الثلاثاء، 8 يوليو 2014

حدث في العاشر من رمضان

في العاشر من رمضان من سنة 485 قُتل، عن 76 سنة، نظام الملك أبو علي الطوسي، الحسن بن علي، باني المدرسة النظامية في بغداد ووزير السلطانين ألب أرسلان وولده مَلِكشاه، قُتِلَ بغُندجان بين إصبهان وهمذان، أتاه شابٌ ديلميٌّ في زيّ صوفيّ، فدعا له وناوله ورقةً، فمد يده ليأخذها فضربه بسكين في فؤاده، فحُمل إلى مضربه فمات، وكان آخر كلامه أن قال: لا تقتلوا قاتلي، فقد عفوت عنه: وتشهد ومات. وقُتل القاتل في الحال بعد أن هرب فعثر بطُنب - حبل- خيمة فوقع.
ولد نظام الملك بطوس، وكان من أولاد الدهاقين وأرباب الضياع بناحية بيهق، وكان عالي الهمة إلا أنه كان فقيراً مشغولاً بالفقه والحديث، ثم قصد داود بن ميكائيل والد السلطان ألب أرسلان، وعرّفه رغبته في خدمته، فلما دخل عليه أخذ بيده فسلمه إلى ولده ألب أرسلان، وقال: هذا حسن الطوسي، فتَسَلَّمْه واتخذه والداً لا تخالفه، فلما صار المُلكُ إلى ألب أرسلان دبر له نظام الملك الأمور فأحسن التدبير، فبقي في خدمته عشر سنين ثم مات، وازدحم أولاده على الملك، وطغى الخصوم، فدبر الأمور، ووطد المُلك لملكشاه فصار الأمر كله إليه، فبقي عشرين سنة ونظام الملك يدبر أمره، فجرى على يده من الرسوم المستحسنة ونفي الظّلم، وإسقاط المؤن، وحسن النظر في أمور الرعية، ورتب أمور الدّواوين أحسن ترتيب.
دخل السلطان ألب أرسلان بغداد سنة 479 وأهدى إلى الخليفة المقتدي، وخلع عليه الخليفة، وقد جلس له في مجلس حافل، ونظامُ الملك قائمٌ يقدّم أمراء السلطان أميراً أميراً إلى الخليفة، وكلما قدَّم أميراً قال: هذا العبد فلان، واقطاعه كذا وكذا، وعدّة رجاله وأجناده كذا وكذا؛ إلى أن أتى على آخرهم.
ولما دخل بغداد سنة 479، وهي أول دخلة دخلها، دخل على الخليفة العباسي المقتدي، فأذن له في الجلوس بين يديه - وكانت الخلفاء لا تسمح لمن يزورها بالجلوس في حضرتها، بل يبقى واقفاً - وقال له: يا حسن رضيَّ الله عنك برضا أمير المؤمنين وأهل الدين عنك. وأعطاه الخليفة يده فقبلها ووضعها على عينيه، وخلع عليه خلعاً سنية.
ولما خرج من عند الخليفة زار المدرسة النظامية التي أمر هو ببنائها، ولم يكن رآها قبل ذلك، فاستحسنها إلا أنه استصغرها، واستحسن أهلَها ومن بها وحمِد الله وسأله أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، ونزل بخزانة كتبها وأملى جزأ من مسموعاته، فسمعه المحدثون منه، وكان يقول: إني لأعلم أني لست أهلاً للرواية، ولكني أريد أن أربط نفسي على قطار النَقَلَة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سمع نظام الملك الحديث، وحضر مجلسه الحفاظ، وأملى في مرو، ونيسابور، والري، وأصبهان، وبغداد، وكان له من المكرمات ما لا يحصى: كان إذا سمع الأذان أمسك عمّا هو فيه حتّى يفرغ المؤذن، وكان يراعي أوقات الصلوات، ويصوم الاثنين والخميس، ويكثر الصدقة، وكان له الحلم والوقار.
وكان مجلسه عامراً بالفقهاء وأئمة المسلمين من العلماء، فقيل له: قد بسطتهم في مجلسك حتى شغلوك عن مصالح الرعية ليلاً ونهاراً، فإن أمرت أن لا يوصل أحد منهم إلا بأذن، وإذا وصل جلس بحيث لا يضيق عليك مجلسك. فقال: هذه الطائفة أركان الإسلام، وهم جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستُ كُلّاً منهم على رأسي لاستقللت لهم ذلك.
وكان يدخل عليه أبو القاسم القشيريّ، وأبو المعالي الجوينيّ، فيقوم لهما، ويجلس في مسنده كما هو، ويدخل عليه الشيخ أبو عليّ الفارمَذيّ فيقوم ويجلس بين يديه، ويجلسه مكانه، فامتعض من هذا الجويني فقال لحاجبه في ذلك فأخبره، فقال: أبو القاسم وأبو المعالي وغيرهما، إذا دخلوا عليّ يثنون عليّ ويطروني بما ليس فيّ، فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً، وهذا الشيخ يذكرني عيوب نفسي، وما أنا فيه من الظلم، فتنكسر نفسي، وأرجع عن كثير مما أنا فيه.
وهو أول من بنى المدارس في الإسلام: بنى نظامية بغداد، ونظامية نيسابور، ونظامية طوس، ونظامية إصبهان، وأحسنُ خِلالِه مراعاةُ العلماء، وتربيةُ العلم، وبناءُ المدارس والمساجد والرباطات، والوقوفُ عليها، وأثرُه العجيب ببغداد هذه المدرسة وسوقها الموقوف عليها، وفي كتاب شرطها أنها وقف على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعاً، وكذلك الأملاك الموقوفة عليها شَرَطَ فيها أن يكون على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعاً، وكذلك شَرَط في المُدرس الذي يكون بها والواعظ الذي يعظ بها ومتولي الكتب، وشرط أن يكون فيها مقرئٌ للقرآن، ونَحْويٌ يدرس العربية، وفرض لكلٍ قسطاً من الوقف.
وكان النظام يقول: كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة، ومسجد أتفرد فيه لعبادة ربي، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها، ومسجد أعبد الله فيه، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم، ومسجد أعبد الله فيه.
وكان ليلةً يأكل الطعام، وبجانبه أخوه أبو القاسم، وبالجانب الآخر عميد خراسان، وإلى جانب العميد إنسان فقير، مقطوع اليد، فنظر نظام الملك، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر، وقرب المقطوع إليه فأكل معه.
ودفع بعض حجابه امرأة ضعيفة فزَبَرَه، وقال: أنا استخدمتك لتوصل إليّ مثل هذه، لا لتوصل إليّ رجلاً كبيراً، أو حاجباً. ثم صرفه.
ومن شعره:
بعد الثمانين ليس قوة... قد ذهبت شِّرَّةُ الصَّبْوَة
كأنني والعصا بكفي... موسى ولكن بلا نبوة
والشِّرَّةُ النَّشاط
قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي: رأينا في أوائل أعمارنا ناساً طاب العيش معهم، من العلماء والزهاد وأعيان الناس، وأما النظام فإن سيرته بهرت العقول جوداً وكرماً وحشمة وإحياء لمعالم الدين، فبنى المدارس، ووقف عليها الوقوف ونعش العلم وأهله، وعمّر الحرمين، وعمّر دور الكتب، وابتاع الكتب، فكانت سوق العلم في أيامه قائمة، والعلماء مستطيلين على الصدور من أبناء الدنيا، وما ظنك برجل كان الدهر في خَفارته، لأنه كان قد أفاض من الإنعام ما أرضى الناس، وإنما كانوا يذمون الدهر لضيق أرزاق واختلال أحوال، فلما عمهم إحسانه أمسكوا عن ذم زمانهم.
قال ابن عقيل: وقلت مرة في وصفه: تَرَكَ الناس بعده موتى، أما أهل العلم والفقراء ففقدوا العيش بعده بانقطاع الأرزاق، وأما الصدور والأغنياء فقد كانوا مستورين بالغِنْى عنهم، فلما عَرَضت الحاجات إليهم عجزوا عن تحمل بعض ما عود من الإحسان، فانكشفت معايبهم من ضيق الصدور، فهؤلاء موتى بالمنع وهؤلاء موتى بالذم، وهو حي بعد موته بمدح الناس لأيامه، ثم ختم له بالشهادة فكفاه الله أمر آخرته كما كفى أهل العلم أمر دنياهم، ولقد كان نعمة من الله على أهل الإسلام فما شكروها فسُلِبوها.
وكان نظام الملك مُمَدّحاً، فيقال إن مُدَّاحه كانوا خمسة آلاف شاعر وزيادة، ومُدِح بثلاثمئة ألف قصيدة. وحكى القاضي أبو العلاء الغزنويّ، محمد بن محمود، في كتاب سر السّرور: أن نظام الملك صادف في السفر رجلاً في زِيّ العلماء، قد مسه الكَلال، فقال له: أيّها الشيخ، أُعييتَ أم عَييتَ؟ فقال: أُعييت يا مولانا. فتقدم من حاجبه أن يركبه جنبياً، وأن يصلح من شأنه، وأخذ في اصطناعه، وإنما أراد بسؤاله اختباره، فإنّ عي في اللسان، وأعيى: تعب.
وقد رثاه مقاتل بن عطية المسمى بشبل الدولة:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة... يتيمة صاغها الرحمن من شرفِ
عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها... فردَّها غيرة منه إلى الصدف
ورثاه سديد الملك أبو المعالي المفضل بن عبد الرزاق الأصفهاني وزير المستظهر:
مات الوزير فكلكم جذلان... لا تفرحوا فوراءه خذلانُ
المُلكُ بعد أبي عليٍّ لعبةٌ... يلهو بها النسوان والصبيان

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer