الثلاثاء، 15 يوليو 2014

حدث في السابع عشر من رمضان


في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة نصر الله عزّ وجل رسوله عليه الصلاة والسلام على مشركي قريش في موقعة بدر، وفيما يلي بعض ما ذكره ابن هشام في سيرته عن هذه الموقعة:
قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعُدوة القصوى من الوادي، وبعث الله السماء وكان الوادي دَهساً - أي رخواً - فأصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبِد من الأرض، ولم يمنعهم عن السير، وأصاب قريشاً منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
وقال الحُبَاب بن المنذر بن الجموح: يا ‏رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب ‏والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى ‏نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثم نغوّر ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم ‏فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي.
وقال سعد بن معاذ: يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً ‏تكون فيه ونُعِدُّ عندك ركائبك - أي مركوبك من الخيل - ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، ‏وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن ‏بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناضحونك ويجاهدون معك. ‏فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير. ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏عريش فكان فيه.
ولما نزلت قريش و‏اطمأنت بعثوا عُمير بن وهب الجُمحي فقالوا: احزروا لنا أصحاب محمد، فاستجال بفرسه حول ‏العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاث مئة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين ‏أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئاً، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئا، ولكني قد ‏رأيت يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قومٌ ليس معهم مَنَعة ولا ملجأ ‏إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجل منهم حتى يَقتلَ رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير ‏العيش بعد ذلك؟
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عُتبة بن ربيعة، فقال: يا ‏أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ ‏قال وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلت، أنت عليَّ بذلك، إنما هو حليفي فعليَّ عَقله - ديته - وما أصيب من ماله، فأتِ ابن الحنظلية - أي أبا جهل - فإني لا أخشى أن يشجُرَ أمرَ الناس غيرُه.
ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئاً‏، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا ‏من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ‏ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
فقال أبو جهل: انتفخ والله سَحْرُه - أي صدره من الخوف - حين رأى محمداً وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا ‏وبين محمد!
ثم خرج عُتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف ‏دعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة وهم مُعاذ ومُعوَّذ وعوف بنو الحارث - وأمهما عفراء ويقال ثالثهم عبد الله بن رواحة، فاستحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وكرِهَ أن يكون أول قتال لقي المسلمون فيه المشركين في الأنصار وأحب أن تكون الشوكة لبني عمه وقومه، فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيرا.
ثم نادى منادي المشركين: يا محمد أخرج لنا الأكفاء من قومنا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله، قُم يا ‏عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي. فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة: عبيدة، ‏وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم أكفاء كرام. فبارز عبيدة - وكان أسن القوم - عتبة بن ‏ربيعة، وبارز حمزةُ شيبة بن ربيعة، وبارز عليٌّ الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي ‏فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكرَّ حمزة وعلي ‏بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ‏أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنَبل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ‏في العريش معه أبو بكر الصديق يناشد ربه ما وعده من النصر، ‏ويقول فيما يقول: اللهم إن تَهْلِك هذه العصابة اليومَ فلن تُعبَد في الأرض أبدا. وأبو بكر يقول: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك ‏، فإن الله منجز لك ما وعدك.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم ‏اليوم رجلٌ فيٌقْتَلُ صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الـحُـمَام، ‏وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده ‏وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتل.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشا بها، ثم قال: ‏شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: شُدّوا، فكانت الهزيمة فقتل الله تعالى من قتل من ‏صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه ‏وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشح ‏السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كَرَّة العدو، ورأى رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة ‏أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إليّ من استبقاء الرجال.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، أمر بأبي جهل أن يُلتمس في القتلى، فوجده عبد الله بن مسعود بآخر رمق ‏فعرفه، فاحتز ‏رأسه وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏فحمِد الله، وأمر رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب، فطرحوا فيه إلا أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا ليحركوه فتزايل لحمه فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب.
ووقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل القليب، بئس عشيرةُ النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، ‏وقاتلتموني ونصرني الناس، ثم قال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا. ‏ فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً إلى المدينة، ومعه الأُسارى من المشركين والنفل الذي أصيب من المشركين، وقال حسان بن ثابت في ذلك:
وخبِرْ بالذي لا عيب فيه... بصدق غير إخبار الكذوبِ
بما صنع المليك غداة بدر... لنا في المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراءٌ... بدت أركانه جُنْح الغروب
فلاقيناهم منا بجمع... كأسد الغاب مُردانٍ وشيب
أمامَ محمد قد وازروه... على الأعداء في لفح الحروب
بنو الأوس الغطارف وازرتها... بنو النجار في  الدين الصليب
فغادرنا أبا جهل صريعا... وعتبة قد تركنا بالجبوب
وشيبة قد تركنا في رجال... ذوي حسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما... قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان حقا... وأمرُ الله يأخذ بالقلوب؟
فما نطقوا، ولو نطقوا لقالوا:... صدقتَ وكنت ذا رأي مصيب
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer