الاثنين، 12 مايو 2008

ما تقول في السلف؟

كان بالدينور - وهي بلد مندثر شمال كرمانشاه في إيران اليوم - شيخ يتشيع ويميل إلى مذهب أهل الإمامة، وكان له أصحاب يجتمعون إليه يأخذون عنه ويدرسون عنده، يقال له بشر الجعاب، فرفع صاحب الخبر بالدينور إلى الخليفة العباسي المتوكل المتوفى سنة 247 هجرية أن بالدينور رجلا رافضيا، يحضره جماعة من الرافضة، ويتدارسون الرفض، ويسبون الصحابة، ويشتمون السلف، فلما وقف المتوكل على كتابه أمر وزيره عبيد اللّه بن يحيى بالكتاب إلى عامله على الدينور بإشخاص بشر هذا والفرقة التي تجالسه، فكتب عبيد الله بن يحيى بذلك.

فلما وصل إلى العامل كتابه وكان صديقا لبشر الجعاب، حسن المصافاة له، شديد الإشفاق عليه، همه ذلك وشقَّ عليه، فاستدعى بشراً وأقرأه ما كوتب به في أمره وأمر أصحابه، فقال له بشر: عندي في هذا رأي، إن استعملته كنت غير مستبطءٍ فيما أُمرتَ به، وكنت بمنجاة مما أنت خائف عليّ منه، قال: وما هو؟ قال: بالدينور شيخ خفّاف اسمه بشر، ومن الممكن المتيسر أن تجعل مكان الجعاب الخفاف، وليس بمحفوظ عنده ما نسبت إليه من الحرفة والصناعة.

فسُرَ العامل بقوله، وعمد إلى العين من الجعاب فغير عينها وغير استواء خطها وانبساطه، ووصل الباء بما صارت به فاء، فكان أخبره عن بشر الخفّاف أنه أبله في غاية البله والغفلة، وأنه هُزأةٌ عند أهل بلده وضُحكة، وذلك أن أهل سواد البلد يأخذون منه الخِفاف – أي النعال - التامة والمقطوعة بنسيئة، ويعدونه بأثمانها عند حصول الغلة، فإذا حصلت وحازوا ما لهم منها، ماطلوه بدينه ولووه بحقه، واعتلوا بأنواع الباطل عليه، فإذا انقضى وقت السادر ودنا الشتاء واحتاجوا إلى الخفاف وما جرى مجراها، وافوا بشراً هذا واعتذروا إليه وخدعوه، وابتدروا يعدونه الوفاء ويؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة والمعاهدة الباطلة، ويضمنون له أداء الديون الماضية والمستأنفة فيحسن ظنه بهم وسكونه ويستسلم اليهم، ويستأنف إعطاءهم من الخفاف وغيرها، فإذا حضرت الغلة أجروه على العادة، وحملوه على ما تقدم من السنة، ثم لا يزالون على هذه الوتيرة، مِن أخذِ سِلَعه في وقت حاجتهم، ودفعه عن حقه في إبان غلاتهم، فلا يتنبه من رقدته ولا يفيق من سكرته.

فأنفذ العامل الكتاب وأشار بتقديم الخفاف أمام القوم، والإقبال عليه بالمخاطبة، وتخصيصه بالمسألة، ساكنا إلى أنه من ركاكته وفهاهته، بما يضحك الحاضرين ويحسم الاشتغال بالبحث عن هذه القصة، ويتخلص من هذه الثلاثة، فلما ورد كتاب صاحب الخبر أعلم عبيد اللّه بن يحيى المتوكل به وبحضور القوم، فأمر أن يجلس ويستحضرهم ويخاطبهم فيما حكي عنهم، وأمر فعلق بينه وبينهم سيبية - أي ستارة من قماش مستطيلة - ليقف على ما يجري ويسمعه ويشاهده.

ففعل ذلك وجلس عبيد اللّه واستدعى المحضرين فقدموا إليه يقدمهم بشر الخفاف، فلما جلسوا أقبل عبيد اللّه على بشر فقال له: أنت بشر الخفاف؟ فقال: نعم، فسكنت نفوس الحاضرين معه إلى تمام هذه الحيلة، وإتمام هذه المدالسة، وجواز هذه المغالطة، فقال له: إنه رفع إلى أمير المؤمنين من أمركم شيء أنكره، فأمر بالكشف عنه، وسؤالكم بعد إحضاركم عن حقيقته، فقال له بشر: نحن حاضرون فما الذي تأمرنا به؟ قال: بلغ أمير المؤمنين أنه يجتمع اليك قوم فيخوضون معك في الترفض وشتم الصحابة، فقال بشر: ما أعرف من هذا شيئا! قال: قد أمرت بامتحانكم والفحص عن مذاهبكم، فقال: ما تقول في السلف؟ فقال: لعن الله السلف، فقال له عبيد اللّه: ويلك أتدري ما تقول؟ قال: نعم! لعن اللّه السلف!

فخرج خادم من بين يدي المتوكل فقال لعبيد اللّه: يقول لك أمير المؤمنين: سله الثالثة فإن أقام على هذا فاضرب عنقه. فقال له: إني سائلك هذه المرة فإن لم تتب وترجع عما قلت أمرت بقتلك، فما تقول الآن في السلف؟ فقال: لعن الله السلف، قد خرب بيتي، وأبطل معيشتي، وأتلف مالي، وأفقرني وأهلك عيالي! قال: وكيف؟ قال: أنا رجل أسلف الأَكَرَةَ – أي عمال الزراعة - والمزارعين الخفافَ على أن يوفوني الثمن مما يحصل من غلاتهم، فأصير اليهم عند حصول الغلة في بيادرهم، فإذا أحرزوا الغلات دفعوني عن حقي، وامتنعوا من توفيتي مالي، ثم يعودون عند دخول الشتاء فيعتذرون إلي، ويحلفون باللّه لا يعاودون مطلي وظلمي، فإنهم يؤدون إلي المتقدم والمتأخر من مالي، فأجيبهم إلى ما يلتمسونه وأعطيهم ما يطلبونه، فإذا جاء وقت الغلة عادوا إلى مثل ما كانوا عليه من ظلمي وكسر مالي، فقد اختلت حالي وافتقرت عيالي.

فسمع ضحك عال من وراء السبيبة وخرج الخادم فقال: استحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين في حل وسعة. فصرفهم فلما توسطوا صحن الدار قال بعض الحاضرين هؤلاء قوم مُجّانٌ محتالون، وصاحب الخبر مسقط لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته، وينبغي أن يستقصى الفحص عن هذا والنظر فيه، فأمر بردهم فلما أُمروا بالرجوع قال بعض الجماعة التابعة لبعض: ليس هذا من ذلك الذي تقدم، فينبغي أن نتولى الكلام نحن، ونسلك طريق الجد والديانة، فرجعوا فأمروا بالجلوس، ثم أقبل عبيد اللّه على القوم فقال: إن الذي كتب في أمركم، ليس ممن تقدم على الكتب بما لا يقبله علما ويحيط به خبرا، وقد أمر أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم واتمام التفتيش عن أمركم، فقالوا: افعل ما أمرت به، فقال: من خير الناس بعد رسول اللّه؟ قلنا: علي بن أبي طالب، فقال لخادم بين يديه: قد سمعت ما قالوا فأخبر أمير المؤمنين به، فمضى ثم عاد فقال: يقول لكم أمير المؤمنين هذا مذهبي، فقلنا: الحمد للّه الذي وفق أمير المؤمنين في دينه، ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه، ثم قال لهم: ما تقولون في أبي بكر رضي اللّه عنه؟ فقالوا: رحمة اللّه على أبي بكر، نقول فيه خيرا، قال: فما تقولون في عمر؟ قلنا: رحمة اللّه عليه ولا نحبه؟ قال: ولم؟ قلنا: لأنه أخرج مولانا العباس من الشورى، قال: فسمعنا من وراء السيبية ضحكاً أعلى من الضحك الأول، ثم أتى الخادم فقال لعبيد اللّه عن المتوكل: أتبعهم صلة فقد لزمتهم في طريقهم مؤونة، واصرفهم. فقالوا: نحن في غنى، وفي المسلمين من هو أحق بهذه الصلة وإليها أحوج، وانصرفوا.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer