبيه: عد به إلى البلد حتى يصير فاضلاً. فعاد به ولم يأت تقي الدين للقاهرة إلا بعد وفاة ابن دقيق العيد في سنة 702،  وهكذا فاته ما كان يتطلع إليه والده من صحبة الإمام ابن دقيق العيد والأخذ عنه وهو في آخر العمر، رحمه الله.
وجاء تقي الدين إلى القاهرة ودرس فيها على عدد من كبار مشايخها، واهتم بالحديث والرواية، فسمع على عدد كثير من المحدثين من أبرزهم صديق والده المحدث الحافظ شرف الدين الدمياطي، عبد المؤمن بن خلف، المولود بدمياط سنة 613 والمتوفى بالقاهرة سنة 705، والذي ضم معجم شيوخه نحو 1300 شيخ، وقال عنه الذهبي: كان مليح الهيئة، حسن الخلق، بساما، فصيحا لغويا مقرئا، جيد العبارة، كبير النفس، صحيح الكتب، مفيدا جدا في المذاكرة. ولازم تقي الدين الحافظ الدمياطي ولم يتخلف عن درسه بالمدرسة المنصورية، ولكن الشيخ الهرم توفي دون أن يشبع تقي الدين نهمته من علم الحديث، فاتجه للأخذ عن سعد الدين الحارثي العراقي ثم المصري، مسعود بن أحمد، المولود بالحارثية قرب بغداد سنة 652 والمتوفى بالقاهرة سنة 711.
ودرس تقي الدين علوم العربية على أبي حيان الأندلسي، محمد بن يوسف، المولود بغرناطة سنة 654 والمتوفى بالقاهرة سنة 645، وقرأ عليه كثيراً من كتب النحو مثل كتاب سيبويه وكتاب ابن عصفور وغيرهما، وكان من كبار العلماء بالعربية والتفسير والحديث والتراجم واللغات، واسع الحفظ راوية للشعر واللغة والقراءات.
وكان من آخر شيوخه نجم الدين ابن الرفعة، أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، المولود سنة 645 والمتوفى سنة 710، والفقيه الشافعي ومحتسب القاهرة، والذي نُدب لمناظرة ابن تيمية، فسئل ابن تيمية عنه بعد ذلك، فقال: رأيت شيخا يتقاطر فقه الشافعية من لحيته! وكان ابن الرفعة يعامل تلميذه معاملة الأقران، ويبالغ في تعظيمه، ويعرض عليه ما يصنفه في المطلب، وقال عنه: إمام الفقهاء. وقال عنه المحدث الحافظ شرف الدين الدمياطي: إمام المحدثين. فلما بلغ ذلك أستاذه في الأصول علاء الدين الباجي، علي بن محمد، المولود سنة 631 والمتوفى سنة 714، قال: وإمام الأصوليين.
وأخذ تقي الدين السبكي التصوف والسلوك عن ابن عطاء الله السكندري، أحمد بن محمد، المتوفى سنة 709، وكان قد ترك الإسكندرية وسكن القاهرة، وتأثر به تقي الدين تأثراً واضحاً في شخصيته وكثير من مواقفه وأقواله.
ورحل تقي الدين السبكي في طلب العلم والحديث إلى الإسكندرية ليسمع من محديثها، ثم رحل إلى الشام في سنة 706، ومكث في الشام قرابة سنة سمع من أئمتها أمثال الذهبي والمزي والبرزالي وابن الموازيني وابن مشرف، وأعجب هؤلاء الأعلام بالعالم الشاب ومشاركاته في المناظرات التي تثور في مجالسهم.
وعاد تقي الدين السبكي إلى القاهرة وألقى فيها رحاله، وبدأ في التدريس والتصنيف، وممن درس عليه العالم المؤرخ المحدث الحنفي مُغْلطَاي بن قَلِيج البكرجي، المولود سنة 689 والمتوفى سنة 762، وبدأت شهرته في الفقه الشافعي تزيد حتى صارت الأسئلة والفتاوى تأتيه من خارج مصر، وفي سنة 716 أدى فريضة الحج وزار المدينة المنورة، ولفترة وجيزة تولى مشيخة جامع ابن طولون ثم ما لبثت أن أعطيت لغيره في سنة 719، وكانت هذه المناصب مطمع كثير من العلماء ممن يستحقها أو لا يستحقها، وكان كثير منهم يطرقون أبواب كبار الأمراء لمساعدتهم في الحصول على هذه المشيخة أو تلك، ولكن تقي الدين لم يطرق باب أحد في نيل الوظيفة أو استرجاعها، بل عاد إلى دروسه وتآليفه، وقال في ذلك أبياتاً منها:
كمال الفتى بالعلم لا بالمناصب ... ورتبة أهل العلم أسنى المراتب
هم ورثوا علم النبيين فاهتدى ... بهم كلُّ سار في الظلام وسارب
ولا فخر إلا إرث شرعة أحمد ... ولا فضل إلا باكتساب المناقب
وبحث وتدقيق وإيضاح مشكل ... وتحرير برهان وقطع مغالب
وعادت إليه مشيخة ابن طولون ثانية في سنة 727 وبقيت في يده إلى سنة 739 حين اختير لقضاء الشام، كما ذكرنا في أول الحديث.
وفي سنة 723 أعطي تقي الدين السبكي وظيفة التدريس بالمدرسة المنصورية بالقاهرة عوضا عن القاضي جمال الدين الزرعي، سليمان بن عمر، المولود بأذرعات/درعا سنة 645 والمتوفى بالقاهرة سنة 734، والذي عين قاضياً في دمشق، ثم أعطي السبكي بعدها في أواخر السنة مشيخة دار الحديث الظاهرية بالقاهرة، بعد أخذها من ابن أستاذه: عبد العظيم بن الحافظ شرف الدين الدمياطي، ولم يدم السبكي في هذه سوى شهر ثم أعطيت لفتح الدين بن سيد الناس اليعمري، وكذلك لم يطل مقام الزرعي في دمشق، فقد عاد معزولا بسبب خصومة بينه وبين قاضي الحنابلة، ولم يعيده السلطان إلى منصبه السابق بالمنصورية، وكان الزرعي صديقاً للأمير أرغون المنصوري نائب السلطنة الذي كان حينها في الحجاز، فعزم على أن يعيد صديقه إلى المدرسة وأعلن ذلك على ملأ من الناس مهدداً ومتوعداً، وكان راتب المدرسة الرزق الوحيد للسبكي،  ولكن السلطان الملك الناصر قبض على أرغون عندما عاد من الحجاز ثم أرسله نائباً على حلب، وبقي السبكي في المدرسة.
وفي هذه الفترة كتب السبكي كتابين كان لهما وقع كبير في ذلك الوقت بسبب موضوعيهما وبسبب أسلوبه فيهما الهادئ المبني على الحجة والبرهان والبعيد عن الشطط والتجريح، وهما كتابه في الرد على الإمام تقي الدين ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، المولود سنة 661والمتوفى سنة 728، في قوله إن الحلف بالطلاق يقع موقع اليمين فلا يقع الطلاق وفيه كفارة، وكتابه شفاء السقام في زيارة خير الأنام والرد على منكري ذلك، وقد رد فيه قول ابن تيمية إن الغرض من زيارة المدينة  ينبغي أن يكون  زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه، وأن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم هي تبع لذلك ولا يجوز أن تكون أصل الزيارة وشد الرحال.
وكانت هاتان القضيتان المختلف عليهما إلى اليوم، على رأس القضايا التي شغلت مجامع العلماء في تلك الفترة ذلك، إن الإمام ابن تيمية خالف فيهما الرأي السائد المألوف، وجهر برأيه فيهما في دمشق بأسلوبه المعروف في الشدة، وانقسم العلماء ومن حولهم فرقتين مؤيدين ومعارضين.
وعلى الأغلب فإن تقي الدين السبكي التقى بابن تيمية في مصر، ورغم رده عليه في هاتين المسألتين وغيرها، إلا أنه كان يقر لابن تيمية بالعلم والفضل، ولا يشتط في عداوته كما فعل عدد من المشايخ، فقد عاتب الذهبيُّ، وهو تلميذ ابن تيمية،  السبكيَّ بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية، فكان من جملة ما أجابه: فالمملوك يتحقق كبير قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان.
وممن أخذ عن السبكي الفقه في الفترة السابقة لرحيله إلى دمشق الإمام سراج الدين البلقيني، عمر بن رسلان، المولود سنة 714 والمتوفى سنة 805، والذي أعجب بأستاذه لدرجة أنه لما شرب من ماء زمزم سأل الله أن يكون مثل تقي الدين السبكي، ومن التقديرات أن يصبح سراج الدين البلقيني قاضي القضاة بدمشق في سنة 760 ويحل محل ابن أستاذه؛ تاج الدين السبكي.
ولم يكن السبكي في انقطاعه للتدريس منقطعاً عن الناس وكبار الدولة وبخاصة صالحيهم، فقد كان على صلة طيبة بالأمير جنكلي بن محمد، المولود سنة 765 والمتوفى سنة 746، والذي كان أمير رأس العين في شمالي سورية من طرف الملك المغولي قازان، ثم جاء إلى القاهرة في سنة 704 بطلب من السلطان، وأعطي إقطاعات تليق بإمارته، وكان صاحب عبادة، وكان ينفع العلماء والصلحاء والفقراء، وله إلمام بالفقه يحب العلماء ويطارحهم، وقد قال عنه تقي الدين السبكي في تاريخه: وكان قد جمع العقل والدين والدنيا والرتبة العلية، ليس في الأمراء أكبر منه ولا أنفذ كلمة، وامتنع من الحكم بعد أن عرضت عليه النيابة مرات، وكان لا يدخل إلا في خير، وكان يحبنا ونحبه.
وكان تقي الدين السبكي على علاقة طيبة كذلك بالأمير آلجاي الدويدار الناصري، المتوفى سنة 732، وكان معروفاً في منصبه بالعفة والنزاهة والتأني، وكان متأدباً فاضلاً حسن الخط يحفظ كثيراً من المسائل، واقتنى كتباً نفيسة إلى الغاية، وكان السبكي يلازمه ويبيت عنده.
وكان الأمير شهاب الدين أحمد بن بيلبك المحسني، ابن نائب السلطان بالإسكندرية، والمتوفى سنة 753، يميل إلى العلم والأدب، ويتعانى النثر والنظم، وجاء إلى دمشق ليكون في ظل أميرها العظيم سيف الدين تنكز، والذي كان نائب الملك في دمشق من سنة 712 إلى أن قتله السلطان سنة 750، وكان المحسني قد نظم أغلب مسائل الفقه الواردة في كتاب التنبيه، فكان يعرضها على تقي الدين السبكي ليراجعها ويوجهه إلى إتقانها.
وفي سنة 739 توفي، عن 73 سنة، القاضي جلال الدين القزويني الأصل الموصلي المولد، محمد بن عبد الرحمن بن عمر، بعد أن ولي قضاء دمشق نحو سنة، فأصدر السلطان الملك الناصر أمره بتعيين تقي الدين السبكي في هذا المنصب، وهو أول منصب حكومي يتولاه السبكي، فكان نقلة كبيرة في حياته، من التعليم والتأليف والعيش في بساطة بين الكتب ومع الطلبة وتوفر الوقت للبحث والتصنيف، إلى لُـجة القضاء والتعرض لضغوط الأمراء وأهواء ذوي النفوذ، والتقيد بأبهة المنصب وهيبته، وضياع الأوقات في سماع الدعاوى وأقوال الخصوم، ويبدو أنه لم يقبل المنصب إلا بعض إلحاح من السلطان، كما هو المتوقع، لأن ابنه تاج الدين يقول في هذا الصدد: فقبِلَ الولايةَ يا لها غلطة أُف لها، وورطة ليته صمم ولا فعلها!
ولتقي الدين السبكي في هذا الموضوع بيتين:
إن الولاية ليس فيها راحة ... إلا ثلاثٌ يبتغيها العاقلُ
حكم بحق، أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج؛ سواها باطل
وبعد تعيين السبكي بحوالي سنة ونصف توفي السلطان الملك الناصر في آخر سنة 741 وخلفه بعهد منه ابنه أبو بكر وتلقب بالملك المنصور، وكان في العشرين، وظهر من الملك الجديد انصراف عن مهام الحكم إلى اللذات والشهوات فخلعه الأمراء بعد شهرين وأعدموه، وجعلوا مكانه أخاً له طفلاً عمره دون ست سنين، ثم خلعوه بعد 5 أشهر، وبايعوا أخاه أحمد الذي أتوا به من الكرك، وكانت سنه 32 سنة، وتلقب بالملك الناصر، وقام على عقد البيعة بينه وبين الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله الشيخ تقي الدين السبكي الذي جاء من دمشق إلى القاهرة.
وأساء الملك الجديد التصرف فقد قتل جماعة من أمراء الجيش كانوا في السجن، ثم جمع أموالا من الخزائن السلطانية وتحفها وعاد إلى الكرك، وظهرت أخباره في الانغماس في اللهو، فكتب قواد الشام إلى قواد مصر في خلعه، فخلعوه في أوائل سنة 743 ، وكانت مدة حكمه 72 يوماً، وولوا أخاه إسماعيل، وكانت سنه حوالي 17 عاماً، وتلقب بالملك الصالح، وأرسلوا الأمراء الجيش لمحاصرة أحمد في الكرك، فقاتل حتى أمسكوه وقتلوه، وسار الملك الصالح بالحكم سيرة حسنة فصلحت أمور الدولة، ثم توفي في سنة 746.
وحدثت قصة مضحكة مبكية في غضون هذه الأحداث تدل على التدهور الذي آلت إليه أمور الدولة في حقبة المماليك عند الانتقال من ملك إلى ولي عهده، فقد سار الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري إلى الكرك ليأتي بالملك الناصر إلى مصيره المحتوم في القاهرة، وتحصن الناصر بقلعة الكرك، فحاصره قطلوبغا، وفي أثناء ذلك أرسل إليه أخوه الأمير طشتمر كتاباً من حلب ينكر عليه ما فعل، ويشير عليه أن يؤيد الملك الناصر،  ففعل وحلف له، وإزاء هذا الانقلاب خرج الطُنبغا نائب دمشق إلى حلب لقتال طشتمر نائبها،  فاغتنم قطلوبغا ذلك فترك الكرك وتوجه إلى دمشق.
وطلب قطلوبغا من القاضي تقي الدين السبكي أن يقرض ديوان السلطان شيئا من أموال الغياب التي تحت يده، فامتنع من ذلك امتناعا كثيرا، فجاء شادُّ الدواوين وبعض حاشية نائب السلطنة ففتحوا مخزن الأيتام وأخذوا منه الأموال، فأنفقها قطلوبغا على تجهيز العساكر وحلَّفهم للملك الناصر، وقصده الطنبغا من حلب بعساكر الشام وهم نحو تسعة عشر ألف فارس، فمال غالب العسكر إلى قطلوبغا وفر الطنبغا، ودخل قطلوبغا دمشق وأرسل إليه الناصر أحمد بإمارتها وذلك في شوال سنة 742، ثم غدر الناصر به وأراد إمساكه فهرب، ثم قُبض عليه فأمر الناصر بقتله في المحرم من سنة 744.
ولما تولى الملك الصالح الحكم أرسل على البريد يطلب القاضي تقي الدين السبكي إلى القاهرة لمحاسبته على إعطائه الأمير قطلوبغا هذا المبلغ ليجهز جيش التمرد، وكان ذلك بمكيدة من نائب السلطنة بدمشق الأمير أيدمش الناصري، والذي كان يكره تقي الدين السبكي، ومنعه من قبل أن يصلى معه الجمعة في المقصورة بالجامع الأموي، وذلك إن منصب الخطابة في الجامع الأموي شغر، فنهى الأمير الشيخ أن يسعى في تولي هذا المنصب، ويبدو أن الشيخ قد خالفه وسعى في الأمر، أو جاءه الأمر دون سعي، فغضب نائب السلطنة غضباً شديداً، ولما جاء خطاب السلطان أرسل إلى كبار مشايخها صورة سؤال يستفتيهم فيه بما يقتضيه حكم الشرع الحنيف بمن فعل مثل هذا الأمر، ولاحترام المشايخ الكبير لتقي الدين السبكي ومعرفتهم بحقيقة الواقعة، لم يكتب أحد على السؤال أية فتوى أو جواب، باستثناء القاضي الحنفي جلال الدين أحمد بن الحسن المولود سنة 651 والمتوفى سنة 745 .
ولما ذهب السبكي إلى القاهرة على البريد خرج الكبراء والاعيان لتوديعه وفي خدمته، وعاد بعد شهر وقد بقي في منصبه وجدد تعيينه في الخطابة، وشاء الله كذلك أن يموت الأمير في هذه الأثناء، فلم يشك كثير من الناس أن أيدغمش هلك بدعاء الشيخ تقي الدين السبكي عليه، وأثناء مقامه مع والده في مصر في هذه الرحلة قرأ تاج الدين ابن تقي الدين السبكي على شيخ والده من قبل؛ الإمام أبو حيان الأندلسي، قال تاج الدين: ولما توجهنا من دمشق إلى القاهرة في سنة 742 ثم أمرنا السلطان بالعود إلى الشام لانقضاء ما كنا توجهنا لأجله، استمهله الوالد أياما لأجلي، فمكث حتى أكملت على أبي حيان ما كنت أقرؤه عليه، وقال لي: يا بني هو غنيمة، ولعلك لا تجده في سفرة أخرى. وكان كذلك.
وهنا نشير إلى واقعة تشبه واقعة التسلط على أموال الأيتام حصلت مع قاضي صفد، شمس الدين الخضري، محمد بن عبد الحق، وكان قاضياً صارماً لا هزل عنده، وطلب منه أميرها اقتراض مبلغ من مال الأيتام بغير رهن، فلم يوافقه، فجرت بينهما مشادة كلامية فركب بغلته ليلا وقصد دمشق، فبلغ ذلك القاضي تقي الدين السبكي فتلقاه وأكرمه وجهزه إلى حمص قاضيا ومدرسا وخطيبا، وتوفي هذا القاضي الصارم سنة 747.
ونشير كذلك إلى واقعة أخرى تتعلق بالخطابة في الأموي، وذلك إنها كانت عند جلال الدين القزويني، القاضي الذي توفي وحل محله تقي الدين السبكي، وصارت بعده إلى ابنه بدر الدين محمد، وكان وافر الحشمة جميل السيرة حَسَن التأدية للخطبة طيب النغمة، وتوفي بدر الدين في سنة 742، فعهد السلطان بالخطابة للشيخ تقي الدين السبكي، فلما استدعي للقاهرة وشاع أنه محاسب مهدد ولعله معزول، تطلع أن تعود الخطابة إليه ابن آخر للقاضي جلال الدين القزويني، هو تاج الدين عبد الرحيم، وبلغه أو تفاءل أنه قد حازها فعلاً، فصعد المنبر في الأموي قبل الخطبة، وخاطب المصلين قائلاً:  هذا السبكي، أخذ منا الخطابة وقطع رزقنا! وبكى، فبكى العوام معه وتعصبوا له، فلما رجع السبكي من القاهرة معززاً مكرماً قام عليه العوام وكادوا يرجمونه، فترك له الخطابة فاستمر فيها إلى أن مات في الطاعون العام في سنة 749، وكانت جنازته حافلة جداً، مع أن المؤرخين يذكرون أنه لم يكن له يد في شيء من العلوم البتة!
ونورد بعضاً مما جاء في مرسوم التكليف بالخطابة وهو كما نرى أنموذج عريق للكتابة التي شاعت في الحقبة المملوكية: ولما كان المجلس العالي، القاضوي، الشيخي، الكبيري، العالمي، الفاضلي، الأوحدي، الأكملي، الرئيسي، المفوهي، البليغي، الفريدي، المفيدي، النجيدي، القدوي، الحجي، المحققي، الورعي، الخاشعي، الناسكي، الإمامي، العلامي، الأثيلي، العريقي، الأصيلي، الحاكمي، الخطيبي، الشهابي، جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء المجتهدين، حجة الأمة، عمدة المحدثين، فخر المدرسين، مفتي المسلمين، معز السنة، قامع البدعة، مؤيد الملة، شمس الشريعة، حجة المتكلمين، لسان المناظرين، بركة الدولة، خطيب الخطباء، مذكر القلوب، منبه الخواطر، قدوة الملوك والسلاطين، ولي أمير المؤمنين أبو العباس أحمد أدام الله تعالى نعمته: هو الذي خَطَبَته هذه الخطابة لنفسها، وعلمت أنه الكفء الكامل فنسيت به في يومها ما كان من مصاقع الخطباء في أمسها؛ إذ هو الإمام، الذي لا تسامى علومه ولا تسام، والعلامة الذي لا تدرك مداركه ولا ترام، والحَبر الذي تعقد على فضله الخناصر، والعالم الذي يعترف بالقصور عن مجاراة جياده المناظر، والحافظ الذي قاوم علماء زمانه بلا منازع، وعلامة أئمة أوانه من غير مدافع، وناصر السنة الذي يذب بعلومه عنها، وجامع أشتات الفنون التي يقتبس أماثل العلماء منها، وزاهد الوقت الذي زان العلم بالعمل، وناسك الدهر الذي قصر عن مبلغ مداه الأمل، ورَحَلة الأقطار الذي تشد إليه الرحال، وعالم الآفاق الذي لم يسمح الدهر له بمثال - اقتضى حسن الرأي الشريف أن نرفعه من المنابر على عليِّ درجها، ونقطع ببراهينه من دلائل الإلباس الملبسة داحض حججها، ونقدمه على غيره ممن رام إبرام الباطل فنقض، وحاول رفع نفسه بغير أداة الرفع فخفض.
وفي أول سنة 742 توفي، عن 86 سنة، الحافظ جمال الدين أبي الحجاج المزي، يوسف بن عبد الرحمن، فصلى عليه قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وبوفاته شغرت مشيخة دار الحديث فرَشَّح لها تقيُّ الدين الإمامَ الذهبي، ولكنه لم يكن أشعرياً على شرط الواقف، فانتهى الأمر أن أوكلت إلى السبكي، وكان من قبل قد سمع عليه الحديثَ الحافظان المزي والذهبي.
وفي سنة 745 توفي شمس الدين ابن النقيب، محمد بن أبي بكر، المولود سنة 661، فخلفه كذلك السبكي في التدريس في المدرسة الشامية البرانية، وتولى خطابة الجامع الأموي فترة ليست بالطويلة، وفي ذلك قال الإمام الذهبي رحمه الله:
ليَهْنَ المنبرُ الأموي لما ... علاه الحاكم البحر التقي
شيوخ العصر أحفظُهم جميعاً ... وأخطبهم وأقضاهم علي
وكانت العلاقة بين السبكي وبين الذهبي علاقة وثيقة، ويشير إليه الإمام الذهبي في العبر وفي ذيل تذكرة الحفاظ بلفظ شيخنا، ويذكر رأيه فيما سأله الذهبي عنه حول الرجال، وقال الذهبي في المعجم المختص يذكر القاضي تقي الدين: القاضي، الإمام، العلامة، الفقيه، المحدث، الحافظ، فخر العلماء...  إلى أن قال: وكان صادقاً، متثبتاً، خيراً، ديناً، متواضعاً، حسن السمت من أوعية العلم، يدري الفقه ويقرره، وعلم الحديث ويحرره، والأصول ويقرئها، والعربية ويحققها، وصنف التصانيف المتقنة، وقد بقي في زمانه الملحوظ إليه بالتحقيق والفضل، سمعت منه وسمع مني، وحكم في الشام، وحمدت أحكامه، فالله يؤيده ويسدده، سمعنا معجمه في الكلاسة. ولما احتُضر الذهبي عاده السبكي ليلة مات في 3 ذي القعدة سنة 748، وقال له: كيف تجدك؟ فأجابه: في السياق.
ولكن العلاقة بين الشيخ تقي الدين وبين الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية لم تكن على مايرام، وذلك لأن ابن القيم كان متصدياً للإفتاء باختيار ابن تيمية في فتواه الخاصة بالطلاق، ولكنهما تصالحا في سنة 750 بمسعى من الأمير سيف الدين بن فضل  بن عيسى بن مهنا أحد أمراء الأعراب الأجواد.
وفي رمضان من سنة 755 توفي، عن 23 سنة، ابن السبكي جمال الدين حسين، نائبه في القضاء والمدرس في عدة مدارس، وكان سمح الأخلاق واسع العلم، فكانت له جنازة مشهودة، وحضر والده وهو يهادي بين رجلين، وقد ظهر عليه الحزن والكآبة، فصلى عليه إماما في الأموي، ثم دفن بسفح قاسيون في تربة معروفة لآل السبكي، ومات بعده في ذي القعدة من نفس السنة نائبه في الحكم، جمال الدين الحُسباني، المولود سنة 670، وكان السبكي يثق به ويعتمد في الأحكام المعضلة عليه، فكانتا خسارتين كبيرتين توالتا على الشيخ الكبير، وعبر عن ذلك الصفدي في مرثية للقاضي الشاب:
قاضي القضاة تصبّر ... فالخطب فيه جسيم
لكنّ مثلك راسٍ ... لمّا تخفّ الحلوم
إذا بقي أخواه ... فسوف تؤس الكلوم
يصافح الحور منه ... في الخلد كفٌّ كريم
وأنت تعلم أنّ الذي دعاه رحيم
وما تُقاك ضعيفٌ ... ولا نُهاك سقيم
وكلّنا سوف نمضي ... وما عليها مقيم
ومرض تقي الدين السبكي قبل وفاته بفترة وجيزة، ويبدو أنه شعر بدنو الأجل، وأراد أن تكون وفاته في أرض آبائه وأجداده، فاستعفى من القضاء، ورجع إلى مصر، فأقام فيها أقل من عشرين يوماً ، ثم توفي في الثالث من جمادى الآخرة من سنة 756، ولما مات وجدوا عليه 32.000 درهم ديناً، فالتزم ولداه تاج الدين وبهاء الدين بوفائها.
وقبل أن يعود الشيخ إلى القاهرة أرسل إليها قبله حفيده الناشئ في حجره بدمشق، محمد بن بهاء الدين أحمد، المولود بالقاهرة سنة 645، ولكن ليس قبل أن يلقي درساً تقر به عين جده قبل موافاة الأجل، فألقى درساً حضره الجد متحاملاً على مرضه، وتوفي هذا الحفيد في سنة 664، رحمة الله عليهم جميعاً.
لتقي الدين السبكي مؤلفات كبيرة كثيرة تدل على تنوع علمه وغزارته، وقد ذكر الأستاذ الزركلي في ترجمته في الأعلام أنه رأي بخطه عدداً من كتبه في القدس والرباط، وله تفسير لم يكتمل أسماه: الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم، وله في الفقه الشافعي كتاب الابتهاج في شرح المنهاج للإمام النووي، وصل فيه إلى الطلاق في ثمانية أجزاء، وباشر السبكي في تكملة شرح المهذب للشيرازي، الذي كان الإمام النووي قد بدأ به ووصل به إلى باب الربا، فكتب من ذلك أبواباً في ثلاثة مجلدات، ثم توفي ولم يكمله، وشرح في الفقه الشافعي كتاب مختصر التبريزي وأسمى شرحه: الرقم الإبريزي في شرح مختصر التبريزي، وله كتاب السيف المسلول على من سب الرسول، والذي صنفه في رمضان سنة 734 ، وكتاب شفاء السقام في زيارة خير الأنام والرد على منكري ذلك، وهو رد على قول ابن تيمية أن الغرض من زيارة المدينة  ينبغي أن يكون  زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه، وأن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم هو تبع لذلك لا أصل في الزيارة وشد الرحال. وله كذلك فتاوى مجموعة، وعديد من المصنفات تبلغ أكثر من 150 مصنفاً، وتتناول كذلك مواضيع متميزة مثل مصنفه قطف النور في مسائل الدور، الذي يتناول القضايا المتعلقة بالمساكن.
ولاشك أن تقي الدين السبكي بلغ مرتبة عليا في الاجتهاد، واختياراته الفقهية لها وجاهتها وتدل على أفق فكري فقهي لا يكاد يحده حد، ومنها ما توصل إليه في كتابه العَلَم المنشور في إثبات الشهور، من رفض رؤية الهلال إذا كان الحساب يقول باستحالة الرؤية، ومنها كذلك قياسه تقبيل المصحف على تقبيل الحجر الأسود، وأن سبب تقبيله ما ورد أنه يمين الله في الأرض، والعادة تقبيل يمين من يقصد إكرامه، ومنها قوله بنبوة مريم بنت عمران ويشهد لذلك ذكرها في سورة الأنبياء مع الأنبياء.
وإلى جانب هذه المصنفات استفاد من تقي الدين السبكي كثيرٌ من علماء عصره في مصنفاتهم، وقد سبقت الإشارة للذهبي في هذا الصدد، ونذكر كذلك ابن أيبك، صلاح الدين الصفدي، خليل بن أيبك، المولود سنة 696 والمتوفى سنة 764، والذي خرج معه من القاهرة إلى دمشق عندما كلفه السلطان بالقضاء، وينقل الصفدي عنه كثيراً في كتابيه الوافي بالوفيات وأعيان العصر، مشيراً إليه بالعلاّمة. وكذلك عبد القادر القرشي الحنفي، المولود سنة 696 والمتوفى سنة 775 بالقاهرة، ينقل عنه في الجواهر المضية في طبقات الحنفية ويشير إليه بلفظ شيخنا، وممن أخذ عنه كذلك الفيروزابادي صاحب القاموس المحيط، المولود في شيراز سنة 729 والمتوفى بزبيد في اليمن سنة 816، وذلك عندما دخل دمشق سنة 755.
ولئن غلب الحنين إلى الأوطان تقيَّ الدين السبكي فرحل عن الشام ليدفن في القاهرة، إلا أنه ترك في الشام وارث علمه وابنه تاج الدين عبد الوهاب، المولود سنة 727 بالقاهرة والمتوفى سنة 771 بدمشق، وكان فقيهاً عالماً مؤرخاً طلق اللسان قوي الحجة، انتهى إليه القضاء في الشام ولقب بقاضي القضاة، وجرت عليه محن وشدائد قال ابن كثير: ما لم يجر على قاض مثله، تعصب عليه شيوخ عصره، فعُزل وأمر به السلطان فأتي به من دمشق إلى القاهرة مقيداً مغلولا، ثم أفرج عنه وعاد إلى دمشق فتوفي بالطاعون، وله تصانيف مهمة في التاريخ والفقه أهمها طبقات الشافعية الكبرى، وجمع الجوامع في أصول الفقه، والأشباه والنظائر في الفقه.
وولي تاج الدين في حياة والده توقيع الدَست بالشام بين يدي ملك الأمراء الأمير علاء الدين أمير علي بن علي المارديني نائب الشام، فكتب إليه أبوه تقي الدين:
أقول لنجلي البر المفدى ... مقالا وُثِقت منه عراهُ
ولِيتَ كتابة في دست ملك ... رست أحكامه وسمت ذراه
فلا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه
ولا تأخذ من المعلوم إلا ... حلالا طيبا عطرا ثراه
ونصحك صاحب الدست اتخذه ... شعارك فالسعادة ما تراه
ثلاث يا بني بها أوصي ... فمن يأخذ بها يحمد سراه
وتقوى الله رأس المال فالزم ... فما للعبد إلا من براه
ولتقي الدين السبكي ابن أكبر هو بهاء الدين أحمد، المولود سنة 719، والذي درس على كبار مشايخ عصره برعاية والده، وأذن له بالإفتاء والتدريس وعمره عشرون سنة، وصار قاضياً في دمشق والقاهرة، ثم انقطع عن الدنيا وتزهد، وأقبل على العبادة، وجاور بمكة، وله مصنفات في الفقه والبيان وديوان شعر، وتوفي في مكة سنة 773.
وكان لتقي الدين السبكي ابنة أكبر من تاج الدين اسمها ستيتة، كان لها مشاركة في سماع الحديث وروايته وتوفيت في القاهرة سنة 776، وكان للسبكي بنات أخريات تزوج إحداهن أحد نواب الحكم في دمشق، من أسرة المنجى الحنبلية، وهو محمد بن محمد بن المنجا التنوخي، المتوفى سنة 770، والذي درّس في مساجد دمشق ووصف بالسنة والدين والصيانة.
وكان للسبكي بستان في سفح قاسيون وتربة دفن آل السبكي فيها أمواتهم، وقد أقامت أمانة العاصمة بعد الاستقلال السوري في موقع هذا البستان حديقة جميلة في دمشق الفيحاء، عهدي بها جميلة غناء تتوسطها بركة ماء كبيرة يسبح البط الصغير بها، بقيت ذكرى لهذا العلم الجليل والقاضي الفرد الذي أحبته دمشق في حياته، ووفت قروناً له بعد مماته.
ونختم بأبيات كتبها الإمام الذهبي إلى قاضي القضاة تقي الدين السبكي، رحمها الله تعالى ولعله آخر شعر نظمه الذهبي:

تقي الدين يا قاضي الممالك ... ومن نحن العبيد وأنت مالِكْ
بلغت المجد في دين ودنيا ... ونلت من العلو مدى كمالك
ففي الأحكام أقضانا عليٌّ ... وفي الخدام مع أنس بن مالك
وكابن معين في حفظ ونقد ... وفي الفتوى كسفيان ومالك
وفخر الدين في جدل وبحث ... وفي النحو المبرد وابن مالك

 
log analyzer