الجمعة، 29 أغسطس 2014

حدث في الثالث من ذي القعدة

في الثالث من ذي القعدة من عام 748 توفي في دمشق، عن 75 سنة، الإمام شمس الدين الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، أحد أعظم المؤرخين في تاريخ البشرية، إلى جانب كونه علماً في علوم الشريعة .. وفيما يلي ترجمة لحياته مختصرة في أغلبها من مقدمة الدكتور بشار عواد معروف، أمد الله في عمره، على كتاب الذهبي العظيم: سِيَر أعلام النبلاء.
ولد الذهبي في دمشق في شهر ربيع الآخر من سنة 673، لأسرة تركمانية الأصل، تنتهي بالولاء إلى بني تميم، سكنت مدينة ميافارقين في ديار بكر، وهي اليوم سلفان في جنوبي شرق تركية، ويبدو أن جده عثمان، الذي كان نجاراً، هو الذي قدم إلى دمشق، واتخذها سكنا له، وتوفي بعد ذلك بها سنة 683 ه وهو في عشر السبعين.
وفي دمشق ولد والده شهاب الدين أحمد، في سنة 642، وعدل عن صنعة أبيه في النجارة إلى صنعة الذهب المدقوق، فبرع بها وتميز، وعرف بالذهبي، وطلب العلم، فسمع صحيح البخاري، وحج في أواخر عمره، وكان دينا يقوم من الليل، وقد يسرت له صنعته رخاء وغنى، فأعتق من ماله خمس رقاب، وتزوج من ابنة رجل موصلي الأصل ميسور الحال، كان يعمل في ديوان الجيش، هو علم الدين أبو بكر سنجر بن عبد الله، وتوفي الوالد سنة 697، وخرج في جنازته علماء دمشق، ودفن في جبل قاسيون.
ولم يكن والد الذهبي فرداً بين العائلة في سماع الحديث، فقد كانت عمة الذهبي ومرضعته، ست الأهل، قد روت الحديث، وأجازت الذهبي فروى عنها، وكان أهل الذهبي من طرف والدته مقبلين على طلب العلم كذلك، فخاله علي، المولود سنة 658 والمتوفى سنة 736، كان من أهل الحديث، وزوج خالته فاطمة، أحمد بن عبد الغني بن عبد الكافي الأنصاري الذهبي، المعرف بابن الحرستاني، قد سمع الحديث، ورواه، وكان حافظا للقرآن الكريم، كثير التلاوة له، وتوفي بمصر سنة 700، ويبدو أن أكثر العائلة اهتماماً بالتحديث والرواية كان أخاه من الرضاعة علاء الدين أبا الحسن علي بن إبراهيم بن داود بن العطار الشافعي، المولود سنة 654 والمتوفى سنة 724، لأنه بادر في سنة مولد الذهبي واستجاز له من جملة من مشايخ عصره، في دمشق وحلب والحرمين.
ودرس الذهبي في كُتَّاب المؤدب علاء الدين الحلبي نحوا من 4 سنوات، وكان جده عثمان في أثنائها يدربه على النطق بالراء حتى استقام لسانه، فقد كان الذهبي ألثغا، ثم حفظ الذهبي القرآن على إمام مسجد الشاغور مسعود بن عبد الله الصالحي، المتوفى سنة 720، وكان في هذه الأثناء يزاول مهنة والده في طرق الذهب، ويذكر ذلك في ترجمته للشيخ شمس الدين الذهبي، محمد بن علي، المتوفى سنة 689 فيقول: رجل مطبوع، خيِّر، مسن، من كبار الذهبيين، كان يدق الذهب في بيته بالجبل، وله بنات وابن. وكان يعمل مع والدي، فبعثني إليه مرةً بذهبٍ لدقه وأطعمني شيئاً. كتب عنه: البرزالي، والمزي، والجماعة وأثنوا عليه، وتوفي وقد قارب الثمانين، وكان مع كبره رأساً في صنعته رحمه الله تعالى.
ولما بلغ الذهبي الثامنة عشر فتوجه لطلب العلم  بكليته، وأخذ القراءات في سنة 691على شيخ القراء جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن داود العسقلاني، ثم الدمشقي، المعروف بالفاضلي، الذي كان يقرئ في بيته بسبب فالج أصابه، وتوفي الشيخ سنة 692 وقد وصل معه الذهبي إلى أواخر سورة القصص، وكان الذهبي قد شرع في الوقت نفسه يقرأ على الشيخ جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن غالي المقرئ الدمشقي المتوفى سنة 708، وقرأ كذلك على محمد بن نصير بن صالح بن جبريل بن خلف المصري، نزيل دمشق، وشيخ الإقراء بالأشرفية، والمتوفى سنة 718، وغيرهم من شيوخ القراء، وما لبث الذهبي أن أصبح على معرفة جيدة بالقراءات، وأصولها ومسائلها، وتميز فيها تميزاً جعل شيخه شمس الدين أبا عبد الله محمد بن عبد العزيز الدمياطي ثم الدمشقي الشافعي، وهو من المقرئين المجودين، يتنازل له عن حلقته بالجامع الأموي ، حينما أصابه المرض الذي توفي فيه، فكان هذا أول منصب علمي يتولاه الذهبي فيما نعلم، وهو لما يزل فتى في العشرين من عمره، وإن لم يدم فيه أكثر من سنة واحدة، فقد سافر الذهبي إلى بعلبك ليقرأ على الشيخ موفق الدين النصيبي، محمد بن علي، المتوفى سنة 695، ودامت رحلته قرابة 70 يوماً، ولكون الذهبي لم يستأذن الحاكم في أن يغيب، فقد أخذ حلقته محمد بن أحمد بن علي شمس الدين أبي عبد الله الرضي الحنفي، واستمر فيها إذ لم يعارضه الذهبي بعد عودته.
وكان الذهبي في مقتبل طلبه للعلم قد مال إلى سماع الحديث، واعتنى به عناية فائقة، وانطلق في هذا العلم حتى طغى على كل تفكيره، واستغرق كل حياته بعد ذلك، فسمع ما لا يحصى كثرة من الكتب والاجزاء، ولقي كثيرا من الشيوخ والشيخات، وأصيب بالشره في سماع الحديث وقراءته، ورافقه ذلك طيلة حياته، حتى كان يسمع من أناس قد لا يرضى عنهم، قال في ترجمة عمر بن يحيى بن أبي بكر بن طرخان البعلبكي: شيخ خضيب، عامي، ليس بعدل، وسماعه صحيح من الإربلي، وابن رواحة ... سمعت منه على سبيل التكاثر والشره! وقال في ترجمة علاء الدين أبي الحسن علي بن مظفر الاسكندراني، ثم الدمشقي، شيخ دار الحديث النفيسية، المتوفى سنة 716: ولم يكن عليه ضوء في دينه، حملني الشره على السماع من مثله، والله يسامحه كان يخل بالصلوات، ويرمى بعظائم الأمور. وقال في ترجمة شيخه محمد بن النصير المؤذن المتوفي سنة 715: شويخ عامي سمعنا منه، ولم يكن بذاك. بل ذهب حب الحديث بالذهبي إلى القراءة على الصم، فقد ذكر في ترجمة شيخه محمود بن محمد الخرائطي الصالحي الاصم المتوفي سنة 716:  قرأت عليه بأقوى صوتي في أذنه.
ولا بد للمحدث في ذلك الوقت من الرحلة في طلب الإسناد العالي والسماع مشافهة وبخاصة من الشيوخ المتقدمين في العمر ليروي عنهم قبل أن يدركهم الأجل المحتوم، وقد حال بين الإمام الذهبي وبين أن تنفتح أمامه آفاق الرحلة على النحو الذي يريد أنه كان على الأغلب وحيد والديه، وكان والده لا يحبذ فراق ابنه مدة طويلة قد تبلغ أعواماً كما نرى في سيرة كثير من المحدثين، ويذكر الذهبي في وفيات سنة 697 وفاة شيخ دار الحديث المستنصرية، كمال الدين الفويره البغدادي، عبد الرحمن بن عبد اللطيف، المولود سنة 600 أو قبلها، فيقول: وروى الكثير، وعمر دهرًا طويلاً، وكنت في سنة 694 وسنة 695 أتلهف على لقيه وأتحسر، وما يمكنني الرحلة إليه لمكان الوالد ثم الوالدة.
على أن والده كان يأذن له بالسفر للبلدان القريبة في الشام مثل بعلبك في سنة 693 حيث أقام فيها قرابة شهرين كما ذكرنا، ولما سافر الذهبي إلى حلب في نفس السنة مع أخيه من الرضاع داود بن إبراهيم ابن العطار، وهو أكبر من الذهبي بثمانية أعوام، رافقه والده في تلك الرحلة، وسمح له والده بالرحلة إلى مصر على أن لا يغيب أكثر من 4 أشهر، فرحل إليها سنة 695 وسمع من كبار مشايخ القاهرة والإسكندرية الحديث والقراءات وغيرها من العلوم والكتب، ونزل في رحلته هذه على محدث حافظ هو ابن الظاهري الحلبي، جمال الدين أبي العباس أحمد بن محمد، مولى الملك الظاهر صاحب حلب، المولود بحلب سنة والمتوفى بالقاهرة سنة 696، قال الذهبي في ترجمته في وفيات 696:  شيخنا الحافظ، القدوة، الزاهد... وبه افتتحت السماع في الديار المصرية، وبه اختتمت، وعنده نزلت، وعلى أجزائه اتكلت... وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وسمع من نحو سبعمئة شيخ، وكان دينا، خيرا رضي الأخلاق، عديم التكلف بريا من التصنع، محببا إلى الناس، ذا سكينة ووقار وشكل تام، ووجه نوراني، وشيبة بيضاء منيرة كبيرة مستديرة، ونفس شريفة كريمة، وقبول تام وحرمة وافرة. والله يرحمه ويجزيه عنا الخير، فلقد أفاد الطلبة وأعانهم بكتبه وأجزائه. وقل من رأيت مثله. بل عدم.
وبعد وفاة والده سنة 697 أدى الذهبي فريضة الحج سنة 698، فسمع من مشايخ الحجاز وغيرهم من العلماء الذين كانوا في حملة الحج أو التقى بهم في الموسم.
ورغم اهتمام الذهبي الواضح بالحديث ورواياته، فإنه لم يقتصر في دراسته على سنوات الطلب الأولى، ولم يحصرها في الحديث والقراءات، فقد أمضى طيلة حياته في الدراسة والسماع لا يشغله عنهما شاغل، وشملت دراسته النحو واللغة والآداب، وسمع على شيوخه عددا كبير من كتب المغازي والسيرة والتاريخ والتراجم.
وممن ينبغي ذكره من مشايخ الذهبي الإمام العلامة، حجة العربية، بهاء الدين، أبو عبد الله 539 - محمد بن إبراهيم ابن النحاس الحلبي، النحوي، المولود بحلب سنة 627 والمتوفى بالقاهرة سنة 697، قال عنه الذهبي في تاريخه: كان من أذكياء بني آدم، وهو مشهور بالدين والصدق والعدالة، مع اطراح التكلف، وترك التجمل، وصغر العمامة. وقد رأيته يمشي بالليل في قصبة القاهرة بقميص وعلى رأسه طاقية فقط، وكان حسن الأخلاق، محببًا إلى تلامذته، فيه ظرف النحاة وانبساطهم، وكان يتحدث في تعليمه وخطابه بلغة عامة الحلبيين، لا يتقعر في عبارته، وكان معروفًا بحل المشكلات والمعضلات، واقتنى كتبًا نفيسة كثيرة، وأظنه لم يتزوج قط.
التقى الذهبي بعلماء  عديدين وأخذ عنهم وتدارس وتباحث معهم، ولكنه تأثر تأثراً واضحا بثلاثة من أقرانه وشيوخ عصره الذين صاحبهم طيلة حياتهم، وكان هؤلاء متشابهين في اتجاههم نحو طلب الحديث منذ فترة مبكرة، ومتميزين في سعة علمهم واستقلالهم الفكري الذي جعلهم ينصفون الحنابلة في جو غلب عليه في كثير من الأحيان التعصب المذهبي، وهؤلاء العلماء هم جمال الدين المزي، أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي الشافعي، المولود سنة 654 والمتوفى سنة 742، وتقي الدين ابن تيمية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني، المولود سنة 661 والمتوفى سنة 728، وعلم الدين البرزالي، أبو محمد القاسم  بن محمد، المولود سنة 665 والمتوفى سنة 739، وهكذا نلاحظ أن أصغرهم كان الذهبي المولود سنة 673، رحمهم الله جميعاً.
ويشير الذهبي لعلم الدين البرزالي بشيخنا ويذكر أنه هو الذي حبب إليه العناية بالحديث النبوي الشريف، فقال عنه: الإمام الحافظ المتقن الصادق الحجة، مفيدنا ومعلمنا ورفيقنا، محدث الشام مؤرخ العصر ... وبفصاحته وحسن أدائه للحديث يُضرب المثل، مع الفضيلة والاتقان والتواضع وحسن البِشر وكثرة الأصول ... وهو الذي حبب إليَّ طلب الحديث، فإنه رأى خطي، فقال: خطك يشبه خط المحدثين! فأثَّر قوله فيّ، وسمعت منه، وتخرجت به في أشياء، وكان على غاية من الاعجاب بعلمه، ولا سيما معجم شيوخه الذي خرجه لنفسه، وفيه ثلاثة آلاف شيخ، منهم ألفان بالسماع وألف بالاجازة.
وكتب الذهبي عن شيخه ورفيقه المزي بأنه: العلامة الحافظ البارع أستاذ الجماعة... محدث الإسلام ... خاتمة الحفاظ وناقد الأسانيد والألفاظ، وهو صاحب معضلاتنا وموضح مشكلاتنا.
وكان لابن تيمية الأثر الأكبر عند الذهبي الذي مدحه مدحاً عظيماً ثم قال: وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نُعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت، أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم. ولكن إعجاب الذهبي الشديد بشيخه ابن تيمية لم تمنعه من مخالفته في بعض المسائل الأصلية والفرعية، ولكن ميله إليه واتفاقه معه في كثير القضايا يبدو واضحاً في ثنايا كتبه ومواقفه من بعض المتصوفة ومن استهجانه لعلمي المنطق والفلسفة، ولم يكن الذهبي فريداً أو وحيداً في ذلك، فقد كان كثير من علماء العصر يقفون مع ابن تيمية في جو الاستقطاب الشديد الذي ساد بين العلماء آنذاك، ولكن مكانة الذهبي العلمية السامية جعلت لموقفه أهمية عند مؤيدي ومناوئي ابن تيمية، وقد حرم الذهبي  بسبب ذلك من تولي مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق بعد وفاة المزي سنة 742.
ولكن الذهبي تولى من قبل ذلك مناصب هامة في كبريات دور الحديث بدمشق، فقد تولى سنة 729 دار الحديث الظاهرية، وفي سنة 739 تولى تدريس الحديث بالمدرسة النفيسية بعد وفاة علم الدين البرزالي، وصار في نفس السنة شيخ الحديث في مدرسة الأمير تنكز التي انتهى بناؤها مؤخرا.
وقد أتاحت له هذه المناصب أن يدرس عليه عدد كبير من الطلبة يفوق الحصر، وكانت شهرته العلمية تجذب كل طالب علم جاد إلى زيارته في دمشق للأخذ عنه والسماع منه، ومن طريف ما يذكر في هذا أن العلامة أبا عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم الموصلي الأصل الطرابلسي، المولود ببعلبك سنة 669 والمتوفى بطرابلس سنة 774، جاء إلى دمشق سنة 734 ودرس على الذهبي وقال فيه:
ما زلت بالسمع أهواكم وما ذُكِرت ... أخبارُكم قط إلا ملت من طرب
وليس من عجب أن ملت نحوكم ... فالناس بالطبع قد مالوا إلى الذهب
بدأ الذهبي نشاطه في التأليف باختصار عدد كبير من أمهات الكتب في شتى العلوم التي مارسها، ومن أهمها التاريخ والحديث، وأول ما يلاحظ الدارس هذا العدد الضخم من الكتب التي اختصرها والتي تربي على خمسين كتابا، معظمها من الكتب الكبيرة التي اكتسبت أهمية عظيمة عند الدارسين، والتي تعد من بين أحسن الكتب التي وضعت في عصرها وأكثرها أصالة، مما يدل على استيعاب الذهبي لمؤلفات السابقين، ومعرفته بالجيد الاصيل منها، وتمتعه بقدرة ممتازة على الانتقاء.
ومما يثير الانتباه أن مختصرات الذهبي لم تكن اختصارات عادية يغلب عليها الجمود والنقل، بل إن المطلع عليها الدارس لها بروية وإمعان يجد فيها إضافات كثيرة، وتعليقات نفيسة، واستدراكات بارعة، وتصحيحات وتصويبات لمؤلف الأصل إذا شعر بوهمه أو غلطه، ومقارنات تدل على معرفته وتبحره في فن الكتاب المختصر، فهو اختصار مع سد نقص وتحقيق ونقد وتعليق وتدقيق، وهو أمر لا يتأتى إلا للباحثين البارعين الذين أوتوا بسطة في العلم ومعرفة بفنونه.
ومع أن الذهبي قد عاش في عصر غلب عليه الجمود والنقل والتخليص، فإن مختصراته تتميز بما يسبله عليها من روحه النقادة ومعرفته الموسوعية وفطنته اللماحة، فترى الكتاب المختصر وقد ازداد أهمية ونفعاً، لا بتراً وقطعاً، وحين يرى الذهبي ضرورة فإنه لا يتردد في أن يضيف إلى الكتاب الذي يختصره تعليقاً أو تاريخ وفاة أو حكماً على رأي، أو استدراكاً على المؤلف، ولا يكاد يورد حديثاً دون أن يخرجه أو يتعقب المؤلف إن كان ثمة حاجة لذلك، والذهبي في ذلك ليس بالمتصيد المتعنت المستعرض بل يفعل ذلك لسد نقص يعتري ذلك الكتاب، ويهدف إلى إفادة القارئ والباحث، ويورد الدكتور بشار عواد معروف مثالاً على ذلك مختصر الذهبي لكتاب المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405، الذي قصد فيه مؤلفه أن يورد أحاديث على شرط البخاري ومسلم مما لم يذكراه في صحيحيهما، حيث تضمن المختصر تعليقات الذهبي وتخريجاته ونقده وكانت فائدتها أنه لم يصحح من أحاديث الكتاب سوى النصف، وبيَّن لنا أن نصف النصف الآخر يصح سنده وإن كان فيه علة، أما الربع الأخير فهو أحاديث مناكير وواهيات لا تصح، بل إن في بعضها أحاديث موضوعة، وهذا يعني أن الذهبي قد أعاد دراسة جميع أحاديث المستدرك مجددا ونقدها، فخرج بهذه النتيجة.
والذهبي من العلماء الذي بارك الله في أوقاتهم وهممهم فكانت له مؤلفات تزيد على 200 مؤلف، وهي تدل بمنهجها وفوائدها على شخصية هذا الإمام العظيم، فهو من أفراد العلماء في تاريخ الإسلام من حيث غزارة المصنفات ومتانة المنهج وبراعة التأليف وحسن التناول والتبويب والتقديم، وعلى رأس مؤلفاته يأتي كتاباه العظيمان تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام الذي انتهى من إخراجه لأول مرة سنة 714، وسير أعلام النبلاء، وكل منهما موسوعة في شمولهما الزمني والجغرافي والفئوي، قال الدكتور معروف: يجد الباحث فيها دقة متناهية في التعبير، وحبكا للترجمة تشد القارئ إليها مع تعدد الموارد وانتقاء لأفضلها، وإبداء لآرائه الشخصية فيها. وهذه الأراء الشخصية مبنية على منهج منصف متوازن متجرد، لا يتابع ويكرر بل يتأمل ويمحص، وهذا يجعل أقوال الذهبي ذات أهمية كبيرة في تقييم الأشخاص والأحداث، ويعرف ذلك ويقدره كل من جلس على مأدبة الذهبي في هذين الكتابين وغيرهما.
وقد أورد الدكتور معروف مثالين على منهج الذهبي في معالجة أمرين أولهما في غاية الدقة والأهمية ويتعلق بالرجال، والثاني يتعلق بقوته في البحث والاستدلال بروح العلم المبني على الدليل والإقناع:
والمثال الأول ما ذكره الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي، قال: شيعي جَلِدٌ ولكنه صدوق، فلنا صدقه، وعليه بدعته. وقد وثَّقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي، وقال: كان غاليا في التشيع. وقال السعدي: زائغ مجاهر!
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة: العدالة والاتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟ وجوابه أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة. ثم يدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة... ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلا، بل قد يعتقد عليا أفضل منهما.
والمثال الثاني هو مناقشته لمسألة معرفة النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، فقال في ترجمة الحافظ العلامة أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474: ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر ابن الصائغ وكفره بإجازة الكتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، وأنه تكذيب بالقرآن، فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام، حتى أطلقوا عليه الفتنة، وقبحوا عند العامة ما أتى به خطباؤهم في الجُمَع، وقال شاعرهم:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال: إن رسول الله قد كتبا
وصنف أبو الوليد رسالة بيَّن فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة، فرجع بها جماعة.
قلت: ما كل من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أميا لانه لا يسمى كاتبا، وجماعة من الملوك قد أدمنوا في كتابة العلامة وهم أميون، والحكم للغلبة لا للصورة النادرة، فقد قال عليه السلام: إنا أمة أمية. أي أكثرهم كذلك، لنُدُور الكتابة في الصحابة، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ.
وأضيف إلى ما أورده الدكتور حفظه الله بعض الأمثلة الآخرى التي تنير زوايا أخرى من معالجة الذهبي للتراجم، قال في وفيات سنة 697 في ترجمة تاجر كبير هو أبو البقاء الربعي، التكريتي، توبة بن علي بن مهاجر: ولد يوم عرفةبعرفة سنة 620، وتعانى التجارة والسفر، وكان يعرف السلطان في حال إمرته ويعامله ويخدمه. وولي البياعة وتنقلت به الأحوال، ثم لما تسلطن مخدومه الملك المنصور ولاه وزارة الشام مدة، ثم عزله، ثم ولي وصودر غير مرة، ثم يسلمه الله. وكان مع ظلمه فيه مروءة، وحسن إسلام، وتقرب إلى أهل الخير، وعدم خبث. وله همة عالية، ونفس أبية، وفيه سماحة وكرم وبسط، وحسن أخلاق، ومزاح، وعدم جبروت.
وأورد الذهبي في ترجمة هولاكو ملك المغول قول المؤرخ ظهير الدين الكازروني عن هولاكو: كان عارفاً بغوامض الأمور وتدبير الملك، فاق على من تقدمه، وكان يحب العلماء ويعظمهم، ويشفق على رعيته، ويأمر بالإحسان إليهم. ثم عقب الذهبي رحمه الله فقال: وهل يسع مؤرخاً في وسط بلاد سلطانٍ عادلٍ أو ظالٍم أو كافرٍ إلا أن يثني عليه ويكذب، فالله المستعان ؛ فلو أُثني على هولاكو بكل لسانٍ لاعترف المثني بأنه مات على ملة آبائه، وبأنه سفك دم ألف ألفٍ أو يزيدون، فإن كان الله تعالى مع هذا وفقه للإسلام فيا سعادته، لكن حتى يصح ذلك. والله أعلم. والكازروني، هو علي بن محمد المولود سنة 611 والمتوفى سنة 697، وكان من رجال الدولة المغولية في العراق، وله كتاب روضة الأريب 17 جزءاً في التاريخ.
وأورد الذهبي في وفيات في ترجمة الشيخ أبي الفداء الدمشقي، إسماعيل بن علي بن محمد بن عبد الواحد ما يلي: الشيخ الزاهد، العابد، العالم ... كان كاتباً، أديباً، شاعراً، خدم في الجهات، وتزهَّد بعد ذلك. ولد سنة 630، ودخل في جملة الشعراء على الملك الناصر بدمشق، فلمّا انجفل الناس ندبه هولاكو إلى مصر، دخلها وترك الخدمة وتزهّد،وأقبل على شأنه، ولزم العبادة، فاجتمع بالشيخ محيي الدين ابن سُراقة فقال له: إن أردت هذا المعنى فعليك بتصانيف محيي الدين ابن العربي. فلما رجح إلى دمشق انقطع ولزم العبادة، وأقبل على كتب ابن العربي فنسخها وتلذذ بها، وكان يلازم زيارة قبره ويبالغ في تعظيمه، والظنّ به أنه لم يقف على حقيقة مذهبه، بل كان ينتفع بظاهر كلامه، ويقف عن متشابهه، لأنه لم يُحفظ عنه ما يُشينه في دينه من قولٍ ولا فعلٍ، بل كان عبداً قانتاً لله، صاحب أوراد وتهجُّد، وخوف، واتباع الأثر، وصدق في الطلب، وتعظيم لحرمات الله تعالى. لم يدخل في تخبيطات ابن العربي، ولا دعا إليها، وكان عليه نور الإسلام وضوء السنة... ويُشعر تقواه بانه ما دقّق في مذهب الطائفة ولا خاص معانيهم، ولعل الله تعالى حماه للزومه العبادة والإخلاص.
والظاهر أنه كان يُنزل كلام محيي الدين على محامل حسنة وتمحّل العارفين. فما كل من عظَّم كبيراً عرف جميع إشاراته، بل تراه يتغالى فيه مجملاً، ويخالفه مفصّلاً، من غير أن يشعر بالمخالفة، وهذا شأن فِرق الأمة في نبيّها صلى الله عليه وسلم، تراهم منقادين له أتم انقياد، وكل فرقة تخالفه في أشياء جمة ولا شعور لها بمخالفته،  وكذا حال خلائق من المقلدين لأئمتهم يحضّون على اتباعهم في كل مسألةٍ ويخالفونهم في مسائل كثيرة من الأصول والفروع، ولا يشعرون بارتكاب مخالفتهم ولا يصغون، نعوذ بالله من الهوى وأن نقول على الله ما لا نعلم، فما أحسن الكف والسكوت، وما أنفع الورع والخشية! وكذلك الشيعة تبالغ في حبّ الإمام علي، ويخالفونه كثيراً، ويأولون كلامه، أو يكذِّبون بما صح عنه. ولعل الله تعالى أن يعفو عن كثيرٍ من الطوائف بحسن قصدهم وتعظيمهم للكتاب والسُّنّة.
ويذكر الصفدي في وفيات سنة 710 في ترجمة أحد كبار الأمراء المدعو سيف الدين سلار: قال شمس الدين الجزري: قيل إنه أخذ له ثلاثمئة ألف ألف دينار وشيء كثير من الجواهر والحلي والخيل والسلاح والغلال مما لا يكاد ينحصر. ثم قال الصفدي: قال شيخنا الذهبي رحمه الله: وهذا شيء كالمستحيل، لأن ذلك يجيء وقر عشرة آلاف بغل؛ الوقر ثلاثون ألف دينار، وما علمت أن أحداً من كبار السلاطين ملك هذا ولا ربعه، ثم تدبر رحمك الله إذا فرضنا صحة قولهم إن دخله كان في كل يوم أربعة آلاف دينار، أما كان عليه فيها خرج؟ فلو أمكنه أن يكنز كل يوم ثلاثة آلاف دينار، أكان يكون في السنة غير ألف ألف دينار ومئتي ألف دينار؟ فتصير الجملة في عشرة أعوام اثني عشر ألف ألف دينار، وهذا لعله غاية أمواله، فلاح لك فرط ما حكاه صاحبنا الجزري واستحالته.
وقد عانى الذهبي كتابة السيرة وهو فن خاص له مميزاته التي تجعله يختلف عن كتابة الترجمة، فكتب في في سير الخلفاء الراشدين، وأئمة الفقه والحديث، وغيرهم.
ويلي هذين الكتابين في الأهمية كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال، وحسبك بعنوانه دالاً على منهجه، والذي اعتبره معاصروه ومن جاء بعدهم من أحسن كتبه وأجلِّها، وقد تناوله عدد كبير من الحفاظ والعلماء والمعنيين بالنقد استدراكا وتعقيبا وتلخيصا. وقد حقق والدي رحمه الله تعالى كتابين من كتب الإمام الذهبي هما كتاب الموقظة، في علم مصطلح الحديث، وكتاب ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل.
ولم يشتهر الذهبي بوصفه فقيها أو عالما بالفقه مع أنه درسه على أعلام العصر، وقد ألف في أصوله، وألف عددا من الكتب والأجزاء التي تناولت موضوعات فقهية، وكانت له خواطر وآراء ونقدات جاءت في ثنايا كتبه، من ذلك مثلا كلامه في مسألة الطلاق ومناقشته لابن تيمية، لكنه كان عزوفا عنه لانشغاله بالحديث وروايته.
ولم يكن في الذهبي جمود بعض العلماء وصلفهم، بل كان قريباً من النفس ذات طرفة ومباسطة، قال الذهبي رحمه الله
إذا قرأ الحديث علي شخص ... وأخلى موضعا لوفاة مثلي
فما جازى بإحسان لأني ... أريد حياته ويريد قتلي
فلما سمع  تلميذه الصفدي هذين البيتين أنشده بيتين نظمهما
خليلك ما له في ذا مراد ... فدم كالشمس في أعلى محل
وحظي أن تعيش مدى الليالي ... وإنك لا تَملُّ وأنت تُملي
ومن شعر الذهبي اللطيف يبث شجون العلماء في العوائق التي تهمهم:
لو أن سفيان على حفظه ... في بعض همي نسى الماضي
نفسي وعرسي ثم ضرسي سعوا ... في غربتي والشيخ والقاضي
عُرف الذهبي بزهده وورعه وديانته المتينة، وكان يأنس إلى الاجتماع بمشاهير الفقراء والصوفية من ذوي الديانة والتمسك بالآثار، قال تلميذه تقي الدين ابن رافع السلامي المتوفى سنة 774: كان خيرا صالحا متواضعا حسن الخلق حلو المحاضرة، غالب أوقاته في الجمع والاختصار والاشتغال بالعبادة، له ورد بالليل، وعنده مروءة وعصبية وكرم. وقال الزركشي المتوفى سنة 794: مع ما كان عليه من الزهد التام والايثار العام والسبق إلى الخيرات والرغبة بما هو آت.
أصيب الذهبي في سنة 741، قبل موته بسبع سنين، بماء نزل في عينيه، فحرم من نعمة البصر، وكان يتأذى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذا لرجع إليك بصرك، ويقول: ليس هذا بماء، وأنا أعرف بنفسي، لأنني ما زال بصري ينقص قليلا قليلا إلى أن تكامل عدمه.
للذهبي ثلاثة من أولاده عرفوا بالعلم، أولهم ابنته أَمة العزيز، وقد كان والدها يطلب لها الإجازات من العلماء والمحدثين،  ويظهر أنها تزوجت في حياة والدها وخلفت ولدا اسمه عبد القادر سمع مع جده من أحمد بن محمد المقدسي المتوفى سنة 737، وأجاز له جده رواية كتابه تاريخ الإسلام، وثانيهم ابنه أبو الدرداء عبد الله، ولد سنة 708 وأسمعه أبوه من خلق كثير، وحدث ومات سنة 754، وثالثهما ابنه شهاب الدين أبو هريرة عبد الرحمن، ولد سنة 715 وسمع مع والده أجزاء حديثية كثيرة، وسمع من عيسى المطعم الدلال المتوفى سنة 719، وخرَّج له أبوه أربعين حديثا عن نحو المئة نفس، وحدث منذ سنة 740، وتأخرت وفاته إلى سنة 799.
توفي الذهبي عن 75 سنة ودفن بمقابر باب الصغير في دمشق، وحضر الصلاة عليه جملة من العلماء، ورثاه تلميذه المؤرخ الصفدي فقال:
أشمس الدين غبتَ، وكل شمس ... تغيب، وزال عنا ظِلُّ فضلك
وكم ورختَ أنت وفاة شخص ... وما ورختُ قط وفاةَ مثلك

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer