الجمعة، 25 أبريل 2014

حدث في الثامن عشر من جمادى الأخرة


في الثامن عشر من جمادى الآخرة من سنة 1061 توفي في دمشق، عن 84 سنة، نجم الدين الغزي، محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، محدث الشام في عصره، وسليل أسرة علمية استمرت على دروب العلم، وكان أفرادها، أباً عن جد، من كبار مشايخ دمشق إلى وقت ليس بالبعيد.
ولد نجم الدين الغزي سنة 977، من أسرة يعود أصلها البعيد إلى غزة، حيث جاء منها إلى دمشق جده الأكبر أحمد بن عبد الله المتوفى سنة 822، والذي صار مفتي دار العدل إلى جانب التدريس، ووالده بدر الدين، المولود سنة 904 والمتوفى سنة 984، كان شيخ الشافعية في دمشق، وله تآليف كثيرة منها ثلاثة تفاسير إلى جانب الحواشي والشروح، وكان كريماً محسناً جعل لتلاميذه رواتب وأكسية وعطايا.
ولما ولد نجم الدين، كتب والده ميلاده على أحد الكتب كما كانت العادة في ذلك الزمان وإلى وقت غير بعيد، وكتب له دعاء قدرت له الاستجابة، فقال: أنشأه الله تعالى وعمَّره، وجعله ولدا صالحا تقيا، وكفاه وحماه من بلاء الدنيا والآخرة، وجعله من عباده الصالحين، وحزبه المفلحين، وعلمائه العاملين، ببركة سيد المرسلين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ويبدو أنه كان الولد الأصغر لوالديه، وكان له أخ أكبر منه بسنوات ليست بقليلة توفي سنة 983، ثم توفي والده وهو في السابعة فلم يُقدَّر له أن يتعلم على يده العلوم الشرعية، ولكنه أخذ عنه شيئاً من القرآن الكريم وكثيراً من الآداب والأخلاق، قرأ على والده سورة البقرة وهو في السابعة، فأعطاه أربع دراهم فضة ترغيباً له، وشجعه على صيام رمضان وهو في السادسة بأن أعطاه كل يوم درهم فضة، فصام معظم الشهر، وكان يحضر به دروسه ويدعو له  بالعلم والدين.
وهيأ الله لنجم الدين أماً صالحة لم تتزوج بعد وفاة والده، وحبست نفسها على أولادها، فأحسنت تربيتهم، وتابعت تعليمهم حتى حفظوا القرآن الكريم، وذلك بمساعدة أخيها، وكانت تنفق على أولادها من ريع وقف جدهم وملك أبيهم وميراثه، وأحسنت التصرف في أموال اليتامى ومؤونتهم وكسوتهم ولم تحملهم مِنَّة أحد قط، وتقول هو ببركة والدهم.
ودرس نجم الدين التجويد والقراءات والنحو والفقه على علماء الشام في عصره، وكانت له علاقة خاصة مع إمام الجامع الأموي شهاب الدين العيثاوي، أحمد بن يونس، المولود سنة 941 والمتوفى سنة 1025، حيث درس عليه الفقه الشافعي والعقيدة، وصحبه 13 سنة في الطلب وقال التلميذ عن الشيخ: وله على تربية وحنوة وعطف، وهو أعز شيوخي عندي وأحبهم إلي، جزاهم الله عني خيرا. وتزوج الغزي ابنته وكان له منها ابنه المسمى سعودي.
ودرس نجم الدين الغزي كذلك على الشيخ محب الدين العلواني الحموي الدمشقي، محمد بن أبي بكر، المولود سنة 949 والمتوفى سنة 1016، وهو جد المؤرخ المحبي صاحب خلاصة الأثر، فقرأ عليه ربع صحيح البخاري وأجازه بمروياته، وبقيت العلاقة بينهما علاقة ود، حيث يقول عنه الغزي فيما كتبه سنة 1004: وهو، متّع الله بحياته، إلى الآن يوصل إلينا إحسانه وإنعامه علما وثناء ومالا، وغير ذلك مما لا نستطيع مكافأته، إلا أن يجازيه الله عنا أحسن الجزاء، ويمتعنا بحياته وعلومه ما تعاقب الصباح والمساء.
واهتم الغزي برواية الحديث واستجازة المحدثين ممن دخلوا دمشق أو التقى بهم في أسفاره، فصارت له حصيلة وفيرة من مرويات الحديث الشريف، وأمد الله في عمره، فتميز بما لديه، حتى قيل له فيما بعد: مُلحِقُ الأحفاد بالأجداد، المتفرد بعلو الإسناد.
وسلك نجم الدين الغزي طريق التصوف على عادة علماء العصر، وسلك على يد اليتيم الدمشقي، محمد بن أبي بكر، المتوفى سنة 1005، وتأثر به الغزي تأثراً واضحاً إذ كان رجلاً صالحاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال الغزي عنه في ترجمته: صحبتُه نحو خمس سنين، وكنت أقول ما على من صحب هذا الشيخ إذا فاتته الصحبة مع المتقدمين.
ودرَّس نجم الدين في مدارس دمشق بطريقة فيها إكرام له وتقدير لعلمه، فقد أحال عليه شيخه شهاب الدين العيثاوي بعضاً من دروسه وإمامته بالمسجد الأموي، وأذن له العيثاوي بالكتابة على الفتوى قبل وفاته بنحو عشرين سنة، فكتب في هذه المدة على فتوى واحدة في الفقه، وغير واحدة في التفسير، تأدبا مع شيخه العيثاوي، فلما كان قبل وفاة العيثاوي بنحو خمسة أيام دخل نجم الدين عليه فحضرت فتوى فقال له: اكتب عليها. فكتب، وقال: اكتب اسمكم؟ قال: بل اكتب اسمك. فكتبه، ثم تتابعت عليه الفتاوى، فاستمر يفتي 36 سنة من سنة 1025 إلى حين وفاته سنة 1061.
وتولى نجم الدين الغزي التدريس في الجامع الأموي لإقراء صحيح البخاري على رسم العادة في رجب وشعبان ورمضان، فبقي يدرسه مدة 27 سنة، إلى وفاته،  وكان معيده في الدرس الشيخ رمضان العكاري فلما توفى سنة 1056، حل محله الشيخ مصطفى بن زين الدين المشهور بابن سوار، وكان حسن السمت والخُلق، وكان نجم الدين يقول: من أراد أن ينظر إلى حواريِّ هذه الأمة فلينظر إليه. وكانت لنجم الدين دروس في غير الجامع الأموي منها درسه في المدرسة الشامية في شرح جمع الجوامع في الأصول، وحضر درسه الشيخ عبد الغني النابلسي، المولود سنة 1050 والمتوفى سنة 1143، ودخل في عموم إجازته لمن حضر مجلسه، وبسبب ذلك كان يروي عنه مباشرة.
قرض الغزي الشعر وهو في يفوعته، وأغلب شعره مقطعات في الحكم والأدب، وأكرمه الله بملكة شعرية مكنته من نظم المتون الفقهية وغيرها في أرجوزات طويلة ، ولعل أفضل شعره هو هذين البيتين العاطفيين من أول ما نظم:
لو بحت بالحب الذي ... أضنى الفؤاد وكلما
لبكى لي الصخر الأصم وكاد أن يتكلما
ومن أغراض الشعر في ذلك العصر: الألغاز، وهو أن ينظم الشاعر بضعة أبيات يلمح فيها إلى كلمة ويطلب من أقرانها حل اللغز وتعريف هذه الكلمة، وكان شاعر الشام آنذاك الأديب أبو بكر بن منصور العمري الدمشقي، المتوفى سنة 1048، فكتب إلى النجم الغزي ملغزا:
يا نجمُ يا ابن البدر يا شمس الهدى ... يا من ضياء وجهه يجلو الغلس
ما اسم حروفِ لفظة إن عُدِّدت ... فخمسة وإن تُصحِّف فهو بس
فأجابه الغزي مبيناً له أن الكلمة هي ياسين:
يا مُلغِزا في اسمٍٍ عليه ربنا ... صلى وأدناه إليه في الغلس
وجاء في التنزيل تنزيلُ اسمه ... تحت سبا وفاطرٍ فوق عبس
ابتدأ الغزي التأليف في سنة 991 وهو في الرابعة عشرة من عمره، واستمر في ذلك طيلة حياته، فألف عشرات الكتب والرسائل في الفقه والتفسير والتصوف والآداب والنحو، وقد ذكر الأستاذ زهير ظاظا أن الغزي قال في كتابه الذي صنفه في سيرة والده وأسماه بغية الواجد في ترجمة الوالد، أنه قد ألفه وهو في السابعة والعشرين، وترجم لنفسه في بعض فصوله، فذكر أن له 32 تأليفاً آنذاك.
وعلى عادة علماء ذلك الزمان نجد أغلب مؤلفاته شروحاً أو مختصرات، أو نظماً لبعض الكتب في أرجوزات ليسهل حفظها واسترجاعها على طالب العلم، وهو أمر يحتاج إلى موهبة من الخالق ومران من الحاذق، ولنجم الدين الغزي منظومات كثيرة في النحو والفقه وغيرها من المواضيع، ويكفى أن نشير أنه شرح منظومة والده في النحو بمنظومة أخرى بلغ عدد أبياتها 4000 بيت، ومن مؤلفاته الطريفة كتب عقد النظام لعقد الكلام، وهو كتاب ينقل فيه مقولات السلف في النصيحة والزهد وأشباههما ثم ينظم تلك المقولات، ونورد مثالا على ذلك قوله فيه:
ذكر النووي في تهذيب الأسماء واللغات عن الإمام الشافعي أنه قال: ما أفلح في العلم إلا من طلبه في القلة، ولقد كنت أطلب القرطاس فيعسر علي، وقال: لا يطلب أحد هذا العلم بالمال وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلة النفس، وضيق العيش، وخدمة المعلم، والتواضع في النفس أفلح، وقلت في معناه هذا:
من يطلب العلم بعز الغنى ... يبطر ولا يفلح بما يصنع
للعلم طغيان كما للغنى ... والعلم بالطغيان لا ينفع
لا يبلغ العالم شأو العلا ... إلا التقي الأروع الأورع
ويحدثنا الغزي عن أعظم مؤلفاته في رأيه فيقول: وأعظم مؤلفاتي الآن شرحي على ألفية التصوف لشيخ الإسلام الجد المسمى بمنبر التوحيد ومظهر التفريد في شرح جمع الجوهر الفريد، في أدب الصوفي والمريد، وهو كتاب حافل جمعت فيه جميع أحكام الطريق، ووفيت فيه شروط الشرع في عين التحقيق. وجده الذي أشار له هو شيخ الإسلام رضي الدين الغزي، محمد بن محمد، المولود سنة 862 والمتوفى سنة 935.
ولكن أعظم كتب نجم الدين الغزي التي خلدت ذكراه هو كتابه الكواكب السائرة في تراجم أعيان المئة العاشرة، ترجم فيه لكثير من أعلام القرن العاشر ممن عاشوا في بلاد الشام ومصر مع قليل من خارجها، وهو المرجع الرئيس لتراجم القرن العاشر الهجري في المشرق العربي، وأوردُ بعض ما ذكره في المقدمة عن سبب تصنيفه هذا التاريخ ومصادره التي استقى منها، وأغلبها كتب مؤلفة، ولكن منها تعليقات تكون مفيدة ونادرة، قال رحمه الله:
وإني طالما كنت أتشوق إلى تأليف كتاب يجمع التراجم المتأخرين من أهل المئة العاشرة من العلماء الأنجاب، فلم أجد من تعرض لهذا المعنى، أو دخل في هذا الباب، غير أن الشيخ المحدث النحوي شمس الدين محمد بن طولون الحنفي ألف كتابا جمع فيه تراجم أواخر المئة التاسعة وأوائل المئة العاشرة سماها بالتمتع بالأقران، ولم أقف على مجموع هذا الكتاب، وإنما وقفت على نحو كراسة منه فاستدللت بالصبابة على العباب ...  وكنت قد وقفت قبل ذلك على قطعة من تاريخ كتاب الحافظ العلامة بدر الدين العلائي الحنفي في حوادث القاهرة من سنة سبع عشرة وتسعمئة إلى أواخر سنة أربع وثلاثين، ثم وقفت على تعليقه بخط والد شيخنا الشيخ الإمام الفقيه أبو الندى شرف الدين يونس العيثاوي الشافعي رحمه الله تعالى، علق فيها وفيات شيوخه وبعض أقرانه، وترجم أكثرهم فذكر من مآثرهم؛ كل مترجم ما يليق بمقامه ومكانه.
وتحريت فيه بقدر الطاقة والإمكان وجه الحق والصواب، وسلكت بين طريقتي الإيجاز والإطناب، لأنه أقرب لتناول المقتصدين، وأنفع لمن يريد الكشف عن أحوال المترجمين، معتمدا فيما أنقله على خطوط هؤلاء المشايخ، أو على خط من يوثق به، من كل ذي قدر في العلم شامخ، وقدم في الفضل راسخ، أو على ما تلقيته من أفواه المعتبرين، وأخذته عن الفضلاء البارعين، مما يدخل في تراجم الأعيان أو تاريخ مواليدهم أو وفياتهم، بحسب الإمكان، من أهل القرن المذكور من العلماء الأعلام بدمشق المحروسة وحلب وغيرها وبلاد الشام وعلماء القاهرة والحرمين الشريفين، حسبما تيسر لنا مع التحري والاجتهاد في كل مقام، وضممت إلى ذلك نبذة من تراجم أعيان التخت العثماني ووفيات أعيان الملك السلطاني، ممن اتفقت وفياتهم فيما حدث من الزمان منتخبا لذلك من الشقائق النعمانية، ومن رحلة والدي المسماة بالمطالع البدرية، ومن غيرهما مما بلغني وتحققته، وتلقيته عن الثقات وتلقنته ...
ثم إني وقفت بعد ذلك على تاريخ العلامة رضي الدين ابن الحنبلي الحلبي الحنفي المسمى دُرَّ الحَبب في تاريخ أعيان حلب، وهو كتاب مجلد ضخم ثخين، مشتمل على الغث والسمين، والتافه والثمين، وربما فيه بعض التراجم بما لا يتعلق بالمرام، وليس له بفن التاريخ التئام، وربما أكمل الأسماء لئلا يخلو الحرف من التراجم، بنقاش أو تاجر، أو مغن أو مطنبر، وعاشق أو معمار، أو غيرهم من العوام، فانتخبت منه تراجم بعض أعيان كتابه، وضممتها إلى كتابي، وأعرضت عما لم يقع اختياري عليه مما أتى به وليس في بابه، حسبما قضى به تمييزي وانتخابي، لأني وضعت هذا الكتاب على أسلوب أهل الحديث والإتقان، ولم أرسمه كيف اتفق ولا على أي وضع كان...
فكان كتابا جامعا لزبد هذه الأمهات، ملخصا لمقاصد جامعيها من العلماء الأثبات، وكل ذلك مع توفير القرائن وتهيئة الأسباب، وتيسر الجمع والتأليف من قبل الكريم الوهاب، وسمته بالكواكب السائرة بمناقب أعيان المئة العاشرة...
وقد وقع رحمه الله بمثل ما ذكره عن تاريخ ابن الحنبلي، فقد أورد في كتابه تراجم عدد من العوام المجاذيب وأورد قصصاً عجيبة عنهم، وهو وإن كان ينقلها عن مصادره، إلا أنها مما لا يقره ميزان الشرع، وليس فيها كبير كرامة أو ولاية، ومثال ذلك ما أورده في ترجمة الشيخ الصالح المجذوب علي الدميري: كان لا يدخل بيت الحاجة إلا في كل ثلاثة أشهر مرة واحدة! وما أورده في ترجمة إبراهيم أبي لحاف، قال: وكان يُكشف له عما نزل بالإنسان من البلاء في المستقبل، فيأتي إليه فيخبره أنه نازل به في وقت كذا وكذا وكذا، ويطلب منه مالاً، فإذا دفعه إليه تحول البلاء عنه والأذى كما أخبر، وكان يمكث الشهر وأكثر لا ينام الليل، بل يجلس يهمهم بالذكر إلى الفجر صيفاً وشتاء.
وأمثال هؤلاء المجاذيب المعتوهين تنساق إليهم العامة في العادة، لأن العامي بطبعه ينقاد للاعتقاد والغيبيات التي لا تطلب منه عملاً ولا تكلفه مشقة، أما العلماء فهم يعلمون أن العمل أساس التوكل، وأن السعي أساس الاعتقاد، أما الغزي ومصادره من علماء أتقنوا العلوم الشرعية، فكان الظن بهم ألا يذكروا هؤلاء في الأعلام، إذ هم أدنى من أن يكون لهم ذكر في هذا الصدد، ولكن الغزي ومن نقل عنهم هذه الأخبار نتاج عصر شاع فيه التخلف والتقليد وتقديس الأشخاص، لا احترامهم وإجلالهم، فهو على علمه الوافر يسوق هذه الأخبار معتقداً صحتها دون أن يعرضها على معايير الشرع الدقيقة والصحيحة، فهو في هذا الجانب صورة للتناقضات التي سادت المجتمع وشملت طبقة العلماء في ذلك العصر على تقواهم وديانتهم.
وأتبع الغزي كتاب الكواكب السائرة بذيل سماه لطف السمر وقطف الثمر في أعيان الثلث الأول من القرن الحادي عشر، وجمع فيه تراجم الأعلام حتى سنة 1033.
وكان الحج في تلك الأيام محفوفاً بالمخاطر في الطريق وفي مكة المكرمة، وكان محظوظاً من حج مرة واحدة، ولكن الله أكرم نجم الدين الغزي بالحج مرات عدة، أولها سنة 1001 وآخرها سنة 1059، وروى أحد مشايخ الشام كيف كان طلبة العلم يلاحقون الغزي ويطلبون منه الإجازة حتى في الطواف والسعي، حكى حمزة بن يوسف الدوماني، قال: بينما أنا ذات يوم بخلوة عند باب الزيادة وإذا بضجة عظيمة، فخرجت فنظرت وإذا بالشيخ نجم الدين بينهم وهم يقولون له أجزنا، ومنهم من يقول هذا حافظ العصر، ومنهم من يقول هذا حافظ الشام، ومنهم من يقول هذا محدث الدنيا، فوقف عند باب الزيادة وقال لهم: أجزتكم بما تجوز لي روايته، بشرطه عند أهله، بشرط أن لا يلحقنا أحد حتى نطوف. ثم مشي إلى المطاف، فما وصل إليه إلا وخلفه أناس أكثر من الأول، فوقف وأجازهم كما تقدم، وقال لهم: بشرط أن لا يشغلنا أحد عن الطواف. فوقف الناس وطاف الشيخ... فلما فرغ من الطواف طلبوا منه الإجازة أيضا فأجازهم، ولحقه الناس إلى باب الخلوة وطلبوا منه الإجازة فأجازهم.
ثم بعد هنيهة جاء الشريف زيد صاحب مكة، فلما استقر بهم المجلس تذاكروا أمر الساعة، فأخذ نجم الدين يورد أحاديث الساعة بأسانيدها وعزوها لمخرجيها، ويتكلم على معانيها حتى بهر العقول، وأطال في ذلك، ثم لما فرغ قال له المشايخ: تجيزونا يا مولانا بما لكم، وكذلك استجازه الشريف زيد ومن حضر، فأجاز الجميع، فلما انصرف قال بعض مشايخ الحاضرين: أنا كنت إذا رأيت كتبه وتصانيفه أعجب منها، وإذا اجتمعت به لا يتكلم إلا قليلا، فأعجب من ذلك، ولكن الآن تحقق عندي علمه وحفظه.
ومن الطبيعي أن يكون لنجم الدين الغزي مكانة كبيرة في دمشق وعند الدولة العثمانية، وكان يسعى في مصالح الناس ورفع ما يقع بهم من مظالم، وفي سنة 1025 كانت الدولة العثمانية في أتون حرب شديدة مع الشاه عباس الصفوي في إيران، فجندت لها الجنود من الأقاليم ومنها دمشق، وفي هذا ضرر كبير على مصالح الناس في دمشق، فأرسل أهلها وفداً إلى الوزير الأعظم ليتوسط لديه بإلغاء القرار أو تعديله، ترأسه شهاب الدين العيثاوي، وكان فيه نقيب الأشراف، وكذلك نجم الدين الغزي.
ومثله مثل صالحي العلماء في كل زمان كان نجم الدين الغزي يشعر بالظلم الذي يقع على العامة من الحكام الجائرين، وقد كانت الرشوة من الأمراض المنتشرة كثيراً بين ولاة وقضاة الدولة العثمانية، رغم محاولة استانبول محاربتها بين وقت وآخر، ومعاقبتها الفاسدين أشد العقوبة،  ولذا نراه في كتابه الكواكب السائرة  يذكر في ترجمة سنان القراماني ما يلي:
ولي نظارة البيمارستان النوري، ثم ولي نظارة الجامع الأموي، وانتقد عليه أنه باع بسط الجامع وحُصُره، وأنه خرب مدرسة المالكية التي بقرب البيمارستان النوري، وتعرف بالصمصامية، وحصل به الضرر لمدرسة النورية ببعلبك، فشُنق بسبب هذه الأمور هو وناظر السليمية حسين جلبي في سنة 966... وأما الآن، فقد تجاوز أهل الفساد إلى أمور فوق هذه الأمور، بحيث هذه الأمور التي انتقدت على سنان لا تعد بالنسبة إليها شيئاً، ثم إن حصل عليهم إنكار دفعت الرشوةُ عنهم وبالَه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم:
برطيل أهل الجور يكفيهم ... في هذه الدنيا العقابَ الأليم
ورشوة الحكام أعمتهم ... عن الطريق الحسن المستقيم
فاعبث كما شئت، وكن ظالماً ... ولا تقل في الظلم يوماً وخيم
جبل الله عز وجل الناس على حب الرئاسة والبروز، فلا عجب أن يقع شيء من ذلك في صفوف العلماء وبخاصة عند الاختلاف في الآراء، ويكاد التزاحم على مناصب التدريس أن يكون تقليداً عريقاً منذ أن أسس الوزير نظام الملك رحمه الله المدرسة النظامية في بغداد وغيرها من مدن الإسلام، وهو في أيام الدولة العثمانية ظاهرة متكررة دائماً، يسعى فيها الشيخ للحصول على درس في إحدى مدارس الأوقاف أملاً في الحصول على راتبها، ويزداد الحرص على المنصب كلما كان في مسجد من المساجد الهامة.
ووقع هذا لنجم الدين الغزي، فقد كان مدرساً في المدرسة الشامية البرانية بالعقيبة، فرغب أحد كبار علماء الشام أن يحصل على هذه الوظيفة، فقد سعى شمس الدين الحموي الميداني، محمد بن محمد، المتوفى سنة 1033، لدى أحد المتنفذين من الأتراك ليدرس هو فيها، فجاء الأمر من استانبول في سنة 1032 أن يحال الدرس على الميداني، ولم يقبل نجم الدين بذلك، وسافر إلى استانبول ليسعى لدى ولاة الأمر في نقض القرار، ووصف سفره في رسالة ألفها أسماها العقد المنظوم في رحلة الروم، وعاد من رحلته ومعه قرار بأن يكون هو المدرس ما دام علي قيد الحياة، وبناء على ذلك تسلم المدرسة من جديد.
ولكن الميداني عاد وسعى في الأمر مع المتنفذ، وجاء بأمر جديد يوكل إليه التدريس في المدرسة، ورفض ذلك الغزي، ودفع بأن هذا التكليف الجديد أضعف مرتبة من تكليفه بالدرس مدى الحياة، ولذا فهو لا ينقضه، وترافع الميداني والغزي لدى قاضي القضاة، فأبرز الغزي فتوى لعلماء الحنفية أن السلطان إذا أعطى رجلا وظيفة بقيد الحياة ثم وجهها لغيره لا ينعزل عنها، إلا أن ينص السلطان على الرجوع عن الإعطاء بقيد الحياة، فقال قاضي القضاة للغزي: الحق لك، لكن تطيعنا على رعاية سن هذا الرجل، ونقسم بينكما التدريس. فصارت الوظيفة بينهما شطرين، ولكن الميداني لم يمتع بها طويلاً إذ توفي آخر سنة 1033.
وقبل موته بست سنوات أو سبع، أصيب نجم الدين الغزي بشيء من الفالج، فكان لا يتكلم إلا قليلا، وقبل وفاته بقريب توجه في زيارة للقدس الشريف مع الشيخ إبراهيم الصُمادي، ثم لما رجعا إلى دمشق ترك التأليف وتفرغ للعبادة، حتى توفي رحمه الله تعالى.
وكأن الغزي شعر بدنو أجله فطلع قبل وفاته بيومين إلى بساتينه أوقاف جده واستبرأ ذمته من الفلاحين وطلب منهم المسامحة، ثم في اليوم الثاني دار على أهله؛ ابنته وبنتها وغيرهم، وزارهم ثم عاد إلى منزله، وصلى المغرب ثم جلس لقراءة الأوراد، وأخذ يسأل عن أذان العشاء، وأخذ في ذكر لا إله إلا الله وهو مستقبل القبلة، ثم سُمِعَ منه وهو يقول: بالذي أرسلك ارفق بي! فدخلوا عليه فرأوه قد قضى نحبه ولقي ربه رحمه الله تعالى، ودفن في مقبرة آل الغزي في تربة الشيخ رسلان.
ذكرنا من قبل أن للغزي ابناً أسماه سعودي، وقد ولد في سنة 998، وسار على طريقة والده في طلب العلم حتى أصبح كذلك من كبار العلماء وناب عن والده في فتوى الشافعية، وبعد وفاة والده تولى درس الحديث تحت قبة النسر في الجامع الأموي، وتوفي سنة 1071، وخلف ولداً هو علي بن سعودي، المولود سنة 1024، والمتوفى سنة 1083، وكان كذلك فقيهاً فاضلاً تولى الفتوى كذلك.
ونختم ببيتين لطيفين من نظمه رحمه الله تعال:
لنا نفوسٌ إذا هي انصدعت ... بلمح طرفٍ تقوم ساعتها
عزَّت فعاشت بفقرها رغداً ... وفي اعتزال الأنام راحتها
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer