وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي، فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم، فلم يبقوا على أحد، وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه، ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله، فنزل إنسان كردي قطعها، فنجا نور الدين، وقُتِلَ الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلَّفيه، ووقف عليهم الوقوف.
ونزل نور الدين على بحيرة قدس - وهي بحيرة قطينة اليوم - بالقرب من حمص، وبينه وبين المعركة أربعة فراسخ، وتلاحق به من سلم من العسكر، وقال له بعضهم: ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا، فنؤخذ ونحن على هذه الحال. فوبخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام!
ثم أرسل إلى حلب ودمشق، وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل، فأعطى اللباس عوض ما أُخذ منهم جميعه بقولهم، فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة، وكل من قُتِل أعطى إقطاعَه - أي راتبه - لأولاده.
وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها.
ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خَرْجِه - أي نفقته - قال له بعضهم: إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء وغيرهم، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح؛ فغضب من ذلك وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم؛ كيف أقطع صلات قوم يدافعون عني، وأنا نائم على فراشي، بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني، بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟ ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح، فلم يجبهم، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق