ما طاب لي عيش فديتك بعدما * ناحت عليَ حمامةٌ بفراق
إن الإله لقد قضى في خلقه * أن لا يطيب العيش للمشتاق
كل يوم فائدة، واختيار المرء قطعة من عقله [رب اغفر لي ولوالدي رب ارحمهما كما ربياني صغيرا]
فخرجت تستغيث لليزك – أي طليعة الجيش - الإسلامي وأخبرتهم بواقعتها، فأطلقوها وأنفذوها إلى السلطان، فأتته وهو راكب على تل الخروبة، وأنا في خدمته وفي خدمته خلق عظيم، فبكت بكاءً شديداً ومرغت وجهها في التراب، فسأل عن قصتها فأخبروه، فَرَقَ لها ودمعت عينه، وأمر باحضار الرضيع، فمضوا فوجدوه قد بيع في السوق، فأمر بدفع ثمنه إلى المشتري وأخذه منه، ولم يزل واقفا رحمه الله حتى أُحضر الطفلُ وسلم إليها، فأخذته وبكت بكاء شديداً، وضمته إلى صدرها، والناس ينظرون إليها ويبكون، وأنا واقف في جملتهم فأرضعته ساعة، ثم أمر بها فحملت على فرس وألحقت بمعسكرهم مع طفلها. فانظر إلى هذه الرحمة الشاملة لجنس الإنس، اللهم إنك خلقته رحيماً فارحمه رحمة واسعة آمين.
وكان الزهري لا يترك أحدا يكتب الحديث بين يديه، فأكرهه الخليفة هشام بن عبد الملك فأملى من حديثه على بنيه، فلما خرج من عنده دخل المسجد، فأسند ظهره إلى عمود من عمده ثم نادى: يا طلبة الحديث، فلما اجتمعوا إليه قال: إني كنت منعتكم أمراً بذلته لأمير المؤمنين آنفا؛ هلم فاكتبوا. فكتب عنه الناس من يومئذ.
قال الإمام مالك بن أنس: مات العلم يوم مات الزهري، وإن كتبه حملت على البغال.
وكان صلاح الدين رحمه الله كثير التواضع، قريبا من الناس، كثير الاحتمال، شديد المداراة، محباً للفقهاء وأهل الدين والخير محسناً إليهم، مائلاً إلى الفضائل، يستحسن الشعر الجيد ويردده في مجلسه، ومَدَحه كثير من الشعراء، وانتجعوه من البلدان.
وكان شديد التمسك بالشريعة، سمع الحديث من أبي الحسن علي بن إبراهيم بن المسلم بن بنت أبي سعد، وأبي محمد بن بري النحوي، وأبي الفتح محمود بن أحمد الصابوني، وأبي الطاهر السِلَفي، وابن عوف، وجماعة غيرهم.
وكان كريماً: أطلق من الخيل بمرج عكا لمن معه اثني عشر ألف رأس ، سوى أثمان الخيل التي أصيبت في الجهاد، و لم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به ، وصاحبه ملازم في طلبه.
وكان ورعاً: رأى يوماً العماد الكاتب يكتب من دُواة محلاة بالفضة فأنكرها، وقال هذا حرام، فلم يعد يكتب منها عنده. وكان لا يصلى إلا في جماعة، وله إمام راتب ملازم، وكان يصلي قبيل الصبح ركعات إذا استيقظ، وكان يسوي في المحاكمة بين أكبر الناس وبين خصمه.
وكان شجاعا في الحروب، يمر في الصفوف وليس معه سوى صبي. وقرىء عليه جزء من الحديث بين الصفين، وهو على ظهر فرسه، وكان ذاكراً لوقائع العرب وعجائب الدنيا، ومجلسه طاهر من المعايب، رحمه الله وغفر له .
ولما مات جلس الأفضل للعزاء، وكثر بكاء الناس عليه، وغسّله الفقيه خطيب دمشق، أخرج بعد صلاة الظهر، وصلى الناس عليه أرسالا – أي أفواجاً - ودفن بداره التي مرض فيها بالقلعة، ثم نقل في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة إلى تربة بنيت له بجوار جامع بني أمية.
فقال له الرجل: إن رأيت أن تقرأها، وتقف على جميعها. فصخب وتغيظ وقال: أليس كلها في معنى واحد؟ قد والله بُلينا بكم يا بطالين! كل يوم يصير إلينا منكم واحد يريد تصرفاً، لو كانت خزائن الأرض إليّ لكانت قد نفذت!