الاثنين، 25 أغسطس 2008

مناظرة في المنام

قال المؤرخ الحجة والأديب الماهر أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر المعروف بابن خَلِّكان، والمتوفى سنة 681 عن 73 سنة، في كتابه وفِياتُ الاعيان وأنباءُ أبناءِ الزمان في ترجمة الإمام النحوي أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي البصري المعروف بالمبَـرَّد النحوي والمتوفى سنة 286 عن 76 عاماً:

وكنت رأيت المُبَرَّد في المنام، وجرى لي معه قصة عجيبة، فأحببت ذكرها، وذلك أني كنت بالإسكندرية في بعض شهور سنة 636 - أي عندما كان في الثامنة والعشرين - وأقمت بها خمسة أشهر، وكان عندي كتاب الكامل للمبرد، وكتاب العِقد الفريد لابن عبد ربه، وانا أطالع فيهما، فرأيت في العِقدِ في فصلٍ تَرْجَمَهُ بقوله - أي جعل عنوانه - ما غُلِطَ فيه على الشعراء، وذكر أبياتاً نسبوا اصحابها فيها إلى الغلط وهي صحيحة، وإنما وقع الغلط ممن استَدرَكَ عليهم لعدم إطلاعهم على حقيقة الأمر فيها، ومن جملة من ذكر المبرد فقال: ومثلُه قولُ محمد بن يزيد المبرد النحوي في كتاب الروضة وردَّ على الحسن بن هانئ يعني أبا نواس في قوله

وما لبكر بن وائل عِصَمٌ * إلا بحمقائها وكاذبـها

فزعم أنه أراد بحمقائها هَبَنَّقة القيسي، ولا يقال في الرجل حمقاء، وإنما اراد دُغَة العجلية وعِجْلٌ في بكر، وبها يضرب المثل في الحمق. هذا كله كلام صاحب العقد، وغرضه أن المبرد نسب أبا نواس إلى الغلط بكونه قال بحمقائها، واعتقد أنه أراد هبنقة، وهنبقة رجل، والرجل لايقال له حمقاء، بل يقال له أحمق، وأبو نواس إنما أراد دُغة وهي امرأة، فالغلط حينئذ من المبرد لا من أبي نواس.

فلما كان بعد ليال قلائل من وقوفي على هذه الفائدة، رأيت في المنام كأني بمدينة حلب في مدرسة القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد، وفيها كان اشتغالي بالعلم، وكأننا قد صلينا الظهر في الموضع الذي جرت العادة بالصلاة فيه جماعة، فلما فرغنا من الصلاة قمت لأخرج، فرأيت في آخريات الموضع شخصا واقفا يصلي، فقال لي بعض الحاضرين: هذا أبو العباس المبرد، فجئت إليه، وقعدت إلى جانبه أنتظر فراغه، فلما فرغ سلمت عليه، وقلت له: أنا في هذا الزمان أطالع في كتابك الكامل، فقال لي: رأيتَ كتابي الروضة؟ فقلت: لا، وما كنت رأيتُه قبل ذلك، فقال: قم حتى أريك إياه، فقمت معه وصعد بي إلى بيته فدخلنا فيه، ورأيت فيه كتبا كثيرة، فقعد قدامها يفتش عليه، وقعدت أنا ناحية عنه، فأخرج منه مجلدا ودفعه إلي ففتحتُه وتركته في حجري، ثم قلت له: قد أخذوا عليك فيه، فقال: أي شيء أخذوا؟ فقلت: أنك نسبت أبا نواس إلى الغلط في البيت الفلاني، وأنشدتُه إياه، فقال: نعم غلط في هذا، فقلت له: إنه لم يغلط بل هو على الصواب، ونسبوك أنت إلى الغلط في تغليطه، فقال: وكيف هذا؟ فعرفته ما قال صاحبُ العقد، فعضّ على رأس سبابته، وبقي ساهياً ينظر إليّ وهو في صورة خجلان، ولم ينطق، ثم تيقظتُ من منامي وهو على تلك الحال، ولم أذكر هذا المنام إلا لغرابته.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer