الثلاثاء، 22 يوليو 2014

حدث في الرابع والعشرين من رمضان

في الرابع والعشرين من رمضان من سنة 354، قُتل، عن 51 عاماً، أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين الجُعفي الكوفي الكِندي، أحد أعلام الشعر العربي، له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة.
ولد بالكوفة في محلة تسمى كِندة وإليها نسبته، ونشأ بالشام، وكان منذ نعومة أظفاره يحب العلم والأدب، ، فتنقل في البادية وصحب الأعراب يطلب الأدب وعلم العربية وأيام الناس، فجاء بعد سنين بدوياً قحاً، وكان تعلم الكتابة والقراءة، وقال الشعر صبياً حتى طُبِع فيه للغاية، وفاق أهل عصره، ومدح الملوك، وسار شعره في الدنيا حفظاً وشرحاً ونقداً ما لم يكن لشاعر قبله ولا بعده.
وكان يتمتع بذاكرة عجيبة، وحدّث أحد الوراقين الذين كان يجلس إليهم، قال: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى! قيل له: كيف؟ قال: كان اليوم عندي، وقد أحضر رجل كتاباً من كتب الأصمعي، نحو ثلاثين ورقة، ليبيعه، فأخذ الفتى ينظر إليه طويلاً.
فقال له الرجل: يا هذا، أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك، وإن كنت تريد حفظه، فهذا إن شاء الله يكون بعد شهر. فقال له: فإن كنت قد حفظتُه في هذه المدة، ما لي عليك؟ قال: أهب لك الكتاب. فأخذ المتنبي الدفتر من يده، فأقبل يتلوه عليه إلى آخره، ثم استلمه، فجعله في كمه، فقام صاحبه وتعلق به، وطالبه بالثمن. فقال: ما إلى ذلك سبيل قد وهبتَه لي. ومنعه الوراقون منه، وقالوا له: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام. فتركه عليه.
وتنبأ في بادية السماوة - بين الكوفة والشام - فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه.
وفد المتنبي سنة 337 على سيف الدولة الحمداني، علي بن عبد الله المتوفى سنة 356 عن 53 عاماً، وكان صاحب حلب فمدحه وحظي عنده، وكان لسيف الدولة مجلس يحضره العلماء كل ليلة فيتكلمون بحضرته، فوقع بين المتنبي وبين ابن خالويه النحوي كلام، فوثب ابن خالويه على المتنبي فضرب وجهه بمفتاح كان معه، فشجه وخرج ودمه يسيل على ثيابه، فغضب وخرج إلى مصر، وذلك في سنة 346.
وفي مصر مدح  المتنبي كافوراً الإخشيدي، وطلب منه أن يوليه، فلم يولِّه كافور، فغضب أبو الطيب وانصرف يهجوه الهجاء المقذع المرير، وكان مقامه في مصر قرابة 4 سنوات.
وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه خافه فأعرض عن تعيينه، وعوتب فيه فقال: يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أما يدعي المملكة مع كافور؟! فحسبُكم.
وكان أبو الفتح ابن جني النحوي قد قرأ ديوان أبي الطيب المتنبي عليه، فقال: فقرأت عليه قوله في كافور القصيدة التي أولها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجبُ
حتى بلغت إلى قوله:
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... ولا اشتكي فيها ولا أتعتب
وبي ما يذود الشعر عني أقله ... ولكن قلبي يا ابنة القوم قُلُب
فقلت له: يعزُّ عليَّ، كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة؟ فقال: حذَّرناه وأنذَّرناه فما نفع، ألستُ القائل فيه:
أخا الجود، أعطِ الناسَ ما أنتَ مالكٌ ... ولا تُعطِينَّ الناس ما أنا قائلُ
فهو الذي أعطاني كافوراً بسوء تدبيره وقلة تمييزه.
وقصد المتنبي بلاد فارس، وكانت تشهد نهضة أدبية لا مثيل لها، برعاية حكامها من آل بويه ووزرائهم، فمر بأرجان ومدح فيها الوزير ابن العميد، علي بن محمد المتوفى سنة 366 عن 29 عاماً، وكانت له معه مساجلات، وقيل إنّه وصل إليه منه ثلاثون ألف دينار، ورحل إلى شيراز فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي، وكان عضد الدولة عالماً بالنحو واللغة والأدب والشعر، استقطب العلماء والأدباء، فوصله بثلاثين ألف دينار، ففارقه على أن يمضي إلى الكوفة يحمل عياله ويجيء، فلما فارق أرض فارس حسب أن السلامة تستمر به كاستمرارها في مملكة عضد الدولة، ولم يقبل ما أشير به عليه من الاحتياط باستصحاب الخفراء، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضا، فاقتتل الفريقان، فقُتل أبو الطيب وابنه مُحَسَّد وغلامه مفلح، بالنعمانية، بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد.
كان لمقتل المتنبي وقع الصاعقة على أهل الأدب وجماعة الشعر، فطفقوا يتساءلون كيف قُتِل مالئ الدنيا وشاغل الناس؟ وجاءهم الجواب أن لسانه وكبرياءه سعيا في قتله وأورداه رداه، قال الشاعران الخالديان محمد وسعيد ابنا هاشم بن وعكة: كتبنا إلى أبي نصر محمد الجبلي نسأله عما صدر لأبي الطيب المتنبي بعد مفارقته عضد الدولة، وكيف قتل؟ وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية، وله فضل، وأدب جزل، وحرمة، وجاه، فأجابنا عن كتابنا جوابا طويلاً يقول في أثنائه: وأما ما سألتما عنه من خبر مقتل أبي الطيب المتنبي فأنا أسوقه لكما، وأشرحه شرحاً بيناً: اعلما أنه قتل بضيعة تقرب من دير العاقول، والذي تولى قتله، وقتل ابنه وغلامه، رجلُ من بني أسد يقال له فاتك بن أبي جهل بن فراس ابن بداد، وكان من قوله لما قتله وهو متعفر: قبحاً لهذه اللحية يا سبَّاب. وسبب ذلك أن فاتكا هذا خال ضبة بن يزيد العيني الذي هجاه أبو الطيب بقوله:
ما أنصفَ القومُ ضبَّهْ ... وأمَّه الطرطُبَّهْ
وما يشق على الكلب أن يكون ابن كلبه
فيقال إن فاتكا داخلته الحمية لما سمع ذكرها بالقبح في هذا الشعر، وما للمتنبي أسخف من هذا الشعر، ولا أوهي كلاماً، فكان مع سخافته وركاكته سبب قتله، وقتل ابنه وغلمانه وذهاب ماله.
وأما شرح الخبر فإن فاتكا صديق لي، وهو كما سُمِّيَ فاتك، لسفكه الدماء، وإقدامه على الأهوال في مواقف القتال، فلما سمع الشعر الذي هُجِىَ به ضبة اشتد غضبه، ورجع على ضبة باللوم، وقال له: كان يجب ألا تجعل لشاعر عليك سبيلاً، وأضمر غير ما أظهر، واتصل به انصراف المتنبي من بلاد فارس، وتوجهه إلى العراق، وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول، فلم يكن ينزل عن فرسه، ومعه جماعة من بني عمه رأيهم في المتنبي مثل رأيه؛ من طلبه واستعلام خبره من كل صادر ووارد، وكان فاتك خائفاً أن يفوته، وكان كثيراً ما ينزل عندي، فقلت له يوماً وقد جاءني وهو يسائل قوماً مجتازين عن المتنبي: قد أكثرت المسألة عن هذا الرجل، فأي شيء تريد منه إذا لقيته؟ فقال: ما أريد إلا الجميل، وعذْلَه على هجاء ضبة، فقلت له: هذا لا يليق بأخلاقك، فتضاحك ثم قال: يا أبا نصر والله لئن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقعة لأسفكن دمه، ولأمحقن حياته، إلا أن يحال بيني وبينه! قلت له: كف - عافاك الله - عن هذا القول، وارجع إلى الله، وأزل هذا الرأي عن قلبك، فإن الرجل شهير الاسم، بعيد الصيت، ولا يحسن منك قتله على شعر قاله، وقد هجت الشعراءُ الملوك في الجاهلية، والخلفاء في الإسلام، فما سمعنا بشاعر قتل بهجائه، وقد قال الشاعر:
هجوتُ زهيراً ثم إني مدحتهُ ... وما زالتِ الأشرافُ تُهجى وتُمدحُ
ولم يبلغ من جرمه ما يوجب قتله، فقال: يفعل الله ما يشاء وانصرف.
ولم يمض لهذا القول غير ثلاثة أيام حتى وافاني المتنبي، ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب، والتجملات النفيسة، والكتب الثمينة والآلات، لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهماً، ولا شيئاً يساويه، وكان أكثر إشفاقه على دفاتره، لأنه كان قد انتخبها، وأحكمها قراءة وتصحيحاً.
قال أبو نصر: فتلقيته، وأنزلته داري، وسألته عن أخباره، وعمن لقى، فعرَّفني من ذلك ما سررت به له، وأقبل يصف ابن العميد وفضله وأدبه وعلمه، وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب، وميله إلى أهله، فلما أمسينا قلت له يا أبا الطيب: على أي شيء أنت مجمع؟ قال: على أن أتخذ الليل مركباً، فإن السير فيه يخف على. قلت: هذا هو الصواب. رجاء أن يخفيه الليل، ولا يصبح إلا وقد قطع بلداً بعيداً، وقلت له: والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخفية جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد، فقطب وجهه وقال: لم قلت هذا القول؟ فقلت: لتستأنس بهم. فقال أما والجراز في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره! قلتُ: الأمر كما تقول، والرأي في الذي أشرت به عليك، فقال: تلويحك ينبي عن تعريض، وتعريضك ينبي عن تصريح، فعرِّفني الأمر، وبيِّن لي الخطب، قلت: إن هذا الجاهل فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام، وهو غير راض عنك، لأنك هجوت ابن أخته ضبة، وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ، ومعه أيضاً نحو العشرين من بني عمه، قولهم مثل قوله، فقال غلام أبي الطيب وكان عاقلا: الصواب ما رآه أبو نصر، خذ معك عشرين رجلا يسيرون بين يديك إلى بغداد.
فاغتاظ أبو الطيب من غلامه غيظاً شديداً، وشتمه شتما قبيحاً، وقال: والله لا أرضي أن يتحدث الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. قال أبو نصر فقلت يا هذا أنا أوجه قوماً من قبلي في حاجة يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك فقال: والله لا فعلت شيئاً من هذا، ثم قال: يا أبا نصر: أبخرء الطير تخشيني؟ ومن عبيد العصا تخاف على؟ والله لو أن مِـخْصَرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون بخمس وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات ما جَسَرَ لهم خف ولا ظلف أن يرده. معاذ الله أن اشغل فكري بهم لحظة عين. فقلت له: قل إن شاء الله، فقال: هي كلمة مقولة لا تدفع مقضياً ولا تستجلب آتيا! ثم ركب، فكان آخر العهد به.
ولما صح عندي خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلمانه، وذهبت دماؤهم هدراً.
ورثاه أبو القاسم مظفّر بن علي الزوزني بقوله:
لا رعى الله سِربَ هذا الزمان ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسان
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزّمان
كان من نفسه الكبيرة في جيش وفي كبرياءِ ذي سلطان
هو في شعره نبيٌ، ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
واعتنى العلماء بديوان المتنبي فشرحوه، وله أكثر من أربعين شرحاً ما بين مطولات ومختصرات، ولم يحصل هذا لديوان غيره، ومن أشعاره التي سارت في كل مكان وجرت على كل لسان:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلتُ شعراً أصبح الدهر منشدا
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرَّدا
والظُّلم من شيم النُّفوس فإن تجد ... ذا عفَّةٍ فلعلَّةٍ لا يظلم
 
لا تشتري العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد

وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا

لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يُفقِرُ والإقدام قتّال

آلة العيش صحةٌ وشباب ... فإذا وليّا عن المرء ولّى

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer