الجمعة، 9 مايو 2014

حدث في الثاني من رجب


في الثاني من رجب من سنة 725 خرج شاب في الثانية والعشرين من عمره من طنجة بالمغرب الأقصى ليبدأ رحلة تستغرق منه سنوات، وهي الأولى من عدة رحلات جعلته من أعظم الرحالة في تاريخ العالم، إن لم يكن أعظمهم، ذلكم هو ابن بطوطة، محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي.

ولد ابن بطوطة سنة 703، ولا تفيدنا مصادر التاريخ عن والديه وأهله، سوى أنه ولد ونشأ في طنجة، وكان على جانب من العلم بالمذهب المالكي جعله أهلاً لأن يكون قاضياً فيما بعد، كما أنه كان يقرض الشعر، وله ترجمته مكررة في أغلب ما راجعته من كتب التراجم،  تدور حول مولده ورحلته، بل إننا لا نعرف لماذا أُطلق عليه ابن بطوطة، وحتى الزَبيدي المعروف بتعقبه، والذي يذكره عند ذكر الأماكن التي زارها، يذكره في مستدركاته دون كثير إفادة عن اسمه.

ولعل أقرب معاصر ترجم له هو لسان الدين بن الخطيب، محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي، المولود سنة 716 والمتوفى سنة 776، وذلك في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة، وهو في ذاك ناقل عن شيخه أبي البركات ابن الحاج البلفيقي، المولود سنة 680 والمتوفى سنة 771، وذلك في كتابه المؤتمن على أنباء أبناء الزمن. قال ابن الخطيب: مِن خَطِّ شيخنا أبي البركات، قال: هذا رجل لديه مشاركة يسيرة في الطلب، رحل من بلاده إلى بلاد المشرق يوم الخميس الثاني من رجب عام 725، فدخل بلاد مصر والشام والعراق، وعراق العجم، وبلاد الهند والسند، والصين، وصين الصين، وبلاد اليمن... واستقر عند ملك الهند، فحظي لديه، وولاه القضاء، وأفاده مالاً جسيماً. وكانت رحلته على رسم الصوفية زيا وسجية، ثم قفل إلى بلاد المغرب، ودخل جزيرة الأندلس، فحكى بها أحوال المشرق، وما استفاد من أهله، فكذب. وقال: لقيته بغرناطة، وبتنا معه ببستان أبي القاسم ابن عاصم بقرية نبلة، وحدثنا في تلك الليلة، وفي اليوم قبلها عن البلاد المشرقية وغيرها، فأخبر أنه دخل الكنيسة العظمى بالقسطنطينية العظمى، وهي على قدر مدينة مسقفة كلها، وفيها 12.000 أسقف. وانتقل إلى العَدْوة، أي المغرب، فدخل بلاد السودان، ثم تعرف أن ملك المغرب استدعاه، فلحق ببابه. وأمر بتدوين رحلته. وعلق ابن الخطيب على قول شيخه عن كذب ابن بطوطة، فقال: وأحاديثه في الغرابة أبعد من هذا.

ويبدو أن السلطان جعل ابن بطوطة قاضياً في تَامَسْنَا جنوبي فاس، لأن ابن الخطيب في كتابه الآخر نفاضة الجراب في علالة الاغتراب، يورد نص رسالة خاطب بها ابن بطوطة القاضي بتَامَسْنَا لكونه أخذ أرضاً زراعية بجوار أرضه.

وبسبب قلة المصادر ونزارة ما ذكرته فلا بد أن نعتمد على كتاب ابن بطوطة الذي روى فيه أخبار رحلاته، والذي أسماه تحفة النُظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، وأملاه أواخر سنة 756 وذلك بأمر من السلطان المتوكل على الله أبي عنان المريني، وكتبه أديب كبير من أدباء عصره، هو ابن جُزَي الكلبي الغرناطي، وانتهى منه أول سنة 757.

وقبل أن نستعرض رحلات ابن بطوطة ونبحث عما في ثنايها، ينبغي أن نتحدث قليلا عن السلطان المتوكل على الله الذي أمر بكتابة الرحلة، وعن ابن جزي الشاعر المؤرخ الذي كتبها، وعن رحالة أندلسي سابق يذهب بعض الباحثين إلى أن ابن بطوطة تأثر به واقتفى مسار رحلاته، هو ابن جُبير الأندلسي.

والمتوكل على الله أبو عنان المريني هو فارس بن علي بن عثمان بن يعقوب المريني، المولود سنة 729 والمتوفى سنة 759،  أحد ملوك الدولة المرينية بالمغرب. ولد بفاس ونشأ محبوبا في قومه لفضله وعلمه، وولاه أبوه إمارة تلمسان ثم ثار على أبيه، وبويع في حياته سنة 749، واستتب أمره لما مات أبوه سنة 752، فدخل تلمسان وانتظم له أمر المغرب الأوسط، وقصد إفريقية سنة 758 فانتزع قسنطينة وتونس من أيدي الحفصيين، ولقي منيته على يد وزيره، فقد مرض أياما فدخل عليه وزيره الحسن بن عمر الفودودي فقتله خنقا. وكان أبو عنان فارسا شجاعا يقوم في الحرب مقام جنده، فقيها يناظر العلماء، كاتبا بليغا شاعرا، له آثار من مدارس وزوايا.

أما ابن جُزَي فهو محمد بن محمد ابن جزي الكلبي، المولود بغرناطة سنة 721 والمتوفى بفاس سنة 757، فقد كان والده من أعلام الأندلس، وكان هو بارزاً في شعره ونثره منذ حداثته في غرناطة، واستكتبه أمير المؤمنين فيها أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل الأحمر النصري، المولود سنة 718 والمقتول سنة 755، ثم جار عليه مرة فضربه بالسياط من غير ذنب اقترفه، ففارقه وانتقل إلى المغرب سنة 753، فأقام بفاس وحظي عند ملكها المتوكل على الله أبي عنان المريني حتى توفي بها.

أما الرحالة ابن جبير فهو محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، المولود في بلنسية سنة 540 والمتوفى بالإسكندرية سنة 614، الذي كانت له ثلاث رحلات، وترك لنا كتابه رحلة ابن جبير، ويظهر للمتأمل في كتابيهما أن هناك تشابهاً في بعض طريق رحلتيهما، ولكن ابن بطوطة لا يتطرق لذكر ابن جبير إلا في كليمات ينقلها عنه في حلب ودمشق وبغداد، وهو في هذا ناقل عن رحلته، لا متقص لخطواته.

وأول ما يلفت نظرنا في كتاب الرحلة هو قول ابن جزي عن ابن بطوطة: الشيخ الفقيه السائح الثقة الصدوق، جوال الأرض، ومخترق الأقاليم بالطول والعرض، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي المعروف بابن بطوطة، المعروف في البلاد الشرقية بشمس الدين، وهو الذي طاف الأرض معتبراً، وطوى الأمصار مختبراً، وباحثَ فِرَقَ الأمم، وسبر سِيرَ العرب والعجم...

ثم يقول ابن جزي مشيراً لأمر السلطان بكتابة الرحلة، ولمنهجه هو في كتابة ما أملاه ابن بطوطة: وصدر الأمر العالي لعبد مقامهم الكريم، المنقطع إلى بابهم، المتشرف بخدمة جنابهم، محمد بن محمد ابن جزي الكلبي، أعانه الله على خدمتهم، وأوزعه شكر نعمتهم، أن يضم أطراف ما أملاه الشيخ أبو عبد الله من ذلك، مشتملاً في تصنيف يكون على فوائده مشتملا، ولنيل مقاصده مكملا، متوخياً تنقيح الكلام وتهذيبه، معتمداً إيضاحه وتقريبه... ونقلتُ معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة للمناحي التي اعتمدها، وربما أوردت لفظه على وضعه، فلم أخل بأصله ولا فرعه، وأوردت جميع ما أورده من الحكايات والأخبار، ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار، على أنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك، وخرج عن عهدة سائرها بما يشعر من الألفاظ بذلك، وقيدتُ المُشكِل من أسماء المواضع والرجال بالشكل والنقْط، ليكون أنفع في التصحيح والضبط، وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء العجمية، لأنها تلتبس بعُجمتها على الناس، ويخطئ في فك معماها معهود القياس...

وابتدأ ابن بطوطة أول وأطول رحلة له في الثاني من رجب سنة 725، بقصد الحج إلى بيت الله الحرام، فاتجه من طنجة جنوباً إلى فاس ثم تلمسان ثم شمالاً إلى الجزائر ثم تونس، حيث انضم إلى قافلة الحاج وتعين قاضياً فيها.

واتجه الركب إلى صفاقص، حيث عقد ابن بطوطة على ابنة أحد وجهائها، واصطحبها معه، ودخل عليها بعد شهر قرب طرابلس الغرب، وهو زواج لم يدم طويلاً، فقد: وقع بيني وبين صهري مشاجرة، أوجبت فراق بنته، وتزوجت بنتاً لبعض طلبة فاس وبنيت بها، وأولمت وليمة حبست لها الركب يوماً وأطعمتهم.

ثم سار الحجيج بموازاة ساحل البحر حتى وصل الإسكندرية، وأقام فيها ثلاثاً في ضيافة برهان الدين الأعرج، أحد كبار الزهاد وأفراد العباد، والذي تنبأ لابن بطوطة بزيارة الهند والصين، ولقاء ثلاثة من كبار المتصوفة فيها، وهو أمر لم يكن بخاطر ابن بطوطة قبلها.

ووصل يطوطة القاهرة، وقال فيها: هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة والبلاد الأريضة، المتناهية في كثرة العمارة، المتناهية بالحسن والنضارة، ومجمع الوارد والصادر، ومحل رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم وجاهل، وجاد وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها.

ثم اتجه جنوباً نحو أسيوط فإسنا فعيذاب على شاطئ البحر الأحمر ليركب السفينة إلى رابغ، فإذا بالمعارك تدور بين حكام مصر المماليك وبين قبائل البَجة من أهل النوبة، وقد خرّق هؤلاء المراكب، فتعذر السفر، وعاد أدراجه إلى القاهرة وقد نوى أن يسافر إلى الحجاز مع الحاج الشامي عن طريق بلاد الشام.

وفي شعبان سنة 726 اتجه إلى الشام عن طريق غزة فعسقلان حتى وصل صور فطرابلس فحمص فحماة فحلب فأنطاكية، ثم عاد عن طريق الساحل إلى أن وصل القُصير ثم حمص، وعن سواحل الشام يقول ابن بطوطة: وأكثر أهل هذه السواحل هم الطائفة النصيرية، الذين يعتقدون أن علي بن أبي طالب إله، وهم لا يصلون ولا يتطهرون ولا يصومون، وكان الملك الظاهر ألزمهم بناء المساجد بقراهم، فبنوا بكل قرية مسجداً بعيداً عن العمارة ولا يدخلونه ولا يعمرونه.

ووصل ابن بطوطة دمشق ويتحدث عنها حديثاً مطولاً في وصفها ووصف مسجدها وصفاً دقيقاً، طوله وعرضه، وعدد سواريه، ووصْفُ ابن بطوطة لهذه المعالم وأمثالها، وحديثه عن المشايخ والعلماء والوجهاء الذين قابلهم، وتاريخِ لقائه بهم، يدعو إلى ترجيح أنه احتفظ ببعض المذكرات عن رحلاته، أو أنه كان يتمتع بذاكرة قوية مباركة بقيت فيها كل هذه التفاصيل الدقيقة والأسماء المختلفة.

ويذكر ابن بطوطة أن: الأوقاف بدمشق لاتحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن... ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير... مررت يوماً ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصحن، فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم: اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني. فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن. وهذا من أحسن الأعمال فإن سيد الغلام لا بد له أن يضربه على كسر الصحن، أو ينهره وهو أيضاً ينكسر قلبه، ويتغير لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبراً للقلوب، جزى الله خيراً من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا.

وتزوج ابن بطوطة في دمشق زوجة أصلها من مكناس، ثم مالبث أن رافق ركب الحج الشامي إلى المدينة المنورة فمكة المكرمة، ليحضر حج سنة 726، ويمتعنا بملاحظاته عن الأماكن التي يمر بها وأهليها، ويقول من جملة صفحات طويلة عن أهل مكة المكرمة ومراسمهم في الشهور والحج: ولأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة، والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين، وحسن الجوار للغرباء، ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق، ثم يطعمهم... وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس وأكثر لباسهم البياض فترى ثيابهم أبداً ناصعة ساطعة.

 ورجع ابن بطوطة مع حجيج العراق حتى وصل النجف فالبصرة، ويصف أهلها: لهم مكارم أخلاق وإيناس للغريب وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب. ومن البصرة ذهب إلى عبادان وقرر أن يذهب إلى بغداد بالاتجاه شمالاً إلى عراق العجم، وهو شرقي إيران اليوم، ثم يتجه غرباً إلى بغداد، ويبرر ذلك بقوله: ومن عادتي في سفري أن لا أعود على طريق سلكتها ما أمكنني ذلك.

وفي تُستر، وهي اليوم شوشتر، نزل ضيفاً على الشيخ شرف الدين موسى ابن صدر الدين سليمان، وشاهد مجلساً له حضره  فقهاء المدينة وكبراؤها، فأجاد فيه إجادة قال عنها ابن بطوطة: صغر لدي كل واعظ رأيته قبله بالحجاز والشام ومصر، ولم ألق فيمن لقيته مثله. وبعد الدرس ترامت على الشيخ الرقاع من كل ناحية. ومن عادة الأعاجم أن يكتبوا المسائل في رقاع، ويرموا بها إلى الواعظ، فيجيب عنها، فلما رمي إليه بتلك الرقاع جمعها في يده، وأخذ يجيب عنها واحدة بعد واحدة بأبدع جواب وأحسنه.

وتابع ابن بطوطة رحلته إلى أصفهان فشيراز، ويصف أهلها بقوله: وأهل شيراز أهل صلاح ودين وعفاف وخصوصا نساؤها، وهن يلبسن الخفاف، ويخرجن ملتحفات متبرقعات فلا يظهر منهم شيء ولهن الصدقات والإيثار. ومن شيراز يتابع رحلته إلى الكوفة فكربلاء فبغداد التي أعجبته حماماتها، ويصف لنا بدقة مراسم السفر لدى ملك العراق، ويرحل من بغداد إلى تبريز ويلتقي بسلطانها ويعلمه بنيته في العودة للحج في الحجاز، فأمر له بما يحتاجه في سفره، وحيث بقي لموعد سفر الركب أكثر من شهرين، سافر ابن بطوطة إلى الموصل وديار بكر مروراً بسامراء وتكريت، ثم يعود لينضم إلى موكب الحجاج ويحج للمرة الثانية في عام 727.

ومن مكة يتجه بعد موسم الحج إلى جدة ليسافر في البحر إلى اليمن ويمر في طريقه بمجموعة من الزهاد المتعبدين فتعجبه عبادتهم وبساطة حياتهم ويتمنى لو أقام معهم بقية العمر، ويصل إلى زَبيد ويقول: وعلماء تلك البلاد وفقهاؤها أهل صلاح ودين وأمانة ومكارم وحسن خلق.

ومن زبيد إلى تعز فصنعاء فعدن التي يصف أهلها بأنهم: أهل دين وتواضع وصلاح ومكارم أخلاق، يحسنون إلى الغريب، ويؤثرون الفقير، ويعطون حق الله من الزكاة على ما يجب. ومن عدن يبحر إلى مدن الساحل في شرق أفريقية يمكث في كل واحدة بضعة أيام، فيصل زيلع ثم منها في البحر ثانية إلى موقاديشو عاصمة الصومال اليوم، ويشير إلى كثرة سكانها ونشاطها التجاري البحري المنظم، وقرب سلطانها من شعبه، ومن موقاديشو يبحر إلى ممباسا قبل أن يعود منها إلى ظَفَار في عمان التي كانت ميناء من أراد السفر للهند من بحر العرب.

يقول ابن بطوطة عن ظفار: ومن الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس بأهل المغرب في شؤونهم... وأكثر أهلها رؤوسهم مكشوفة، لا يجعلون عليها العمائم، وفي كل دار من دورهم سجادة الخوص، معلقة في البيت، يصلي عليها صاحب البيت، كما يفعل أهل المغرب.

ومن ظفار يعبر الفيافي والقفار إلى عمان ثم يبحر إلى الشط الفارسي من الخليح فيزور مدينتا لار وسيراف، ثم يبحر ثانية إلى الشط العربي فيزور الأحساء والقطيف، ويقول عن أهلها: رافضية غلاة، يظهرون الرفض جهاراً، ويقول مؤذنهم في أذانه بعد الشهادتين: أشهد أن علياً ولي الله ويزيد بعد الحيعلتين: حي على خير العمل، ويزيد بعد التكبير الأخير: محمد وعلي خير البشر، ومن خالفهما فقد كفر.

ثم يصل إلى اليمامة في وسط الجزيرة العربية، ومنها إلى مكة المكرمة فيحج في موسم عام 732، وبعد الحج أراد التوجه لليمن فالهند، فلم يتيسر له ذلك، فيركب البحر الأحمر  إلى مصر، ويقيم في القاهرة أياماً ثم يتوجه منها إلى فلسطين فالساحل الشامي ويبحر من اللاذقية في مركب إلى تركية، ولسمته الديني يكرمه صاحب المركب وهو من جنوة في إيطالية فلا يأخذ منه أجراً.

وفي تركية يننقل ابن بطوطة من مدينة إلى مدينة ويحل في أغلبها ضيفاً على الأَخيّة وهي رابطة تشبه ما كان يدعى بالفتوة في العراق، يقول ابن بطوطة: وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية، في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس، وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظَلَمة وقتل الشرط، ومن أُلحق بهم من أهل الشر. والأَخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجردين، ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هي الفتوة أيضاً، ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات، ويخدم أصحابُه بالنهار في طلب معايشهم، ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم، فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية، فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم، وكان ذلك ضيافته لديهم، ولا يزال عندهم حتى ينصرف، وإن لم يرد وارد، اجتمعوا على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا، وانصرفوا إلى صناعتهم بالغدو، وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم الأخي، ولم أر في الدنيا أجمل أفعالاً منهم، ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان، إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر، وأعظم إكراماً له وشفقة عليه.

وكانت زيارة ابن بطوطة قبل تمكن بني عثمان من ملكهم، ولذا فهو يتحدث عن ملوك كثر كملوك الطوائف في الأندلس؛ لكل مدينة ملك، واتجه ابن بطوطة عبر الأناضول إلى قونية ثم سيواس حتى وصل أزمير ومنها إلى مغنيسة وقصطمون حتى وصل إلى ميناء سينوب على شاطئ البحر الأسود، يريد الذهاب إلى القِرِم ومنها براً إلى آسيا الوسطى.

ونزل في ميناء الكَفَا، وهو اليوم فيدوسيا، وكان تحت سيطرة مدينة جنوة الإيطالية، واستأجر منه عربة سار فيها حتى حل ضيفاً  على السلطان أوزبَك بك في أستراخان على دلتا نهر الفولجا، ويسميها ابن بطوطة الحاج ترخان، وكانت مملكة السلطان الذي أسلم ممتدة من البحر الأسود إلى خوارزم، فأكرمه السلطان وزوجاته، ويصف ابن بطوطة بلاط السلطان وتقاليده ومراسمه وصفاً دقيقاً شيقاً.

وطلب ابن بطوطة من السلطان السفر إلى مدينة بلغار، أي مناطق قازان، ليرى قصر ليلها في الشتاء فأرسله إليها، وساورت ابن بطوطة رغبة في الاستمرار إلى أرض الظُلمة، وهي  سيبيريا، ثم عدل عنها لعظم المؤونة وقلة الجدوى، ويَذكرُ أن السفر فيها لا يكون إلا في عجلات تجرها كلاب كبار.

وواتت ابن بطوطة فرصة لزيارة القسطنطينة، فقد كان السلطان أوزبك متزوجاً بابنة الإمبراطور البيزنطي، ورغبت في زيارة أهلها، فأقنع السلطان في أن يسمح له بأن يذهب معها، فزار القسطنطينية عن طريق البر ماراً بجنوب روسية وأوكرانية، ورأى الإمبراطورية في أوج عظمتها البيزنطية، ومما يجدر نقله عنه أنه لما وصل إلى باب القصر الملكي، قال الحراس: سَراكِنو، سراكنو! وهي لفظة لاتينية تعني المسلم، ومنعوه لذلك من الدخول رغم أنه في موكب ابنة الإمبراطور، حتى أُعلِم والدها بذلك فأذن بدخوله ومن معه، ونودي في المدينة ألا يعترض المسلمين أحد، ويحدثنا عن ترتيبات الأمن التي مر بها عند دخوله قصر الإمبراطور البيزنطي فيقول: فجِزْنا أربعة أبواب، في كل باب سقائف بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة، فلما وصلنا إلى الباب الخامس تركني الفتى ودخل، ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين، ففتشوني لئلا يكون معي سكين، وقال لي القائد: تلك عادة لهم، لا بد من تفتيش كل من يدخل على الملك من خاص أو عام، غريب أو بلدي.

وعاد ابن بطوطة إلى أستراخان ورحل منها إلى خوارزم براً في رحلة حثيثة استمرت 30 يوماً، حيث حل ضيفاً على أميرها، وهالته سعتها وازدحامها، حتى إنه يذكر أنه لم يستطع مرة أن يعبر سوقها بسبب الزحام فأراد الرجوع فلم يستطع لكثرة الناس، ولما يفلح إلا بعد جهد جهيد، ويذكر عن أمرائها وقضاتها أن :أحكامهم مضبوطة عادلة، لأنهم لا يتهمون بميل، ولا يقبلون رشوة.

ومن خوارزم اتجه إلى بخارى بلد الإمام البخاري، وأحزنه أن ليس بها اليوم من الناس من يعلم شيئاً من العلم، ولا من له عناية به.

ومن خوارزم اتجه ابن بطوطة للقاء السلطان طَرمَشيرين الذي اعتنق الإسلام وتسمى بعلاء الدين، واستضافه السلطان 45 يوماً توجه بعدها إلى سمرقند فترمذ إلى بلخ، وهي اليوم مزار شريف في أفغانستان، ولفت نظره خرابها، وقال عتها: وهي خاوية على عروشها غير عامرة، ومن رآها ظنها عامرة لإتقان بنائها، وكانت ضخمة فسيحة، ومساجدها ومدارسها باقية الرسوم حتى الآن، ونقوش مبانيها مدخلة بأصبغة اللازورد، وخرب هذه المدينة تنكيز اللعين، وهدم من مسجدها نحو الثلث، بسبب كنز ذكر له أنه تحت سارية من سواريه، وهو من أحسن مساجد الدنيا وأفسحها، ومسجد رباط الفتح بالمغرب يشبهه في عظم سواريه، ومسجد بلخ أجمل منه في سوى ذلك.

ومن بلخ سار ابن بطوطة غرباً إلى هراة فطوس، مدينة مشهد في إيران، وذكر تجاور قبر الرشيد فيها مع قبر الإمام علي الرضا، وقال: إذا دخل الرافضي للزيارة ضرب قبر الرشيد برجله، وسلم على الرضا. ثم اتجه غرباً إلى نيسابور فأقام بها 40 يوماً، ثم اتجه شرقاً حتى وصل غزنة فكابل ومنها إلى البنجاب التي وصلها في أول المحرم من سنة 734.

وفي البنجاب كتب الموكلون بالحدود إلى السلطنة في دهلي بقدوم ابن بطوطة ومن معه، وذلك بعد أن أخبرهم أنه قد جاء مقيماً لا زائراً، فجاء الجواب بالسماح له بدخول الهند والقدوم لدهلي، فسار حتى وصل مُلتان، قاعدة بلاد السند، فسار منها 40 يوماً حتى وصل دهلي وكانت من أكبر مدن الدنيا آنذاك إن لم تكن أكبرها.

ويصف ابن بطوطة دهلي فيقول: ومدينة دهلي كبيرة الساحة كثيرة العمارة، وهي الآن أربع مدن متجاورات متصلات ... والسور المحيط بمدينة دهلي لا يوجد له نظير، عرض حائطه أحد عشر ذراعاً، وفيه بيوت يسكنها السُّمار وحفاظ الأبواب، وفيها مخازن للطعام، ويسمونها الأنبارات، ومخازن للعُدد، ومخازن للمجانيق والرعادات، ويبقى الزرع بها مدة طائلة لا يتغير، ولا تطرقه آفة. ولقد شاهدت الأرز يخرج من بعض تلك المخازن ولونه قد اسود، ولكن طعمه طيب... ولهذه المدينة ثمانية وعشرون باباً

وفي دهلي حط ابن بطوطة رحاله في بلاط الملك غياث الدين محمد بن تغلق شاه، المولود سنة 689 والمتوفى سنة 752، والذي كان ثاني ملوك أسرة تغلق التي حكمت دهلي، وكان سلطاناً شجاعاً طموحاً استطاع أن يوسع سلطنة دهلي لتشمل معظم شبه القارة الهندية، وقال عنه ابن بطوطة: هذا الملك أحب الناس في إسداء العطايا وإراقة الدماء، فلا يخلو بابه عن فقير يغنى أو حي يقتل، وقد شهرت في الناس حكاياته في الكرم والشجاعة، وحكاياته في الفتك والبطش بذوي الجنايات.

ويعطينا ابن بطوطة في غضون كتابه استعراضاً مفصلا لتاريخ سلطنة دهلي، ثم لتاريخ السلطان غياث الدين شاه، ويتحدث في طي ذلك عن البلاط السلطاني وقواعده ومراسمه في استقبال الزوار والاحتفال بالأعياد وطعامه وصيده وحربه وسفره وعودته وغيرها من المناسبات، ويستفيض في الحديث عن كرمه، وحسن تدبيره للملكة، ويذكر أنه لما استولى القحط على بلاد الهند والسند، واشتد الغلاء حتى بلغ من القمح إلى ستة دنانير، أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفقة ستة أشهر من المخزن، لكل إنسان صغيراً وكبيراً حراً وعبداً، وخرج الفقهاء والقضاة يكتبون الأزِمَّة بأهل الحارات، ويحضرون الناس، ويعطى لكل واحد عولة ستة أشهر يقتات بها.

ويستفيض كذلك ابن بطوطة في الحديث عن سفك غياث الدين للدماء دون تردد ولأدنى سبب للقريب والبعيد والفقيه والجاهل والأمير والوضيع.

وكان هذا السلطان يقرب الغرباء ويوليهم المناصب، وللعرب عند أهل الهند مكانة خاصة، فرحب بابن بطوطة وأنزله في ضيافته ثم جعله قاضياً على دهلي، وجعل له نائبين يساعدانه في اتباع المذهب الحنفي لكونه مالكياً، ونال ابن بطوطة من إنعام السلطان غياث الدين الأموال الكثيرة، وكان هو ينفقها في وجوه الخير وعلى من حول السلطان، ويذكر في ثنايا ذلك أن للسلطان عيوناً تذكر له كل ما يفعله من حوله من الأتباع، وفي ذكرياته عن الهند يذكر كثيراً من التقاليد الهندية الاجتماعية والخزعبلات والغرائب وأعمال السحر ورياضات رهبان الهندوس التي اشتهرت بها الهند.

وبعد 8 سنوات جرت لابن بطوطة قضية مع السلطان كاد أن يذهب ضحية لها، لولا أن تداركته رحمة الله، فانتهز فرصة غياب السلطان في إحدى غزواته، والتحق بأحد الزهاد الهنود الذي كان يواصل الصيام من  10 أيام إلى  20 يوماً، فأرسل السلطان وراءه عند عودته وأراده أن يعود للخدمة فاعتذر وسأله الإذن في السفر إلى الحجاز فأذن له، وتابع ابن بطوطة اعتكافه انتظاراً لموسم الحج، ولكن السلطان أرسل وراءه وأخبره أنه سيرسله رسولاً عنه في سفارة إلى ملك الصين!

وكان سلاطين الهند المسلمين قد هاجموا الوجود البوذي فيها وساهموا في اجتثاثه، وهدموا معبداً بوذياً ومحجاً هاماً في سيملا على سفوح الهيملايا، فأرسل ملك الصين سفارة بهدايا يطلب الإذن بإعادة بناء هذا المعبد، فأرسل غياث الدين ابن بطوطة بهدايا وفيرة رسولاً إلى ملك الصين مع الاعتذار عن الموافقة على طلبه لأنه: لا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية، فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه.

واتجه ابن بطوطة من دهلي جنوباً فزار عدداً من مدن الهند، وحدثنا عنها وعن أمرائها وأهلها، حتى وصل إلى ميناء قاليقوط على الساحل الغربي الجنوبي للهند ليبحر منها إلى الصين، ولكن هيجان بحر الهند تسبب في غرق السفينة التي كانت تحمل الهدايا وغرق فيها بعض المرافقين، وجرى ذلك أمام عيني ابن بطوطة وهو على الشاطئ قبل أن يصعد للسفينة، فلجأ إلى أحد ملوك المنطقة المسلمين يننظر تعليمات السلطان في دهلي، وشارك في بعض الغزوات مع السلطان ثم طال عليه الانتظار فقرر أن يرحل إلى جزائر ذيبة المهل، وهي المالديف وعرَّبها العرب بقلب اسمها، فوصلها بعد 10 أيام، وأراد أن يزورها دون أن يقيم فيها ولكن أخباره سبقت وصوله، فولاه وزير السلطانة القضاء وهو غير راغب، وأحسنوا إليه إحساناً كثيراً وتزوج 4 زوجات من علية القوم، وعظم شأنه حتى كثر حساده مبغضوه، فترك الجزيرة إلى الهند عن طريق سيلان، بعد أن سرح زوجاته سراحاً جميلاً.

  ويصف ابن بطوطة أهل المالديف بأنهم مسلمون أهل صلاح وديانة وإيمان صحيح ونية صادقة، أكلهم حلال، ودعاؤهم مجاب، وهم أهل نظافة وتنزه عن الأقذار، إلا أن نساءها لا يلبسن أكثرهن إلا فوطة واحدة تسترها من السرة إلى أسفل، وسائر أجسادهن مكشوفة، قال: ولقد جهدت لما وليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس، فلم أستطع ذلك، فكنت لا تدخل إلي منهن امرأة في خصومة إلا مسترة الجسد، وما عدا ذلك لم تكن عليه قدرة.

وفي جزيرة سيلان تلجئه الأنواء أن ينزل على ملك مشهور بالشر، فلا يرى منه إلا الأمان والإكرام، ويزور الجبل الذي يزعمون أن به أثر آدم عليه السلام عندما هبط من الجنة إلى الأرض، ثم من سيلان يعود إلى الهند ويلتقي بالملك غياث الدين الذي يموت بعد قليل بسبب وباء نزل بالمنطقة، ويخلفه ابن أخيه الذي يفلح ابن بطوطة في الحصول على إذنه في مغادرة الهند.

ويبحر ابن بطوطة على مركب متوجه إلى اليمن ولكن قراصنة البحار يخرجون عليهم ويسلبون كل ما كان معه من غال ورخيص، فعاد إلى قاليقوط ثم أبحر منها ثانية إلى المالديف ويرى فيها ولده وقد بلغ عامين، ثم يغادرها في رحلة دامت 43 يوماً حتى وصل البنغال واتجه شمالاً حتى جبال أسام حيث التقى بأحد الزهاد الهنود المدعو جلال الدين التبريزي، ثم عاد إلى الساحل البنغالي فأخذ مركباً سافر فيه حتى وصل جاوة والتقى بسلطانها المسلم الذي أنزله في ضيافته وأكرمه، وبعد 15 يوماً سافر برعايته إلى الصين، فمر أولاً على كورية والتقى بملكتها ثم تابع مسيره براً إلى الصين.

ويصف لنا ابن بطوطة حضارة الصين المتقدمة على بقية العالم آنذاك في صناعتها وحكومتها: ومن ذلك تعاملهم بالعملة الورقية لا بدينار ولا درهم، وإذا تمزقت في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا، فأخذ عِوضها جدداً ودفع تلك. ووصف مهارتهم في تصوير الأجانب، ولعله توثيق مصور لوجودهم، فقال: وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه... ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك، أني ما دخلت قط مدينة من مدنهم، ثم عدت إليها، إلا ورأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد، موضوعة في الأسواق.

وليس ابن بطوطة أول رحالة عربي يمدح الأجواء التجارية في الصين والأمان الذي يسودها، ولكنه وصف ترتيبهم في الفنادق فقال: إن لهم في كل منزل ببلادهم فندقاً، عليه حاكم يسكن به في جماعة من الفرسان والرجال، فإذا كان بعد المغرب أو العشاء، جاء الحاكم إلى الفندق، ومعه الكاتب لكتابة أسماء جميع من يبيت به من المسافرين، وختم عليها، وأقفل باب الفندق عليهم، فإذا كان بعد الصبح جاء ومعه كاتبه فدعا كل واحد باسمه، وكتب به تفصيلاً، وبعث معهم من يوصلهم إلى المنزل الثاني له، ويأتيه ببراءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه. وإن لم يفعل طلبه بهم.

والتقى ابن بطوطة بالمسلمين في كل مكان زاره في الصين، ورآهم في عز وسعة من العيش، وزار كوانزو وبكين، ووقعت بعض الاضطرابات السياسية فارتأى مضيفه المسلم أن يغادر عائداً قبل أن يحدث ما يحجزه عن العودة، فأخذ سفينة في رحلة دامت 3 أشهر حتى وصل إلى جاوة، وعاد منها إلى الهند، ومنها إلى ميناء هرمز في خليج فارس، ومنها بالبر إلى شيراز فأصبهان فالبصرة حتى وصل بغداد في سنة 748، وعاد منها إلى دمشق بعد غياب 20 سنة فسأل عن ابن له علم بولادته وهو في الهند، فأخبروه أنه قد مات منذ 15 سنة، وفي أوائل سنة 749 سافر من دمشق إلى القدس الشريف فالقاهرة ومنها للحج مرة أخرى، ثم قفل إلى مصر فتونس فسردينية فالجزائر حتى ألقى عصا ترحاله في فاس في منتصف عام 750، وشمله عطف السلطان أبي عنان ورعايته.

وقام ابن بطوطة بعد رحلته الطويلة برحلتين إحداهما للأندلس، والثانية أرسله فيها السلطان أبو عنان للبلدان الإفريقية جنوبي المغرب مثل موريتانية ومالي والنيجر، ونجتزئ بما ذكرنا عن رحلته الأولى فلا يتسع المقام لاستعراض هاتين الرحلتين.

أشرنا من قبل لاستغراب بل تكذيب ابن الحاج البلفيقي لما حكاه ابن بطوطة لمعاصريه أو رواه في كتاب رحلته، وهو أمرٌ ليس مستغرباً بين معاصريه، أو حاسديه إن شئت، ولكن معاصراً آخر هو الفقيه ابن مرزوق، محمد بن أحمد العجيسي التلمساني، المولود سنة 710 والمتوفى بالقاهرة سنة 781، أنصف ابن بطوطة وقال: لا أعلم أحداً جال البلاد كرحلته. ووصفه بالجود والإحسان، وأنه تولى القضاء حتى مات.

وممن تناول أمر غرائب ابن بطوطة المؤرخ القاضي ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، المولود بتونس سنة 732 والمتوفى بالقاهرة سنة 808، والذي زار فاس وتلمسان في تلك الحقبة، فقد ذكره ابن خلدون في تاريخه في معرِض النهي عن التسرع في التكذيب والإنكار، وأشار إليه بكونه من شيوخ طنجة، فقال:

ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة، كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق، وتقلب في بلاد العراق واليمن والهند، ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند، وهو السلطان محمد شاه، واتصل بملكها لذلك العهد وهو فيروز جوه، وكان له منه مكان، واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله... وكان يحدِّث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الارض، وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند، ويأتي من أحواله بما يستغربه السامعون، مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان، وفرض لهم رزق ستة أشهر تدفع لهم من عطائه، وأنه عند رجوعه من سفره، يدخل في يوم مشهود، يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد، ويطوفون به، وينصب أمامه في ذلك الحقل منجنيقات على الظهر، تُرمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس، إلى أن يدخل إيوانه.

فتناجى الناس بتكذيبه، ولقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت، ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل، لما استفاض في الناس من تكذيبه، فقال لي الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره، فتكون كابن الوزير الناشئ في السجن! وذلك أن وزيرا اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المجلس، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها، فقال له أبوه: هذا لحم الغنم، فقال: وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها فيقول: يا أبت تُراها مثل الفار؟ فينكر عليه ويقول: أين الغنم من الفأر!؟ وكذا في لحم الابل والبقر، إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفار، فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر. فليرجع الانسان إلى أصوله، وليكن مهيمنا على نفسه، ومميزا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته، فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه، وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق، فإن نطاقه أوسع شئ فلا يفرض حدا بين الواقعات، وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشئ، فإنا إذا نظرنا أصل الشئ وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته، أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله، وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه، وقل رب زدني علما، وأنت أرحم الراحمين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

إذاً فقضية أن ابن بطوطة كذب أو بالغ فيما رآه قضية مستبعدة لما رأينا، ولما يتبين في ثنايا الرحلة من دين وتقوى ومروءة تحلى بهم ابن بطوطة، ولكن هناك قضية أخرى، وهي هل وقائع الرحلة وتسلسلها دقيق أم تداخل لاحقه مع سابقه؟

كان المستشرق شارل دفريمري أول من نشر كتاب ابن بطوطة في سنة 1853، وقام بعض خَلَفه بتتبع خطواته على الخريطة وبمطابقة الأحداث والأشخاص مع وقائع التاريخ، وفعل ذلك مستقلاً كاتب هذه السطور، فوجدت أن خط سير بعض رحلاته لا ينسجم مع المسير المنطقي للسفر، ومثال ذلك رحلته في فارس قبل قدومه إلى بغداد ورحلته من دهلي إلى قاليقوط، وقد عزا الباحثون ذلك إلى بُعد العهد وأن ذاكرته لم تسعفه بالمعلومات الصحيحة حين إملائه مذكراته.

ولكن المؤرخ المغربي الأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي يعزو ذلك إلى أن ابن جُزي تصرف في المعلومات التي قدمها له ابن بطوطة، فالخطأ من الناقل لا من القائل، ويستتد الأستاذ في فرضيته إلى أن ما ذكره ابن تيمية عن نشاطه في دمشق وفي بلاد الشام لا تكفيه مدة 20 يوماً المذكورة في الرحلة، ويشير الأستاذ التازي إلى مخطوطة لكتاب المُفهِم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، موجودة في مكتبة الأزهر، كتبها ابن بطوطة وهو في دمشق، وفيها يؤرخ تمام كتابة الكتاب بأجزائه الثلاثة في يوم الاثنين 18 جمادى الآخرة من 727 بمدرسة العزيزية من مدينة دمشق المحروسة. أي أن ابن بطوطة كان مقيماً بدمشق على الأقل في شهور ربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة من عام 727، فكيف هذا والرحلة تجعله في رحلةٍ لجنوب بلاد فارس في نفس التاريخ؟!

يقول الأستاذ التازي: أعتقد أن ابن جزي كان مستعجلاً أكثر مما ينبغي في أداء هذه المهمة الدقيقة، وربما كان منشغلاً بمشكل صحي قد يكون قرحة في المعدة، وهو ما عبر عنه مترجموه بقولهم: «مات مبْطوناً»... ربما كانت تلك الظروف والصروف وراء تسرعه وبعثرته للمعلومات التي أمليت عليه أو التقييدات التي قدمت إليه... بل وفي الاستغناء كليةً عن بعض التقاييد، ولا ندري هل كان ابن بطوطة يجلس إلى جانب ابن جُزَي ليراجع هذا التلخيص بعد تحريره، ليعطي رأيه فيه؟

وفوق كل ذي علم عليم.
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer