الجمعة، 16 مايو 2014

حدث في الثامن من رجب

 
في الثامن من رجب من عام 932 وقعت معركة بانيبات، 80 كيلا شمالي دهلي في الهند، بين السلطان المغولي محمد ظهير الدين بابَر وبين السلطان إبراهيم اللودي وانتهت بانتصار بابر  ومقتل السلطان إبراهيم، وبهذه المعركة تأسست الدولة المغولية الهندية التي دامت في الهند قرابة قرنين ونصف القرن، وازدهرت في ظلها الآداب والفنون والعلوم. وجاء اللقب بابر تشبيهاً له بالنمر، قال في لسان العرب: البَبْرُ ضرب من السباع، أعجمي معرّب.
وبابر هو السليل الخامس لتيمور لنك الزعيم المغولي الشهير بغزوه للمشرق العربي وتدميره للمدن وقتله لسكانها، ولما توفي تيمور لنك سنة 807 خلفه ابنه شاه رُخ واستطاع أن يثبت سلطانه على معظم ملك أبيه ويلجم الخارجين الطامعين من أقاربه، وتوفي شاه رُخ سنة 850 وجاءت من بعده الاضطرابات والشقاق، ونشأت الدولة الصفوية ثمرة لها، واستطاع الشاه إسماعيل تأسيس دولة امتدت من حدود العراق إلى أفغانستان ونهر جيحون.
وينبغي الإشارة هنا أن القبائل المغولية التي جاءت مع جنكيز خان والتي تحولت فيما بعد إلى الإسلام ديناً، قد تطبعت بعادات الأتراك الذين حلت بينهم، فهي مغولية العرق، مسلمة الدين، تركية التقاليد، وكان بابر ينفر من ذكر المغول نفوراً شديداً، ويعتز بتركيته، ولذا فإنه اعتمد على القبائل التركية في تأسيس دولته وحاشيته، ولعل سبب نسبة دولته إلى المغول هو أن الهنود درجوا منذ قدوم جنكيز خان على إطلاق اسم المغول على كل الغزاة الذين جاؤوهم من بلاد ما وراء النهر.
وقد سجل بابر مراحل حياته في كتاب أسماه بابر نامه أي قصة بابر، ويتضح منها تواضعه وبساطته، وهما سمتان غالبتان لمؤسسي الدول، ومنه استقى الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله مقالة عن بابر نشرها في مجلة الرسالة، وأفدت منها كثيراً.
ولد بابر بن عمر بن أبي سعيد بن محمد بن ميران شاه بن تيمور سنة 787 في فَرْغَانة على السفوح الشمالية لجبال هندوكوش، في أوزبكستان اليوم، حيث كان والده عمر منذ سنة 870 أميراً على إمارتها الصغيرة من قبل أبيه السلطان أبي سعيد، ويصف بابر أباه بأنه كان: حنفي المذهب، مواظباً على الصلوات في أوقاتها، يديم تلاوة القرآن، وكان من مريدي الشيخ عبد الله، المعروف بخواجه أحرار، يحرص على صحبته والتبرك به، ويدعوه الشيخ ابنه. وكان الأب يحب الأدب، ويقرأ دواوين شعراء فارس المشهورين مثل نظامي والمثنوي والشاهنامه، وكتب التاريخ؛ وكان عادلاً سخياً، حسن الخُلق فصيح الكلام حلوه، شجاعاً باسلاً يحسن الضرب بالسيف، وكان وسطاً في الرمي بالسهام، شديد اللكم لا يثبت للكمته مصارع.
وكان عمر شيخ مرزا قصير القامة مستدير اللحية بدينا ممتلئ الوجه، وكان لا يتكلف في ملبسه ومأكله، يلف عمامته لفة واحدة، وكانت العمائم إذ ذاك أربع لفات، وكان يلفها دون طيّ ويترك لها عذبة، ويلبس في أكثر أوقات الصيف خارج الديوان قلنسوة مغولية.
وبابر هو السليل الثالث عشر لجنكيز خان، فقد كانت أمه قُتلُق نكار ابنة يونس خان سليل جغطاي بن جنكيز خان، ويذكر بابر لها أنها رافقته أكثر أيام كفاحه وانتصاراته وهزائمه، وتوفيت سنة 911.
وتوفي الأب سنة 899، وهو في السادسة والعشرين، عندما انهار عليه برج حمام كان قد بناه، فآلت المملكة إلى ابنه الأكبر بابر الذي كان في الثانية عشرة من عمره، وكان في أندِجان لما بلغته وفاة أبيه، فانطلق على فرسه وقطع بسرعة البرق مسافة 50 كيلاً إلى قلعة فرغانة ليستلم زمام الأمور قبل أن يسبقه أعمامه الطامعون أويسلمه أمراؤه المتآمرون.
وكانت الخلافات والمعارك لا تكاد تتوقف بين أمراء الأسرة التيمورية، ذلك إن تيمور لم يترك منهجاً واضحاً في انتقال الحكم من السلف إلى الخلف ففتح ذلك الباب أمام مطامع الأمراء، كلٌ يرى في نفسه ملكاً وريثاً لجده تيمور، ما عليه إلا أن يأخذ عرشه ممن حوله من الملوك المتغلبين، ولم يكن الأب عمر ميرزا بعيداً عن ذلك، فقد كان يطمح أن يستعيد سمرقند عاصمة جده تيمور، وهي على بعد 300 كيل، ولما تولى بابر الحكم كان هذا ثاني هدف له، فقد كان هدفه الأول البقاء في الحكم في خضم المؤامرات التي تحيط بالملك الغر المستصغر.
وتمكن بابر من فتح سمرقند سنة 903 ولكن لم يدم له أمرها طويلاً فقد ثار عليه بعض أمرائه في فرغانة وعينوا أخاه جهانكير ملكاً، فعاد من سمرقند إليها ليقمع هذا التمرد، فانتهز على ميرزا صاحب بخارى هذه الفرصة واستولى على سمرقند، ولم ييأس بابر فجمع قواته واستولى عليها ثانية سنة 906، ولكن ملك الأزبك محمد الشيباني كان أقوى منه وأكثر تنظيماً فاستطاع هزيمته في سنة906، ودحره من سمرقند وفرغانة، بعد أن قاتله بابر عدة مرات دون أن يحقق انتصاراً حاسماً يعيد له ملكه الذاهب.
ويذكر بابر في قصة حياته أنه هُزم مرة ففر في ثمانية من أنصاره وتعقبهم العدو وأعيت الخيل، فتخلف بعض رفاقه، وبقي معه اثنان، فلما أعيا فرسه نزل له أحد الرفيقين عن فرسه، فسار حتى أعيا الفرس الثاني، فقدم إليه الرفيق الأخير حصانه، وسار وحده ووراءه اثنان من الأعداء حتى جن الظلام، فترجل وأوى إلى صخرة ليعتصم بها ويرمي من يتعقبه بالنبال.
ولجأ بابر طريداً شريداً إلى خاله في طشقند، ولكن رجلاً هذه همته وشجاعته وصبره لا بد له أن يحاول مُلكاً، وإذا أضفت لها صفات التواضع واحترام الناس والعدل رجحت أن يكون النجاح حليفه، ولذا تجمع تحت يده عدد من الأمراء الهاربين من الأُزبك، ولكنه تفادى أن يشتبك مع الشيباني خشية إخفاق جديد قبل أن يقوى جانبه، ولما عجز بابر عن استرجاع فرغانة يمم وجهه تلقاء كابل في أفغانستان، والتي كانت تمر بأزمة سياسية حادة.
كان ملك كابل أولغ بك مرزا قد توفي وترك طفلاً رضيعاً، فجاء الملك مكين بك من خارجها واستولى عليها، وسط معارضة شديدة من أهلها، ولما علم بابر بذلك عبر مع مجموعة من قواته ليست بالكبيرة جبال هندكوش وثلوجها، وفتح كابل سنة 911، وكانت هراة في الشرق عاصمة البلاد على الحقيقة من حيث الثروة والعلم، وكان ملكها حسين ميرزا تيموري الأصل مثل بابر، فتحالفا سوية لصد هجمات الشيباني، ولكن حسين ميرزا توفى ولم يرغب خليفتاه في خوض حرب، وما لبثا أن دفعا ثمن ترددهم عندما استولى الشيباني على هراة وأطاح بهم.
وبسقوط هراة لم يعد للتيمورين مملكة سوى مملكة كابل وملكها بابر، فانضم إليه كثير من أمراء التيمورين فاستعملهم على المناطق التي تحت سيطرته، واتخذ لقب باديشاه أي الإمبراطور، ولكن لم تصف له الأمور فواجه تمرداً في كابل استطاع قمعه، وبعده بسنتين تمرد عليه كبار قادته فاضُطر للخروج من كابل في عدد قليل من أنصاره، ولكنه ما لبث أن عاد واستولى عليها واستعاد ولاء كثير ممن خرجوا عليه، وفي سنة 916 استطاع الشاه إسماعيل الصفوي هزيمة وقتل محمد الشيباني، فزال من وجه بابر منافس قوي عنيد.
واستغل بابر الفراغ الذي خلفه مقتل الشيباني واستولى على كثير من أراضي التيموريين، وتحالف مع الشاه إسماعيل الصفوي لتقاسم ممالك آسية الوسطى، ومقابل مساعدته له قبل بابر أن يكون في صورة ملك خاضع للصفويين، وأصبح بذلك في نظر السلطنة العثمانية حليفاً لألد أعدائها، فساعدت أحد خصومه وهو عبيد الله خان، وأمدته بالمدافع، ولكنها ما لبثت  أن صالحته خشية أن ينضم فعلياً إلى الصفويين، وارتأت أن تقويه ليستغني عنهم، فأمدته بالمدافع وبنادق البارود وأرسلت مدرباً قام بتدريب جنوده على استخدامها وتكتيكاتها.
ولأن استعادة سمرقند كانت لا تبرح مخيلته، قام بابر في سنة 919 بحملة لاسترداد سمرقند، ونجح في أخذها هي وبخارى، ثم ما لبث أن خسرهما عندما هاجمه الشيبانيون، فعاد إلى كابل وقد تخلى عن هذا الحلم، وأمضى السنوات العشر القادمة في كابل وهو يكابد من تمرد القبائل الأفغانية وتآمر أمرائه وأقاربه عليه، ورغم أن تلك الفترة كانت فترة سلام نسبي إلا أن بابر أمضاها وهو يبنى جيشه ويدربه أحدث تدريب على فنون القتال، وقاده في حملات عبر الجبال الشرقية غزت المناطق الهندية القريبة، والتي كانت ذات ثروات أفضل كثيراً من ثروات أفغانستان آنذاك.
وفي سنة 928 استولى بابر على قندهار في شرقي أفغانستان، فاستطاع تقصير خطوط إمداده إذا أراد غزو الهند، وقام بابر في السنوات التالية بثلاث هجمات على البنجاب دون أن يفلح في تثبيت أقدامه فيها إزاء تشكك أمرائها في نواياه وتآمرهم عليه لكيلا يطول مقامه.
وكان شمال الهند يقع تحت حكم الأسرة اللودية البشتونية الأفغانية الأصل، تحكمه منذ أن أسس السلطان بهلول مملكته في البنجاب سنة 855، وتوسعت مملكته لتصل إلى حدود البنغال خلال حكمه الذي امتد 39 سنة، وتلاه ابنه اسكندر الذي استولى على بيهار وأسس مدينة اسكندرآباد قرب أكرا، واستمر حكمه 29 سنة، وخلفه ابنه إبراهيم الذي تولى الحكم سنة 1517.
وكان إبراهيم متغطرساً قاسياً يحب الأبهة والمظاهر، أبعد كبار الأمراء من حوله وقرب صغارهم، فاستاء منه أمراء الدولة اللودية، وتكبر عليهم فسخطوا عليه وكرهوا حكومته، فاجتمع بعضهم حول أخيه جلال وثار آخرون عليه، فقمع تمردهم بالقوة الشديدة وقتل عدداً من الأمراء، وكان على وشك أن يعزل الأمير دولة خان لودي عن إمارة لاهور، وإزاء ذلك أرسل دولة خان رسالة إلى بابر في كابل يلتمس معونته على إبراهيم، وكانت هذه فرصة لن يضيعها بابر، وأمنية جاءت إلى باب إمارته، فقد عرف من قبل ضعف السلطنة اللودية وكان ينتهز الفرصة المناسبة للانقضاض على البنجاب وضمها إلى مملكته، فقد كانت من قبل ضمن مملكة جده تيمور لنك.
وفي سنة 930 حشد بابر جيوشه وسار إلى لاهور عاصمة إقليم البنجاب ليجد جيوش دهلي قد هزمت أمير البنجاب المتمرد دولة خان لودي، فانقض عليهم بجيشه وهزمهم، ثم أسرع جنوباً ففتح بلدة ديبل بور، وهي اليوم على حدود الباكستان مع الهند، وأعطى دولة خان وأبناءه بلدتي جلندور وسلطانبور وترك لاهور تحت سيطرته، ولم يقبل هذا دولة خان وهرب ليجمع قواته ثم يحارب بابر، ولكن ابنه ديلوار قبل ذلك، وفي أثناء ذلك شن الأزبكيون هجوما على بلخ، مزار شريف اليوم، فقفل بابر عائداً إلى أفغانستان ليقاتلهم، وترك بعض القوات مع علاء الدين علم خان لودي، عم إبراهيم لودي، ليقوم بالزحف على دهلي وأخذها من ابن أخيه، ولكن ذلك الهجوم فشل فشلاً ذريعاً.
وفي أثناء محاولته الخامسة كاد بابر أن يعود أدراجه إلى عاصمته كابل بعد أن بلغه هجوم الأزبكين عليها، ولكن عماً آخر لإبراهيم هو علم خان استنجد به لينصره على إبراهيم، فقرر بابر أن يجرب حظه لمرة أخرى، فكان النصر حليفه.
وقرر بابر أن يسير هو على رأس جيشه فسار في المحرم من عام 932، ولما اقترب من بِشاور جاءته الأنباء المحبطة أن دولة خان انضم إلى إبراهيم لودي، وطرد علم خان، فسارإلى بشاور فهرب من وجهه جيش دولة خان الذي استسلم فعفا بابر عنه، وسار منها يبسط سلطانه في البنجاب حتى استتب له الأمر بعد قرابة 20 يوماً، وأصبح ملك البنجاب دون منازع يؤبه له.
وتابع بابر حملته باتجاه دهلي حتى وصل إلى بلدة تدعى بانيبات، تبعد عنها 50 كيلاً، وواجه جيش إبراهيم لودي في مبادرة جسورة، وكان جيش إبراهيم يبلغ 100.000 جندي معهم 100 فيل، أما بابر فكان على رأس 12.000 مقاتل، ورغم التفوق العددي الكبير لجيش دهلي فإن جيش بابر كان يتمتع ببعض المزايا التي جعلت كفة المعركة ترجح لصالحه، فقد كان مقاتلوه مخضرمين أشداء عركتهم الحروب وخبروا المعارك، وكان اعتمادهم على هجمات الخيالة السريعة من كر وفر، وإلى جانب هذا كان معهم حوالي 20 مدفع ميداني مما أعطاهم السلطان العثماني، وفي المقابل كان جيش لودي يعتمد على أساليب قتالية عتيقة ويشيع في قادته التذمر والشقاق.
وللتغلب على التفوق العددي لخصمه قام بابر بجعل مدينة بانيبات يمين جيشه لتحميه من التفاف الخصم، وحمى ميسرته بأن حفر خندقاً كبيراً وغطاه بغصون الأشجار ليقع فيه المهاجمون، ووضع 700 عربة في قلب جيشه بعد أن ربطها بالحبال ووضع رماة البارود وراءها، وترك بينها مسافة تسمح لخيالته بالخروج والانقضاض منها، ولما جاء إبراهيم بجيشه اضطر إلى أن يحارب على جبهة ضيقة فأسرعت خيالة بابر بالالتفاف عليه، وصار جيشه تحت نيران المدافع والبارود من أمامه وهجمات الخيالة من أطرافه، فلم تمض ساعات قليلة حتى انهار جيش لودي وقتل الملك إبراهيم في المعركة مع 15.000 قتيل من جنوده، وانتهت بمقتله الدولة اللودية في الهند.
وكأي زعيم عسكري محنك قام باربر باستثمار انتصاره دون تردد، فسار إلى دهلي وخطبت باسمه الجمعة في 14 رجب، ثم سار منها إلى أكرا وأنشأ حديقة بديعة على ضفاف نهر جمنى لا تزال قائمة إلى اليوم، وفرق على جنوده ما حصل عليه من غنائم، ولم يدخر منها شيئاً، فازدادت حماستهم ورغبتهم في القتال، ورغم هذه البداية القوية بدا أن انتصاره الحاسم السريع شبيه بانتصاراته السابقة في سمرقند، لن يلبث قليلاً حتى يتحول إلى هزيمة منكرة.
وذلك إنه كان بعيداً مسافة 1.300 كيل عن عاصمته كابل، في حر الهند الذي لم يألفه جنوده، ثم إن نظراءه من الأمراء الأفغان الذين احتلوا نهر الكنج كانوا قوة من شانها أن تطيح به يوم يتتناسون خلافاتهم ويوحدون كلمتهم، وإلى الجنوب كانت هناك مملكتا ملوا وكجرات الهندوسيتين وكلاهما أقوى منه بكثير، ومن ورائهما تحالف إمارات راجستان الذي يقوده الملك رانا سانجرام سينغ، والذي كان يهدد كل الوجود الإسلامي في شمالي الهند.
وواجه بابر ما واجهه الإسكندر في فتحه للهند، فقد سرت في جيشه بوادر حركة تذمر تدعو لترك الهند وحرها والعودة إلى أفغانستان وأفيائها، وكان خصومه قد حرقوا الحقول ودمروا المحاصيل فما بقي من الطعام والأعلاف إلا قليل، فلجأ إلى التعبئة المعنوية وجمع قواته وخطب فيهم قائلاً: إن عدواً قوياً قد هُزِم، وإن تحت أقدامكم مملكة عظيمة، فهل نترك كل ما كسبنا بعد أن بلغنا الغاية التي سعينا إليها ونفر إلى كابل كأننا جيش مهزوم مطارد؟ من كان يزعم أنه صديقي فليقلع عن هذه الوساوس، ومن لم يستطع أن يقسر نفسه على البقاء فليذهب. فهدأت الأمور ولو إلى حين.
وحشد تحالف راجبوت جيشاً كبيراً يزيد على 120.000 مقاتل معهم30.000 حصان و500 فيل، وانضم إليهم الأمير محمود من الأسرة اللودية، ولكن نجاحهم الكبير كان حين انضم إليهم أمير مسلم راجبوتي هو راجا حسن خان، وفي المقابل كانت قوات بابر لا تتجاوز 25.000 جندي، كثير منهم لا يرغبون في القتال، فيما خصومهم الراجبوتيون مشهورون بقوة المراس وشدة البأس.
وحاول بابر شق الصف الراجبوتي، فأطلق سراح أمير راجبوتي مسلم كان قد أسره في معركة بانيبات، وأرسله معززاً مكرماً إلى والده خان زاده حسن خان الذي كان أحد قواد التحالف المهمين والمحترمين بين مسلمي الهند، وكان يأمل أن يقع معروفه  من خان زاده بمحل يجعله يترك تحالفه مع الهندوس، ولكن ذلك لم يحصل، بل اعتبر الأب أن إطلاق بابر لسراح ابنه يكشف ضعفه وخوفه من قوات راجبوت.
وقيّم بابر الموقف تقييماً صحيحاً ودقيقاً، وأدرك أنه إزاء أكبر جيش واجهه في حياته من حيث العدد والشجاعة، فبدأ في حشد قواته استعداداً لخوض معركة فاصلة، وأعرض عن كل المعارك الجانبية، فسحب أغلب قواته من أكرا، وأمر ابنه همايون أن يعود من حملته في جانبور وينضم إليه، ولتقوية الروح المعنوية في جنوده استصدر فتوى من علماء المسلمين برِدَّة خان زاده الذي يحارب المسلمين تحت راية الكافرين الهندوس، ولكن كل ذلك لم يفلح في إزالة الخوف تماماً من قلوب جنوده.
وبقي بابر يحشد قواته ويعد للمعركة 25 يوماً، واتفق مع قواده على عدد من الخطط والخطط البديلة، وأجرت مدفعيته تمارين مما يشبه المناورات اليوم، وحيث لم يكن له كبير ثقة ببعض حلفائه من أمراء الهند ارتأى أن يخوض المعركة بدونهم، وأرسلهم مدداً لبعض الحاميات، واختار بابر أرض المعركة وأرسل من حفر فيها الآبار ليتوفر الماء لمقاتليه، وسار إليها في جيشه وهم على أهبة الاستعداد خشية أن يطرقهم العدو على حين غرة  وهم في مسيرهم، ولما وصلوا قريباً من جيش راجبوت حدث اشتباكان جانبيان معه كان الدائرة فيهما على قوات بابر وخسروا عديداً من القتلى والأسرى، وأدرك جنوده أن هذا الخصم أعتى من كل خصم قاتلوه من قبل، فدب الخوف في قلوبهم أكثر من ذي قبل، حتى إن أولاده أبدوا يأسهم من الانتصار وتراءت لهم الهزيمة المحتومة.
ولكن بابر وقد عرك المعارك وذاق حلوها ومرها لم يظهر أي تردد أو رهبة، وجاءه في أثناء ذلك مدد من كابل قوامه 500 فارس فتفاءل به، ولكن قادته تساءلوا ما عسى أن يفعل هؤلاء إزاء جيش أصبح عدد فرسانه 120.000 فارس؟! 
وأخيراً طرق بابر أبواب من لا يخيب سائله وأقلع عن الذنوب والمعاصي، فألغى الضرائب والمكوس، وأعلن توبته عن شرب الخمر، وهي عادة مغولية عريقة مستحكمة، وأمر بإراقة دنانها، وكسر أدواتها من كؤوس الذهب والفضة وفرقها على الفقراء والمساكين، وقال: اقتلعنا أسباب المعصية بقرع أبواب الإنابة. وتذلل لله وخضع له، ثم جمع جنده فخطب فيهم قائلاً: أيها الأمراء والجند، لا بد لمن يجيء لهذا العالم أن يفارقه؛ وإنما البقاء لله الذي لا يتغير. وكل من جلس على مائدة الحياة شارب كأس الموت لا محالة، وكل من طرق نزل الفناء هذا فهو لا بد راحل يوماً عن دار الحزن.
وأولى بنا أن نموت أحراراً من أن نعيش أذلاء، وإن من فضل الله علينا أن ضمن لنا إحدى الحسنيين، فإن متنا متنا شهداء، وإذا ظفرنا ظفرنا في سبيله. هلموا نقسم جميعاً بالله العظيم ألا نفر من هذا الموت، وألا نرهب مآزق الحرب حتى تفارق أرواحنا أجسادنا.
وأقسم الجيش كله أمراؤه وجنوده على القتال حتى النصر أو الشهادة، وارتفعت معنوياته ارتفاعاً لم يسبق له مثيل، ولما ضمن بابر الروح المعنوية العالية في جنوده تحرك من معسكره باتجاه العدو، ولكن حركته كانت في تشكيل دفاعي، لأن خطته كانت تقضي الاقتراب من العدو يوماً بعد يوم، وكان هو على فرسه برفقة جنوده يوجههم ويدربهم، ولما اقتربوا من مكان التخييم هاجمتهم قوة راجبوتية سمعت باقترابهم، فلم يتعرض لها بقوة كبيرة بل دفعها حتى نزل جنوده وعسكروا ثم أرسل وراءها مجموعة من خيالته فاشتبكت معها ودحرتها وعادت برؤوس القتلى على الرماح فكان ذلك قفزة أخرى في معنويات جنوده.
وأعد بابر قواته في تشكيلات جمعت بين الدفاع والهجوم، فقد وضع رماته ومدافعه وراء المتاريس، ولكنه أعد خيالته لتلتف على جوانب العدو في الفرصة المناسبة، وجنَّب جزءاً من جنوده في قوة احتياطية تدخل في المعركة لصد الانكسار أو ترجيح الكفة.
وجرت المعركة في منطقة اسمها خانوا قرب فاتح بور في 13 جمادى الأولى سنة 933، ولما استمرت عدة ساعات استغل بابر قواته الاحتياطية في الضغط على عدوه، وكانت خيالته ومدفعيته الميدانية تتحركان بمرونة فائقة، فصارت الفيلة تهرب وتدوس جنود راجبوت في طريقها وعمت الفوضى، وحاول مقاتلو راجبوت موجة تلو الموجة أن يهاجموا المدافع لإسكاتها ولكن جنود بابر كانوا يبيدونهم، ومع حلول المساء حلت بقوات راجبوت هزيمة منكرة، وانسحبوا مخلفين عشرات الآلاف من قتلاهم في ساحة المعركة.
وتعقبهم بابر بنفسه إلى معسكرهم لئلا يمنحهم فرصة لتجميع قواتهم من جديد، فاستمروا في الهرب، فبقي هو عند المعسكر وأرسل وراء القائد الراجبوتي رانا بعضاً من قواده ولكنه تمكن من الهرب ومات بعدها بسنة تقريباً.
وانتهى بهذه المعركة أكبر وأخطر تحد واجهه بابر، وكان من قبل هذه المعركة قد خرج عليه كثير من المتمردين مستغلين ضعفه، فانطلق يقضي عليهم واحداً بعد الآخر في مواقع كثيرة، وجعل أكرا عاصمة مملكته الجديدة، وعاش بابر بعد هذه الموقعة الأخيرة سنة ونصف سنة، قبل أن تدركه فيها المنية في 6 جمادى الأولى سنة 937، وهو في التاسعة والأربعين من عمره، ثم نقل جثمانه إلى كابل بوصية منه، وخلفه ابنه الأكبر همايون.
رأينا من سيرة بابر أنه كان زعيماً بارعاً وقائداً شجاعاً ومقاتلاً محنكاً أمضى معظم حياته في الأسفار والحروب، ولكنه يتفرد بين القادة والزعماء على مر العصور بأنه كان كذلك مولعاً بالآداب والفنون، يقرأ الشعر وينظمه، ويعجب بالأبنية الجميلة، ويهتم بتنسيق الحدائق وغرس الأزهار، ويكلَفُ بالغناء والموسيقى، وله ديوان صغير بالتركية تتخلله قطع فارسية.
وعن كتابه بابر نامه قال الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله: هو في موضوعه نادرة من نوادر التاريخ؛ فما عرفنا قبل بابر ملكا أمضى حياته في عراك الحوادث ثم استطاع أن يصف مشاعره، ويسجل وقائع سيرته، وسيرة أقاربه وأعوانه في بيان واضح مفصل بعيد من التكلف، يتجلى فيه اهتمام الكاتب بما يرى ويسمع ودقته في الإدراك والوصف... وهو في لغته وأسلوبه ذخيرة أدبية ... والكتاب بعد هذا وذاك فصول ممتعة بل ساحرة يكلف بقراءتها كل من حاولها، فعرف ما تبعث في نفس القارئ من سرور وإعجاب وما تتضمن من فوائد للعلم والأدب والتاريخ.
ويعتبر بابر بطلاً وطنياً في أزبكستان، وقائداً إسلامياً عظيماً في إيران وأفغانستان والباكستان التي أطلقت اسمه على أحد صواريخها البعيدة المدى، ولا يكتمل الحديث عن بابر دون الحديث عن المسجد البابري في أيوديا الذي ينسب إليه والذي هدمه متطرفو الهندوس في سنة 1992بدعوى أن بابر هدم معبداً للإله راما وأقام المسجد على أنقاضه،  وهي دعوى أثبتت أبحاث مصلحة الآثار الهندية أنها غير صحيحة.
دامت الإمبراطورية المغولية في الهند قرابة 235 سنة، ولم تسمح الفترة القصيرة التي عاشها بابر بعد انتصاره إلا بإرساء حجر أساسها، وعانى ابنه همايون مما عانى منه أبوه من كيد الأقارب والمتمردين، وكان حفيده السلطان أكبر هو الذي شاد بنيانها فقد كان سياسياً ماهراً في تألف العامة والخاصة على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، ودام حكمه 50 سنة ازدهرت فيها المشاريع العمرانية والعلوم والآداب والإصلاحات الإدارية والمالية التي خففت كثيراً من الأعباء على الطبقات الفقيرة.
هذه صفحة من تاريخ الإسلام في شرق المعمورة، وما أزهدنا في بلاد العرب بتاريخ ولغة وحضارة الهند والصين وغيرها من هذه البلدان والشعوب، وفيها إخوان لنا في الدين والتاريخ والعادات والتقاليد، ولنا معها مصالح وفيها لنا معايش، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.

 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer