السبت، 12 يوليو 2014

حدث في الرابع عشر من رمضان

في الرابع عشر من رمضان من سنة 630 توفي، عن 81 عاماً، السّلطان الملك المعظّم مظفر الدين كُوكُبُوري بن عليّ بن بكتكين التّركمانيّ، ملك إربل - وهي اليوم إربيل في شمال العراق - وكان ملكاً صالحاً شجاعاً وهو أول من احتفل بالمولد النبوي من أهل السنة. وكُوكُبُوري: اسم تركي معناه الذئب الأزرق.
ملك والده إربل وبلادا كثيرة في تلك النواحي، وفرقها قبل موته على أولاد أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل، ولم يُبقِ له سوى إربل، فوليها مظفّر الدين وهو ابن أربع عشرة سنة، وكان أتابكه - الأتابك: مربي الأمراء - مجاهد الدّين قايماز، ثمّ تعصّب عليه مجاهد الدّين وكتب محضراً أنّه لا يصلح واعتقله، وأقام موضعه أخاه الأصغر زين الدّين يوسف بن عليّ، وطرد مظفّر الدّين عن البلاد فتوجّه إلى بغداد، فلم يلتفتوا عليه، فقدم الموصل، وبها الملك سيف الدّين غازي بن مودود، فأقطعه حرّان، فأقام بها مدّة، ثمّ اتّصل بخدمة السّلطان صلاح الدّين، ونفق عليه، وتمكّن منه، وزاد في إقطاعه الرّها، وزوّجه بأخته ربيعة خاتون وعاشت معه زهاء أربعين عاماً.
شهد مظفّر الدّين مع السّلطان صلاح الدّين مواقف كثيرةً أبان فيها عن نجدةٍ وقوة نفس وعزيمة، ولم ينقل أنّه انكسر في مصافّ، وثبت في مواضع لم يثبت فيها غيره، ولو لم يكن له إلا وقعة حطين لكفته، فانه وقف هو وابن أخي السلطان تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة وانكسر العسكر بأسره، ثم لما سمعوا بوقوفهما تراجعوا حتى كانت النصرة للمسلمين، وفتح الله سبحانه عليهم.
ثم لما كان السلطان صلاح الدين منازلاً عكا بعد استيلاء الفرنج عليها، وردت عليه ملوك الشرق تنجده وتخدمه، وكان في جملتهم زين الدين يوسف أخو مظفر الدين، وهو يومئذ صاحب إربل، فأقام قليلا ثم مرض، فلما توفي التمس مظفر الدين من السلطان صلاح أن ينزل عن حران والرها وسميساط، ويعوضه إربل، فأجابه إلى ذلك وضم إليه شهرزور، فتوجه إليها ودخل إربل في ذي الحجة سنة 586.
وكان كريم الأخلاق، كثير التّواضع، مائلاً إلى أهل السّنّة والجماعة، لا ينفق عنده سوى الفقهاء والمحدّثين، وكان قليل الإقبال على الشّعر وأهله، ومدحه الشاعر الحيص بيص، فقال: ما أعرف ما تقول، ولكني أدري أنك تريد شيئا! وأمر له بخلعة وفرس وخمس مئة دينار.
ولم يكن شيء أحبّ إليه من الصّدقة، وكان له كلّ يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرّقها، ويكسو في السنة خلقاً ويعطيهم الدّينار والدّينارين. قالت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب: كان قميصه لا يساوي خمسة دراهم فعاتبتُه بذلك فقال: لبسي ثوباً بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوباً مثمناً وأدع الفقير المسكين.
وبنى أربع مساكن للزّمنى والعميان، وملأها بهم، وكان يأتيهم بنفسه كلّ خميس واثنين، ويدخل إلى كلّ واحد في بيته، ويسأله عن حاله، ويتفقّده بشيءٍ، وينتقل إلى الآخر حتّى يدور على جميعهم، وهو يباسطهم يمزح معهم، وبنى داراً للنّساء الأرامل، وداراً للضعفاء الأيتام، وداراً للملاقيط رتّب بها جماعة من المراضع، وكان يدخل البيمارستان. ويقف على كل مريض ويسأله عن حاله.
وكان له دارٌ مضيف يدخل إليها كلّ قادم من فقيرٍ أو فقيهٍ، فيها الغداء والعشاء، وإذا عزم على السفر، أعطوه ما يليق به، وبنى مظفر الدين للصّوفية رباطين، فيهما خلقٌ كثير، ولهما أوقافٌ كثيرة، وكان ينزل إليهم ويعمل عندهم السّماعات، وبنى مدرسة للشافعية والحنفية وكان يأتيها كلّ وقتٍ، ويعمل بها سماطاً ثمّ يعمل سماعاً فإذا طرب، وخلع من ثيابه سيّر للجماعة شيئاً من الإنعام، ولم تكن له لذّةٌ سوى السّماع، فإنّه كان لا يتعاطى المنكر، ولا يمكن من إدخاله البلد.
وبنى مظفر الدين داراً للحديث بأربل وكتب إلى الخليفة الناصر أبي العباس أحمد في إنفاذ حنبل بن عبد الله الرصافي وإنفاذ عمر بن طبرزد إلى إربل ليسمع منهما، وسير لكل منهما نفقة، فأنفذا إلى إربل، وحدث حنبل بإربل بمسند أحمد، وسمع بخبرهما الملك المحسن أبو العباس أحمد بن صلاح الدين يوسف بن أيوب،  فكاتب صاحب إربل في طلبهما إليه إلى دمشق، فاستأذن الخليفة في ذلك، وسير حنبل أولاً إلى دمشق، وسمع منه المسند مع جماعة كثيرة بدمشق، واجتاز بحلب في طريقه فلم يقم بها إلا ليلة واحدة، وظفر به بعض طلبة الحديث بحلب فسمعوا منه أربعين حديثاً.
وكان يبعث أمناءه في العام مرتين بمبلغ يفتكّ به الأسرى، فإذا وصلوا إليه أعطى كلّ واحد شيئاً،  وقيل إن جملة من استفكه من أيديهم ستون ألف أسير.
وكان يقيم في كلّ سنة سبيلاً للحجّ، ويبعث في العام بخمسة آلاف دينارٍ للمجاورين، وهو أول من أجرى الماء إلى عرفات، وعمل آباراً بالحجاز، وبنى له هناك تربة.
وعندما شرع الشيخ أبو عمر محمد بن أحمد بن قدامه المقدسي سنة 598 في بناء المسجد الجامع في دمشق بسفح قاسيون المشهور بمدرسة الحنابلة، أنفق عليه رجل يقال له الشيخ أبو داود علي الفامي حتى بلغ البناء مقدار قامة فنفد ما كان معه، فأرسل الملك المظفر كوكبوري صاحب إربل مع حاجب من حجابه يسمى شجاع الدين الإربلي ثلاث آلاف دينار لتتميمه فكمل، وأرسل ألف دينار ليساق بها إليه الماء من قرية برزة، فلم يمكنه من ذلك الملك المعظم صاحب دمشق واعتذر بأن هذا فرش قبور كثيرة للمسلمين وصنع له بئر وبغل يدور ووقف عليه وقفاً لذلك.
ولما توفي الملك المظفر ذهبت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب إلى دمشق وعاشت فيها حتى توفيت في سنة 643 وقد جاوزت ثمانين سنة، ودفنت في هذه المدرسة، وأدركت من محارمها ‏من الملوك من إخوتها وأولادهم أكثر من خمسين رجلا غير محارمها من غير الملوك، فإن إربل كانت لزوجها المذكور، والموصل لأولاد بنتها، ‏وخِلاط وتلك الناحية لابن أخيها الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل، وبلاد ‏الجزيرة الفراتية للأشرف ابن أخيها، وبلاد الشام لأولاد إخوتها، والديار المصرية والحجازية ‏واليمن لإخوتها وأولادهم.‏
و مظفر الدين كوكبوري أول من احتفل بالمولد النبوي، وقد جمع له أبو الخطّاب ابن دحية أخبار المولد، فأعطاه ألف دينار، وكان ينفق في كلّ سنة على الاحتفال بالمولد النبوي ثلاثمئة ألف دينار، وعلى الخانقاه مئتي ألف، وعلى دار المضيف مئة ألف، وعلى الأسارى مئتي ألف دينار، وفي الحرمين والسبيل ثلاثين ألف دينار.
قال ابن خلكان وقد كان والده في ديوانه: وأمّا احتفاله بالمولد، فإنّ الوصف يقصر عن الإحاطة به، كان الناس يقصدونه من الموصل، وبغداد، وسنجار، والجزيرة، وغيرها خلائق من الفقهاء والصّوفية والوعّاظ والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرّم إلى أوائل ربيع الأوّل، ثمّ تنصب قباب خشب نحو العشرين، منها واحدة له، والباقي لأعيان دولته، وكلّ قبة أربع خمس طبقات ثمّ تزيّن في أوّل صفر، ويقعد فيها جوق المغاني والملاهي وأرباب الخيال، ويبطل معاش الناس للفرجة.
وكان ينزل كلّ يومٍ العصر، ويقف على قبّة قبة، ويسمع غناءهم، ويتفرّج على خيالاتهم، ويبيت في الخانقاه يعمل السّماع، ويركب عقيب الصبّح يتصيّد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظّهر، هكذا يفعل كل يوم إلى ليلة المولد، وكان يعمله سَنةً في ثامن الشهر وسَنة في ثاني عشره للاختلاف الوارد في تاريخ المولد، فيخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً زائداً عن الوصف مزفوفة بالطّبول والمغاني إلى الميدان، ثمّ تنحر وتطبخ الألوان المختلفة، ثمّ ينزل وبين يديه الشّموع الكبيرة وفي جملتها شمعتان أو أربع من الشموع الموكبية التي تحمل كلّ واحدةٍ على بغلٍ يسندها رجل، حتّى إذا أتى الخانقاه نزل.
وإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة على أيدي الصّوفية في البقج، فينزل شيءٌ كثير، ويجتمع الرؤساء والأعيان وغيرهم، ويتكلّم الوعاظ، وقد نصب له برج خشب له شبابيك إلى النّاس وإلى الميدان وهو ميدان عظيم يعرض الجند فيه - يومئذٍ - ينظر إليهم تارةً وإلى الوعّاظ تارةً، فإذا فرغ العرض، مدّ السّماط في الميدان للصّعاليك وفيه من الطّعام شيء لا يحدٌ ولا يوصف، ويمدّ سماطاً ثانياً في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، ولا يزالون في الأكل ولبس الخلع وغير ذلك إلى العصر، ثمّ يبيت تلك الليلة هناك، فيعمل السّماعات إلى بكرة.
وقال: قال من حضر المولد مرّةً: عددت على السّماط مائة فرس قشلمش، وخمسة آلاف رأسٍ شوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبديّة، وثلاثين ألف صحن حلواء.
لم يكن لمظفر الدين ولد، ولم يجد من أولاد الملك العادل إعانةً على نوائبه كما كان هو لهم في حروبهم، فوصى بأربل وبلادها للخليفة المستنصر، فأخذ مفاتيح إربل وقلاعها وسار إلى بغداد وسلّم ذلك إلى المستنصر بالله في أول سنة 628 فاحتفلوا له، وجلس له الخليفة، ورفع له السّتر عن الشّبّاك فقبّل الكلّ الأرض ثمّ طلع إلى كرسيّ نُصب له وسلّم وقرأ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، فردّ عليه المستنصر السلام، فقبّل الأرض مراراً. فقال المستنصر: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ ثمّ أسبلت السّتارة، ثمّ خلعوا على مظفّر الدّين وقُلّد سيفين، ورفع وراءه سنجقان مذهّبة، ثم اجتمع بالخليفة يوماً آخر، وخلع أيضاً عليه، ثمّ أعطي راياتٍ وكوساتٍ - صنوجات من نحاس شبه الترس الصغير - وستّين ألف دينار، وخلعوا على خواصّه.
توفي بداره في البلد في إربل، ثم نقل إلى قلعتها ودفن بها، ثم حمل بوصية منه إلى مكة، شرفها الله تعالى، وكان قد أُعِدَ له بها قبة تحت الجبل في ذيله يدفن فيها، فلما توجه الركب إلى الحجاز سنة 631، فاتفق أن رجع الحاج تلك السنة من لينة، ولم يصلوا إلى مكة، فردوه ودفنوه بالكوفة بالقرب من المشهد، رحمه الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer