الاثنين، 14 يوليو 2014

حدث في السادس عشر من رمضان

في السادس عشر من رمضان من سنة 394 عيَّن الخليفةُ الفاطمي الحاكم بأمر الله القاضيَ عبدَ العزيز بن محمد بن النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حَيّون القيرواني المغربي الإسماعيلي في منصب قاضي القضاة في الدولة الفاطمية، وهو سليل أسرة عريقة في خدمة الدولة الفاطمية العبيدية، وقصة تعيين القاضي ثم إعفائه ثم قتله تعطي فكرة جيدة عن التخبط ونزعة القتل الذين سادا في الدولة العبيدية الفاطمية في عهد الحاكم بأمر الله.
وكان القاضي بمصر قبل الدولة الفاطمية هو المحدث أبو الطاهر الذُّهْلِي البصري المالكي، محمد بن أحمد المتوفى سنة 367 عن 88 عاماً، وأصله من البصرة، وولي القضاء في العراق ثم جاء إلى مصر فعينه كافور الإخشيدي بها قاضياً سنة 348، ولما انتهى أمر الدولة الإخشيدية وجاء المعز لدين الله إلى مصر في سنة 362، اجتمع المعز بأبي الطاهر، فأعجب به، وأقره على منصبه، وأشرك معه النعمان بن محمد جد القاضي وكان قاضي عسكره، وكان مالكي المذهب ثم انتقل إلى مذهبه، وله مؤلفات في الفقه والدعوة الفاطمية، وله ردود على المخالفين: له رد على أبي حنيفة وعلى مالك والشافعي وعلى ابن سريج، وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت، وله القصيدة الفقهية لقبها بالمنتخبة.
ثم مات النعمان سنة 363 فأمر المعزُ عليَّ بن النعمان ابنه بالنظر في الحكم، وكان يحكم هو وأبو الطاهر، وكان ِفي سجل تعيين عليٍّ: إذا دعي أحدُ الخصمين إِليك ودعي الآخر إِلى غيرك، رُدا جميعاً إِليك، فعرف أبو الطاهر أن ذَلِكَ إشارة إِلَى منعه، فامتنع من يومئذ حين بلغه، وأراد بعض أهل البلد أن يستصدر مرسوماً لأبي الطاهر بأن ينظر ِفي الحكم على حاله، وبلغ ذلك أبا الطاهر فامتنع وقال: ما أفعل، وَمَا بي طاقة. وتوفي المعز سنة 365 وتولى ابنه العزيز بالله، وأصيب أبو الطاهر بشلل نصفي وصار يحمل في محفة، فلقيه العزيز بالله على تلك الحالة محمولاً، وسأله القاضي أن يأذن له في استخلاف ولده أبي العلاء نيابة عنه بسبب ما به من الضعف، فقال العزيز وقد رآه نحيلاً جداً: مَا بقي إِلاَّ أن تقدّدوه! ثم صرفه وعيَّن علي بن النعمان عم القاضي محمد وذلك في سنة 366.
فركب عليّ بن النعمان إلى الجامع الأزهر فِي جمع كثير، وعليه خلعة مُقلَّداً سيفاً، وبيد يديه خلع فِي مناديل عدتا سبعة عشر، وقرئ سجله بالجامع وهو قائم على قدميه، فكلما مر ذكر المعز أو أحد من أهله أومأ بالسجود، ثم توجه إلى الجامع العتيق بمصر فوجد الخطيب ينتظره بالجامع، وَقَدْ كاد الوقت أن يخرج، فصلى الجمعة وقرأ أخوه محمد عهده، وفيه أنه ولي القضاء على مصر وأعمالها، والخطابة والإِمامة والقيام في الذهب والفضة، والموازين والمكاييل، ثم انصرف إلى داره فركب إِليه جماعة الشهود والأمناء، والتجار ووجوه البلد، ولم يتأخر عنه أحد، وانبسطت يد علي بن النعمان في الأحكام، واستخلف أخاه محمداً، والحسن بن خليل الفقيه الشافعي، وشرط عليه أن يحكم بمذهب الإسماعيلية لا بمذهب الشافعي.
ثم توفي علي بن النعمان في سنة 374،  فعين العزيز أخاه محمد بن النعمان والد القاضي عبد العزيز، وقُرئ عهده في الجامع بعد صلاة الجمعة بالقضاء على الديار المصرية والإِسكندرية والحرمين وأجناد الشام، وفُوّض إليه الصلاة وعيار الذهب والفضة والمواريث والمكاييل، وذكر العزيز في سجِلّه أبوه وأخوه فأثنى عليهم.
واستخلف محمد بن النعمان ابن أخيه الحسين بن علي بالجامع في الحكم، ثم صرفه و عين ابنه عبد العزيز، وكان محمد بن النعمان يصلح لهذا المنصب، قال عنه ابن زولاق في أخبار قضاة مصر: ولم نشاهد بمصر لقاض من القضاة من الرياسة ما شاهدناه لمحمد بن النعمان، ووافق ذلك استحقاقاً، لما فيه من العلم والصيانة والتحفظ وإقامة الحق والهيبة.
وكان القاضي محمد بن النعمان خبيراً بالأحكام حسن الأدب والمعرفة بأيام الناس، نبيهاً في ما يرد عليه من قضايا، تقدمت إليه امرأة طالبت زوجها بحقها فامتنع من دفعه لها، فسألت القاضي أن يحبسه فأمر بذلك، ثم نظر إليها فوجدها جميلة وظهر عليها السرور، فلما توجه الزوج إلى الحبس أمر القاضي بحبسها مع زوجها، فغضبت، فقال لها: حبسناه لحقكِ ونحبسكِ لحقّه. فلما تحققت ذلك أفرجت عنه، فلما توجهت قال القاضي: رأيتها فرِحتْ بحبسه فخشيت أنها تخلو بنفسها لغيبة زوجها.
وزوج القاضي محمد بن النعمان ابنه عبد العزيز من ابنة القائد جوهر الصقلي في سنة 375 وتم العقد في مجلس العزيز بالله، وكان الصداق ثلاثة آلاف دينار.
وفي سنة 386 توفي العزيز بالله، وتولى الخلافة الحاكمُ بأمر الله، وعمره آنذاك 11 عاماً، ثم توفي محمد بن النعمان في سنة 389، وركب الحاكم إلى داره بالقاهرة، وصلى عليه فيها ووقف على دفنه ثم انصرف إلى قصره، ثم ولَّى الحاكم بأمر الله ابنَ أخي القاضي الحسينَ بن علي بن النعمان، وقلده سيفا وخلع عليه ثياباً بيضاء ورداء وعمّمه بعمامة مذهبة، وقرئ عهده بولاية القضاء بالقاهرة ومصر والإسكندرية والشام والحرمين والمغرب وأعمال ذلك، وأضيفت إليه الصلاة والحسبة فركب إلى الجامع، واستخلف على الحكم الحسين بن محمد بن طاهر بمصر، وبالقاهرة مالك ابن سعيد الفارقي، وأقام النعمان أخاه في النظر في المعيار، فأضاف إليه قضاء الإسكندرية. وكان الحسين فقيهاً في أئمة الشيعة العبيديين، وكان الناس يظنون أنه لا يتولى القضاء لضعف حاله، وأن الولاية إنما هي لعبد العزيز بن محمد ابن عمه لـمّا كان أبوه قدمه في الحكم في حياته وهذَّبه ودربه.
ثم رفع جماعة من الناس للقاضي الجديد أن لهم ودائع مودعة لدى القاضي المتوفى، فأحضر القاضيُ ابنَ عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان، وكاتبَ عمه، وسألهما عن ذلك، فذكرا له أن عمه تصرف في ذلك كله على سبيل القرض، فأنكر عليهما ذلك، واشتد في المطالبة، وألزم عبد العزيز ببيع ما خلفه أبوه، فاستدعى القاضي أصحاب الحقوق فوفاهم حقوقهم، وقرر في زقاق القناديل موضعاً لودائع القضاة، وأقام خمسة من الشهود يضبطون ما يحضر ويصرف، وهو أول من أفراد للمودع الحكمي مكاناً معيناً، وكانت الأموال قبل ذلك تودع عند القضاة أو أمنائهم.
وباشر الحسين بصرامة ومهابة، وتقدم إليه شخص في خصومة، فزلَّ لسانه بشيء خاطب به القاضي فأغضبه. فأرسل إلي والي الشرطة، فضربه ألفاً وثمانمئة دُرَّة، وطيفَ به فمات من يومه، وأخرجت جنازته فحضرها أكثر أهل البلد، وكرموا قبره، والدعاء له، وعلى من ظلمه. وندم القاضي على ما فعل، وفاته الندم.
وفي سنة 393 أذِنَ الحاكم بأمر الله لعبد العزيز بن محمد بن النعمان أن يجلس للقضاء ويسمع الدَّعْوَى والبينة، مع استمرار الحسين بن علي بن النعمان على وظائفه، فرتب عبد العزيز له مساعدين يحضرون مجلسه، وشرط عليهم ألا يحضروا مجلس ابن عمه، فبقي الناس في أمر مَريج، فمن رفع قِصة إلى الحسين رفع غريمه قصة إلى عبد العزيز، وإذا حضر عبد العزيز إلى الجامع تخلو دار الحسين، فكثر الكلام في ذلك والخوض فيه، فكتب الحاكم بخطه سجلاً أنه لم يأذن لغير الحسين أن يشارك الحسين فيما فُوِضَ إليه، وأمر بأن يمنع من يُسَجَل علي غيره في شيء من الأحكام، وأن من دعا أحداً من الخصوم، وكان قد سبق إلى الحسين فلا يُمكِن أحداً منه، وقرئ هذا السجل على الملأ، وانشرح خاطر القاضي بذلك.
ثم لم يشعر الحسين وهو بداره في أواخر سنة 394 إلا وقد دخل عليه من أخبره أن ابن عمه عبد العزيز ولي القضاء، فأنكر ذلك إلى أن تحقق، فأغلق بابه ولزم بيته، واشتد خوفه، ثم أمر الحاكم به في أول سنة 395 فأُحضر على حمار نهاراً، وضربت عنقه هو وأبو الطاهر المغازلي، ومؤذن القصر، وأحرقت جثث الثلاثة عند باب الفتوح بالقاهرة.
قالوا: وكان من أسباب قتله قصة الرجل الذي ضربه والى الشرطة فمات، وكذلك أن الحاكم كان قد ملأ عينه ويده، وأمر أن يضعَّف للحسين أرزاق عمه وصلاته وإقطاعاته، وشرط عليه العفة عن أموال الناس، وألا يتعرض من أموال الرعية لدرهم فما فوقه، فرفع شخص متظلم إلى الحاكم رقعةً يذكر فيها أن أباه مات، وترك له عشرين ألف دينار، وأنها كانت في ديوان القاضي حسين، وكان ينفق عليه منها مدة معلومة، فحضر يطلب من ماله شيئاً فأعلمه القاضي أن الذي له نفد، فاستدعى الحاكمُ القاضيَ فدفع إليه الرقعة، فأجابه بما قال للرجل، وأن الذي خلفه أبوه استوفاه من نفقته، فأمر الحاكم بإحضار ديوان القاضي في الحال، فأحضر ففتش فيه عن مال الرجل، فظهر أنه إنما وصل إلى القليل منه، ووجد أكثره باقٍ، فعدد على القاضي ما كتبه له وأجراه عليه، وإكرامه إياه، وما شرط عليه من عدم التعرض لأموال الرعية، فجزع وهاله ذلك، وقال: العفو وأتوب. وانصرف بالرجل فدفع إليه ماله وأشهد عليه. فحقد الحاكم عليه ذلك، فأمر به فحبس، ثم أخرج بعد ذلك على حمار نهاراً، والناس ينظرون إلى أن ساروا به إلى المنظرة، فضربت عنقه، وأحرقت جثته، وكانت ولايته القضاء خمس سنوات ونصف السنة.
تولى عبد العزيز بن محمد بن النُّعمان القضاء سنة 394 وقد قارب الأربعين من عمره، وأضيف إِليه النظر في المظالم، ولم يجتمعا قبله لأحد من أهله، وخُلعت عليه الخلع على العادة، ودخل إلى الجامع فحضر في موكب حَفِلٍ، وقرئ تقليده على المنبر وجاء فيه: قاضي القضاة عبد العزيز، قاضي عبد الله ووليه منصور أبي علي، الإِمام الحاكم الأمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين - على القاهرة المُعِزِية ومصر والإِسكندرية والحرمين وأجناد الشام والرحبة والبرقة والمغرب وأعمالها، وما فتحه الله وما يسَّر فتحه لأمير المؤمنين من بلدان المشرق والمغرب.
وكان عبد العزيز - كآل بيته - عالماً بالفقه على مذهب الإِمامية العبيدية، ولا غرو فجده النعمان رأس فقهائهم، وألّف وابنه علي من بعده الكتاب المسمى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم في أصول الدين، وقد رد على هذا الكتاب القاضي أبو بكر الباقلاني، ووصفه ابن كثير بأن: فيه من الكفر ما لا يصل إبليس إلى مثله! وفوض الحاكم بأمر الله إلى عبد العزيز النظر في تركة حسين بن علي بن النعمان بعد قتله.
وكان أول أحكام عبد العزيز أنه أوقف جميع الشهود الذين قبلِهم ابن عمه الحسين، واستخلف غيرهم ممن يرضاهم، فلازم الشهودُ الذين لَمْ يقبلهم بابَه، فأرسل إليهم أنه قد كثر تطارحكم عليَّ وتشفعكم في قبول الشهادة، فيلزم كل واحد منكم شغله، فمن احتجت إلى شهادته منكم أنفذت إليه. فانصرَفوا عنه، فلما كان بعد شهرين طلبهم واستحلفهم أنهم مَا كانوا سَعوا فِي طلب الشهادة عند ابن عمه ولا رشوه ولا غرّوا لَهُ، فحلفوا على ذلك فقبلهم. ومن أول ما فعله هو الإنكار على الكتاب ومن يجري مجراهم في أخذ شيء من البراطيل ونحوها.
وقرَّب الحاكمُ بأمر الله القاضيَ عبدَ العزيز قرباً لم يسبقه إليه أحد، وأصعده معه على المنبر في الجُمع والأعياد على العادة، وجعله من خاصته في مجالسه الحاكم وخروجه، فاحتاج القاضي إلى الإذن لولده القاسم الأكبر في الحكم بالجامع وكان يجلس فيه لسماع الأحكام، والفصل بين الخصوم، وصار الناس يترددون في أمورهم منه إلى أبيه ومن أبيه إليه، وامتدت يد القاضي عبد العزيز في الأحكام وعلت منزلته، وارتفعت كلمته وتعزز على جميع أهل الدولة، واتفق أن بعض الكُتاميين من البربر كان عليه حق فامتنع من أدائه، وكان عنده شدة بأس وعجرفة، فرُفِعَ أمره إلى القاضي، فأنفذ إليه رسولاً فأهانه، فرفع الأمر للحاكم فأمر بإحضار الكتامي مسحوباً إلى القاضي بمصر، ثم أحضر إلى القاهرة ماشياً، وألزم بالخروج مما عليه.
وعهِدَ الحاكم للقاضي عبد العزيز بكثير من المهام، وقدَّمه في الصلاة على جماعة من أوليائه، جرت العادة بأنه لا يصلى عليهم إلا الخليفة، وأوكل إليه النظر على دار العلم التي أنشأها وكان الحاكم بناها وأتقنها وجعل فيها من كتب العلوم شيئاً كثيراً، وأباحها للفقهاء وأن يجلسوا فيها بحسب اختلاف أغراضهم من نسخ ومطالعة وقراءة، بعد أن فُرشت وعلقت الستور على أبوابها، ورُتبَ فيها الخدام والفراشون، كذلك أمره الحاكم بالنظر في المساجد وتفقد أوقافها، وجمع الرّيْع وصرفه فِي وجوهه ففعل ذلك وبالغ فيه، وأفرد لذلك شاهدين يضبطانه.
وكانت العادة في مصر الفاطمية أنهم في يوم عاشوراء تعطل الأسواق ويخرج المنشدون إلى جامع القاهرة، وينزلون في مجتمعين بالنوح والنشيد، وينشدون المراثي في الشوارع، وتخرج النساء للنَّوْح والبكاء على الحسين، وتمد الغوغاء أيديها إلى أمتعة الباعة، فرفعوا ذلك إلى الحاكم في سنة 396، فأمر القاضي أن يمنع النساء والناس من المرور في الشوارع وأن يقتصر النوح والنشيد بالصحراء، فجمع القاضي عبد العزيز بن النعمان المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال لهم: لا تُلزِموا الناسَ أخذَ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم، ولا تؤذوهم، ولا تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء، ثم اجتمع بعد ذلك طائفة منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد الصلاة، وأنشدوا، وخرجوا على الشارع بجمعهم، وسبوا السلف، فقبضوا على رجل، ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة، وزوجها صلى الله عليه وسلم، وقدم الرجل بعد النداء، وضرب عنقه.
ولانشغال عبد العزيز بخدمة الحاكم وملازمته، استأذن الحاكم أن يستخلف نائبه مالك بن سعيد بن مالك الفارقي نائباً عنه إذا انشغل بالركوب إلى مجلس الحكم، فأذن له.
وفي منتصف سنة 398 شاع بين الناس أن القاضي عبد العزيز ابن النعمان قد عُزل، وأن خليفته هو مالك بن سعيد، فارتفع النهار ولم ينزل إلى مجلس الحكم، إلى قرب الظهر، ثم نزل وحكم وصلى بالناس الظهر إلى أن انصرف بمفرده، من غير حاجب ولا رِكَابيّ حتى دخل داره، ودعا الحاكم بأمر الله كبار رجال الدولة إلى اجتماع في قصره في اليوم التالي، فحضروا وحضر مالك بن سعيد، فقُلِّد جميع ما كان بيد عبد العزيز، ووكانت مدة ولاية عبد العزيز قرابة 4 سنوات.
وعزل الحاكم كذلك قائد القواد حسين بن جوهر، وهو أخو زوجة القاضي، وأمره والقاضي عبد العزيز بن النعمان بأن يلزما داريهما، ومنعا من الركوب وسائر أولادهما، فلبسوا الصوف وامتنع الداخل إليهم، وجلسوا على الحصر، ثم عفا الحاكم عنهما بعد أسبوعين وأذن لهما في الركوب فركبا إلى القصر بزيهما من غير حلق شعر ولا تغيير حال.
وعين الحاكمُ بأمر الله مالكَ بن سعيد بن مالك الفارقي قاضياً محل القاضي المعزول عبد العزيز بن محمد بن النعمان،  وقرئ مرسوم تعيينه بالقصر وهو قائم على رجليه، وكان القاضي كلما مرّ ذكر الحاكم في السِّجل قَبَّل الأرض، فلما فرغ خُلع عليه قميص مصمت وغلالة مذهب وعمامة مذهب وطيلسان مذهب وقلد بسيف وخرج وبين يديه بقجة ثياب، وقُدّمت له بغلة مسرَجة، وسيقت بين يديه بغلتان كذلك، فتوجه ومعه الناس إلى المسجد الجامع بمصر ولم يتأخر عنه أحد من وجوه البلد. وقُرىء سِجِله بالجامع أيضاً وهو قائم، وكلما مَر ذِكر الحاكم قبّل الأرض.
ورُفعت إلى مالك بن سعيد شكوى على القاضي قبله عبد العزيز بن محمد بن النعمان، فأحضره إلى داره فأدُّعيَ عليه والتُمس يمينه،  وتسامع الناس بذلك فحضر جمع كثير مَّمن في قلبه غيظ على القاضي المعزول، فادَّعوا عليه بدعاوي كثيرة أنكرها كلها، فاستحلفوه، فحلّفه مالك بن سعيد ولم يُغلّظ عليه الأيمان، إلا أنه قال له: قل: والله الذي لا إله إلا هو إني بريء من دعواهم براءةً صحيحة. فحلف وانصرف.
واستمر عبد العزيز بعد عزله يتردد إلى القصر خائفاً يترقب القتل، وفي منتصف سنة  399 ركب القائد حسين بن جوهر وزوج أخته القاضي عبد العزيز على عادتهما، فسلما وانصرفا، فأَرسل الحاكم إليهما، فحضر عبد العزيز أولاً فاعتُقِل، ورجع خادمه ببغلته، واختفى القائد وولده فكُسِر بابه، وحرّض الحاكم على تحصيله فتعذر عليه، فأمر بإِطلاق عبد العزيز، فرجع إلى منزله وقد أقام أهله عليه العزاء، فسكَّنهم، وكان الباعة في أسواق القاهرة قد أغلقوا حوانيتهم فأمرهم بفتحها، ثم بعد ثلاثة أيام حضر القائد بالأمان، فخلع عليه وعلى عبد العزيز خلعاً سنية وحملت قدامَهُما ثياب كثيرة، وحُمِلا على فرسين، وأعاد الحاكم النظر في المظالم إلى القاضي عبد العزيز، وقرئ سجله وخلع عليه خلعاً وطيلساناً، وحمل عَلَى بغلته وبين يديه أخرى، وحمل بين يديه سفَط ثياب، فاستمر بضعة أشهر ثم نُحِّيَ في أول سنة 400 وضُرب على باب داره لوح بمصادرتها باسم الديوان.
وفي هذه السنة زوّج القاضيُ ولديه بابنتي القائد فضل بن صالح، وكان من القواد الذين أبلوا بلاءً حسناً في قتال المتمردين على الحاكم ثم قتله الحاكم في السنة السابقة، ورغم أن القاضي كان معزولاً إلا أن العقد تم بقصر الحاكم وكان الصداق أربعة آلاف دينار أنعم الحاكم بها من بيت المال.
وفي أواخر سنة 400 قتل الحاكم مجموعة من رجال أسرة ابن المغربي، وهي أسرة عريقة في الوزارة خدمت العباسيين والحمدانيين، فقد قتل الوزيرَ علي بن الحسين وأخاه وابنيه، ففر ابنه أبو القاسم الحسين بن المغربي المعروف بالوزير المغربي في زي حمال إلى الرملة قبل أن يلتحق بالعراق، وتوجس خيفة من هذه الأحداث القاضي عبد العزيز والقائد حسين بن جوهر وأحسا أن الحاكم يبيت الغدر بهما، فهرب القاضي وقائد القواد وأتباعهما وصَحِبَهما جماعة، ومعهما من الأموال شيء كثير، إلى قرية دُجوة شمالي القاهرة، فلما بلغ الحاكم ذلك سير الخيل في طلبهم فلم يدركهم، وأشيع أنّهم احتموا ببني قرّة بالبحيرة، فختم على دورهما، وأمر مالك بن سعيد الفارقي بضبط ما فيهما وحَمْلِه إلى الديوان المفرد، وهو ديوان أحدثه الحاكم يتعلّق بما يقبض من أموال من يسخط عليه، وأرسل فأنفدت إليهما الكتب بالأمان واستدعائهما للعودة.
ويزعم بعض المؤرخين أن بطش الحاكم بهؤلاء كان بتأثير كاتب نصراني استوزره الحاكم بأمر الله وهو أبو نصر بن عبدون، ولعل مما يؤكد ذلك أن الحاكم عهِدَ إليه ليمثله في المفاوضات التي أجراها مع الوزير والقائد ليعودا إلى القاهرة بالأمان والعهود، فأبى القائد ابن جوهر أن يدخل ابن عبدون واسطة، وقال: أنا أحسنتُ إليه، فسعى فيَّ إلى أمير المؤمنين ونال مني كل منال، لا أعود أبداً وهو وزير!
وفي أول 401 عزل الحاكم أبا نصر بن عبدون وخلع على أحمد بن محمد القشوري الكاتب، وقرئ سجله في القصر بأنه تقلد الوساطة بين أولياء أمير المؤمنين الحاكم وبينه، ونجحت وساطة القشوري ورجع القائد حسين والقاضي عبد العزيز ومن خرج معهما، فنزل سائر أهل الدولة إلى لقائهما، وتلقتهما الخلع، وأفيضت عليهما وعلى أولادهما، وعندما وصلوا إلى باب القاهرة ترجلوا ومشوا، ومشى معهم سائر الناس إلى القصر؛ فمثلوا بحضرة الحاكم، ثم خرجوا وقد عفى عنهم، وحمل إليهما جميع ما قبض من مال وغيره، وأنعم عليهما.
وكتب الحاكم أماناً بخطه للمعزول ابن عبدون، وأثنى عليه بقوله: ما خدمني أحد ولا بلغ في خدمته ما بلغه ابن عبدون، ولقد جمع لي من الأموال ما هو خارج في أموال الدواوين ثلثمئة ألف دينار. ولم تطل الأيام بابن القشوري أكثر من عشرة أيام، فبينا هو يوقع إذ قبض عليه وضربت رقبته، فقد بلغ الحاكم عنه أنه يبالغ في تعظيم حسين بن جوهر، وأكثر من السؤال في حوائجه، ثم اعتقل ابن عبدون، وضربت عنقه وقبض ماله.
ولازم القاضي عبد العزيز وصهره القائد حسين الخدمة قرابة شهرين يترددان فيها على الديوان، إلى أن حضرا ذات يوم للخدمة، فلما أرادا الانصراف بعث إليهما زرعة بن نسطورس يقول إن الخليفة يريدكما لأمر، فجلسا حتى انصرف الناس، فقُتلا وقتل معهما أبو علي الحسين أخو القائد الفضل بن صالح، قتلهم جماعة من الأتراك في الدهليز، وأحيط في الحال بأموالهم وضياعهم ودورهم؛ فوُجِدَ لحسين بن جوهر في جملة ما وجد سبعة آلاف مبطنة حريرا من سائر أنواع الديباج والعتابي وغيره، وتسع متارد صيني مملؤة حب كافور قنصوري وزن الحبة الواحدة ثلاثة مثاقيل، وأُخذت الأمانات والسجلات التي كتبت لهم، واستدعي الحاكم أولاد عبد العزيز بن النعمان وأولاد حسين بن جوهر ووعدهم بالإحسان والجميل وخلع عليهم، وحملهم على دواب.
ومن المفيد ذكره ان الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله والذي تولى الخلافة بعد اختفاء الحاكم وقتله سنة 411 عين في سنة 418 القاسم الابن الأكبر للقاضي عبد العزيز في منصب قاضي القضاة ثم صرفه سنة 419، وعين محله عبد الحاكم بن سعيد الفارقي، أخا القاضي مالك بن سعيد الذي تولى القضاء بعد والد القاسم، وكان دنيء النفس طماعاً فصدرت منه تصرفات أدت إلى عزله في سنة 427، وأعيد القاسم ثانية، وطالت مدته إلى أن صرف في سنة 441، ولم يكن القاسم كذلك محمود السيرة،  ولما تولى القضاء خلفاً لعبد الحاكم قال بعض الشعراء فيهما:
ولما تولي ابن عبد العزيز ... قضاء القُضَاة تولى القَضا
وأعقب من بعده الفارقي ... فأدبر إِقباله وانْقَضَى
وحَطَّ دعائم دين الإله ... وأوقد في الأرض جَمْر الغَضَا
وعاد القضاءُ إلى قاسم ... فأصحب عن رُشده مُعْرِضاً
فَلا ذَا بسيرته يُرتَضَى ... ولا ذَا بتدبيره يُسَتَضَا
فهذا رئيسٌ به لوثَة ... وهذا وَضيعٌ بعيد الرِّضا
فما فيهما أحد يُرْتجى ... ولا فيهما أحدٌ يُرْتَضَى
فلا بارك اللهُ فيمن أتَى ... ولا بارَك الله فيمن مَضَى

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer