الجمعة، 18 أبريل 2014

حدث في الحادي عشر من جمادى الآخرة

 
في الحادي عشر من جمادى الآخرة من عام 1149، الموافق 17 تشرين الأول/أكتوبر 1736، وقع السلطان العثماني محمود الأول اتفاق استانبول مع نادر شاه ملك إيران، والذي اعترفت فيه الدولة العثمانية من جديد بحدود الدولة الفارسية، وتنازلت عن المناطق التي كانت قد استولت عليها في إيران، وصار الاتفاق تأكيداً آخر لسيادة إيران على هذه المناطق وتحديداً لحدود إيران كما نعرفها اليوم، وجاء الاتفاق بعد حروب ونزاعات بين روسية وبين الدولة العثمانية وبين الدولة الفارسية، كل طرف يواجه الطرفين الآخرين منفردين.
والحروب مثل العواصف، يندر أن تهب فجأة دون نذر ومقدمات، ولعل بداية هذه الحرب بين الدولة العثمانية وبين نادر شاه في إيران تعود إلى حروب العثمانيين مع روسية في عهد القيصر بطرس الأكبر الذي ولد سنة 1672 وتولى الحكم سنة 1682 وتوفي سنة 1725، وكان من أعظم الحكام في التاريخ الروسي، وتطلع بطرس الأول إلى أن يكون لروسية منفذ إلى البحار الدافئة، فشن حملات على الأراضي التركية في البحر الأسود وعلى بولندا بهدف الوصول إلى موانئ مفتوحة، فأعلن السلطان أحمد الثالث الحرب على روسيا سنة 1120=1710، وقاد الصدر الأعظم محمد باشا بلطجي الجيوش العثمانية وألحق ببطرس الأكبر هزيمة منكرة، كادت أن تكون القاضية، وذلك حين استطاع تطويقه وجيشه في سنة 1123=1711 على حدود رومانية الشرقية.
ولم يفت ذلك من عضد القيصر وطموحاته، وقرر أن يتجه إلى القوقاز وإيران التي كانت تعصف بها الاضطرابات السياسية، فلعله يحقق أحد تطلعاته في أن يكون لروسيا طريق تجاري إلى الهند يمر عبر شرق بحر قزوين.
وكانت الدولة الصفوية في إيران قد واجهت في سنة 1134=1722 غزواً من أفغانستان قام به محمود بن أويس الحوتاكي، واستطاع اكتساح البلاد وهزم الصفويين في معركة جولن آباد، ثم حاصر أصفهان عاصمة الصفويين وأجبر الملكَ شاه سلطان حسين على خلع نفسه والاعتراف به ملكاً على إيران، ثم ما لبث محمود أن قتل شاه حسين، وأرسى حكمه في المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية من إيران.
وانتهز بطرس الأكبر هذه الفوضى، وواته الذريعة حين تعرضت بعض القبائل للتجار الروس ونهبت بضائعهم، فبدأ حملته وأرسل أسطوله في بحر قزوين في أواخر سنة 1134=1722، واستطاع الاستيلاء على باب الأبواب في القوقاز الشرقي، وتدعى بالفارسية دربند وهي اليوم في داغستان، ومدينة باكو عاصمة أذربيجان اليوم.
وكان لدى العثمانيين أسبابهم للهجوم على إيران، أولها أن وجود روسية وهي الخصم التاريخي اللدود على حدودهم الشرقية يشكل خطراً كبيراً يهددهم من الخلف في كل حين إذا هم انشغلوا بالحملات الأوربية، وثانيها التعويض معنوياً ومادياً عن خساراتهم الأوربية في حربهم مع النمسا سنتي 1716-1717، وثالثها تصفية ثارات قديمة والقضاء على الحكم الصفوي أو إضعافه، وهكذا أعلن الصدر الأعظم الداماد إبراهيم باشا الحرب على إيران، واحتل الجيش العثماني الذي قاده حكيم أوغلو علي باشا عدداً من المناطق الغربية في إيران وأهمها مدينتا كرمنشاه ثم تبريز، وأرمينية وبلاد الكرج التي تدعى اليوم جورجية، وبحلول سنة 1136=1724 كان العثمانيون قد استولوا على مناطق شاسعة واستطاعوا تشكيل منطقة عازلة تقف في وجه التوسع الروسي، ولكنهم لم يستطيعوا القضاء على الصفويين فقد هزموا خارج أصفهان في سنة 1138=1726.
ثم ما لبثت روسية والدولة العثمانية أن وقعتا معاهدة استانبول في أواخر سنة 1136= 1724، والتي اقتسمتا بموجبها ما احتلتاه من أراض فارسية، وأعطت المعاهدة العثمانيين مساحات كبيرة في أذربيجان وأرمينية وشمال غربي إيران بما فيها تبريز عاصمة الصفويين السابقة، وكان الروس هم الكاسبين لأنهم عملياً وصلوا إلى جنوب القوقاز. وتوصل الطرفان لهذه المعاهدة بوساطة فرنسة التي على صداقة مع الدولة العثمانية، وتريد التحالف معها في مواجهة تهديد الإمبراطورية النمساوية، فتوسطت بينها وبين روسية لهذا السبب.
وتمكنت الدولتان من تحقيق هذا الاقتطاع للأراضي الإيرانية لأن الدولة الصفوية كانت قد دخلت في مرحلة الضعف والأفول، وكانت نتيجة المعاهدة كما سنرى أن أطلقت من عقالها بعض القوى الكامنة في الدولة الإيرانية في سُنّة من سنن الله في هذا الكون: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
وهنا نعود القهقرى لنتحدث باختصار عن بداية الدولة الصفوية في إيران، وقد تأسست على يد الشاه إسماعيل الأول، المولود سنة 892=1487 والذي حكم 24 سنة من سنة 906=1501 إلى وفاته سنة 930=1524، وكان ابتداء أمره أن هزم في مرو الشيبانيين السُّنة الذين كانوا يحكمون أزبكستان، ثم أعلن تحوله إلى المذهب الشيعي تميزاً عن الدولة العثمانية، وبذلك أرسى عدة مبادئ لا تزال أسس الدولة الإيرانية الحديثة على اختلاف ألوانها، وأولهما أن تقوم الدولة على الرقعة الجغرافية التي كانت تحتلها الدولة الساسانية قبل الفتح الإسلامي، وأن تعتنق الدولة المذهب الشيعي ديناً رسمياً للدولة، وثالثها التطلع للرياسة والتوسع والهيمنة، وينبغي أن نذكر أن هذه الدولة سميت بالصفوية نسبة  لطريقة صوفية سنية أسسها في أردبيل قبل قرابة 150 سنة الشيخ صفي الدين بن إسحاق، المتوفي سنة 735، وورث إسماعيل زعامتها وهو شاب من أخيه علي ميرزا.
ثم استولى إسماعيل على تبريز وجعلها عاصمته، وبدأ حملة قسرية لا رحمة فيها ولا هوادة لفرض التشيع على سكان إيران، فأطلق هو ومن جاء من بعده العنان لعلماء الشيعة لتحويل المساجد والمدارس، واستغرق تحول إيران إلى المذهب الشيعي أجيالاً، نظراً لأنها كان بلاداً تتبع أهل السنة والمذهب الحنفي،  وخرجت أجيالاً من كبار علماء الإسلام، كما يشهد بذلك تاريخ طبرستان وقزوين وغيرها من مدن فارس، وتذكر بعض المصادر أن إسماعيل جلب علماء الشيعة من العراق ومن جبل عامل في لبنان ليستعين بهم على تحويل محكوميه إلى التشيع.
ثم توسع إسماعيل إلى ديار بكر في جنوبي تركية، وبدأ يستميل القبائل التركمانية والكردية ويشجع رؤساءهم على شق عصا الطاعة والاستقلال، وأرسل دعاته من الشيعة لتحويلهم عن السنة، فكان ذلك بلا شك مواجهة مباشرة وتحدياً مصيرياً للدولة العثمانية في شرقي الأناضول والعراق، فنشبت بينه وبينها عدة معارك آلت في نهايتها أن جرد له السلطان سليم الأول جيشاً جراراً قاده بنفسه فهزمه سنة 920 في معركة جالدران قرب تبريز، واحتل السلطان سليم تبريز، ولا يزال عرش إسماعيل شاه في متحف طوبقبو باستانبول إلى اليوم.
ولكن لم تكن الهزيمة قاصمة الظهر للشاه إسماعيل، فقد أعاد تنظيم دولته وقواته، ولم يستطع السلطان سليم متابعة حملته فقد تململ إنكشارية جيشه ثم تمردوا بحجة البرد فعاد إلى بلاده في الأناضول واستمرت الدولة الصفوية على قيد الحياة.
وتعاقب حكام الصفويين من سلالة الشاه إسماعيل قرابة 230 سنة، لا تكاد تنقطع الحروب بينهم وبين العثمانيين، واستنفد ذلك طاقات وموارد الدولتين في حروب غير حاسمة، وهما في الوقت ذاته تواجهان أعداء آخرين يتربصون بهم، فقد كان العثمانيون يواجهون أسرة هابسبرج في ألمانيا والنمسا وحلفاءها الأوربيين، أما الصفويون فكانوا على عداء مع الأزبكيين والأفغان والدولة المغولية في الهند.
وبرز في الفترة التي ذكرنا الشاه عباس الذي تولى، في السابعة عشرة من عمره، الحكم سنة 995=1588، واستطاع بالتدريج بناء قوة عسكرية ضخمة استرجعت ما خسره الصفويون من قبل مثل تبريز ويروفان وخوارزم وجيلان وسجستان، واحتل قندهار في أفغانستان وبغداد في العراق، فامتدت الدولة في عهده امتداداً كبيراً، وتوفي الشاه عباس سنة 1038، وتولى عرش إيران حفيده شاه صفي، وكان في الثامنة عشرة من عمره، منصرفاً إلى اللهو، فتصدى له السلطان مراد الرابع، المولود سنة 1021 والمتوفى سنة 1050، والذي تولى السلطنة سنة 1032،  وجرد في سنة 1044 جيشاً جراراً لاستعادة ما خسرته الدولة العثمانية من أراض، واختتم ذلك بأن توجه بنفسه في سنة 1048 لحصار بغداد حتى استسلمت حاميتها وأرسل الشاه يطلب الصلح، فأجابه إلى ذلك، وحدَّد هذا الصلح حدود الدولة العثمانية الشرقية.
ثم نعود إلى سنة 1137=1725حين تسنم عرش إيران الملك شاه أشرف الأفغاني، في إطار الغزو الأفغاني الذي تم في سنة 1134=1722 وأشرنا إليه من قبل، وتفاوض أشرف مع الروس والعثمانيين فاعترفوا به ملكاً على إيران مقابل تنازله لهم عما احتلوه من أراضي، ولكن طهماسب الثاني ابن الملك حسين الصفوي، ويقال له طهماز كذلك، والمولود سنة 1116، كان لا يزل مسيطراً على منطقتي مازندران وجيلان جنوبي شرق بحر قزوين، وبدأ سنة 1727حركة من تبريز لاسترجاع عرش والده، وأيده المسلمون السنة في القوقاز وبقايا القبائل الشيعية، وانضم إليه زعيم خارج على القانون ينتمي لقبائل الأفشار واسمه نادر، وتسمى بطهماسب قولي، أي عبد طهماسب، ونجحت حركة طهماسب الثاني بفضل ما تمتع به نادر قولي من عبقرية عسكرية وشجاعة مكنته من هزم الأفغان في عدة مواقع، وهكذا عاد حكم إيران إلى السلالة الصفوية من جديد، في سنة 1142=1729.
وتوجه السلطان أحمد الثالث والصدر الأعظم للتفاهم مع طهماسب، تفادياً للدخول في حرب غير مضمونة النتائج تستنزف موارد البلاد، وبخاصة أن الدولة العثمانية كانت خارجة لتوها من حروب مع النمسا خسرت فيها هنغاريا وجزءاً من بلاد الصرب، ولكن الأنكشارية ثاروا عليه بحجة ميله لإعطائه الدنية للعجم، وقاموا بأعمال السلب والتخريب، وطلب زعيمهم بترونا خليل من السلطان إعدام الصدر الأعظم الداماد إبراهيم باشا والمفتي وقائد الأسطول بحجة أنهم متخاذلون متآمرون، فرفض السلطان ذلك في بداية الأمر، فاشتدت وتيرة الفتنة، وخشي السلطان أن يحترق بنارها، فسلمهم الوزير والقائد دون المفتي، فقتلوهما وألقوا جثتيهما في البحر.
لكن لم يمنعهم انصياع السلطان لطلباتهم من التطاول عليه، بل جرأهم تساهله معهم، فأعلنوا خلعه في أوائل سنة 1143=1730 ونادوا بابن أخيه السلطان محمود الأول خليفة للمسلمين وأميرا للمؤمنين، وتنازل  السلطان أحمد الثالث عن الملك دون معارضة، وبقي معزولا منفياً حتى وفاته في سنة 1149، وكان أول ضحية ملكية لهذه الحرب.
وفي بداية الأمر لم يكن للسلطان محمود الأول، المولود سنة 1108، أمرٌ ولا نهي، وكان بترونا خليل يولي من يشاء ويعزل من يشاء تبعا لأهوائه وأغراضه، ثم ما لبث أن عيل صبر السلطان من استبداده فاتفق مع رؤساء الأنكشارية على قتله والتخلص منه، وعاد الاستقرار والأمن في البلاد.
وكان أول أهداف طهماسب بعد أن تمكن واشتد ساعده أن يسترجع ما فقدته إيران من أراض، وبدأ في التفاوض مع الدولة العثمانية مطالباً أن تعيد إليه كل ما أخذته من بلاد أجداده، وكان من الطبيعي ألا تلبي الدولة العثمانية الطلب، وأراد طهماسب أن يظهر أنه لا يقل في مهارته العسكرية عن قائده نادر، فانتهز فترة انشغاله في حملة على أفغانستان احتلت هَراة، وقام طهماسب بشن حملة لاسترداد يروفان فشلت فشلاً ذريعاً فقد هزمه الجيش العثماني بقيادة حكيم أوغلو علي باشا، وخسر كثيراً  من الأراضي التي استردها نادر، مما اضطره لطلب الصلح، وتم في منتصف 1144= 1732 التوصل بينه وبين أحمد باشا لاتفاق تترك بموجبه مملكة العجم للدولة العثمانية كل ما فتحته في إيران باستثناء مدن تبريز وهمذان وباقي إقليم لورستان في شمال إيران.
ولم يقبل نادر قولي بهذا الاتفاق الذي خرج على أسس الدولة الفارسية التي سبق أن أشرنا إليها، ووجده فرصة لإبعاد طهماسب عن الحكم، فخلعه نادر قولي في سنة 1150=1732بعد قرابة 3 سنوات من بقائه في سدة الحكم، ونفاه إلى قلعة سابزوار في خراسان، وعين نادر ابن طهماسب الصغير عباس ملكاً محل والده في سنة 1145=1732،  وسمي الملك الطفل عباس الثالث، ونصب نادر نفسه وصياً عليه ونائباً للملك، وتسمى بنادر شاه، وهكذا كان طهماسب الضحية الملكية الثانية لهذه الحرب، وبخلعه انتهت الدولة الصفوية في إيران.
وكان أهم أهداف نادر شاه إخراج العثمانيين والروس من الأراضي التي احتلوها من إيران، وإعادة حدود الدولة الإيرانية إلى ما رست عليه الأمور أيام مراد الرابع، وحقق نادر شاه نجاحاً كبيراً في هذا الصدد، وساعدته نذر الحرب الوشيكة بين العثمانيين وبين الروس، والتي اندلعت سنة 1735، فقد كان الطرفان يتحسبان لها ويعدان عدتها، فكان من السهل نسبياً عليه أن يتوصل لاتفاق مع الروس أعادوا له بموجبه كل ما احتلوه من أراض في الحرب التي ذكرنا، فصارت حدود إيران ممتدة حتى داغستان.
وليستعيد نادر شاه ما خسره طهماسب في أرمينية وجورجية، قرر أن يهاجم العراق ويستولي عليه ليقايض به العثمانيين، فهاجم مدينة بغداد سنة 1146=1733 فتصدى له الجيش العثماني بقيادة رئيس الوزراء الصدر الأعظم طوبال عثمان باشا وهزمه هزيمة منكرة، وكأي قائد عسكري محنك، قام نادر شاه بتجميع قواته من جديد واتجه إلى الموصل فثبت أهلها ودافعوا عنها، فتركها بعد أن حاصرها، واتجه إلى كركوك وقتل سكانها ودمر منازلهم وأحرق محاصيلهم، فجاءه الوزير طوبال عثمان باشا لصده عنها، وقُتِل الوزير في المعركة ودفن في مسجد الإمام القاسم في كركوك، وكان عمره عند مقتله 70 سنة.
وكان نادر شاه يتأسى بقائدين عسكريين عظيمين غزت جيوشهما على المنطقة وسيطرا عليها في مدة وجيزة، وهما جنكيز خان وتيمور لنك، ولذا كانت  حملاته العسكرية تعتمد على الحرب النفسية والتدمير الشديد والفتك بالمدنيين لإرهابهم وإلقاء الذعر في أوساط مناوئيه، وكان تكتيكه في القتال يعتمد على القتال السريع المتحرك وخلخلة صفوف الخصم بسرعة، ثم استغلال ذلك في هزيمته هزيمة ساحقة لا تقوم له بعدها قائمة.
وحقق نادر شاه نجاحاً أفضل في القوقاز، فقد استولى على تفليس ويرَوفان، عاصمتي جورجيا وأرمينية اليوم، مستغلاً انشغال العثمانيين بالحرب التي استجدت مع روسية حول بولندة، وبسبب هذه الحرب دفعت الدولة العثمانية باتجاه الصلح، فجرت مفاوضات دامت بضعة أشهر قادها علي باشا عن الطرف العثماني وميرزا محمد عن الطرف الفارسي، وابتدأت في مدينة تفليس وانتهت باتفاق استانبول في 11 جمادى الآخرة، وينص الاتفاق على اعتراف الدولة العثمانية بنادر خان ملكا على إيران، وأن ترد الدولة العثمانية إليه الأراضي التي أخذتها في الحروب الماضية، وأن تكون حدود الدولتين كما تقرر بمعاهدة سنة 1639 المبرمة في زمن السلطان مراد الرابع، وأن تسمح الدولة العثمانية لحجاج العجم بأداء الحج. أي أن التاريخ أعاد نفسه بعد خسائر في الأرواح والأموال لا يعلمها إلا الله.
وفي سنة 1148=1736 قام نادر شاه بخلع عباس الثالث وأرسله لينضم إلى والده في  سابزوار، ثم ما لبث رضا ميرزا ابن نادر شاه في غياب والده في أفغانستان والسند أن قتل الوالد طهماسب وابنه الصغير عباس الثالث سنة 1152، والمؤلم أن رضا ميرزا كان زوج ابنة طهماسب، فلما علمت بمقتل والدها على يد زوجها، قتلت نفسها خلفه، وقبر طهماسب موجود معروف اليوم في نيسابور.
وأتاح اتفاق استانبول لنادر شاه أن يأمن جانب الدولة العثمانية، فعاد إلى طموحه التوسعي، فاتجه لغزو الهند التي كانت تحكمها الأسرة البابرية المغولية المسلمة، فهاجم لاهور ودمرها، ثم استولى على عاصمتها دلهي في سنة 1152=1739 فأمعن فيها سلباً ونهباً، ونقل كنوزها ونفائسها وكتبها إلى إيران، ومن ذلك عرش الطاووس، وهو عرش يظلله ذنبا طاووسين ألوانهما من الجواهر المختلفة، وفيه من دقائق الصنعة والأحجار الكريمة ما يشهد للصناعة والفن في ذلك العصر، وينبغي أن نذكر في هذا الصدد أن نادر شاه أنشأ المكتبات ووقف عليها الكتب النفيسة مما حصل عليه في حروبه أو اشتراه لها بخاصة.
وكان نادر شاه قد نذر إن فتح الهند أن يُذَّهِبَ قبر الحسين في النجف، فلما  نجح في غزوه لها وفى بنذره في سنة 1155 وبذل في ذلك أموالا عظيمة، قيل إن كل آجرّة طليت بمثقالين من الذهب الخالص، ولم يكن ذلك تديناً بل من باب السمعة والتودد إلى العامة، إذ لم يكن نادر شاه على علاقة طيبة مع علماء الشيعة في عصره، بل اعتبرهم مركز قوة ينبغي تفتيته، فقد كانوا هم أصحاب الأمر والنهي في الدولة الصفوية أيام ضعفها، وتصرف كثير منهم تصرف الأمراء لا العلماء، ولذا كف نادر شاه أيديهم عن الأوقاف التي كانوا يتولونها، ومنع زعماءهم أن يتلقبوا بصدر الصدور أو شيخ الإسلام، ونفى من عارضه منهم، ولقي تصرفه قبولاً لدى عامة الناس الذين كانت ثقتهم بعلمائهم قد ضعفت لما عهِدوا من العلماء الأُول من التقشف والزهد، ورأوا من هؤلاء الترف والبذخ واستدرار الأموال بشتى الوجوه، ونتج عن تضييقه عليهم أن بدء رؤساؤهم في الهجرة إلى كربلاء والنجف لتصبح مقر كثير من الحوزات العلمية الشيعية.
ومما يذكر لنادر شاه أنه أراد أن يضم الشيعة إلى الأغلبية السنية، ويوحد المسلمين من فِرقة طالما عصفت بهم، فأصدر أوامره بمنع أو تخفيف غلواء العقائد والمراسم والتصرفات الشيعية التي تسيء إلى أهل السنة، وبدأ محاولات مع الدولة العثمانية للقبول بمذهب شيعي معدَّل ليصبح المذهب الخامس في الإسلام، وأسمى هذا المذهب: الجعفري، وهو يختلف عن المذهب الجعفري المتعارف عليهم اليوم، ولاهتمامه بالأمر جعل نادر شاه ذلك أحد مطالبه في مفاوضاته فيما بعد اتفاقية استانبول، ولم يكتب لهذه المحاولة النجاح لمعارضة شيخ الإسلام في ذلك الوقت.
ويعزو بعض المؤرخين محاولته الانضواء للأغلبية السنية، لطموحه في أن يمد نفوذه لأبعد من إيران، ولأن كثيراً من قواده وحاشيته كان من أهل السنة من أفغانستان وأذربيجان، ولكن الأمر فيما يبدو نابعاً عن رغبة صادقة تتجاوز المصالح الآنية، وينبغي أن نذكر في هذا الإطار أن نادر شاه طلب في سنة 1156 من أحد علماء السنة في بغداد، وهو الشيخ أبو البركات عبد الله بن الحسين السويدي، المولود سنة 1104 والمتوفى سنة 1174، أن يأتي إليه في النجف ليناظر علماء الشيعة ويكون حكماً في خلاف شجر بينهم، وكانوا من ثلاث بلاد مختلفة: من إيران وأفغانستان وما وراء النهر، وقد دون السويدي أخبار المناظرة في رسالة أسماها الحجج القطعية لاتفاق الفرق الإسلامية.
وبقي نادر شاه يتابع توسعه فاتجه شمالاً واحتل خوارزم وأخضع بخارى، أما في جنوب إيران فبنى نادر شاه أسطولاً بحرياً في بوشهر واحتل جزيرة البحرين، ثم مسقط وطرفاً من عمان، فسيطر على مضيق باب المندب، ثم عاد فبدأ حرباً أخرى مع الدولة العثمانية في سنة 1743، لم يحقق فيها أي نجاح يذكر، وانتهت باتفاقية تؤكد ما سبقها من اتفاقات، ثم لاقى مصرعه في سنة 1160=1747 حين اغتاله في نومه بعض قواده حين ارتابوا في أنه ينوي قتلهم، ودفن في مشهد في إيران، وبموته عادت الفوضى من جديد إلى أرض فارس ودامت فيها زهاء 40 سنة حتى قامت الدولة القاجارية فيها سنة 1203=1788.


 
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer