الجمعة، 23 مايو 2014

حدث في الخامس عشر من رجب

في الخامس عشر من رجب من سنة 854 توفي في القاهرة، عن 62 سنة، شهاب الدين ابن عرب شاه، أحمد بن محمد بن عبد الله الدمشقي الحنفي، الأديب والمؤرخ والفقيه، وصاحب الكتاب المشهور عجائب المقدور في نوائب تيمور.
ولد ابن عرب شاه في دمشق سنة 791، ويبدو أن أسرته كانت تُعنى بطلب العلم لأنه حفظ القرآن الكريم في دمشق في صغره، ثم خرج منها سنة 803 مع إخوته وأمهم وابن أخته إلى سمرقند، وذلك فيمن أجلاهم تيمور لِنك قسراً عن دمشق عند احتلاله لها، ثم جلائه عنها في ذات السنة، وكانت وفاة تيمور سنة 807.
وتابع ابن عرب شاه طلب العلم في مغتربه بسمرقند، وهي اليوم في أُزبكستان، وكان عالمها في عصره الشريف الجُرجاني، علي بن محمد، المولود ستة 740 والمتوفى سنة 816، وهو من كبار العلماء بالعربية، وله كتب في الفقه والحديث والفلك والتفسير، فحضر ابن عرب شاه دروسه العامة، ولكنه لم يأخذ عنه علماً بعينه، إلا أنه درس النحو والصرف على تلامذة الشريف الجرجاني، وكان القارئ الشهير ابن الجزري، محمد بن محمد بن محمد، المولود بدمشق سنة 751 والمتوفى بشيراز سنة 833، قد سافر مع تيمور لنك إلى ما وراء النهر، ثم استوطن شيراز، فدرس عليه فيها ابن عرب شاه الحديث وسمع عليه بعض مصنفاته في القراءات. ويذكر ابن عرب شاه أنه التقى في سمرقند في سنة 809 الشيخ عُريان الأدهمي الذي يشاع حوله أنه قد بلغ من السن 300 سنة!
ثم رحل ابن عرب شاه شمالاً في طلب العلم إلى خوارزم، ودرس فيها على مشايخ بخارى وخوارزم وعلمائها، ومنهم أحمد الواعظ بن شمس الأئمة، وكان يقال له ملك الكلام فارسياً وتركياً وعربياً.
وفي نحو سنة 813 رحل إلى مملكة القفجاق المسلمة والواقعة شمال القوقاز، وهي المملكة التي أسسها الملك أوز بك قبل قرابة 80 عاماً، فأقام فيها أربع سنوات في بلدة الحاج ترخان على مصب نهر الفولغا في بحر قزوين، وهي اليوم تدعى أستراخان، وولد ابنه عبد الوهاب أثنائها، ودرس فيها ابن عرب شاه على أحد كبار فقهاء الأحناف في تلك الربوع، وهو حافظ الدين البزازي الكَرْدَري، محمد بن محمد بن شهاب، المتوفى سنة 827، وهو صاحب الفتاوى البزازية في الفقه الحنفي، وله كتاب في مناقب أبي حنيفة، فدرس عليه الفقه الحنفي والأصول وعلوم البيان. والكردري نسبة إلى بلد كردر قرب خوارزم في شمالي تركمنستان.
ثم رحل إلى شبه جزيرة القِرِم عل البحر الأسود، وكانت تحت حكم التتار المسلمين، فاجتمع بعلمائها وأدبائها وشعرائها، ثم رحل إلى توقات في الأناضول فأقام بها نحو عشر سنوات ثم التحق ببلاط السلطان محمد ﭼلبي بن السلطان بايزيد المولود سنة 781، والذي تولى السلطنة منفرداً من سنة 816 حتى وفاته سنة 824، وتولى ابن عرب شاه ديوان الإنشاء للسلطان محمد نظراً لما كان يتمتع به من إتقان للغات العربية والفارسية والتركية والمغولية وإجادته خطوطها، وكان ديوان الإنشاء آنذاك يقوم بمراسلات السلطان في الداخل والخارج، وإضافة لديوان الإنشاء ترجم ابن عرب شاه للسلطان ولابنه السلطان مراد الثاني بعض الكتب من الفارسية إلى التركية مثل كتاب جامع الحكايات ولامع الروايات لجمال الدين محمد العوفى، وترجم له تفسير أبي الليث السمرقندي، وكتاب القادري في تعبير الأحلام، الذي ألفه نصر بن يعقوب الدينوري للخليفة العباسي القادر بالله، المتوفى سنة 397، ونقله ابن عرب شاه إلى التركية نظماً في 6 مجلدات.
ولم يمنعه علو منصبه وقربه من السلطان أن يتابع نهمه في طلب العلم، فدرس على كبار علماء الدولة العثمانية، ومنهم شمس الدين الفناري، المولود سنة 751  والمتوفى سنة 834، وكان عالماً بالفقه والمنطق والأصول، ودرس ابن عرب شاه كتاب مفتاح العلوم للسكاكي بأكمله، وهو في المعاني والبيان، على برهان الدين الخوافي، حيدر بن محمد، المعروف بالصدر الهروي، والمولود سنة 780 والمتوفى سنة 854.
ولما توفي السلطان محمد، رجع ابن عرب شاه إلى الشام، ومر بحلب ومكث فيها 4 أشهر، وفي منتصف سنة 825 دخل دمشق مسقط رأسه الذي بقي يحن إليه، ولم تنسه إياه المناصب ولا طول الفراق، وقال قصيدة في اغترابه، منها:
ألا إنني يا أهلَ جِلق منكمُ ... ومن نسبي أنساب سعد وعثمان
ومسقط رأسي في دمشق وقد مضى ... بها جُلُّ أسلافي وأهلي وإخواني
ولكنما حكم الإله بما جرى ... قضى لي بتغريب الديار فأقصاني
ودحرجني ذا الدهر في صَولجانه ... لأطوار أدوار وكثرة دوران
فقضيت غض العمر في طلب العلى ... على بُعد أوطاني وقلة أعواني
فطورا ترى بالصين سائق ناقتي ... وحينا ترى بالروم قائد هجاني
وطَورا تراني ذا ثراء وتارة ... ألوكُ الثرى فقرا وأكتم أشجاني
وفي كل أطواري تراني مُشبَّثا ... بذيل المعاني غير واهٍ ولا واني
أباكر درس العلم جُهدي وطاقتي ... وأخدمُ أهل الفضل في كل أحياني
ولم يباشر ابن عرب شاه التدريس في دمشق على نطاق واسع، بل اعتزل الناس وعزف عن المناصب والجاه، فعمل شاهداً في في أحد مساجدها، وهو عمل بمثابة معاون للقاضي لا يتفق مع منزلته، ولا تورد كتب التراجم أسماء من درسوا عليه إلا نادراً، ومن ذلك أن ابن السابق الحموي، فرج بن محمد المولود في حماة سنة 813 والمتوفى سنة 896، درس عليه قصيدة الرامزة في علمي العروض والقافية، المعروفة بالخزرجية نسبة لناظمها ضياء الدين الخزرجي، عبد الله بن محمد، المتوفى بالإسكندرية سنة 626.
ولئن اعتزل ابن عرب شاه الناس فإنه لم يعتزل طلب العلم، فنجده يقرأ على القاضي الحنبلي شهاب الدين بن الحبال صحيح مسلم في سنة 830، ولما قدم علاء الدين البخاري، محمد بن محمد، المولود سنة 779، إلى دمشق سنة 832 قافلاً من الحج، انقطع إليه ليدرس على يده الفقه والأصول واللغة العربية وغيرها، ولازمه حتى مات سنة 841.
ورحل ابن عرب شاه إلى بلاد الروم سنة 839، كما ذكر عرضاً في كتابه عجائب المقدور، ولكننا لا نعرف أسباب هذه الرحلة أو مدتها ولا ما تم فيها.
ورحل ابن عرب شاه إلى القاهرة مرات، لعل أولها كان في سنة 840، ولا توجد إشارة لسببها، والتقى في زيارته بعلمائها وطلبة العلم فيها، وعلى رأسهم ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي المولود سنة 772 والمتوفى سنة 852، وقد أشار لذلك السخاوي، وهو تلميذ ابن حجر، في ترجمته له في كتابه الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع، فقال:
وأشير إليه بالتفنن حتى كان ممن يجله ويعترف له بالفضيلة شيخنا، وأثنى على نظمه... مع حرص صاحب الترجمة حين كونه بالقاهرة على ملازمته والاستفادة منه، بل امتدحه بقصيدة بديعة... وكثر اجتماعهما وطرح شيخنا عليه من الأسئلة التي فيها من الفكاهة والمداعبة مما تعرف منه الملاءة والقدرة على التخلص منه... وكان أحد الأفراد في إجادة النظم باللغات الثلاث العربية والعجمية والتركية، جيد الخط، جيد الإتقان والضبط، عذب الكلام، بديع المحاضرة، مع كثرة التودد، ومزيد التواضع، وعفة النفس، ووفور العقل والرزانة، وحسن الشكالة والأبهة، سيما الخير ولوائح الدين عليه ظاهرة.
وكان من أدباء القاهرة المرموقين في ذلك الزمان الشهاب الحجازي، أحمد بن محمد بن علي الإنصاري، المولود سنة 790 والمتوفى سنة 875، وله رسالة فريدة فيما وقع في القرآن على أوزان بحور الشعر، فقرأها عليه ابن عرب شاه، وكتب له أبياتاً يلتمس منه الإجازة بروايتها. ونذكر للفائدة بيتين من نظم الشهاب الحجازي:
قالوا إذا لم يخلِّف ميتٌ ذكراً ... يُنسى، فقلت لهم في بعض أشعاري:
بعد الممات أصيحابي ستذكرني ... بما أخلف من أولاد أفكاري!
والتقى ابن عرب شاه في القاهرة كذلك بالؤرخ الكبير يوسف بن تغري بردي، المولود سنة 813 والمتوفى سنة 874، وانتسجت بينهما صحبة أكيدة ومودة، وأخذ عنه شيئاً من علوم البيان والأدب، وترجم ابن تغري بردي لأستاذه ابن عرب شاه في كتابه المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، وبالغ في وصفه حين قال: الإمام العالم، العلامة البارع، المفنن الأديب، الفقيه، اللغوي، النحوي، كان إمام عصره في المنظوم والمنثور... وكانت له قدرة على نظم العلوم وسبكها في قالب المديح والغزل. وترجم له كذلك في كتابه النجوم الزاهرة فوصفه بالأدب والسكون والتواضع، وهي صفات شخصية تدل على رصانة واتزان.
ثم أورد ابن تغري بردي نص إجازة طلبها من ابن عرب شاه فأجازه، ومما جاء فيها:  أجزت الجناب الكريم العالي، ذا القدر المنيف الغالي، والصدر الذي هو بالفضائل حالي، وعن الرذائل خالي، المولوي الأميري الكبيري العالمي الأصيلي العريقي الكاملي الفاضلي المخدومي الجمالي أبا المحاسن، الذي وِرْد فواضله وفضائله وغير آسن... فهو أمير الفقهاء، وفقيه الأمراء، وظريف الأدباء، وأديب الظرفاء فمهما تصفه صف وأكثِرْ، فإنه لأعظم مما قلت فيه وأكثر.
وفي هذه الإجازة يستعرض ابن عرب شاه حياته العلمية ومشايخه الذين أجازوه، ويذكر رحلاته في كل مرحلة من مراحل حياته، ولكنه لا يفيدنا تصريحاً عن سبب خروجه من دمشق إلى سمرقند، كذلك يجتزئ في ذكر أسماء بعض مشايخه، فيعذر لذلك تعريفهم واستيفاء ترجماتهم.
وفي هذه الإجازة التي أصدرها ابن عرب شاه قبل وفاته بستة أشهر، نجد أسماء أهم مؤلفاته، فمن  المنظومة: جلوة الأمداح الجمالية في حلّتي العروض والعربية، والعقد الفريد في علم التوحيد، ومنظومة مرآة الأدب في علمي المعاني والبيان، ومنظومة في حكم المذهب الحنفي من قعد في صلاة الصبح مقدار التشهد فطلعت الشمس قبل الخروج من الصلاة، ومنظومة في بحث النكِرة المنفية والمثبتة، وعنقود النصيحة، وغرة السير ِفي دول الترك والتتر، وكان لم يكتمل بعد، وأما المصنفات المنثورة، وهي في حقيقتها مسجوعة، فمنها تاريخ تيمور لنك المسمى عجائب المقدور في نوائب تيمور، ومنها فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، ومنها خطاب الإهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب، ومنها الترجمان بمنتهى الإرب في لغة الترك والعجم والعرب، ثم قال ابن عرب شاه: وأقتصرُ في التذكرة على هذه  المصنفات العشرة للوجازة لا الإجازة.
ولم يشر ابن عرب شاه إلى كتابه التأليف الطاهر في سيرة الملك الظاهر، يعني الملك المملوكي جقمق المتوفى سنة 857، عن نيف وثمانين سنة، والذي تولى الحكم سنة 841، والذي تسبب في وفاة ابن عرب شاه كما سنرى فيما بعد.
وكتاب الإهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب هو مساجلات شعرية بينه وبين برهان الدين الباعوني، إبراهيم بن أحمد المولود في صفد سنة 777، والمتوفى بدمشق سنة 870، وبين القاضي حميد الدين النعماني الحنفي، محمد بن أحمد المولود سنة 805 بمراغة في تبريز، والمتوفى بدمشق سنة 867، وهذه المساجلات الشعرية أبيات تنظم على قوافي نادرة كالظاء مثلاً، وعلى الخصم أن يأتي بأبيات على نفس القافية الصعبة ولكن بكلمات جديدة، فهي استعراض للتمكن من ناصية الشعر مع الحفظ الكثير للغة وسعة الاطلاع على المعاجم.
وكتاب عجائب المقدور في نوائب تيمور، هو كما يتضح من اسمه تأريخ لحياة تيمور لنك من ولادته إلى وفاته، ثم يتناول شيئاً من حياة خلفائه، وقد كتبه ابن عرب شاه في سنة 840، أي بعد 15 سنة من عودته لدمشق، وبعد نحو جيل من وفاة تيمور، وهو قد استقى أخباره من معاصري تيمور وأمرائه وجمهوره، ولذا فهو من أهم الكتب العربية التي تناولت سيرة هذا القائد المغولي، ومن أوائل الكتب التي طبعها المستشرقون حيث طبعه المستشرق الهولندي يعقوب جوليوس سنة 1624.
ويتضح من الكتاب الذي يغلب عليه السجع، أن ابن عرب شاه لا يكن إلا الكره والعداء لتيمور لنك، ولذا فهو  يعطي صورة من الداخل عن كل ما هو سلبي وسيئ في حياة تيمور وخصاله الشخصية، ولا يحتوي الكتاب على أية معلومات شخصية عن ابن عرب شاه وسبب إجلائه عن دمشق، بل جل ما نستفيده عنه من الكتاب أسماء مشايخه وبعض التواريخ التي تحدد لنا مكان وجود ابن عرب شاه.
وفي الكتاب لمحة تحليل سياسي أوردها ابن عرب شاه، ولا ندري ناقلاً عن غيره أم منشئاً من فكره، وتدور حول الملك الظاهر عيسى بن داود الذي كان ملك ماردين قرابة 20 سنة منذ سنة 778 حتى جاء تيمور لنك وحاصرها وقبض عليه وسجنه ثم أطلق سراحه في سنة 798 وجعله ملكاً على رقعة واسعة تمتد من أذربيجان فأرمينية إلى الرها وديار بكر، يحمل إليه ملوكها الخراج ولا يحمل هو إلى تيمور شيئاً، قال ابن عرب شاه في تحليل غير مألوف منه: وكل ذلك من الدهاء والمكر ... وهذا وإن كان في الظاهر كالإكرام، فإنه فيما يؤول إليه وبال عليه وانتقام، وفيه كما ترى ما فيه، وإلقاء العداوة بينه وبين مجاوريه، وينجر ذلك إلى أن يلتجي إليه، ويعول في كل أموره عليه، ويدخل لكثرة الأعداء تحت ضبنه، فيصل إذ ذاك منه إلى حصنه، ثم إنه شرط عليه أنه كلما طلبه جاء إليه...
ويشير ابن عرب شاه في أول كتابه وهو الضليع بعدة لغات إلى مزية للغة العربية إزاء تعريب الألفاظ الأعجمية، فيقول: إن كُرَة الألفاظ الأعجمية، إذا تداولها صولجان اللغة العربية، خرطها في الدوران على بناء أوزانها، ودحرجها كيف شاء في ميدان لسانها.
وكتاب ابن عرب شاه الآخر الذي اشتهر به هو كتابه فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، وهو كتاب في الآداب السلطانية يبين للملوك والأمراء ما يبنغي أن يراعوه في أساليب السياسة والحكم، وسبكه ابن عرب شاه في قالب القصص والأمثال، ونهج فيه على أسلوب كليلة ودمنة في الحديث على ألسنة الحيوان، إلا أن حواره يدور بين ملك وحكيم، والكتاب مسجوع، فهو يجمع بين أدب المقامات والقصص الرمزي عند ابن المقفع، ويرى بعض المحققين أنه مترجم أو مستوحى من كتاب مرزبان نامه الفارسي.
وفي الكتاب استعراض مفصل لتاريخ جنكيز خان وأن سبب هجومه على خوازم هو التعسف والظلم الذي قابل به السلطان قطب الدين خوارزم شاه تجار المغول الذين أرسلهم جنكيز خان إلى البلاد الإسلامية، ورفضه أن يقيم الحق وينصف المظلوم، فأثار حنق جنكيز خان فهاجم بلاده، فلما استولى عليها وحاز أموالها وخيراتها بأقل الخسائر، شجعه ذلك على أن ينطلق منها إلى السيطرة على العالم.
وفي الكتاب قصة عن تيمور كان محلها أن تذكر في كتابه الآخر، ونوردها لأهميتها، وهي أن تيمور لنك في سنة 805 بعد انتصاره على السلطان العثماني بايزيد قد أمر أحد أمرائه ويدعى الله داد: أن يبين له أوضاع تلك الممالك، ويوضح كيفية الطرق بها والمسالك، ويذكر له مدنها وقراها، ووهدها وذراها، وقلاعها وصياصيها، وأدانيها وأقاصيها، ومفاوزها وأوعارها، وصحاراها وقفارها، وأعلامها ومنارها، ومياهها وأنهارها، وقبائلها وشعابها، ومضايق دروبها ورحابها، ومعالمها ومجالها، ومراحلها ومنازلها، وخاليها وآهلها، بحيث يسلك في ذلك السبيل الإطناب الممل، ويتجنب مأخذ الإيجاز وخصوصاً المخل، ويذكر مسافة ما بين المنزلتين، وكيفية المسير بين كل مرحلتين، من حيث تنتهي إليه طاقته، ويصل إليه علمه ودرايته...
فامتثل الله داد ذلك المثال، وصور له ذلك على أحسن هيئة وآنق تمثال، وهو أنه استدعى بعدة أطباق من نقي الأوراق، وأحكمها بالإلصاق، وجعلها مربعة الأشكال، ووضع عليها ذلك المثال، وصوَّر جميع تلك الأماكن، وما فيها من متحرك وساكن، فأوضح فيها كل الأمور، حسبما رسم به تيمور، شرقاً وغرباً، بُعداً وقرباً، يميناً وشمالاً، مِهاداً وجبالاً، طولاً وعرضاً، سماء وأرضاً، مرداء وشجراء، غبراء وخضراء، منهِلاً منهلاً، ومنزلاً ومنزلاً، وذكر اسم كل مكان ورسمه، وعين طريقه ووسمه، بحيث بين فضله وعيبه، وأبرز إلى عالم الشهادة غيبه، حتى كأنه شاهده، ودليله ورائده، وجهز ذلك إليه، حسبما اقترحه عليه، كل ذلك وتيمور، في بلاد الروم يمور، وبينهما مسيرة سبعة شهور.
وكذلك فعل ذلك البطل وهو بالبلاد الشامية، سنة ثلاث وثمانميه، مع القاضي ولي الدين، عمدة المؤرخين، أبي هريرة عبد الرحمن بن خلدون، أغرقه الله في فلك رحمته المشحون، وقد سأله عن أحوال بلاد العرب، وما جرى فيها من صلح وحرب، وما وقع فيها من خير وشر، ونفع وضُر، ثم إنه اقترح عليه، وتقدم بالأمر إليه، بوضع أوضاعها، ورسم مدنها وقلاعها، وحصونها وضياعها، وتخطيط ولاياتها، وأشكالها وهيآتها، فامتثل ذلك وأبداه، وعلى حسب ما اختاره واقترحه أنهاه، وبين ذلك مثل ما ذكره أعلاه، فشاهد أوضاعها، وخبر وهادها وبقاعها، كأن الحائل رفع من البين، وعاين ذلك الإقليم بالعين...
وكانت آخر رحلات ابن عرب شاه إلى القاهرة في أواخر سنة 853، وجرت له قضية مع أحد علماء عصره وهو حميد الدين النعماني الحنفي، محمد بن أحمد المولود سنة 805 بمراغة في تبريز، والمتوفى بدمشق سنة 867، لم أعثر لها على تفصيل لأورده، بل تذكر الكتب أن الملك الظاهر جقمق انتصر لحميد الدين وعاقب ابن عرب شاه وأدخله على إثرها  سجن المجرمين 5 أيام، ثم أخرج مقهوراً حزيناً، فمات بعد 12 يوماً في 15 رجب، غريباً عن أهله ووطنه، وكانت وفاته في آب/أغسطس والقحط قد ضرب مصر والنيل قد قل منسوبه، والناس مشغولون في الاستسقاء، فجرت له جنازة بسيطة ودفن في الخانقاه الصلاحية.
تمتع ابن عرب شاه بموهبة النظم، وكان يقول الشعر بالعربية والفارسية والتركية، وكثير من كتبه الفقهية العلمية أو الأدبية البيانية منظومات تعد أبياتها بالألوف، ولكنه لم يكن شاعراً جزيل الألفاظ غزير المعاني أو رقيق الشعور، بل هو ناظم غزير الانتاج أعلى درجة أو اثنتين من شعر الفقهاء، ومن نظمه في الزهد:
قميص من القطن من حِلِّه ... وشربة ماء قراح وقوت
ينال به المرء ما يبتغي ... وهذا كثيرٌ على من يموت
ومنه كذلك:
فعش ما شئت في الدنيا وأدرك ... بها ما شئت من صيت وصوت
فحبل العيش موصول بقطع ... وخيط العمر معقود بموت
ومنه يخاطب نفسه في القناعة، وهو لطيف:
يا أحمد اقنع بالذي أوتيتَه ... إن كنت لا ترضى لنفسك ذلها
واعلم بأن الله جل جلاله ... لم يخلق الدنيا لأجلك كلها
ذكرنا من قبل أن لابن عرب شاه ابنٌ اسمه تاج الدين عبد الوهاب، ولد  سنة 813 ، وكان كوالده عالماً بكثير من العلوم، ورجع معه إلى دمشق، وبرز فيها بين العلماء، وتولى قضاء الأحناف بدمشق، وله نظم كثير، وتميز في علم المواريث، وتولى القضاء في القاهرة وتوفي بها سنة 901، ومن شعره:
ولقد شكوت إلى طبيبي علتي ... مما اقترفت من الذنوب الجانيه
وصفَ الطبيبُ شرابَ مدح المصطفى ... فهو الشفا فاشرب هنيئاً عافيه
ولابن عرب شاه ولدان آخران، كانا كذلك من طلبة العلم وعملا في القضاء، أولهما علي المولود سنة 848 والمتوفى سنة 910، والآخر حسن كان أحد الشهود المعتبرين بدمشق.
وكان لابن عرب شاه أخٌ اسمه محمد اشتغل بالعربية والفقه وأصبح من الفقهاء، ثم اختل عقله، فصار من عقلاء المجانين، فكانت تصدر منه بعض التصرفات المستظرفة وإن كانت غير لائقة في حق كبار القوم، ومن ذلك أنه طلع مرة للملك الظاهر جُقمُق ومعه زناد في يده، فقدح به بين يديه، وذلك من نوع التعريض لأن الزناد في التركية: جقمق. فظن السلطان أن ذلك بمواطأة من أخيه، وأسرها في نفسه حتى حانت له فرصة عقوبة فاشتد في عقوبته حتى أدت إلى وفاته.
وهناك أسرة أخرى في دمشق في نفس الزمن حملت اسم عرب شاه، منها داود وصالح ابني محمد، ولكنها لا تمت بصلة لأسرة شهاب الدين.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer