الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

حدث في السادس عشر من شوال

في السادس عشر من شوال من سنة 275 توفي في البصرة، عن 73 عاماً، الإمام المحدث أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، إمام أهل الحديث في زمانه وصاحب كتاب سُنَن أبي داود.
أصله من سِجستان وهي منطقة في جنوبي غربي أفغانستان مدينتها زَرَنج، وكتب الحديث في بلده وهَراة وخراسان، ثم ‏رحل وهو في التاسعة عشرة في طلب العلم والحديث إلى العراق وخراسان والشام ومصر والجزيرة الفراتية، وتردد إلى بغداد مراراً ثم استوطن البصرة بطلب من أخي الخليفة، وتوفي بها.
كان أبو داود على مرتبة عالية في النسك والعفاف، والصلاح والورع، وسمي بالحكيم في أيام حداثته، لأنه كان في مجلس بعض الرواة يكتب، فدنا رجل إلى محبرته ووضع قلمه فيها ثم قال له: أستمد من هذه المحبرة؟ فالتفت إليه وقال: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان فقد استوجب بالحشمة الحرمان! فسُمي ذلك اليوم حكيماً.
قال أبو داود رحمه الله عن سننه: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمئة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث:
1.    أحدها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.
2.    والثاني قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
3.    والثالث قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أنس رضي الله عنه:لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه
4.    والرابع قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه: إن الحلال بَـيّـِنٌ وإن الحرام بَـيّـِنٌ وبينهما أمور مشتبهات، وسأضرب لكم في ذلك مثلاً إنَّ الله حَمَى حِمىً، وإنَّ حِمى الله ما حرَّم، وإنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه، وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسُر.
وعرض أبو داود الكتاب على الإمام أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه، وقال الإمام إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود كتاب السنن: أُلينَ لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.
وقُرِئت سنن أبي داود على المحدث أبي سعيد ابن الأعرابي، أحمد بن محمد بن زياد البصري المكي، المتوفى بمكة سنة 340 عن 94 عاماً، فقال: لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله عز وجل ثم هذا الكتاب؛ لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة.
قال الإمام أبو سليمان الخطابي: وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم، وأمهات السنن، وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدما سبقه إليه، ولا متأخرا لـحِقَه فيه، وقد رُزِقَ القبول من كافة الناس فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، ولكل فيه وِرد، ومنه مشرب، وعليه مُعوَّل أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من مدن أقطار الأرض، فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم ابن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد، إلا أن كتاب أبي داود أحسن وضعا، وأكثر فقها، وكتاب أبي عيسى الترمذي أيضا كتاب حسن، والله تعالى يغفر لجماعتهم، ويحسن على جميل النية فيما سعوا له مثوبتهم برحمته.
وكان أبو داود مع إمامته في الحديث وفنونه من كبار الفقهاء، فكتابه يدل على ذلك، وهو من نجباء أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، لازم مجلسه مدة، وسأله عن دقاق المسائل في الفروع والاصول.
استوطن أبو داود البصرة بطلب من الأمير العباسي الموفق بالله ولي عهد المعتمد، قال أبو بكر بن جابر خادم أبي داود: كنت مع أبي داود ببغداد فصلينا المغرب إذ قُرِعَ الباب ففتحته، فإذا خادم يقول هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن، فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه فأذن له، فدخل وقعد.
ثم أقبل عليه أبو داود فقال: ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟ فقال: خِلالٌ ثلاث، فقال: وما هي؟ قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنا، ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قد خربت وانقطع عنها الناس لما جرى من محنة الزنج، فقال: هذه واحدة، هات الثانية، قال: وتروي لأولادي كتاب السنن، فقال: نعم، هات الثالثة، قال: وتفرد لهم مجلسا للرواية، فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة، فقال أبو داود: أما هذه فلا سبيل إليها، لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
قال ابن جابر: وكانوا يحضرون بعد ذلك ويضرب بينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة.
ومن أقواله: خير الكلام ما دخل في الأذن من غير إذن. وكان يقول: الشهوة الخفية حب الرياسة.
وكان لأبي داود كُمٌّ واسعٌ وكُّمٌ ضيق -  أي جيبان- فقيل له: يرحمك الله ما هذا؟ فقال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج إليه.
وكان ولده أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان من أكابر الحفاظ ببغداد، عالماً متفقاً عليه، إمام ابن إمام، وله كتاب المصابيح، وشارك أباه في شيوخه بمصر والشام، وسمع ببغداد وخراسان وأصبهان وسجستان وشيراز، وتوفي في سنة 316.
وحرص والده الإمام أبو داود على إسماعه الحديث في يفاعته، فحمله إلى الإمام المحدث أحمد بن صالح وكان لا يحدث إلا ذا لحية، ولا يترك أمرد يحضر مجلسه، فحمل أبو داود السجستاني إليه ابنه، ليسمع منه - وكان إذا ذاك أمرد - فأنكر أحمد بن صالح على أبي داود إحضاره، فقال له أبو داود: هو وإن كان أمرد، أحفظ من أصحاب اللحى، فامتحنِه، بما أردت. فسأله عن أشياء أجابه ابن أبي داود عن جميعها، فحدثه حينئذ ولم يحدِّث أمرداً غيره.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer