الجمعة، 22 أغسطس 2014

حدث في السادس والعشرين من شوال

في السادس والعشرين من شوال لعام 533 توفي في بَلَنسية، عن 88 عاماً، شاعر الأندلس ابن خَفاجة، إبراهيم بن عبد الله بن خَفاجة الهواري الاندلسي، الشاعر الغزِل، و الكاتب البليغ.
وهو من أهل جزيرة شُقر Alcira جنوبي بلنسية، في شرقي الاندلس، ولد فيها سنة 450، في زمن  ملوك الطوائف وكانوا يتهافتون على الأدب وأهلهم ويُغْرُون الشعراء بقصدهم وانتجاعهم، ولكنه لم يجعل شعره للكِدية طريقاً، بل غلب على شعره وصف الرياض ومناظر الطبيعة الخلابة التي نشأ في أحضانها، ولا غرو في ذلك فمنطقته تجمع بين البحر والجبل والغابات والسهول، حباها الله بتربة خصبة ومياه وفيرة.
قدم لنا ابن خفاجة سرداً لمسار حياته أشبه ما يكون بالسيرة الذاتية، ذكر فيه نشأته في أحضان الطبيعة وخروجه وحيداً إلى الوديان وحديثه مع أصداءها، وكأنه مر بفترة من الاكتئاب لأنه ذكر أنه كان يصيح "يا إبراهيم، تموت" فيردد الصدى كلماته، ثم يعيدها ويعود الصدى إلى ترديدها، ويظل على هذه الحال حتى يخرَّ مغشيا عليه.
وذكر ابن خفاجة أن منهجه في الحياة كان انتقاء الأفضل من كل شيء حتى في شراء الفاكهة من بائعها: كان لا يرضى إلا أن ينتقيها بيده، وحول نزوعه إلى وصف الطبيعة في شعره والتغني بمفاتنها قال متحدثاً بضمير الغائب:  إكثار هذا الرجل في شعره‏ من وصف زهرة، ونعت شجرة، وجرية ماء، ورنة طائر، ما هو إلا لأنه كان جانحاً إلى هذه الموصوفات لطبيعة فطر عليها وجِبِلَّة، وإما لأن الجزيرة كانت داره ومنشأه وقراره، حتى غلب عليه حب ذلك الأمر، فصار قوله عن كَلَف لا تكلف، مع اقتناع قام مقام اتساع، فأغناه عن تبذل وانتجاع.
قال المؤرخ الأندلسي عبد الله بن إبراهيم الحجاري في كتابه المسهب في أخبار اهل المغرب يبين سبب انصراف شعراء الأندلس إلى الوصف: الأندلس عِراق المغرب عزة أنساب، ورقة آداب، واشتغالاً بفنون العلوم، وافتناناً في المنثور والمنظوم، لم تضق لهم في ذلك ساحة، ولا قصرت عنه راحة، فما تمر فيها بمصر إلا وفيه نجوم وبدور وشموس.
وهم أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والأطيار والكؤوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن، وابن خفاجة سابقهم في هذا المضمار الحائز فيه قصب الرهان.
وأما إذا هب نسيم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجَّع بَمٌّ وزير أوتار العود - وصفق الماء خرير، أو رقَّت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاعٍ ثغر نهر، أو ترقرق بِطَلٍٍ جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح، و بات مع من يهواه كالماء والراح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون، الذين لا يجارون ولا يلحقون.
وليسوا بالمقصرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، وأطلعت شبه النجوم أسنةً وأجرت شبه الشفق دماء، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة.
نشأ ابن خفاجة في عهد ملوك الطوائف وكلهم كان يحب الأدب ويتذوق الشعر ويسعى وراء الشعراء، بل قرض كثير منهم الشعر، ولكنه لم يمدح أحداً منهم، وليس له في ديوانه إلا قصيدة واحدة في المعتصم ابن صمادح، مع أنه كان يحيا حياة مجون ولهو تناسب أجواء قصور ملوك الطوائف، بل استنكر ابن خفاجة على العلماء من مسلمين ونصارى اتخاذهم العلم وسيلة للارتزاق والوجاهة فقال:
درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدور مراتبٍ ومجالس
وتزهدوا حتى أصابوا فرصةً ... في أخذ مال مساجدٍ وكنائس
ويعيب على الناس اهتمامهم بأهل الغنى وتكريمهم لهم وإعراضهم عن الفقير ولو كان عالماً أو شريفاً ينبغي تكريمه وإجلاله، قال ابن خفاجة:
أرى الناس يولون الغني كرامةً ... و إنَّ لم يكن أهلا لرفعة مقدارِ
ويولون عن وجه الفقير وجوههم ... و إنَّ كان أهلا أن يُلاقى بإكبار
بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ... فما صححوا إلا حديث ابن دينار!
ويذكر ابن خفاجة أنه توقف عن الشعر بعد أن وخطه المشيب، وفي ذلك يقول: ولما انصدع ليل الشباب عن فجره، ورغب المشيب بنا عن هجره، نزلت عنه - أي الشعر - مَرْكبا، وتبدلتُ به مذهبا، فأضربت عنه برهة من الزمان الطويلة، اضطراب راغب عنه زاهد فيه، حتى كأني ما سامرته جليسا، يشافهني أنيسا، ولا سايرته أليفا، يفاوهني لطيفا.
ولعل ذلك التوقف لقرفه من الأوضاع المزرية لملوك الطوائف مع الإفرنج، ويوم سقطت بلنسية سنة 488 في يد لذريق يقول أبو اسحاق ابن خفاجة:
عاثت بساحتك العدا يا دار ... ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر ... طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها ... وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها ... "لا أنت أنت ولا الديار ديار"
ثم يعاوده شيطان الشعر مع دخول المرابطين إلى الأندلس، وبزوغ شمس انتصارات المسلمين على أيدي البربر، غرد طائر شعره الصداح بعد صمت في ليل طويل كئيب، وعادت قريحته تتدفق بقصائد مطولات.
لم يتزوج ابن خفاجة ولكنه في سن الحادية والخمسين عبر عن ندمه وتقدمه في السن وضعفه عن الزواج بجاريته الشقراء الصغيرة عفراء وهي في ريعان الشباب، فقال:
أرقت لذكرى منزل شَطَّ نازحٍ ... كلفتُ بأنفاس الشمال له شمّا
فقلتُ لبرق يصدعُ الليل لائحٍٍ ... ألا حيِّ عني ذلك الربع والرسما
وبلغ قَطين الدار أني أحبهم ... على النأي حباً - لو جزوني به - جمّا
وأقرىء عفيراء السلام وقل لها ...  ألا هل أرى ذاك السُها قمراً تـمّا
ودون الصبا إحدى وخمسون حجة ... كأني وقد ولّت أُريت بها حلما
فيا ليتني كنت ابن عشر وأربع ... فلم أدعها بنتا ولم تدعني عما
وبلده شُقْر بالأندلس ولعلها Sueca وتسمى بالجزيرة تجاوزاً لإحاطة الوادي بها، بليدة جنوبي بلنسية، وهي حسنة البقعة، كثيرة الأشجار والثمار والأنهار، وبها أناس وجُلَّة، وبها جامع ومساجد وفنادق وأسواق، تقع على نهر شقر Jucar، وقد أحاط بها الوادي، والمدخل إليها في الشتاء على المراكب، وفي الصيف على مخاضة، ومن شعر ابن خفاجة يتشوق إلى معاهده فيها، ويندب ماضي زمانه:
بين شقرٍ وملتقى نهريها ... حيث ألقت بنا الأماني عصاها
عيشة أقبلت شهىٌّ جناها ... وارفٌ ظلها لذيذٌ كراها
لعبت بالعقول إلا قليلاً ... بين تأويبها وبين سراها
فانثنينا مع الغصون غصوناً ... مرحاً في بطاحها ورباها
ثم ولت كأنها لم تكن تلبث إلا عشيةً أو ضحاها
فاندب المرج فالكنيسة فالشط وقل آه يا معيد هواها
آه من غربةٍ ترقرق بثاً ... آه من رحلةٍ يطول نواها
آه من فرقةٍ لغير تلاقٍ ... آه من دارٍ لا يجيب صداها
فتعالى يا عين نبك عليها ... من حياة إن كان يغنى بكاها
وشباب قد فات إلا تناسيه ونفسٍ لم يبق إلا شجاها
وكان ابن خفاجة بالمغرب الأقصى فتذكر الأندلس وجزيرة شقر فقال:
إن للجنّة بالأندلس ... مجتلى مرأى وريّا نَفَسِ
فسنا صبحتها من شَنبٍ ... ودجى ظلمتها من لعس
فإذا ما هبّت الريح صباً ... صحت واشوقي إلى الأندلس
ولم يقتصر شعره على الوصف، بل كان لا بد لهذه النفس الرقيقة أن تتأثر بما يمر حولها من أحداث محزنة تخطف بها يد المنون أحبابها وأصحابها، فكان له مراث رقيقة في أصحابه وخلانه، وقال من أبيات يرثي فيها صديقاً له:
تيقّن أن الله أكرم جيرة ... فأزمعَ عن دار الحياة رحيلا
فإن أقفرت منه العيون فإنّه ... يعَوَّض منها في القلوب بديلا
ولم أر أُنساً قبله عاد وحشة ... وبَرْداً على الأكباد عاد غليلا
ومَنْ تَكُ أيام السرور قصيرة ... به كان ليل الحزن فيه طويلا
وعُمِّرَ ابن خفاجة طويلاً وسأله أحدهم مرة عن حاله وقد بلغ في عمره إحدى وثمانين سنة، فأنشده لنفسه:
أي عيش أو غذاء أو سَنَه ... لابن إحدى وثمانين سنه
قلَّص الشيب به ظل امرئ ... طالما جر صباه رسنه
تارة تسطو به سيئة ... تسخن العين وأخرى حسنه
مدح ابن خفاجة الأندلس وجعلها جنة الله في أرضه فقال:
يا أهل أندلسٍ لله درُّكم ... ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجارُ
ما جنّة الخلد إلا في دياركم ... ولو تخيّرت هذا كنت أختار
لا تحسبوا في غدٍ أن تدخلوا سقراً ... فليس تُدخَلُ بعد الجنّة النار
وقال ابن خفاجة فيما يكتب على القبر:
خليليَّ هل من وقفةٍ بتألُّمِ ... على جَدَثي أو نظرةٍ بترحُّمِ
خليليَّ هل بعد الرَدى من ثنيّةٍ ... وهل بعد بطن الأرض دارُ مخيّمِ
وإنّا حَيينا أو رَدينا لإخْوَةٌ ... فمَنْ مرَّ بي من مسلم فليسلّمِ
وماذا عليه أن يقولَ مُحيّياً ... ألا عِمْ صباحاً أو يقولَ ألا اسلمِ
وفاءً لأشلاءٍ كرُمْنَ على البِلَى ... فعاجَ عليها من رُفاتٍ وأعظُمِ
يردّد طوراً آهةَ الحُزن عندها ... ويذرفُ طوراً دمعةَ المترحّمِ
رحمه الله وغفر لنا وله.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer