الجمعة، 18 يوليو 2014

حدث في العشرين من رمضان

 
في العشرين من رمضان من سنة 626 توفي في حلب، عن قرابة 50 عاماً، ياقوت بن عبد الله الرومي الحَمَويّ، أبو عبد الله، شهاب الدين، المؤرخ الثقة، وإمام الجغرافيين، ومن العلماء باللغة والأدب.
أصله من الروم، أُسِرَ من بلاده صغيرا، وابتاعه ببغداد تاجر اسمه عسكر بن إبراهيم الحموي، وإليه نُسِب، وكان مولاه عسكر لا يحسن الخط، ولا يعلم ‏شيئاً سوى التجارة، فجعله في الكُتّاب، لينتفع به في ضبط تجارته، وربّاه وعلمه وشغله بالأسفار في متاجره، ثم أعتقه سنة 596 وأبعده، فقرأ النّحو واللّغة، وعاش من نسخ الكتب بالأجرة، فحصل له اطّلاعٌ ومعرفة.
وعطف عليه مولاه بعد ذلك، فأعطاه شيئا من المال واستخدمه في تجارته فاستمر إلى أن توفي مولاه، فحصَّل شيئاً مما كان في يده، وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله، وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً.
وكان قد طالع كتب الخوارج، فوقر في ذهنه شيء منها على عليٍّ رضي الله عنه، ودخل دمشق سنة 613، فتناظر هو وإنسان، فبدا منه تنقّصٌ لعليّ رضي الله عنه، فثار النّاس عليه وكادوا يقتلونه، فهرب إلى حلب ثمّ إلى الموصل وإربل ودخل خراسان، واستوطن مرو وأقام يتجر، ثم انتقل إلى خوارزم، وبينما هو فيها خرج المغول سنة 616 فانهزم بنفسه، تاركاً ما يملك، وقاسى الشّدائد، ووصل إلى الموصل سنة 617 وقد تقطعت به الأسباب، وأعوزه دنيء المأكل وخشن الثياب، أقام بالموصل مدة مديدة، ثم انتقل إلى سنجار وارتحل منها إلى حلب.
وفي حلب لقي ياقوت كل ترحاب وتقدير من عالم كبير وجمّاعة للكتب نحرير هو الوزير الكبير الصاحب جمال الدين القاضي الأكرم أبو الحسنِ علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني القُفطي، الذي وضع مكتبته العامرة تحت تصرفه فتمكن من تأليف كتابه معجم البلدان، ، وأقام في خان بظاهرها إلى أن توفي.
وكان قد وقف كتبه على مسجد الزيدي الذي بدرب دينار ببغداد، وسلمها إلى الشيخ عز الدين أبي الحسن علي بن الأثير صاحب التاريخ الكبير، فحملها إلى هناك.
ولا تتوسع المراجع التي ترجمت له لأكثر مما ذكرت، وللدكتور الفاضل جورج خليل مارون كتاب حوله وحول كتابه معجم البلدان، ولكن لا يزال في الأمر زيادة لمستزيد، وأسأل الله أن يوفقني لذلك، ولمعرفة جوانب شخصيته ومسار حياته ومنهجه في التأليف لا بد من الرجوع إلى ثنايا كتبه والوقوف على ما ذكره عن نفسه ورحلاته ومطالعاته.
كانت لياقوت رحمه الله همة عالية في تحصيل المعارف، وكل طلبة العلم عيالٌ على كتبه الموسوعية التي يستغرق الأعمار تأليفها، والتي يعلم كل من طالعها واستفاد منها مكانة ياقوت من التأليف والبحث والتمحيص، ولا شك أنه وفق لمنهج سدس في عمل الجذاذات على الترتيب الأبجدي مكّنه من إخراج هذه الكتب، ومن أهم كتبه معجم الأدباء، ومعجم البلدان، ومن كتبه كذلك المشترك وضعاً والمفترق صقعاً، وهو مختصرٌ من معجم البلدان، والمقتضب من كتاب جمهرة النسب، والمبدأ والمآل في التاريخ، وكتاب الدول، وأخبار المتنبي، ومعجم الشعراء.
ومعجم الأدباء هو أحد أبرز مؤلفاته، تتبع فيه مؤلفات التواريخ، وجمع فيه تراجم المؤلفين والكتاب، وأسماه إرشاد الألبّاء إلى معرفة الأدباء ، ثم عرف باسم معجم الأدباء، قال رحمه الله في أوله:
وجمعتُ في هذا الكتاب ما وقع إلي من أخبار النحويين واللغويين والنسّابين والقراء المشهورين، والأخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة المعينة، وكل من صنف في الأدب تصنيفاً أو جمع فيه تأليفاً، مع إيثار الاختصار والإعجاز في نهاية الإيجاز، ولم آل جهداً في إثبات الوفيات، وتبيين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم، والإخبار بأنسابهم وشيء من أشعارهم، في تردادي إلى البلاد ومخالطتي للعباد، وحذفت الأسانيد إلا ما قلّ رجالُه وقرب منالُه، مع الاستطاعة إثباتها سماعاً وإجازة، إلا أنني قصدت صغر الحجم وكبر النفع، وأثبتُّ مواضع نقلي ومواطن أخذي من كتب العلماء المعوِّل في هذا الشأن عليهم، والرجوع في صحة النقل إليهم.
وكتابه المهم الثاني هو معجم البلدان، الذي أورد فيه أسماء البلدان وصفاتها ومن ينتسب إليها، وخاتمته تنبئ عن أخلاقه وفضله، قال في نهايته:
قال عبيد الله الحقير مؤلف هذا الكتاب: إلى ها هنا انتهى بنا ما أردنا جمعه، وتيسر لنا وضعه، من كتاب معجم البلدان، بعد أن لم نأل جهداً في التصحيح والضبط والإتقان والخط، ولا أدعي أنني لم أغلط، ولا أشمخ بأنني لم أك في عشواء أخبط، والمقر بذنبه يسأل الصفح، فإن أصبت فهو بتوفيق الله تعالى، وإن أخطأت فهو من عوائد البشر.
فلما لم أنته من هذا الكتاب إلى غاية أرضاها، وأقف منها عند غَلْوة - مقدار رمية السهم - على تواتر الرشق أقول هي إياها، ورأيت تعثُّرَ قمر ليل الشباب بأذيال كسوف شمس المشيب وانهزامه، وولوجَ ربيع العمر على قيظ انقضائه بأمارات الهرم واقتحامه، استخرت الله تعالى ذا الطَول والقوة ووقفت ها هنا راجياً نيل الأمنية، بإهداء عروسه إلى الخُطّاب قبل المنية، وخفت الفوت، فسابقت بإبرازه الموت، وإنني بانهزام العمر قبل إبرازه إلى المبيضة لـجِدُّ حَذِرْ، ولفلول حد الحرص لعدم الراغب والمحرض عليه منتظر، وكيف ثقّتي بجيش بيَّتته من كتائب الأمراض المبهمة حواطمُ المَقانب أي المصائد المميتة-  أو أركن إلى صباح ليل أمسيت وقد اعترضتني فيه الأعراض من كل جانب، ومع ذلك فإنني أقول ولا أحتشم، وأدعو إلى النزال كل بطل في العلم عَلَم ولا أنهزم: إن كتابي هذا أوحدٌ في بابه، مؤمرٌ على جميع أضرابه وأترابه، لا يقوم لمثله إلا من أُيّد بالتوفيق، وركب في طلب فوائده كل طريق، فغار وأنجد، وتقرب فيه وأبعد، وتفرغ له في عصر الشباب وحرارته، وساعده العمر بامتداده وكفايته، وظهرت عليه علامات الحرص وأماراته.
نعم، وإن كنت أستصغر هذه الغاية فهي كبيرة، وأستقلها فهي لعمر الله كثيرة، وأما الاستيعاب فأمر لا تفي به طِوال الأعمار، ويحول دونه مانعاً العجز والبوار، فقطعتُه والعين طامحة، والهمة إلى طلب الازدياد جامحة، ولو وثِقت بمساعدة العمر وامتداده، وركَنتُ إلى أن يعضدني التوفيق لبغيتي منه واستعداده، لضاعفت حجمه أضعافاً، وزدت في فوائده مئين بل آلافاً، وخير الأمور أوساطها، ولو أردت نفاق هذا الكتاب وسيرورته، واعتمدت إشاعة ذكره وشهرته، لصغّرتُه بقدر الهمم العصرية، ورغبات من يراه من أهل الهمم الدنية، ولكنني انقدت فيه لنَهمتي، وجررت رَّسني له بقدر همتي، وسألت الله أن لا يحرمنا ثواب التعب فيه، ولا يكلنا إلى أنفسنا فيما نعمله وننويه، بمحمد وآله وأصحابه الكرام البررة.
وقال المؤلف رحمه الله: وكان فراغي من هذه المسودة في العشرين من صفر سنة 621 بثغر حلب، وأنا أسأل الله الهدايةَ إلى مَراضيه، والتوفيقَ لمحابّهِ بمنّه وكرمه.
كان ياقوت الحموي غزير الفضل، صحيح النقل، متحرياً صدوقاً، له النظم الحسن والنثر الجيد، وأورد فيما يلي طرفاً من رسالة طويلة كتبها إلى القاضي الأكرم جمال الدين علي بن يوسف الشيباني القفطي في حلب يصف فيها رحلته إلى مرو بخراسان ثم ما جرى عليه بعد المغول:
وقد كان المملوك لما فارق الجناب الشريف، وانفصل عن مقر العز اللُّباب والفضل المنيف، أراد استعتاب الدهر الكالح، واستدرارَ خِلْفِ ثدي - الزمن الغشوم الجامح، اغتراراً بأن الحركة بركة، والاغتراب داعية الاكتساب، والمقام على الإقتار ذل وإسار، وجليس البيت، في المحافل سكِّيت:
وقفتُ وقوف الشك ثم استمر بي ... يقيني بأن الموت خير من الفقرِ
تودعت من أهلي وبالقلب ما به ... وسرت عن الأوطان في طلب اليُسر
وباكيةٍ للبين قلت لها اصبري ... فلَلموتُ خير من حياة على عُسر
سأكسِبُ مالاً أو أموتُ ببلدةٍ ... يقلُّ بها فيض الدموع على قبري
فامتطى غارب الأمل إلى الغربة، وركب مركب التطواف مع كل صحبة، قاطعاً الأغوار والأنجاد، حتى بلغ السد أو كاد، فلم يَصحَب له دهرُه الحرون، ولا رقَّ له زمانه المفتون.
وكان المقام بمرو الشاهجان، المفسر عندهم بنَفَس السلطان، فوجد بها من كتب العلوم والآداب، وصحائف أولي الأفهام والألباب، ما شغله عن الأهل والوطن، وأذهله عن كل خِلٍّ وصفيٍّ وسَكَن، فظفر منها بضالته المنشودة، وبُغية نفسه المفقودة، فأقبل عليها إقبال النهم الحريص، وقابلها بمُقام لا مُزمِعٍ عنها ولا مَحيص، فجعل يرتع في حدائقها، ويستمتع بحسن خلقها وخلائقها، ويسرح طَرْفه في طُرَفها، ويتلذذ بمبسوطها ونُتَفِها، واعتقدَ المُقام بذاك الجناب، إلى أن يجاور التراب.
فجاس خلال تلك الديار أهل الكفر والإلحاد، وتحكم في تلك الأبشار أولو الزيغ والعناد، فأصبحت تلك القصور، كالممحو من السطور، وأمست تلك الأوطان، مأوى الأصداء والغربان، تتجاوب في نواحيها البوم، وتتناوح في أراجيها الريح السَّموم، ويستوحش فيها الأنيس، ويرثي لمصابها إبليس.
فإنا لله وإنا إليه راجعون من حادثة تقصم الظهر، وتهدم العمر، وتفت في العَضُد، وتوهي الجلَدَ، وتضاعف الكمد، وتشيب الوليد، وتسود القلب، وتذهل اللب.
فحينئذ تقهقر المملوك على عقبه ناكسا، ومن الأوبة إلى حيث يستقر في النفس بالأمن آيسا، بقلب واجب، ودمع ساكب، ولُبٍّ عازب، وحِلم غائب، وتوصل وما كاد حتى استقر بالموصل بعد مقاساة أخطار، وابتلاء واصطبار، وتمحيص الأوزار، وإشراف غير مرة على البوار والتبار، لأنه مر بين سيوف مسلولة، وعساكر مفلولة، ونظام عقود محلولة، ودماء مسكوبة مطلولة، وكان شعاره كلما علا قَتبا، أو قطع سبسبا ﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾، فالحمد لله الذي أقدرنا على الحمد، وأولانا نعماً تفوت الحصر والعد
تنَكَّر لي دهري ولم يدر أنني ... أعِزُّ وأحداث الزمان تهونُ
وبات يريني الخَطبَ كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكون
والمملوك الآن بالموصل مقيم، يعالج لما حَزَبَه من هذا الأمر المُقعِدِ المقيم، يزجي وقته، ويمارس حرفته، وبَخْتُه يكاد يقول له باللسان القويم ﴿ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ﴾، يذيب نفسه في تحصيل أغراض، هي لعمر الله أعراض، من صحف يكتبها، وأوراق يستصحبها، نَصَبُه فيها طويل، واستمتاعه بها قليل ثُم الرحيل، وقد عزم بعد قضاء نهمته، وبلوغ بعض وَطَرِ قَرُونته - أي نفسه - أن يستمد التوفيق، ويركب سَّنن الطريق، عساه أن يبلغ أمنيته، فقد ضعفت قواه عن دَرَك الآمال، وعجز عن معاركة الزمان والنزال، إذ ضمت البسيطة إخوانه، وحجب الجديدان أقرانه، ونزل المشيب بعِذاره، وضعُفت منه أوطارُه، وانقض بازٌ على غراب شبابه فقنصَه، وأكبَّ نهار الحِلم على ليل الجهل فوقصه، واستعاض من حلة الشباب القشيب، خُلُق الكِبَر والمشيب:
وشبابٍ بانَ مني وانقضى ... قبل أن أقضيَ منه أَرَبي
ما أُرجّي بعده إلا الفنا ... ضيّق الشيبُ عليّ مَطلبي
ولقد ندب المملوك أيام الشباب بهذه الأبيات، وما أقل غَناء الباكي على من عُدَّ في الرفات:
تنكر لي مذ شِبْتُ دهري وأصبحت ... معارفُه عندي من النكراتِ
إذا ذكرَتها النفسُ حنَّت صَبابةً ... وجادت شؤونُ العين بالعبرات
إلى أن أتى دهر يُحسِّنُ ما مضى ... ويوسعني تذكارُه حسرات
فكيف ولم يبق من كأس مشربي ... سوى جُرَع في قعره كَدِرات
وكل إناء صفْوُهُ في ابتدائه ... وفي القعر مزجاً حَمأةٍ وقَذاة
رحمه الله رحمة واسعة.        
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer