الثلاثاء، 5 أغسطس 2014

حدث في التاسع من شوال

في التاسع من شوال من سنة 265 توفي في جنديسابور في الأهواز يعقوب بن الليث الصفار، أبو يوسف: من أبطال العالم، وأحد الأمراء الدهاة الكبار.
كان يعقوب وأخوه عمرو  في صغرهما يعملان الصُفر النحاس - في سِجستان بخُراسان ويظهران الزهد والتقشف، وفي سنة 237 تغلب على سجستان صالح بن النضر الكناني وذلك في خلافة المتوكل على الله، فصحبه يعقوب وقاتل معه وجعله صالح مقام الخليفة عنه، ثم مات صالح فقام مقامه بأمر المتطوعة درهم بن الحسن، وكان غير ضابط لعسكره، وكان يعقوب هو قائد العسكر، فلما رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه اجتمعوا على يعقوب بن الليث، وملكوه أمرهم لما رأوه من تدبيره وحسن سياسته وقيامه بأمرهم.
وقام بمحاربة الشراة من الخوارج فظفر بهم وكاد يفنيهم، وأطاعه أصحابه طاعة لم يطيعوها أحداً قبله، فاشتدت شوكته فغلب على سجستان سنة 247، وأظهر التمسك بطاعة الخليفة، وكاتَبـَه وصَدَرَ عن أمره، وأظهر أنه أمره بقتال الشراة، وضبط يعقوب الطرق، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فكثر أتباعه.
وظفر بجماعة من آل طاهر المنسوبين إلى طاهر بن الحسين الخزاعي، وكانو هم ولاة البلاد، فحملهم إلى سجستان، فوجه الخليفة المعتز بالله  رسولا يعرف بابن بلعم برسالة وكتاب، فأطلقهم. قال ابن بلعم: صرت إليه بكتاب أمير المؤمنين المعتز بالله إلى زَرَنْج - وهي عاصمة بلاد سجستان -  فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت ولم أسلم عليه، وجلست بين يديه من غير أمره، ودفعت الكتاب إليه فلما أخذه قلت له: قَبِلْ كتابَ أمير المؤمنين فلم يقبله، وفضه، فتراجعت القهقرى إلى باب مجلسه الذي كان فيه ثم قلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، فأعجبه ذلك، وأحسن مثواي ووصلني، وأطلق الطاهرية .
وحارَبَته ملوكُ الترك من حوله فقتلهم وشتت جموعهم، وملك هَراة سنة 253 فهابه أمراء الأطراف، وتطلع إلى ملك فارس وجبي خراجِها، فكتب إلى الخليفة العباسي المعتز بالله ببغداد يعرض طاعته ويسأل أن يُعطى بلاد فارس، ويُقرر عليه خمسة عشر ألف ألف درهم، وأرسل إلى المعتز بالله هدية سنية من جملتها مسجد فضة مخلّع يصلي فيه خمسة عشر إنسانا، وكان يُحمل على عدّة جمال، ويُفكَّكُ ثمّ يُركَّبُ، وعشرة بازات منها باز أبلق لم ير مثله، ومئة مُهر، وعشرون صندوقاً على عشر بغال فيهم طرائف الصين وغرائبه، ومئة رطل من مسك، ومئة رطل عود هندي، وأربعة آلاف ألف درهم.
ثم امتلك كرمان سنة 255، ولذلك قصة:
كان الخليفة العباسي قد ولي كرمان عليَّ بن الحسين بن قريش، وكتب إلى يعقوب أيضاً بولايتها، وقصد بذلك إغراء كل واحد منهما بالآخر فتسقط عنه مؤونة الهالك منهما وينفرد بالآخر، وكان كل منهما يظهر الطاعة للخليفة وهو في باطن أمره على معصيته، والمعتز يعلم بذلك منهما.
وتواجه جيش يعقوب الصفار وجيش علي بن الحسين بقيادة طوق بن المغلس قرب كرمان مدة شهرين لا يتقدم إلى طوق، ولا طوق يخرج إليه، فلما طال ذلك عليه أظهر يعقوب الارتحال إلى سجستان ورجع مرحلتين، وبلغ طوقا ارتحاله فظن أنه قد عدل عن حربه، فوضع آلة الحرب وقعد للشرب واللهو، واتصل ذلك بيعقوب فكر راجعاً وطوى المرحلتين في مرحلة واحدة، فلم يشعر طوق إلا بغبرة العسكر قد طلعت، فقال: ما هذا؟ فقيل غبرة المواشي، فلم يكن بأسرع من موافاة يعقوب فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابه يريدون المناهضة والدفع عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا لهم، فأفرجوا لهم فمروا هاربين وتركوا أموالهم وأثقالهم، وأسر يعقوب طوقا.
وكان علي بن الحسين قد سير مع طوق قيوداً في صناديق، ليقيد بها من يأخذه من أصحاب يعقوب، وفي صناديق أخرى أطواقاً وأساور يعطيها للشجعان من أصحابه، فلما غنم يعقوب عسكرهم رأى ذلك فقال يا طوق: ما هذا؟ فأخبره، فأعطى يعقوب الأطواق والأساور للشجعان لأصحابه، وقيد بالقيود والأغلال أصحاب علي.
ولما أخرج يد طوق ليجعل الغلّ فيها رآها يعقوب وعليها عصابة، فسأله عنها فقال: أصابتني حرارة ففصلتها، فأمر يعقوب بنزع خف نفسه فتساقط كسر يابسة، فقال: يا طوق، هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ شهرين، وخبزي فيه، منه آكل، وأنت جالس في الشرب!‏ وقيده بقيد خفيف، وأكرمه وأحسن إليه ووسع عليه.‏
واتجه يعقوب الصفار من كرمان إلى شيراز، وكان علي بن الحسين قد تحصن بها، فالتقيا وانهزم جيش علي بن الحسين وأسره يعقوب، ثم دخل يعقوب إلى شيراز والطبول تضرب بين يديه، وظن أهل شيراز أنه يؤدبهم ويستحل دماءهم وأموالهم بحربهم، لأنه كان وعد أصحابه إن هو ظفر أن يطلقهم وينهب شيراز، وبلغ القوم ذلك فلزموا بيوتهم، ورجع يعقوب من ليلته إلى عسكره بعد أن طاف شيراز، فلما أصبح نادى بالأمان ليخرجوا إلى الأسواق، فخرج الناس، وأعطى كل فرد في جيشه ثلاثمئة درهم عوضاً عن ذلك، وحضرت الجمعة فأمر الخطيب، فدعا للخليفة المعتز بالله ولم يدع لنفسه، فقيل في ذلك فقال: الأمير لم يقدم بعد، وقال: إنما مقامي عندكم عشرة أيام، ثم أرجع إلى عمل سجستان. وعاد فعلاً إلى سجستان بعد أيام قليلة، واستعاد الخليفة بعد ذلك فارس وبعث عماله إليها.
وفي أثناء ذلك خُلِع الخليفةُ المعتز بالله وتولى الخلافة الإمام المهتدي بالله ثم خُلِعَ بعد سنة، وبويع المعتمد ‏على الله سنة 256، ‏ فأهمل أمور رعيته وتشاغل بلهوه ولذاته، فغلب على أمره وتدبير ملكه وسياسة سلطانه أخوه الموفق طلحة بن جعفر المتوكل، ويسمى بالناصر لدين الله، وصيره كالمحجور عليه لا أمر ينفذ له ولا نهي، فقام الموفق بأمر الملك أحسن قيام، وقمع من قرب من الأعداء، واستصلح من نأى، على كثير ما كان يلقى من اعتراض الموالي وسوء طاعتهم، وتوفي بمدينة السلام سنة 278.
وفي سنة 259 انتحل يعقوب الصفار لنفسه عذرا في اقتحام نيسابور، فدخلها عنوة، وقبض على أميرها محمد بن طاهر آخر أمراء الأسرة الطاهرية، وتم للصفار ملك خراسان وفارس، وكان أمر الطاهرية قد ضعف لكثرة الخارجين عليهم من أمراء النواحي.
ثم طمع الصفار ببغداد فسار إليها سنة 262 وهو يقول إنه يريد مقابلة الخليفة، وكانت فتنة الزنج تعصف بالخلافة وتذرو الفتن واحدة تلو الأخرى، ويقال إن يعقوب بن الليث قال في مسيره هذا أبياتاً ينكر على المعتمد ومن معه من الموالي إضاعَتَهُمُ الدين، وإهمالهم أمر صاحب الزنج، فقال:
خُراسان أحْوِيهَا وأعمال فارس ... وما أنا من ملك العراق بآيسِ
إذا ما أمور الدين ضاعت وأهملت ... ورَثّتْ فصارت كالرسوم الدوارس
خرجْتُ بعون اللّه يمنا ونصرة ... وصاحب رايات الهدى غير حارس
فخرج إليه المعتمد على الله بجيشه، ودعا ببُرد النبي صلى الله عليه وسلم وقضيبه، وأخذ القوس ليكون أول من رمى، ووضع الخليفة العطاء في الجند، وقطع ما في الطريق من الشجر ‏والدغل، واستعدوا للحرب وجدَّوا فيها وشمروا، وقيل ما هو إلا أن تنتصروا أو تنهزموا فلا ترجع دولتكم ‏إليكم، ووقف الخليفة المعتمد بنفسه وإلى جانب ركابه محمد بن يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، ووقف معه جماعة من أهل البأس والنجدة، وتقدم بين يديه الرماة ‏بالنشاب، ورشقوا في ذلك اليوم أزيد من عشرين ألف سهم، وكشف الموفق أخو الخليفة رأسه وقال: أنا الغلام الهاشمي، وحمل على أصحاب الصفار، وقتل بين ‏الطائفتين خلق كثير، وفجر عليه نهراً يعرف بالسيب، فغشي الماء الصحراء، وكانت الدائرة على الصفار لظنه ألا يكون قتال.
قال أبو الساج داود ابن دوست الكردي للصفار لما انهزم: ما رأيتُ ‏معك شيئاً من تدبير الحروب، وكيف كنت تغلب الناس! فإنك جعلت ثقلك وأموالك وأسراك أمامك ‏وقصدت بلداً على قلة المعرفة منك به وبمغايصه وأنهاره بغير دليل، وقاتلت يوم الأحد والريح عليك، ‏وسرت من السوس إلى واسط في أربعين يوماً، وأحوال العساكر مختلة، فلما توافت عددهم، وجاءتهم أموالهم ‏واستحكم أمرهم عليك أقبلت من واسط إلى دير العاقول في يومين، وتأخرت عند إمكان الفرصة وأقبلت ‏تعدو في موضع التثبت، فقال الصفار: لم اعلم أني أحارب ولم أشك في الظفر، وتوهمت أن الرُسُلَ تَرِدُ عليَّ، ‏فبدروا الأمر فأتيت بما قدرت عليه.‏
ومضى الصفار منهزماً إلى واسط، ولم تتبعه الموالي مخافة رجعته ولاشتغالهم بالكسب والنهب، ثم رجع الصفار إلى السوس وجبى الأموال، ثم قصد تستر وحاصرها وأخذها ورتب فيها نائباً، واستولى في سنة 263 على الأهواز، وقاتل الزنج الذين سيطروا على البصرة، وحاول رئيسهم المسمى العلوي البصري استمالته، وكتب إليه يدعوه إلى الرجوع إلى بغداد، ووعده المساعدة، فقال لكاتبه: أجب عن كتابه، فقال: بماذا؟ فقال اكتب ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ وسيَّر الكتاب إليه.
وبقي الصفار يشكل تهديداً للخلافة العباسية إلى أن توفي سنة 265، فقد أرسل المعتمد إليه رسولاً وكتاباً يستميله ويترضاه، ويقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض، فجلس له، وجعل عنده سيفاً ورغيفاً من الخبز الخشكار، ومعه بصل، وأحضر الرسول، فأدى الرسالة، فقال له: قل للخليفة إنني عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف، حتى آخذ بثأري، أوتكسرني وتعقرني، وأعود إلى هذا الخبز والبصل. وأعاد الرسول
مرض يعقوب بعلة القُولَنج الإمساك الشديد - فأخبره طبيبه أن لا دواء له إلا الحقنة، فامتنع منها واختار الموت عليها، فمات بعد مرض دام 16 يوماً، وخلف في بيوت أمواله من العين أربعة آلاف ألف دينار، ومن الفضة خمسون ألف ألف درهم، و كان لدى زوجته  ألف وسبعمئة جارية.
كان يعقوب الصفار عاقلاً حازماً قلَّ أن يُرى متبسماً، قال شيخ من الصفارين: كان يعقوب وهو غلام في دكانه يتعلم عمل الصفر، ولم أزل أتأمل بين عينيه ‏وهو صغير ما آل أمره إليه، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: ما تأملته قط من حيث لا يعلم بتأملي إياه إلا وجدته مطرقاً ‏إطراق ذي همة وروية، فكان من أمره ما كان.‏
وكان مناوئه الحسن بن زيد العلوي يسميه السندان  لثباته.  وكان الصفار يقول: كلُّ من عاشرتَه أربعين يوماً ولا تعرف أخلاقه، لا تعرفها في أربعين سنة.
أما شجاعته وإقدامه فمضرب المثل، وكانت آثارها في جسده ووجهه، قال علي بن الحكم: سألت يعقوب بن الليث الصَّفار، عن الضربة التي علي وجهه وهي مُنكَرة على قصبة أنفه ووجنته، فذكر أن ذلك أصابه في بعض وقائع الخوارج، وأنه طعن رجلاً منهم فرجع عليه فضربه هذه الضربة، فسقط نصف وجهه، حتى رُدّ وخُيّطَ. قال: فمكثتُ عشرين يوماً في فمي أنبوبة قصب، وفمي مفتوح لئلا يتقرح رأسي، وكان يُصب في حلقي الشيء بعد الشيء من الغذاء، قال حاجبه: وقد كان مع هذه الضربة، يخرج ويعبي أصحابه للحرب ويقاتل.
وكان رحمه الله تغلب عليه التقوى ومراقبة الله، كما مرَّ في جوابه لصاجب الزنج، وروي أن  يعقوب الصفار مرض مرضاً شديداً عجز الأطباء عن معالجته، فقيل له: إن في ولايتك رجلاً يدعو الله تعالى للمرضى فيشفون، هو سهل بن عبد الله التستري المتوفى سنة 283، فلو دعا الله لك ترجو العافية. فطلب سهلاً وسأله أن يدعو له فقال له سهل: أنى يستجاب دعائي لك وعلى بابك مظلومون! فأمر برفع الظلامات وإخراج المحبسين، فقال سهل: يا ربِّ كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة! ومسح بطنه بيده فعافاه الله، فعرض على سهل مالاً كثيراً فأبى أن يأخذ منه شيئاً.
وكتب على قبره: هذا قبر يعقوب المسكين، وكتب بعده:
أحسنْتَ ظـنَّك بالأيام إذْ حَسُنَت ... ولم تَخَفْ سوء ما يأْتي به القدرُ
وسالمَتْكَ الليالي فاغْترَرْتَ بها ... وعند صفو الليالي يحدُثُ الكدر

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer