الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

حدث في الثالث والعشرين من شوال

في الثالث والعشرين من شوال لسنة 354 توفي في بُست، وهو في عَشْر الثمانين من عمره، أبو حاتم البستي محمد بن حِبان التميمي، العلامة المحدث والجغرافي المؤرخ.
ولد في بست، وهي مدينة كانت عامرة بالعلماء والأدباء و اندثرت بعد الغزو المغولي، ولم يبق منها إلا بوابة هائلة توجد صورتها على العملة الأفغانية من فئة 100 أفغاني، وتسمى اليوم قلعة بست وتقع في ولاية هلمند في جنوبي شرقي أفغانستان، وهي المنطقة التي يسميها الجغرافيون المسلمون بلاد سجستان.
طلب ابن حبان العلم وهو في العشرين من عمره، وتنقل في الأقطار، فرحل إلى خراسان والعراق والجزيرة والشام ومصر والحجاز، وقال ابن حبان: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ من اسبيجاب في أقصى الشرق إلى الإسكندرية، وقد أحصى ياقوت الحموي في معجم البلدان المدن التى زارها ابن حبان يطلب العلم ورواية الحديث فبلغت 43 بلدا!
وإذا استعرضنا بعضاً من أبرز شيوخ ابن حبان رأينا أنهم أعلام المحدثين في ذلك العصر وأئمة بلدانهم في الحديث، ومن أبرز شيوخه الحسين بن إدريس الـهَروي المتوفى سنة 301 وقد ناهز التسعين، ومحدث البصرة أبو خليفة الجمحى الفضل بن الحُباب المتوفى سنة 305 عن 99 عاماً، والإمام النسائي صاحب السنن أحمد بن علي المتوفى سنة 303 عن 88 عاماً، ومحدث جُرجان عمران بن موسى بن مُجاشع السِّختياني المتوفى سنة 305، ومحدث خراسان الحسن بن سفيان النَسوي المتوفى سنة 303 عن 90 عاماً، ومحدث الموصل أبو يعلى الموصلي أحمد بن علي المتوفى سنة 307، ومسند بغداد أحمد بن الحسن الصوفى المتوفى سنة 306، ومحدث نيسابور أبو بكر بن خزيمة محمد بن إسحاق المتوفى سنة 311 عن 88 عاماً. رحمهم الله جميعاً.
وكان ابن حبان رحمه الله حريصاً في طلبه للعلم على توثيق ما يسمعه من شيوخه، وهو أمر يوجد لدى كثير من المحدثين، ولكنه عند ابن حبان رحمه الله بلغ حداً لا يتصور، حدث أحد معاصريه فقال: كنا مع أبى بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في بعض الطريق من نيسابور، وكان معنا أبو حاتم البستى، وكان يسأل ابن خزيمة ويؤذيه - يعني يكثر ويلح في السؤال - فقال له محمد بن إسحاق بن خزيمة: يا بارد، تنحَ عني لا تؤذني، أو كلمة نحوها، فكتب أبو حاتم مقالته تلك، فقيل له: تكتب هذا؟! فقال: نعم، أكتب كل شئ يقوله.
كان ابن حبان رحمه الله تعالى من المكثرين في تصنيف الكتب، قال عنه  ياقوت الحموي: أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، ومن تأمل تصانيفه تأمُلَ مصنفٍ عَلِمَ أن الرجل كان بحراً فى العلوم، من كتبه المسند الصحيح في الحديث أوله: باب ما جاء في الابتداء بحمد الله تعالى، وأحاديثه الصحيحة تتميز بروايات فيها زيادات على ما روي في الصحاح، وبين منهجه فيه فقال: شرطنا في نقله ما أودعناه في كتابنا ألا نحتج إلا بأن يكون في كل شيخ فيه خمسة أشياء: الأول: العدالة في الدين بالستر الجميل، الثاني: الصدق في الحديث بالشهرة فيه. الثالث: العقل بما يحدث من الحديث. الرابع: العلم بما يحيل المعنى من معاني ما روى. الخامس: تعري خبره من التدليس. فمن جمع الخصال الخمس احتججنا به.
ومن كتبه الثقات، بيَّن فيه رواة الحديث الموثوقين، وأوضح في مقدمته منهجه فقال: فلما رأيت معرفة السنن من أعظم أركان الدين، وأن حفظها يجب على أكثر المسلمين، وأنه لا سبيل إلى معرفة السقيم من الصحيح، ولا صحة إخراج الدليل من الصريح، إلا بمعرفة ضعفاء المحدثين وكيفية ما كانوا عليه من الحالات، أردت أن أملي أسامي أكثر المحدثين، ومن الفقهاء من أهل الفضل والصالحين، ومن سلك سبيلهم من الماضين، بحذف الأسانيد والإكثار، ولزم سلوك الاختصار، ليسهل على الفقهاء حفظها ولا يصعب على الحافظ وعيها. وقد طبعت الكتاب في تسع مجلدات دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن بالهند.
و له كتاب الصحابة في خمسة أجزاء، وكتاب التابعين في اثني عشر جزءا، وكتاب أتباع التابعين وأتباع التبع كلاهما في خمسة عشر جزءا، وغيرها كثير. وكان إلى جانب إمامته في الحديث عارفاً بالطب والفلك والكلام والفقه.
أخذ الحديث عن ابن حبان خلق كثير لا يحصون ولعل أبرزهم الحاكم النيسابوري محمد بن عبد الله صاحب المستدرك على الصحيحين والمتوفى سنة 405 عن 84 عاماً.
تولى ابن حبان قضاء سمرقند مدة، وفَقَّهَ الناس بسمرقند وبنى له الأمير أبو المظفر الساماني صُفّـةً لأهل العلم خصوصاً لأهل الحديث، ثم عاد إلى نيسابور، قبل وفاته بحوالي عشرين عاماً وسكنها وبنى الخانقاه وحدث بمصنفاته، ثم خرج منها إلى بلده بُست، حيث توفي في عشر الثمانين من عمره.
جعل ابن حبان داره في بست جعلها مدرسة لأصحاب الحديث، وجعل فيها مكتبة وقفية، وجعلها تحت يد وصي ليبذلها لمن يريد نسخ شيء منها من غير أن يخرجه منه.
ومع شهرة هذا الإمام وأهمية تصانيفه لم يكن لها انتشار في بلاده سجستان بعد وفاته ببضعة أجيال، فقد سأل الخطيب البغدادي، أحمد بن علي المتوفى سنة 463، أحد أهل سجستان، مسعود بن ناصر السجزى: أكلُّ هذه الكتب موجودة عندكم، ومقدور عليها ببلادكم؟ فقال: إنما يوجد منها الشئ اليسير، والنزر الحقير.
قال الخطيب: ومثل هذه الكتب الجليلة كان يجب أن يكثر بها النسخ فيتنافس فيها أهل العلم ويكتبوها ويجلدوها إحرازا لها، ولا أحسب المانع من ذلك كان إلا قلة معرفة أهل تلك البلاد بمحل العلم وفضله، وزهدهم فيه، ورغبتهم عنه، وعدم بصيرتهم به، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer