الأحد، 10 أغسطس 2014

حدث في الرابع عشر من شوال

في الرابع عشر من شوال سنة 194 ولد الإمام اليخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري، حافظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحب الجامع الصحيح المعروف بصحيح البخاري.
ولد رحمه الله في بخارى - في أواسط أوزبكستان اليوم -  ونشأ يتيما، وألهمه الله حفظ الحديث وهو صغير السن، قال ورّاقه أبو جعفر محمد بن أبي حاتم: قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: أُلهمت حفظَ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقلت: كم كان سنك؟ فقال: عشر سنين، أو أقل.
ثم خرجت من الكُتَّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يوماً فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل. فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، وقال: صدقت. قيل للبخاري: ابنُ كَمْ كنتَ حين رددت عليه؟ قال ابن إحدى عشرة سنة.
قال البخاري: فلما بلغت السادسة عشرة، كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بأمي، وتخلفت في طلب الحديث.
وإزاء هذه النية الصادقة والعزم الماضي وهبه الله ذاكرة قلَّ نظيرها، قال سليم بن مجاهد: كنت عند محمد بن سَلام البِيكَنْدِيّ، المحدث الحافظ الرحالة، المنسوب إلى بِيكَنْد قرب بخارى والمتوفى سنة 225، فقال لي: لو جئتَ قبلُ لرأيت صبياً يحفظ سبعين ألف حديث! فخرجتُ في طلبه حتى لقيتُه فقلت: أنت الذي تقول أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم، وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة أو التابعين إلا عَرَفتُ مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثاً من حديث الصحابة أو التابعين، إلا وليَ في ذلك أصلٌ أحفظه حفظاً عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال المحدث الطوّاف حاشد بن إسماعيل بن عيسى البخاريّ الغزَّال المتوفى سنة 262: كان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا وما تكتب معنا، فما تصنع؟ فقال لنا بعد ستة عشر يوما: إنكما قد أكثرتما علي وألححتما، فاعرضا علي ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها على ظهر القلب حتى جعلنا نُحْكِمُ كُتُبَنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.
قال البخاري عن مسيرته في العلم: فلما بلغت الثامنة عشرة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفتُ كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة، وقلَّ اسمٌ في التاريخ إلا وله قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب.
وقد أورد البخاري رحمه الله في كتابه التاريخ الكبير أسماء الرواة مرتبة على حروف المعجم، أما في كتابه التاريخ الصغير فقد رتبه على حسب تاريخ وفاة الراوي، وبدأ في كليهما برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان مبتكِراً مجدِّداً في تأليفه هذين الكتابين اللذين يفيدان المحدثين كثيراً في التحقق من رواة الأحاديث واتصال الرواية والسند.
ولابتكاره في تصنيف التاريخ قال البخاري: لو نُشِرَ من الموت بعضُ أساتذتي لم يفهموا كيف صنفت التاريخ، ولا عرفوه، ثم قال: صنفته ثلاث مرات. وأُعجِبَ به أئمة الحديث وأخذه أستاذُه إسحاق بن راهويه فأدخله على أمير خراسان عبد الله بن طاهر، فقال: أيها الأمير، ألا أُريك سِحراً؟  فنظر فيه عبد الله فتعجب منه، وقال: لست أفهم تصنيفه!
أما تأليفه للصحيح فقد ذكر كيف أُلهِم ذلك في درس أستاذه الإمام إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 238، قال: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم. فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب.
وكانت كتب الحديث من قبله تجمع الأحاديث وفقاً لرواتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يجعل البحث عسيراً فيها عن مسألة معينة كالتيمم مثلاً لوجوب مراجعة كل الأحاديث واستخراج ما يتعلق منها بالتيمم، فجاء البخاري رحمه الله فجمعها صحيحة ورتبها على المواضيع فكان رحمه الله أول من فتح هذا الباب ثم تبعه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه.
قال النووي رحمه الله في تهذيب الأسماء واللغات: سماه مؤلفه البخاري رحمه الله: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.
وقال البخاري: كتبت عن ألف شيخ، وأخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، ولم أخرج في الكتاب إلا صحيحاً، وما تركت من الصحيح أكثر، وتركت كي لا يطول الكتاب، وما وضعت في كتاب الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين. ولذلك جعل - رحمه الله - كلمة المختصر في اسم الكتاب.
قال النووي رحمه الله: وأما محل صحيح البخاري من كتب الحديث، فقال العلماء: هو أول مصنف صُنِفَ في الصحيح المجرد، واتفق العلماء على أن أصح الكتب المصنفة صحيحا البخاري ومسلم، واتفق الجمهور على أن صحيح البخاري أصحهما صحيحا وأكثرهما فوائد.
وقال النووي: جملة في صحيح البخاري من الأحاديث المسندة سبعة آلاف وخمس مئة وثلاثة وسبعون حديثاً (7573) بالأحاديث المكررة.
عاش البخاري رحمه الله حياته للعلم نهاره وليله ويقظته ونومه، حدث أحد أصحابه قال: كنت مع محمد بن إسماعيل بمنزله ذات ليلة، فأحصيت عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياء يعلقها في ليلة ثمان عشرة مرة. وقال وراقه محمد بن أبي حاتم: كان أبو عبد الله، إذا كنت معه في سفر، يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانا، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة، فيوري ناراً، ويسرج، ثم يخرج أحاديث، فيعلِّمُ عليها.
قال أبو عمار الحسين بن حريث: لا أعلم أني رأيت مثله، كأنه لم يخلق إلا للحديث.
كان البخاري رحمه الله شديد الورع والمراقبة لله عز وجل، قال: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً. ‏قال مرة لمستمليه أبي معشر الضرير، حمدويه بن الخطاب المتوفى بعد سنة 280: اجعلني في حل يا أبا معشر، فقال: من أي شيء؟ قال: رويتَ يوماً حديثاً، فنظرتُ إليك وقد أُعجِبتَ به وأنت تحرك رأسك ويدك، فتبسمتُ من ذلك. قال: أنت في حِلٍ، رحمك الله يا أبا عبد الله. وكان والده رحمه الله كذلك، قال في مرض موته: فقال: لا أعلم من مالي درهماً من حرام، ولا درهماً من شبهة.‏
كان البخاري إلى جانب مكانته في الحديث حريصاً على الجهاد والرباط، رامياً لا يكاد يخطئ الهدف، قال ورّاقُه  محمد بن أبي حاتم: كان يركب إلى الرمي كثيراً، فما أعلمني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، فكان يصيب الهدف في كل ذلك، وكان لا يسبق.
قال: ورأيته استلقى على قفاه يوما، ونحن بفَرْبَر في تصنيفه كتاب التفسير، وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث.
فقلت له: إني أراك تقول: إني ما أثبتُّ شيئاً، بغير علم قط منذ عقلت، فما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبنا أنفسنا اليوم، وهذا ثغر من الثغور، خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح، وآخذ أُهبة، فإن غافصنا العدو كان بنا حراك.
تعرض البخاري رحمه الله في أواخر أيامه إلى محن من الأمراء ومن بعض العلماء، أرسل إليه الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى أن احمل إليَّ كتابي الجامع والتاريخ  وغيرهما لأسمع وأولادي منك. فقال لرسوله: أنا لا أُذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شئ منه حاجة، فاحضر في مسجدي، أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان، فامنعني من المجلس، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سُئِل عن علم فكتمه؛ ألجم بلجام من نار). فراسله الأمير بأن يعقد مجلساً لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع وقال: لا أخص أحداً. فكان هذا سبب الوحشة بينهما.
وحسده بعض المشايخ لما رأوا من إقبال الناس عليه، فسألوه عن أمور خلافية لم يرضهم فيها جوابه، فشغبوا الناس عليه حتى تفرقوا عنه. وقعد البخاري في منزله، ثم خرج إلى قرية تسمى خَرْتَنْك على فرسخين من سمرقند، وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فكان يدعو وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك.
ثم أراد الخروج ليلة عيد الفطر من سنة 256 إلى مدينة سمرقند وقد اشتد مرضه، فلما تهيأ للركوب ولبس خفيه وتعمم، مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها، وأحد أصحابه آخذ بعضده، ورجل أخر يقوده إلى الدابة ليركبها، قال رحمه الله: أرسلوني، فقد ضعفت. فدعا بدعوات، ثم اضطجع، فقضى رحمه الله وقد بلغ من العمر 60 عاماً.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer