الجمعة، 2 مايو 2014

حدث في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة

 
في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من سنة 207 توفي في مرو، عن 48 سنة، الأمير أبو الطيب طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق بن ماهان، الخزاعي، وزير الخليفة العباسي المأمون ثم عامله على خراسان، وأحد كبار الوزراء والقواد أدباً وحكمة وشجاعة. وكان جده الأعلى زريق من موالي طلحة بن عبد الله الخزاعي، المعروف بطلحة الطلحات، ولذا قيل لهم الخزاعية.
ولد طاهر بن الحسين سنة 159 في خراسان في بلدة بوشنج، غربي هَراة في شمالي شرق أفغانستان وقد اندثرت، وكان جده مصعب بن زريق والياً عل هراة. وأما والده الحسين بن مصعب فكان من كبار القوم في خراسان، ومن المقربين إلى الخليفة هارون الرشيد.

وسكن طاهر بغداد، واتصل بالمأمون في صباه، ولما مات الرشيد في طوس، قرب مشهد في إيران، سنة 193 عن 45 عاماً، وتولي الخلافة ابنه محمد الأمين بعهد منه، كان المأمون في مرو حيث جعله والده نائباً له على خراسان، وجرى بين الأخوين خلاف تطور إلى أن نزع الأمين المأمون من ولاية العهد سنة 195، فاستحال الأمر إلى نزاع مسلح وقتال مرير ومعارك دامية، كان طاهر بن الحسين قائد جيوش المأمون فيها فخاض عدة معارك ظافرة مع جيوش الأمين مرة تلو الأخرى، ابتدأ من خراسان حتى وصل إلى بغداد فحاصرها وظفر بالأمين وقتله سنة 198، وصار الحكم للمأمون دون منازع، وقد ذكرنا طرفاً من هذه الأحداث في وفاة وزير المأمون الفضل بن سهل في الثاني من شعبان من عام 202.

وظهرت في هذه الحملات شجاعة طاهر بن الحسين وحسن تدبيره في إدارة الحروب، وسياسته في استمالة الناس، ولقب بعدها طاهر بن الحسين بذي اليمينين لأنه ضرب بسيفه شخصاً في إحدى المعارك فقدّه نصفين، وكانت الضربة بيساره، فقال فيه بعض الشعراء: كلتا يديك يمين حين تضربه. فلقبه المأمون ذا اليمينين.

وعرف المأمون لطاهر فضله، فولاه شرطة بغداد سنة 198 وهو منصب عظيم بمثابة حاكم البلد في غياب المأمون الذي بقي في خراسان، ثم كتب له المأمون من خراسان في نفس السنة أن يسلم إلى الحسن بن سهل  جميع ما افتتحه من البلاد، وهي العراق وبلاد الجبل وفارس والأهواز والحجاز واليمن، وأن يتوجه هو إلى الرقة، وولاه الموصل وبلاد الجزيرة الفراتية والشام والمغرب، فأطاع دون تردد، وذهب إلى الرقة، وتوفي والده في خراسان سنة 199 وهو في الرقة، فحضر المأمون جنازته، وأرسل إلى ابنه طاهر يعزيه.

وفي سنة 205 ولاه الخليفة المأمون خراسان، فتوجه إليها في أول سنة 206، واستخلف ابنه طلحة، وكان هذا تقليداً متبعاً من قبل ومن بعد في كثير من مناصب الحكومات في البلدان الإسلامية.

وتوفي طاهر بن الحسين سنة 207، وهناك أقوال تتحدث عن نية له في التمرد على المأمون والاستقلال ببلاد أهله وأجداده، وأنه مات عقيب ذلك ميتة طبيعة أو بالسم بتدبير من المأمون، وهذا من المستبعد لأن المأمون لم يعزل ابنه بعده بل بقي في ولايته حتى وفاته سنة 213، وعين المأمون من بعده أخاه عبد الله وبقي في ولاية خراسان حتى وفاته سنة 230 في أيام المعتصم، فعين بعده ابنه طاهر بن عبد الله، وأسس طاهر بن الحسين مجداً وحكماً للأسرة الطاهرية التي استمرت في حكم خراسان حتى سنة 259 حين انتزعها منهم يعقوب بن الليث الصفار.

وأخبار طاره بن الحسين في الجود والأدب والسياسة والحرب كثيرة تفيض بها كتب التاريخ والأدب التي تتناول ذلك العصر، وتتجلى شخصيته السياسية والأدبية  في رسالة نفيسة شاملة جامعة كتبها لابنه عندما ولاه المأمون مصر سنة 206، تداولها الناس والكبراء في أيامها، ونوردها هنا مقابلة على عدة مصادر، ولها قصة.

فقد كان والي الجزيرة الفراتية يحيى بن معاذ قد توفي في تلك السنة، فدعا المأمون عبد الله بن طاهر، فقال له: يا عبد الله إني أستخير الله عز وجل منذ شهر، وأرجو أن يخير الله لي. إن الرجل يصف ابنه ليطريه، لرأيه فيه وليرفعه، وقد رأيتك فوق ما وصفك أبوك، وقد مات يحيى بن معاذ واستخلف ابنه، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مصر، فقال: السمع والطاعة لأمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين. فعقد له اللواء، وأمر أن تقطع حبال القصَّارين عن طريقه، وتُنحى عن الطرقات المظلات، كيلا يكون في طريقه ما يرد لواءه، ثم عُقِد له لواءٌ مكتوبٌ عليه بصُفرة ما يكتب على الألوية، وزاد فيه المأمون: يا منصور. وكتب طاهر بن الحسين لابنه وقد صار والي مصر الرسالة التالية:

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد، فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته، ومزايلة سخطه، وحفظ رعيتك في الليل والنهار، والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسؤول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه، فإن الله سبحانه وتعالى قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذبَّ عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخالَ الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخِذُك بما فرَضَ عليك من ذلك، ومُوقِفُك عليه، ومُسائلُك عنه، ومثيبُك عليه بما قدَّمتَ وأخَّرتَ، ففرِّغ لذلك فهمَك، وعقلك، ونظرك، ولا يذهلك عنه ذاهل ولا يَشغلُك عنه شاغل، فإنه رأس أمرك ومِلاك شأنك، وأول ما يوفقك الله عز وجل به لرشدك.

وليكن أول ما تُلزِمُ نفسَك، وتُنسَبُ إليه أفعالُك، المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قِبَلَك، فأتِ بها في مواقيتها على سننها في إسباغ الوضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها، ورتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك نيتك، واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، وادأب عليها فإنها كما قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾

ثم أتبِعْ ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه، ولزوم ما أنزل الله في كتابه، من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمامِ ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قُمْ فيه بالحق لله ولا تميلَنَّ عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد.

وآثر الفقه وأهله، والدين وحمَلَته، وكتابَ الله عز وجل والعاملين به، فإن أفضل ما تزينَّ به المرءُ الفقه في دين الله، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد إليه، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها، وبه مع توفيق الله يزداد العبد معرفة لله عز وجل وإجلالاً له، ودَرَكاً للدرجات العُلى في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأُنسة بك، والثقة بعدلك.

وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيءٌ أبين نفعاً ولا أخص أمناً ولا أجمع فضلاً من القَصْد، والقصد داعية إلى الرُشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق قائد إلى السعادة، وقِوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها.

ولا تقصِّر في طلب الآخرة، والأجر، والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة، ومعالم الرشد، ولا غاية للاستكثار من البر والسعي له، إذا كان يُطلب به وجه الله تعالى ومرضاته، ومرافقة أوليائه في دار كرامته.

واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصِّن من الذنوب، وأنك لن تحوط لنفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأتِهِ واهتدِ به تَتِمُ أمورُك، وتَزْددْ مقدرتُك، وتصلُح خاصتُك وعامتك.

وأحسن الظن بالله تستقم لك رعيتُك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم النعمة عليك.

ولا تتهِمنَّ أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبُرآء والظنونَ السيئة بهم مأثم، فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم، وارفضه فيهم، يُعِنْك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يـجِدَنَّ عدوُ الله الشيطانُ في أمرك مغمزاً، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وَهْنِك، ويدخل عليك من الغم في سوء الظن بهم ما ينغص لذاذة عيشك.

واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتُكفى به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة لك في الأمور كلها ، ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك، والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، ولتكن المباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحها والنظر في حوائجهم، وحمل مؤوناتهم آثرَ عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة.

وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع، ومجزيٌّ بما أحسن، ومأخوذ بما أساء، فإن الله عز وجل جعل الدين حرزاً وعزاً، ورفع من اتَّبعه وعزَّزه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين، وطريقة الهدى.

وأقِمْ حدودَ الله في أصحاب الجرائم على قدْرِ منازلهم وما استحقوه، ولا تعطل ذلك، ولا تهاوَن به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانِبَ البدعَ والشبهات يسلم لك دينك وتقم لك مروءتك.

وإذا عاهدت عهداً فأوف به، وإذا وعدت خيراً فأنجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأبغض أهله، وأقصِِ أهل النميمة، فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب، والجرأة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر.

وأَحبَ أهلَ الصلاح والصدق، وأعنِ الأَشراف بالحق، وآسِ الضعفاء، وصِلِ الرحِم، وابتغِ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى.

واملُك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والـحِدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله، وإياك أن تقول: أنا مسلط أفعل ما أشاء. فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله عز وجل.

وأخلص لله وحده النية فيه، واليقين به، واعلم أن الملك لله يؤتيه من يشاء وينزِعُه ممن يشاء، ولن تجد تغيَّرَ النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرعَ منه إلى حَـمَلة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا بنِعَم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله.

ودع عنك شَرَهَ نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدَّخِرُ وتكنِزُ: البرَّ والتقوى والـمَعدَلة، واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدهمائهم، والإغاثة لملهوفهم.

واعلم أن الأموال إذا كُنِزت وادُخِرت في الخزائن لا تنمو، وإذا كانت في صلاح الرعية، وإعطاء حقوقهم، وكف المؤونة عنهم، نَمَت وزَكَت، وصَلَحت بها العامة، وتزينت الولاية، وطاب بها الزمان، واعتقد فيها العز والمنعة، فليكن كَـنْـزُ خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قِبلَك حقوقَهم، وأوف رعيتك من ذلك حِصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم، فإنك إن فعلت ذلك قرَّت النعمة عليك، واستوجبْتَ المزيدَ من الله تعالى، وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب نفساً بكل ما أردت، فأجهِدْ نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظُم حِسبتك فيه، فإنما يبقى من المال ما أُنفِق في سبيل الله وفي سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم، وأثبهم عليه.

وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة، فتتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون يورث التفريط، والتفريط يورث البوار، وليكن عملك لله عز وجل وفيه، وارج الثواب منه، فإن الله سبحانه قد أسبغ عليك نعمته، وأظهر لديك فضله؛ فاعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد، يزدك الله خيراً وإحسانا، فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين، وهو سبحانه قضى الحق فيما حمل من النعم وألبس من العافية والكرامة.

ولا تحقِرنَّ ذنباً، ولا تمالئن حاسداً، ولا ترحمن فاجراً، ولا تصِلَنَّ كفوراً، ولا تداهنن عدواً، ولا تصدقن نماماً، ولا تأمنن غداراً، ولا توالين فاسقاً، ولا تتبعن غاوياً، ولا تحمدن مرائياً، ولا تحقرن إنساناً، ولا تردن سائلاً فقيراً، ولا تحسِّننَّ باطلاً، ولا تلاحظن مضحكاً، ولا تُـخلِفنَّ وعداً، ولا تزهونَّ فخراً، ولا تظهِرنَّ غضباً، ولا تأتين بذَخَاً، ولا تمشين مَرَحاً، ولا تركبن سفهاً، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفعن الأيام عياناً، ولا تُغمِضَنَّ عن ظالم رهبة منه أو محاباة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.

وأكثِرْ مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الذمة والنِحَل، ولا تسمعن لهم قولاً، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم.

وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح، واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم، وترك الجور عليهم، ويدوم صفاء أوليائك لك بالإفضال عليهم، وحسن العطية لهم.

فاجتنب الشح، واعلم أنه أول ما عصى الإنسان به ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي، وهو قول الله عز وجل في سورة الحشر: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فسهِل طريقَ الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من فيئك حظاً ونصيبا، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خُلُقا، وارض به عملاً ومذهبا.

وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرَّ عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم، فيقوى لك أمرهم، وتزيد قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً، وحسْبُ ذي سلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته، فزايل مكروه إحدى البابين باستشعار فضيلة الباب الآخر، ولزوم العمل به تلق، إن شاء الله تعالى، نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً.

واعلم أن القضاء بالعدل من الله تعالى بالمكان الذي ليس فوقه شيء من الأمور، لأنه ميزان الله الذي تعتدل عليه أحوال الناس في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع على مجاريها لتنجز الحق والعدل في القضاء.

واشتد في أمر الله وتورع عن النُطف، وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وابعد عن الضجر والقلق، واقنع بالقِسَم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقك، وأنصف الخصم، وقف عند الشبهة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة، ولا مجاملة، ولا لوم لائم، وتثبت وتأن، وراقب وانظر، وتدبر وتفكر واعتبر، وتواضع لربك، وارأف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم، فإن الدماء من الله بمكان عظيم، فلا تبغ انتهاكاً لها بغير حقها.

وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزاً ورفعةً، ولأهله توسعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتاً وغيظا، ولأهل الكفر من معانديهم ذلاً وصَغارا، فوزِّعه بين أصحابه بالحق والعدل، والسوية والعموم، ولا ترفعن منه شيئاً عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، ولا تكلف أمراً فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مُرِّ الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضاء العامة.

واعلم أنك جُعِلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً، وإنما سُمي أهل عملك رعيتك، لأنك راعيهم وقيِّمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم في كُوَر عملك ذوي الرأي والتدبير، والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسِّع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت، وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته، وقمت فيه بالواجب، استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، واستجررت به المحبة من رعيتك، وأُعنت على الصلاح، فدرَّت الخيرات في بلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كُوَرِك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتياض جندك، وإرضاء العامة، بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة، فنافِس في هذا ولا تُقدِّم عليه شيئاً، تحمد مغبة أمرك، إن شاء الله تعالى.

واجعل في كل كُورة من عملك أميناً يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأموره كلها، وإذا أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضِهْ، وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أموره قد واتاه على ما يهوى، فأغواه ذلك وأعجبه، فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره، فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك.

وافرَغْ من عمل يومك، ولا تؤخره لغدك، وأكثِرْ مباشرتَه بنفسك، فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، فإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين، فيشغلك ذلك حتى تفرغ منه، فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك.

وانظر أحرار الناس وذوي الشرف والفضل منهم، ثم استيقن صفاء طويتهم، وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم.

وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤونتهم، وأصلح حالهم، حتى لا يجدوا لـخِلتِهم مَسَّاً، وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك، والمحتقَر الذي لا علم له بطلب حقه، فاسأل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهلَ الصلاح من رعيتك، ومُرْهم برفع حوائجهم وخِلالِـهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم.

وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم، وأجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين، أعزه الله، في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة، وأَجْرِ للأضِرَّاء من بيت المال، وقَدِمْ حَمَلَة القرآن منهم والحافظينَ لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دوراً تؤويهم، وقُوَّاماً يرفقون بهم، وأطباءً يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سَرَف في بيت المال.

واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعاً في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤونة ومشقة، وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل، كالذي يستثقل ما يقربه إلى الله تعالى ويلتمس به رحمته.

وأكثر الإذن للناس عليك، وابرِزْ لهم وجهَك، وسَكِّنْ لهم حواسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بِشرَكَ، ولِنْ لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتماس للصنيعة والأجر، من غير تكدير ولا امتنان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة، إن شاء الله تعالى.

واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرئاسة في القرون الخالية والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسننه، وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عز وجل.

واعرف ما يجمع عمالك من الأموال، وما ينفقون منها. ولا تجمع حراماً، ولا تنفق إسرافاً.

وأكثر مجالسة العلماء، ومشاورتهم، ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سرك، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.

وانظر عمالك الذين بحضرتك، وكُتَّابك، فوَقِّت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك وأمور كُوَرِك ورعيتك، ثم فرِّغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك، وفهمك وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه، واستخر الله فيه، وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه.

ولا تمنن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة، والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تصنعن المعروف إلا على ذلك.

وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك، وأفضل رغبتك، ما كان لله عز وجل رضاً، ولدينه نظاماً، ولأهله عزاً وتمكيناً، وللذمة وللملة عدلاً وصلاحاً.

وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكِلاءتك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته، بتمام فضله عليك وكرامته لك، حتى يجعلك أفضل أمثالك نصيبا وأوفرهم حظا وأسناهم ذكرا وأمرا، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك، ويرزقك من رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك ووساوسه، حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب.

والسلام.

كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer