الجمعة، 30 مايو 2014

حدث في التاسع والعشرين من رجب

في التاسع والعشرين من رجب من سنة 241 وصل إلى مكة المكرمة إسحاق بن سلمة الصائغ ومعه الصُّناع، مرسلاً من الخليفة العباسي المتوكل على الله ليقوم بعملية ترميم للكعبة المشرفة، وأعمال ترميم لمشاعر الحج بعد سيل اجتاحها قبل قرابة شهرين، وعمل حمايات لها تقيها في المستقبل خطر السيول.
وهاهنا وصف لما قام به هذا المهندس مستقى أغلبه من كتاب أخبار مكة للأزرقي، أبي الوليد محمد بن عبد الله، المتوفى نحو 250، فهو شاهد عيان واكب هذه الأعمال، ودونها في كتابه الماتع، وقد اجتهدت أن أحافظ على أسلوبه الكتابي.
وجرت هذه الأعمال في خلافة المتوكل العباسي، جعفر بن محمد المعتصم، المولود سنة 206 والذي تولى الخلافة بعد وفاة أخيه الواثق سنة 232، وكان جوادا ممدحا محبا للعمران، وتوفي سنة 247 مقتولاً بمؤامرة من ولده محمد المنتصر بالله، المولود سنة 223، والذي لم تطل خلافته سوى 6 أشهر، ومات مسموماً كما يقال في سنة 248.
وكان ولي العهد محمد المنتصر بالله هو المسؤول عن أمر مكة والحجاز في دولة والده، فكتب والي مكة إليه أني دخلت الكعبة فرأيت الرخام المفروش به أرضها قد تكسر وصار قطعا صغارا، ورأيت ما على جدراتها من الرخام قد تزايل تهندمه، ووهى عن مواضعه، وأحضرت من فقهاء أهل مكة وصلحائهم جماعة، وشاورتهم في ذلك، فأجمع ظنهم بأن ما على ظهر الكعبة من الكسوة قد أثقلها ووهنها، ولم يأمنوا أن يكون ذلك قد أضر بجدراتها، وأنها لو جُردت أو خفف عنها بعض ما عليها من الكسوة كان أصلح وأوثق لها، فأنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى رأيه الميمون فيه، ويأمر في ذلك بما يوفقه الله ويسدده له.
والوالي المذكور هو على الأغلب محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ويقال له الزينبي نسبة إلى أم جده محمد، وهي السيدة المعمَّرة زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس.
وكان للخلفاء رقباء على الولاة يدعون صاحب البريد أو صاحب الخبر، ينصبه الخليفة رقيباً على أكابر عماله، وعلى أصحاب الأطراف في مختلف أرجاء المملكة، يكتب إليه بكل ما يرى ويسمع، خيراً كان أو شراً، ولا واسطة بينه وبين الخليفة،  وعليه أن يوصل الأخبار بأسرع السبل وأعجلها.
وكتب صاحب البريد في مكة إلى أمير المؤمنين بمثل ما كتب به العامل بمكة من ذلك، وتواترت كتبهما به وتماليا في ذلك، وذكرا في بعض كتبهما أن أمطار الخريف قد كثرت وتواترت بمكة ومنى في هذا العام، فهدمت منازل كثيرة، وأن السيل حمل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجد إبراهيم نبي الله عليه السلام، المعروف بمسجد الخيف، فهدم سقوفه وعامة جدرانه وذهب بما فيه من الحصباء فأعراه، وهدم من دار الإمارة بمنى وما فيها من الحُجَر جدراناً وعدة أبيات، وهدم العقبة المعروفة بجمرة العقبة، وبركة الياقوتة وبرك المأزمين والحياض المتصلة بها، وبركة العيرة، وأن العمل في ذلك إن لم يتدارك ويبادر بإصلاحه كان على سبيل زيادة، وهو عمل كثير لا يفرغ منه إلا في أشهر كثيرة.
ولا بد من تنافس في الشرف وبخاصة إن كان الأمر يتعلق بأعمال الكعبة المشرفة لدى خليفة المسلمين، فأدلى جماعة من حجبة الكعبة بدلوهم، مناقضين بعض الشيء ما ذكره الوالي وصاحب الخبر، قال الأزرقي: فأرسلوا إلى أمير المؤمنين المتوكل رقعة ذكروا فيها أن ما كتب به العامل بمكة من ذكر الرخام المتكسر في أرض الكعبة لم يزل على ما هو عليه، وأن ذلك لكثرة وطء من يدخل الكعبة من الحاج والمعتمرين والمجاورين وأهل مكة، وأنه لا يرزأها ولا يضرها، وأنه ليس في جدراتها من الرخام المتزايل، ولا على ظهرها من الكسوة ما يخاف بسببه وهن ولا غيره.
ثم قدم الحجبة اقتراحاتهم الإضافية فقالوا: إن زاويتين من زوايا الكعبة من داخلها ملبَّستان ذهبا وزاويتين فضة، وأن ذلك لو كان ذهبا كله كان أحسن وأزين، وأن قطعة فضة مركبة على بعض جدرات الكعبة شبه المنطقة، أي شبه إطار، فوق الإزار الثاني من الرخام، تحت الإزار الأعلى من الرخام المنقوش المذهب في زيق في الوسط فيه الجزعة التي تستقبل من توخى مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك القطعة في الزيق مبتدأ منطقة كانت عملت في خلافة الأمين محمد بن الرشيد عملها سالم بن الجراح أيام عمل الذهب على باب الكعبة، ثم جاء خلع الأمين قبل أن يتم فوقف عن عملها، ولو كان بدل تلك القطعة منطقة فضة مركبة في أعلى إزار الكعبة في تربيعها كان أبهى وأحسن، وأن الكرسي المنصوب المقعد فيه مقام إبراهيم عليه السلام ملبس صفايح من رصاص، ولو عمل مكان الرصاص فضة كان أشبه به وأحسن وأوثق له.
ورفع الحجبة أيضا رقعة إلى أمير المؤمنين يذكرون له أن العامل بمكة، أي الوالي، إن تسلط على أمر ترميم الكعبة أو كانت له في المشروع يد لم يؤمن أن يعمد إلى ما كان صحيحا و يتعلل فيه فيخربه أو يهدمه، ويحدث في ذلك أشياء لا تؤمن عواقبها، يطلب بذلك ضررهم، وأنهم لا يأمنون ذلك منه.
وأصدر الخليفة المتوكل أمره بعمل كل هذه المقترحات، وأمر بإرسال كتاب إلى العامل بمكة في جواب ما كان هو وصاحب البريد كتبا به، أن أمير المؤمنين قد أمر بتوجيه إسحاق بن سلمة الصايغ للوقوف على تلك الأعمال، ورد الأمر فيها إلى إسحاق ليعمل بما فيه الصلاح والإحكام إن شاء الله تعالى.
وإسحاق بن سلمة الصائغ، الذي اختاره الخليفة مديراً لهذا المشروع، هو شيخ له معرفة بالصناعات ورِفق وتجارب، ووجه معه من الصناع من تخيرهم إسحاق بن سلمة من صناعات شتى من الصياغ والرخاميين وغيرهم من الصناع نيفا وثلاثين رجلا، ومن الرخام الألواح الثخان ليشق كل لوح منها بمكة: لوحين ومئة لوح، ووجه معه بذهب وفضة وآلات لشق الرخام ولعمل الذهب والفضة. وإرسال الخليفة اللوح ليشق في مكة لوحين، هو لوضع هذين اللوحين بجانب بعضهما، فيصبحان متناظرين ويبدوان كأنهما صفحتين متجاورتين في كتاب مفتوح، كما هو معمول به في كثير من المشاريع الهندسية الكبيرة والفخمة.
فقدم إسحاق بن سلمة الصائغ بمن معه من الصناع والذهب والفضة والرخام والآلات، ووصل مكة في التاسع والعشرين من رجب سنة 241، ومعه كتاب منشور، مختوم في أسفله بخاتم أمير المؤمنين إلى العامل بمكة وغيره من العمال بمعاونة إسحاق بن سلمة ومكانفته على ما يحتاج إليه من ترويح هذه الأعمال، وأن لا تجعلوا على أنفسهم في مخالفة ما أمروا به من ذلك سبيلا.
وباشر إسحاق بن سلمة عمله في شعبان، بعد قدومه مكة بأيام، فدخل الكعبة المشرفة ودخل معه العامل بمكة وصاحب البريد وجماعة من الحجبة، وناس من أهل مكة من صلحائهم من القرشيين، وجماعة من الصناع الذين قدم بهم معه، وأحضر منجنيقا طويل الصفة إلى جانب الجدر الذي يقابل من دخل الكعبة، وصعد عليه إسحاق بن سلمة ومعه خيط وسابورة، فأرسل الخيط من أعلى المنجنيق وهو قائم عليه، ثم نزل وفعل ذلك بجدراتها الأربعة، فوجدها كأصح ما يكون من البناء وأحكمه، فسأل الحجبة: هل يجوز التكبير داخل الكعبة؟ فقالوا: نعم. فكبر وكبر من حضره داخل الكعبة، وكبر الناس ممن في الطواف وغيرهم من خارجها، وخر من في داخل الكعبة جميعا سُجَّدا لله وشكرا، وقام إسحاق بن سلمة بين بابي الكعبة، فأشرف على الناس، وقال: يا أيها الناس احمدوا الله تعالى على عمارة بيته، فإنا لم نجد فيه من الحدث مما كتب به إلى أمير المؤمنين شيئا، بل وجدنا الكعبة وجدرانها وإحكام بنائها وإتقانها على أتقن ما يكون.
ولما اطمأن إسحاق بن سلمة إلى سلامة الكعبة من الناحية العمرانية، باشر في الأعمال التجميلية، وابتدأ عمل الذهب والفضة والرخام في الدار المعروفة بخالصة في دار الخزانة عند الخياطين ناحية أجياد، وعمل إسحاق الذهب على زاويتي الكعبة من داخلها مكان ما كان هنالك من الفضة ملبسا، وكسر الذهب الذي كان على الزاويتين الباقيتين وأعاد عمله، فصار ذلك أجمع على مثال واحد منقوشة مؤلفة ناتئة، وعمل نطاقاً من فضة وركبها فوق إزار الكعبة في تربيعها كلها، منقوشة مؤلفة جليلة ناتئة، عرض النطاق ثلثي ذراع، وعمل طوقا من ذهب منقوش متصلا بهذه المنطقة، فركبه حول الجزعة التي تقابل من دخل من باب الكعبة فوق الطوق الذهب القديم الذي كان مركبا حولها من عمل الوليد بن عبد الملك، وكره أن يقلع ذلك الطوق الأول لسبب تكسر خفي في الجزعة، فتركه على حاله لئلا يحدث في الجزعة حادث.
وقلع الرخام المتزايل من جدرات الكعبة، وكان يسيرا رخامتين أو ثلاثا، وأعاد نصبه كله بجص صنعاني كان كتب فيه إلى عامل صنعاء، فحمل إليه منه جص مطبوخ صحيح غير مدقوق اثنا عشر حملا، فدقه ونخله وخلطه بماء زمزم ونصب به هذا الرخام، وفي أعلى هذا المنطقة الفضة رخام منقوش محفور، فألبس ذلك الرخام ذهبا رقيقا من الذهب الذي يتخذ للسقوف، فصار كأنه سبيكة مضروبة عليه إلى موضع الفسيفساء التي تحت سقف الكعبة.
وغسل الفسيفساء بماء الورد وحُمَاض الأُترج، ونقض ما كان من الأصباغ المزخرفة على السقف وعلى الإزار الذي دون السقف فوق الفسيفساء، ثم ألبسها ثياب قَباطي أخرجها إليه الحجبة مما عندهم في خزانة الكعبة، وألبس تلك الثياب ذهبا رقيقا وزخرفه بالأصباغ.
وكانت عتبة باب الكعبة السفلى قطعتين من خشب الساج قد رثتا ونخرتا من طول الزمان عليهما، فأخرجهما وصير مكانها قطعة من خشب الساج، وألبسها صفايح فضة من الفضة التي كانت في الزاويتين التي صير مكانهما ذهبا ولم يقلع في ذلك باب الكعبة، وحرفا فأزيلا شيئا يسيرا، وهما قائمان منصوبان.
وكان في الجدر الذي في ظهر الباب يمنة من دخل الكعبة رزَّة وكُلاّب من صَفْر يشد به الباب إذا فتح بذلك الكلاب لئلا يتحرك عن موضعه، فقلع ذلك الصفر، وصير مكانه فضة، وألبس ما حول باب الدرجة فضة مضروبة.
ووجد إسحاق داخل الكعبة هلالين أرسلهما في سنة 101 الخليفة الأموي الوليد بن يزيد، ومكتوب عليهما: : بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبد الله الخليفة الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في سنة إحدى ومائة.
وكان الرخام الذي قدم به معه إسحاق رخاما يسمى المُسَيَّر، ولعل ذلك لوجود خطوط كالسيور فيه، وكان غير مشاكل لما كان على جدران الكعبة من الرخام، فشقه وسواه وقلع ما كان على جدران المسجد الحرام في ظهر الصناديق التي يكون فيها طيب الكعبة وكسوتها من الرخام، وقلع الرخام الذي كان على جدر المسجد الذي بين باب الصفا وبين باب السمانين، واسم ذلك الرخام البذنجنا، ونصب الرخام المُسَيَّر الذي جاء به مكانه على جدرات المسجد.
وأنزل المعاليق المعلقة بين الأساطين، ونفضها من الغبار، وغسلها وجلاها، وألبس عمدها الحديد المعترضة بين الأساطين ذهبا من الذهب الرقيق، وأعاد تعليقها في مواضعها على التأليف.
وأخذ إسحاق بن سلمة بتحسين مقام إبراهيم عليه السلام، فجعل الفضة على كرسي المقام مكان الرصاص الذي كان عليه، واتخذ له قبة من خشب الساج مقبوة الرأس بضِباب قد جعلها لها من حديد ملبسة الداخل بالأَدم، أي الجلد، وكانت القبة قبل ذلك مسطحة، ودخل في ذلك من الفضة آلاف الدراهم.
وكان إسحاق بن سلمة قد باشر كذلك أعماله في منى، وكان أولها عمل ضفيرة تتخذ ليرد سيل الجبل عن المسجد ودار الإمارة، فاتخذ هناك ضفيرة عريضة مرتفعة السمك وأحكمها بالحجارة والنورة والرماد، فصار ما ينحدر من السيل يتسرب في أصل الضفيرة من خارجها ويخرج إلى الشارع الأعظم بمنى، ولا يدخل المسجد ولا دار الإمارة منه شيء، وصار ما بين الضفيرة والمسجد، وهو عن يسار الإمام رفقا للمسجد وزيادة في سعته.
ثم هدم مسجد الخيف وما كان من دار الإمارة مستهدما وأعاد بناءه، ورمَّ ما كان مسترما، وأضاف إليه ست ظُلل، وأحكم العقبة وجدرانها، وأصلح الطريق التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى الشِعْب ومعه العباس بن عبد المطلب، الذي يقال له : شعب الأنصار، الذي أخذ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على الأنصار، وكانت هذه الطريق قد عفت ودرست.
وكانت الجمرة زايلة عن موضعها، أزالها جهال الناس برميهم الحصى، وغُفل عنها حتى أزيحت عن موضعها شيئا يسيرا منها من فوقها، فردها إلى موضعها الذي لم تزل عليه، وبنى من ورائها جدارا أعلاه، ومسجدا متصلا بذلك الجدار لئلا يصل إليها من يريد الرمي من أعلاها، وإنما السنة لمن أراد الرمي أن يقف من تحتها من بطن الوادي، فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، ويرمي كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده.
وعمل إسحاق بن سلمة عدداً من البِرك التي سير إليها الماء ليشرب منها الناس، وأحكم عملها، ومنها بركة عند ثنية الحصحاص على طريق التنعيم، وبنى حائطاً ليصرف ماء فخ إليها، وجعل لها مجرى من هذا التجمع ليصب فيها.
وفرغ إسحاق بن سلمة من أعمال الكعبة و أعمال منى، يوم النصف من شعبان سنة 242، وأحضر الحجبة في ذلك اليوم أجزاء القرآن، وهم جماعة فتفرقوها بينهم وإسحاق بن سلمة معهم حتى ختموا القرآن، وأحضروا ماء ورد ومسكا وعودا وسُّكا مسحوقا، فطيبوا به جدران الكعبة وأرضها، وأجافوا بابها عليهم عند فراغهم من الختمة، فدعوا، ودعا من حضر الطواف، وضجوا بالتضرع والبكاء إلى الله، ودعوا لأمير المؤمنين ولولاة عهود المسلمين ولأنفسهم ولجميع المسلمين، فكان يومهم ذلك يوما شريفا حسنا.
قال أبو الوليد الأزرقي: وأخبرني إسحاق بن سلمة الصائغ أن مبلغ ما كان في الأربع الزوايا من الذهب والطوق الذي حول الجزعة، نحو من ثمانية آلاف مثقال، تعادل 34 كيلو، وأن ما في نطاق الفضة وما كان على عتبة الباب السفلى من الصفايح وعلى كرسي المقام من الفضة، نحو من سبعين ألف درهم، تعادل 210 كيلو، وما ركب من الذهب الرقيق على جدرات الكعبة وسقفها، نحو من مائتي حق يكون في كل حق خمسة مثاقيل، تعادل 4.25 كيلو، وخلط إسحاق بن سلمة ما بقي لديه مع هذا الجص الصنعاني، وما قلع من أرض الكعبة من الرخام المتكسر مما لا يصلح إعادته في شيء من العمل، وثلاثة حقاق من هذا الذهب الرقيق، وجراب فيه تراب مما قشر من جدرات الكعبة، ومسامير فضة صغار، وتركه لدى الحجبة لما عسى أن يحتاجوا إليه لها، وانصرف بعد فراغه من الحج في آخر سنة 242.
قال إبراهيم عليه السلام: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع. فمكة المكرمة تقع في وسط جبال كثيرة فهي عرضة للسيول كلما هطل المطر الموسمي غزيراً، وهي ظاهرة تحدث كل بضع سنوات، والحرم المكي في وسطها، ولذا نجد المؤرخين يذكرون أنه في سنة 253 أي بعد حوالي 10 سنوات من هذا السيل الذي ذكرنا بعشر سنوات، جاء سيل فدخل المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة، وبلغ قريبا من الركن الأسود، ورمى بالدور بأسفل مكة، وذهب بأمتعة الناس، وخرب منازلهم، وملأ المسجدَ غثاءُ السيل وترابه، حتى جرَّ ما في المسجد من التراب بالعجل، وتولى ذلك من عمارته عيسى بن محمد المخزومي، وهو يومئذ والي مكة.
ولم يقتصر عمل إسحاق بن سلمة على الحرم المكي، بل إن الخليفة المتوكل أرسله من العراق في مهمة عمرانية شملت الحرمين المكي والمدني، وذلك لأن الكتب التي تتحدث عن تاريخ الحرمين تذكر أنه أمر إسحاق بن سلمة بأن يجعل للحجرة النبوية إزاراً من رخام، وأن يفرش محيطها كذلك بالرخام، وإن هذا الإزار استمر حتى سنة 548 عندما أمر الخليفة المقتفي بتجديده، فجدده جمال الدين الأصفهاني وجعل ارتفاع الرخام بمقدار قامة وزيادة.
ولم يكن هذا أول أعمال الترميم والتحسين في المسجد الحرام ومشاعر الحج، فقد تتابعت عليه من قبل جهود الخلفاء الأمويين والعباسيين، وتتابعت عليه من بعد من أعقبهم من الدول، وهو اليوم محط اهتمام الدولة السعودية في توسعته أضعافاً مضاعفة وتحسين عمرانه وتجميله، ليتسع للملايين المتزايدة من الحجاج والمعتمرين، ولتمكينهم من أداء مناسكهم في يسر وأمان.
ولا يفوتنا أن نذكر أن أول توسعة رئيسة كانت في سنة 161 بأمر الخليفة العباسي المهدي، ولما حج هو سنة 167 رأى أن التوسعة التي نُفِّذت بها تعويج، وأصبحت الكعبة في طرف من المسجد، وكانت تقديرات المهندسين الذي استشارهم بصعوبة بل استحالة ذلك بسبب السيول العارمة في مكة المكرمة ولكون الحرم في بطن الوادي، فقال لهم المهدي: لا بد لي من أن أوسعه حتى أوسط الكعبة في المسجد على كل حال، ولو أنفقتُ فيه ما في بيوت الأموال. وأمر بشراء دور كثيرة من جهة أجياد لتُدخل في الحرم، فاشتريت بثمن كثير، وتم إنجاز الأمر على ما أراد وأصبحت الكعبة المشرفة في وسط المسجد الحرام.
اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer