السبت، 26 يوليو 2014

حدث في الثامن والعشرين من رمضان

في الثامن والعشرين من رمضان من سنة 558 توفي في بغداد، عن 81 عاماً، الشاعر أبو القاسم هبة الله بن الفضل ‏ابن القطان البغدادي.
كان ابن القطان شاعراً مليح الشعر، ظريف الطبع، ولكنه كثير المزاح والمداعبات، مغرى بالولوع بالمتعجرفين والهجاء لهم، فغلب عليه الهجاء، وأصبح ثلاّباً يتقى لسانه، ولم يسلم منه أحد لا الخليفة ولا غيره، وله مع ذلك نوادر ووقائع وحكايات ظريفة نورد بعضها فيما يلي.
وإلى جانب شعره الهجائي وطبعه المترصد، كانت لابن القطان رواية لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اشتغل في أول حياته بقراءة الحديث، وكان له سماع صحيح، وأعرض الناس عن الرواية عنه لمسلكه في شعره، ثم احتيج إليه بعد موت الشيوخ فقرىء عليه، وكان ذكياً حاضر الجواب عنده نبذ من العلوم، وكان من المتطببين الكحالين ببغداد، وله تعاليق طبية على مسائل وأجوبتها في الطب.
كان ابن القطان صديقاً للشاعر حيص بيص، سعد بن محمد المتوفى سنة  574، وكانا لا يزالان يختصمان ثم يتصالحان، وله معه حكايات طريفة، فمن ذلك أن حيص بيص خرج ليلة من دار الوزير شرف الدين أبي الحسن علي بن طراد الزينبي، فنبح عليه جرو كلب وكان متقلداً سيفاً، فوكزه بعقِب السيف فمات، فبلغ ذلك ابن القطان، فنظم أبياتا وضمنها بيتين لبعض العرب قتل أخوه ابناً له، فقُدّم إليه ليقتاد منه فألقى السيف من يده وأنشدهما، وكتب ابن القطان الأبيات التالية في ورقة وعلقها في عنق كلبة لها جراء، ورتب معها من طردها وأولادَها إلى باب دار الوزير كالمستغيثة، فأُخذت الورقة من عنقها وعرضت على الوزير فإذا فيها:
يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى ... بفِعلة أكسبته الخزيَ في البلدِ
هو الجبان الذي أبدى تشاجعه ... على جُريٍّ ضعيفِ البطش والجَلَد
وليس في يده مالٌ يَدِيْهِ به ... ولم يكن ببَوَاء عنه في القَوَد
فأنشدت جَعدَةٌ من بعدما احتسبت ... دم الأبيلق عند الواحد الصمد
" أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يديَّ أصابتني ولم تُرد"
" كلاهما خَلَفٌ من فَقْدِ صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي"
البَوَاء: ويقال: دمُ فلان بواء لدم فلان، إذا كان مكافئا له. وجعدة: اسم من أسماء الكلبة
وحضر ابن القطان ليلة مع الحيص بيص على السماط عند الوزير في شهر رمضان، فأخذ ابن القطان قَطاة مشوية، وقدمها إلى الحيص بيص، فقال الحيص بيص للوزير: يا مولانا هذا الرجل يؤذيني، فقال الوزير: كيف ذلك؟ قال: لأنه يشير إلى قول الشاعر:
تميمٌ بطُرُق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سُبُلَ المكارم ضَلّتِ
وكان الحيص بيص تميمياً، وهذا البيت للطِرِّماح بن حكيم الشاعر من جملة أبيات، وبعد هذا البيت:
أرى الليل يجلوه النهار، ولا أرى ... خِلالَ المخازي عن تميم تجلّت
ولو أن برغوثا على ظهر قملة ... يكر على صفيَّ تميمٍ لولّت
وكان ابن القطان يهجو بأفعاله كما يهجو بأقواله، لما ولي عليّ بن طراد بن محمد الزينبي العباسيّ الوزارة دخل عليه ابن القطان والمجلس محتفل بأعيان الرؤساء، وقد اجتمعوا للهناء، فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح والسرور ورقص، فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره: قبح الله هذا الشيخ، فإنه يشير إلى ما تقول العامة في أمثالها: ارقص للقرد في زمانه. ثم نظم ابن القطان هذا المعنى وكتبه إلى بعض الرؤساء:
يا كمالَ الدين الذي ... هو شخصٌ مُشخَّصُ
والرئيس الذي به ... ذَنَبُ دَهري يُمَحَّص
خذ حديثي فإنه ... نبأ سوف يرخص
كلّما قلتُ قد تَبغَدَدَ قومي تَحمَصَصُوا
وغواشٍ على الرؤوس عليها المُقَرنص
والرواشين والمناظر والخيل ترقص
وأنا القِردُ كل يومٍ لِكَلبٍ أُبصبِص
كلُّ مَن صَفَقَ الزمان له قمتُ أَرقُص
مَحنٌ لا يفيد ذا النون منها التَبرصُص
فمتى أسمع النِداءَ وقد جاء مخلَّص
ودخل يوما على الوزير ابن هبيرة وعنده نقيب الأشراف، وكان ينسب إلى البخل، وكان في شهر رمضان والحر شديد، فقال له الوزير: أين كنت؟ فقال: في مطبخ سيدي النقيب، فقال له: ويحك! أيش عملت في شهر رمضان في المطبخ؟ فقال: وحياة مولانا كسرت الحر، فتبسم الوزير وضحك الحاضرون وخجل النقيب. وهذا الكلام على اصطلاح أهل بغداد، فإنهم يقولون: كسرت الحر في الموضع الفلاني، إذا اختار موضعا باردا يقيل فيه، فقصد أن مطبخ النقيب بارد لا يطبخ شيئا فيه لبخله.
وكان عمر بن الحسين الخطَّاط البغدادي، المتوفى سنة552، كاتباً جليلاً، مليح الخطّ، يكتب الناس عليه، وكان يكتب على طريقة ابن البوَّاب، ويجيد ذلك، وبيعت آلة الكتابة التي خلَّفها من الدُّوِيّ والسكاكين وغير ذلك بتسع مئة دينار أميرية، ومع إتقانه في صنعته، وتقدمه على غيره، لم ينج من هجو ابن القطان الذي قال فيه:
عُمَيْرَةُ الخطَّاط أُعجوبةٌ ... لكلِّ من يدري ولا يدري
لا يُحْسِنُ الخطَّ ولا يحفظ ال ... قرآنَ وهو الكاتب المُقْرِي
كان السديد يحيى ابن سعيد المعروف بابن المرخِّم فاصداً وطبيباً في المارستان ببغداد، ثم صار في أيام المقتفي قاضياً في أعلى سلك القضاء وهو الملقب أقضى القضاة ببغداد، فقال فيه ابن القطان:
يا ابن المرخّم صرت فينا قاضياً ... خرِفَ الزمان تُراه أم جُنَّ الفلك
إن كنت تحكم بالنّجوم فربّما ... أمّا بشرع محمّدٍ من أين لك
وبدر من ابن المرخم لما ولي القضاء ظلم وجور، فقال فيه ابن القطان باللغة الدارجة:
يا حزينة الْطُمي الطُمي... قد ولي ابن المرخِّمِ
بدواته المفضضة... ووكيله المكعسم
وَيْ على الشرع والقضا... وَيْ على كل مسلم
أتُرى صاحب الشريعة قد جُنَّ أو عمي؟!
وقصد دار بعض الأكابر في بعض الأيام فلم يؤذن له في الدخول، فعزّ عليه، وأخرجوا من الدار طعاماً وأطعموه كلاب الصيد وهو يبصره، فقال: مولانا يعمل بقول الناس: لعن الله شجرة لا تظل أهلها.
وقعد يوما مع زوجته يأكل طعاما، فقال لها: اكشفي رأسك، ففعلت، وقرأ سورة الإخلاص ﴿ قل هو الله أحد ﴾ الإخلاص، فقالت له: ما الخبر؟ فقال: إن المرأة إذا كشفت رأسها لم تحضر الملائكة عليهم السلام، وإذا قرئ ﴿ قل هو الله أحد ﴾ هربت الشياطين، وأنا أكره الزحمة على المائدة.
وأصاب الضعف الدول العباسية في أيامه وتضاءلت سلطة الخليفة عما حوله من البلاد، حتى عصت عليه تكريت القريبة، ولكن أمانيه كانت طويلة عريضة، فقال يسخر من هذه الأحوال:
في العسكر المنصور، نحن عصابة ... مرذولة، أخسس بنا من معشر
خذ عقلنا من عقدنا فيما ... ترى من خسة ورقاعة وتهور
تكريت تعجزنا ونحن بجهلنا ... نمضي لنأخذ ترمذاً من سنجر
والحيص بيص مبارز بقناته ... وأنا بشعوذتي طبيب العسكر
هذاك لا يُخشى لقتل بعوضة ... وأنا فلا أرجى لبرء مدبر
أجري بمبضعي الدماء، وسيفه ... في الغمد لم يعرض لظفر الخنصر
لقرينه في الحرب طول سلامة ... وصريع تدبيري بوجه مدبر
وكانت لأبن القطان أشعار جميلة في الغزل والنسيب، منها قطعة كان يُغنى بها في بغداد، وهذا بعضها:
يا من هجرتِ فما تُبالي ... هل ترجع دولة الوِصالِ
ما أطمعُ يا عَذابَ قلبي ... أن ينعَم في هواك بالي
الطرفُ من الصدود باكٍ ... والجسمُ كما ترين بالي
والقلب، كما عهدت، صاب ... باللوعة والغرام صالي
والشوق بخاطري مقيم ... ما يؤذن عنه بارتحال
ما ضرِّك أن تعلِّليني ... في الوَصلِ بموعد مُحال
أهَواكِ وأنتِ حَظُّ غيري ... يا قاتلتي فما احتيالي
أيام عنائيَ فيكِ سود... ما أشبههن بالليالي
العذُّل فيك يزجروني... عن حبك، مالهم ومالي؟!
يا ملزمي السُّلوَّ عنها... الصبُّ أنا وأنت سالي
والقول بتركها صواب، ... ما أحسنه لو استوى لي
دعني وتغزلي بخود، ... ترنو وتُغن عن غزال
حوراء، لطرفها سهام ... أمضى وأمضّ من نبال
في القلب لوقعها جراح ... لا برء لها من اغتيال
ما يجمُل أن تلوم صبَّاً ... إن هام بربة الجمال
إياك، وخلِّني وويلي في ... الوجد، مسلماً لحالي
إن كنت تعده صلاحاً، ... دعني فهداي في ضلالي

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer