السبت، 19 يوليو 2014

حدث في الحادي والعشرين من رمضان

في الواحد والعشرين من رمضان من سنة 732 توفي في القاهرة، عن 50 عاماً، شهاب الدين النُّويري أحمد بن عبد الوهاب البكري، النويري، الشافعي.
ولد لأسرة عربية صميمة تنتمي إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قرية إخميم من صعيد مصر - بمحافظة بني سويف الآن - ودرس في القاهرة واشتغل في مقتبل عمره بنسخ الكتب الجليلة نظراً لجمال خطه وسرعة كتابته، يكتب في كل يوم ثلاث كراريس، وكان يكتب النسخة ويقابلها، وينقل الطِّباق عليها ويجلّدها، والطباق هو سجل بسند راوي الكتاب وأسماء من حضر قراءة الكتاب، وهي مهمة يُعهَد بها إلى كاتب حسن الخط تسهل قراءة خطه، وثَبْتٍ لئلا يغلط أو يصحف، وأمين لئلا يُدْخِلَ في السماع من لم يكن حاضراً. وكَتَبَ النويري صحيحَ البخاري ثمان مرات، وكان يبيع كل نسخة من البخاري بخطه بألف درهم.
كان النويري فقيهاً فاضلاً، مؤرخاً بارعاً، وله مشاركة جيدة في علوم كثيرة، وجمع تاريخاً كبيراً في ثلاثين مجلداً سماه نهاية الأرب في فنون الأدب، وباعَ نسخة منه بألفي درهم للقاضي إبراهيم جمال الدين المعروف بجمال الكفاة.
وهذا الكتاب هو موسوعة كبرى قسمها النويري إلى خمسة فنون أو أقسام يدخل كل قسم في عدة أبواب:
الأول: السماء والآثار العلوية والأرض والآثار السفلية.
الثاني: الإنسان وما يتعلق به من ذكر وأنثى، وأعضاء كل منهما وصفاتهما، وأحوالهما، وشئونهما كالكلام بأنواعه، والحب والعشق، والأخلاق المحمودة والمذمومة، والخمر والغناء والشعر، والملك والخلافة والقضاء وما قيل في ذلك كله من نظم ونثر.
الثالث: الحيوان الصامت                        
الرابع: النبات                                  
ثم القسم الخامس وخصصه: لأخبار الملة الإسلامية، وذكر شيء من سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وسيرة الخلفاء الراشدين، وجعل تحت هذا القسم اثني عشر باباً، يشتمل الأخير على أخبار الملوك العبيديين الذين نُسبوا إلى علي بن أبي طالب، وانتهى بالسلطان قلاوون الصالحي، الذي عاصره المؤلف، ودعا له قائلاً: خلّد الله ملكه على مر الزمان.
وهذه الفنون التي اختارها خمسة، يحتوي كل فن منها على خمسة أقسام يدخل كل قسم في عدة أبواب، فلم يدع شيئًا من هذا العالم إلا وأدخله فيها كالسموات والأرض وما فيهما وما بينهما والإنسان من ذكر وأنثى، وأعضاء كل منهما وصفاتهما، وأحوالهما، وشئونهما كالكلام بأنواعه، والحب والعشق، والأخلاق المحمودة والمذمومة، والخمر والغناء والشعر، والملك والخلافة والقضاء وما قيل في ذلك كله من نظم ونثر.
والكتاب بحق موسوعة شاملة استمد المؤلف رحمه الله موادها من تآليف من سبقوه من الكتاب والعلماء والأدباء والمؤرخين، وهو مدهشٌ في شموله واستيفائه، ويدل على منهج موسوعي راسخ، وموهبة وقدرة على تقديم المعلومات في ثوب مختصر مفيد، وتتبين في ثنايا الكتاب الشخصية العلمية للنويري رحمه الله تعالى، فهو أمين في نقله وعزوه لمن ينقل عنهم، وهو مفيد في اختياراته واختصاراته التي يبينها ويعللها، وغني بشروحاته على الأمور التي تحتاج إلى مزيد من الإيضاح والبيان، ويضيف كذلك ملاحظاته وتجربته الشخصية، ويتبين في ذلك كله تقواه وورعه رحمه الله تعالى، وأوُردُ أمثلة على ما سبق فما يلي.
فعندما تناول أعياد الفرس قال رحمه الله: وأعياد الفرس كثيرة جداً، وقد صنف علي بن حمزة الأصفهاني فيها كتاباً مستقلاً ذكر فيه أعيادهم، وسببَ اتخاذهم لها، وسنن ملوكهم فيها. وقد رأيت أن أقتصر على المشهور منها، وهي ثلاثة أعياد: النيروز، والمهرجان، والسدق.
وفي حديثه عن أخبار المنافقين من الأوس والخزرج وما أُنزِل فيهم من القرآن قال: وقد رأيتُ ان أجمع ما فرقه أهل السير من أخبار المنافقين، وأضم بعضه إلى بعض، وأورده جملة واحدة، فإن ذلك لم يكن في وقت واحد ولا في سنة بعينها بل أورده أهل السير بحسب ما وقع، وفرقوه في الغزوات وغيرها، فآثرتُ جمعهُ في هذا الموضع، وما كان قد وقع في غزاة أو حادثة نبهت عليه في موضعه على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.
وفي حديثه عن وصية تركها السلطان المملوكي الملك الصالح، في مرض موته، لولده الملك المعظم قال النويري: واشتمل كتابه على جملةٍ من الوصايا، وقد وقفتُ على الكتاب المذكور - وهو بخط السلطان الملك الصالح بجملته - وقد رأيت أن أشرح ما تضمنه، لما فيه من الوصايا التي يتعين على الملوك التمسك بها والرجوع إليها، والاعتماد عليها.
وفي حديثه عن الحيوانات المائية تناول النويري السلحفاة فذكر ما قاله علماء المسلمين عنها ثم أضاف: وقد رأيت في سنة 707 بالقاهرة سلحفاةً تحمل الرجل وتمشي به وهو قائم على ظهرها، وما ينزل البحر يعظم حتى لا يكاد الحمار يحمله!
وتتضح تقواه رحمه الله عندما ذكر مهارات الكتاب في الأجوبة المحكمة، أراد أن يذكر بعضاً من أخطائهم فقال: لنَصِلَ هذا الفصلَ بذكر هفوات الأمجاد وكبوات الجياد، وقد رأيت بعض أهل الأدب ممن يستحق الأدب - يعني التأديب - تعرض في هذا الفصل إلى ذكر قصص الأنبياء صلوات الله عليهم كآدم ويوسف وداود وسليمان فكرهتُ ذلك منه، ونزَّهتُ كتابي عنه، قال الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ فكانت هذه هفوةً من المسلمين غفرها الله وعفا عنها.
وقد طبعت الكتاب دار الكتب المصرية ثمانية عشر مجلداً من الكتاب، ثم تابعت الهيئة المصرية للكتاب تحقيقه وطباعته فوصلت إلى 31 مجلداً، ولم ينته الكتاب بعد، لأن المجلد انتهى إلى أول سنة 700 والمؤلف توفي عام 732.
قال الأستاذ العلامة المؤرخ محمد عبد الله عنان رحمه الله في حديثه عن الموسوعات الأجنبية: يجدر بنا أن نشير إلى الدور الذي أداه التفكير العربي في هذا الميدان؛ فقد عرفت الآداب العربية فكرة الموسوعة بمعناها الشامل، وحققت في هذا الباب جهوداً خليقة بالإعجاب والتقدير. ومنذ القرن الثالث الهجري يبدو أثر هذا الميل إلى التصنيف الشامل واضحاً في كثير من الآثار العربية، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر واضحاً كثير من الآثار العربية، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر في كتب مثل عيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج، وهي مصنفات يطبعها طابع الموسوعة فيما تتناول من مختلف الموضوعات والأخبار. كذلك نجد روح الموسوعة ظاهراً في كثير من المصنفات التاريخية العربية؛ فكتاب الكامل لابن الأثير مثلا يعتبر بحق موسوعة تاريخية شاملة تجمع بين مزايا التعميم والترتيب المدهش، وكتاب الوفيات لابن خلكان بلا ريب من أقيم موسوعات التراجم. ومما يلاحظ أن الموسوعة الأوربية الحديثة بدأت كما سنرى بهذا النوع من المصنفات والمعاجم التاريخية الشاملة
على أن الآداب العربية عرفت في مصر نوعاً أتم من الموسوعة الكبيرة الشاملة؛ ونستطيع أن نقول إن القرن الرابع عشر في مصر كان عصر الموسوعات؛ ففيه أخرج شهاب الدين النويري المتوفى سنة 732هـ (1333م) موسوعته الضخمة نهاية الأرب في فنون الأدب، وأخرج ابن فضل الله العمري المتوفى سنة 749هـ (1348م) موسوعته الجغرافية والتاريخية العظيمة مسالك الأبصار في ممالك الأمصار؛ وفي أواخر هذا القرن وضع القلقشندي المتوفى سنة 821هـ (1418م) موسوعته السياسية والإدارية الضخمة صبح الأعشى في صناعة الإنشا، وفي هذه الآثار النفيسة الشاملة نرى طابع الموسوعة وروحها بارزين لا من حيث الضخامة وسعة الأفق فقط، بل ومن الناحية العلمية والفنية أيضاً؛ فكتاب نهاية الأرب الذي يشغل نحو أربعين مجلداً ضخما هو موسوعة تاريخية وجغرافية وأدبية.
اتصل النويري بالسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وحظي عنده وعمل عنده في كتابة الديوان وتولى الحسبة، ونالته في سنة 710، قبل أن يرسخ قدمه ويظهر فضله، بعض الشدائد من وكيل السلطان أحمد بن علي بن عبادة الأنصاري الذي كان شديد النفوذ عند السلطان، فقد عيَّن الوكيلُ النويريَّ نائباً عنه لإدارة المدرسة الناصرية والمنصورية وغيرهما، وجعله يدخل على السلطان ويطالعه بالأمور، فاغترَّ النويري بذلك وانتقد تصرفات ابن عبادة أمام السلطان، الذي عرَّف ابن عبادة ما قاله النويري في حقه، وسلمه إليه ومكنه منه، فضربه بالمقارع ضرباً مبرحاً وصادره.
كان النويري ذكي الفطرة، حسن الشكل، فيه مكرمة وأريحية وودّ لأصحابه، صام شهر رمضان وهو كل يوم بعد العصر يستفتح قراءة القرآن إلى قريب المغرب، ثم حصل له وجع في أطراف أصابع يديه كان سبب موته رحمه الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer