الجمعة، 11 أبريل 2014

حدث في الرابع من جمادى الآخرة

  في الرابع من جمادى الآخرة من عام 1356= 11 آب/أغسطس1937 قتل غيلة في مطار الموصل في شمال العراق الفريق بكر صدقي رئيس أركان الجيش العراقي، وقائد أول انقلاب عسكري في الدول العربية أتى بالعسكر لحكم البلاد، وأول من ساق العراق نحو الاضطراب وسفك الدماء.
ولد بكر صدقي سنة 1302=1885 لأبوين كرديين في بلدة عسكر القريبة من كركوك، وانخرط في الجيش العثماني، ودرس في بغداد ثم في الكلية العسكرية بإستانبول حيث تخرج منها برتبة ملازم ثاني وحارب في البلقان، ثم عاد وانخرط في مدرسة أركان الحرب في إستانبول، وتخرج منها سنة 1915، وشارك في الحرب العالمية الأولى في آخر سنينها.
ولما قامت الثورة العربية على الأتراك التي تزعمها الشريف حسين بن علي بالاتفاق مع بريطانية، وذلك في عام 1916، مقابل وعود بريطانية بإنشاء دولة عربية واحدة تضم بلدان المشرق، ترك صدقي الجيش العثماني و انضم إلى جيش ابنه الشريف فيصل في سورية، فأقام في حلب وخدم قرابة سنة مع القوات البريطانية كضابط استخبارات، قبل أن تنهار حكومة الملك فيصل بن الحسين في سورية أمام الاحتلال الفرنسي.
وكانت بريطانية قد احتلت العراق سنة 1335=1917، ولكنها لم تستطع إخضاعه لسلطانها، فلم تتوقف الثورة عليها فيه من طرف أو آخر، فقررت الحكومة البريطانية تأسيس حكومة عربية فيه وعقدت سنة 1921 مؤتمراً في القاهرة ترأسه ونستون تشرشل، وقرر ترشيح الملك فيصل لعرش العراق، فقبل ذلك فيصل بشرط أن يتم استفتاء يوافق فيه العراقيون على تمليكه، وأجري الاستفتاء وبناء على نتيجته الإيجابية انتقل فيصل إلى بغداد حيث نودي به ملكا للعراق آخر سنة 1339=1921، على أساس أن تكون حكومته حكومة دستورية ديمقراطية وممثلة للشعب العراقي.
وشرعت بريطانية في تشكيل جيش عراقي، وأوصت هيئة الأركان البريطانية بنقل بكر صدقي إلى هذا الجيش، فالتحق به في سنة 1921 برتبة رئيس، تعادل رتبة المقدم اليوم، وانتهز بعض الفرص لاستكمال دراساته العسكرية في مدرسة إنكليزية بالهند ثم بمدرسة الأركان الإنكليزية في كامبرلي في إنجلترة سنة 1932، وبلغ رتبة فريق في الجيش العراقي.
وأدرك الملك فيصل أن لا جدوى من السير وراء أحلام أن تفي بريطانية بوعدها في إنشاء دولة تضم البلدان العربية في المشرق، فقد كانت قد اتفقت وفرنسا على تقاسم احتلال هذه البلدان، فيمم وجهه إلى إنجاز ما يستطاع، وشهد العراق بدايات نهضة واعدة في أيامه، فقد انصرف إلى الإصلاح الداخلي، بوضع دستور للبلاد، وإنشاء مجلس للنواب، وأقام العلاقات بين العراق وبريطانيا على أسس معاهدات تعاون في إطار الممكن المفيد، وأصلح ما بين العراق وجيرانه: السعودية، وتركيا، وإيران.
وتكللت جهود الملك فيصل بأن وقعت بريطانية والعراق في سنة 1932 معاهدة تعترف باستقلال العراق، وساءت صحة الملك فيصل فسافر للاستشفاء، وتوفي في برن بسويسرة سنة 1352= 1933 عن قرابة 50 عاماً، وتلاه ابنه الشاب غازي المولود سنة 1330=1912، الذي كان قد نودي به ولياً للعهد سنة 1924، وهو كذلك خريج الكلية العسكرية في بغداد، وواجه ولي العهد الشاب في غياب والده المريض تحدياً كبيراً في التمرد الآشوري الذي قام في العراق.
ذلك أنه مع استقلال العراق قامت حركة آشورية تدعو إلى حكم ذاتي للآشوريين، ويقودها البطرك مار شمعون الثالث والعشرين، المولود سنة 1908 والذي ورث كرسي البطرك عن والده سنة 1919، وذلك تحقيقاً لما وعد به البريطانيون الآشوريين مقابل حربهم معهم في خضم الحرب العالمية الأولى، وقام بكر صدقي بقمع التمرد دون رحمة أو هوادة، فاكتسب سمعة قوية لدى الرأي العام العراقي الذي اعتبر مطالب الآشوريين تمهيداً لتمزيق أوصال العراق إلى كيانات عرقية ودينية.
وكان البريطانيون بعد احتلالهم العراق قد شكلوا قوة مرتزقة من متطوعين آشوريين عراقيين أو من الذين هجَّرتهم تركية، وأسموها الليفي العراقي Iraq Levies، ويدعى كذلك اللواء الآشوري، وكانت قوة يقودها ضباط بريطانيون وتتميز بالقوة والكفاءة، سلطها المحتل البريطاني على حركات التمرد العربية والكردية التي قامت في العراق بعد الاحتلال البريطاني، وخدمت البريطانيين إذ مكنتهم من الحفاظ على أمنهم في العراق إن لم يكن من الاحتفاظ بالعراق.
وحاول البطرك مار شمعون حشد التأييد الدولي لهذه الحركة، فعرض مطالبها على عصبة الأمم سنة 1932، ولما لم يلق التجاوب المأمول تحولت خطته إلى أن يستقيل أتباعه من اللواء الآشوري، ويتحولوا إلى ميليشيا تتمركز في منطقة العمادية ذات الأغلبية الآشورية في شمال العراق، وإقامة الاستقلال بقوة السلاح والمنعة في منطقتهم على أمل أن تعترف به الدوائر السياسية من باب الأمر الواقع.
وهي خطة لم يكتب لها النجاح فقد كانت بريطانية أول من عارضها، وقامت تركية بنزع سلاح من بقي من الآشوريين في مناطقها وطردتهم إلى العراق، ولذا فقد كانت تطلعات الآشوريين جعجة لا طحن وراءها، ويلوم بعض المؤرخين البطرك مار شمعون الشاب الطموح على تأجيجه لمشاعر الآشوريين بعيداً عن الواقع والممكن، وينعون عليه تدخله في الشؤون السياسية مع أن رئاسته دينية روحية لا دنيوية، ويشككون في كفاءته لإدارة الأزمة.
وفي أوائل سنة 1352=1933 دعت الحكومة العراقية، التي ترأسها رشيد عالي الكيلاني، البطرك إلى بغداد للتفاوض، ثم احتجزته لما رفض أن يعلن تخليه عن السلطات الدنيوية، ومن ثم نفته إلى قبرص، واستقر مار شمعون ومعه مقر الكنيسة الآشورية في شيكاغو ثم كاليفورنيا في أمريكة، وأدى هذا فيما بعد لأن تنشق وتقوم في العراق كنيسة آشورية وطنية.
وشعر مسلحو الآشوريين بأن لا قِبل لهم بمقاومة الجيش العراقي، بعد أن تخلت عنهم بريطانية، وفي منتصف سنة 1933 وقام  مالك ياقو أحد زعماء الآشوريين باللجوء مع قرابة 1000 من مقاتليه إلى سورية، آملاً في إقناع حكومة الاحتلال الفرنسي المسيحي أن تسمح لهم بإقامة حكم ذاتي في الأراضي الخاضعة تحت سيطرتها شرقي سوريا، ولكن السلطات الفرنسية رفضت حتى إيواءهم، ونزعت بعض سلاحهم ثم أعادتهم إلى العراق بعد أسبوعين، وأخطرت الجيش العراقي بذلك، وفي أثناء قيام الجنود العراقيين بتفتيش هؤلاء ونزع سلاحهم انطلقت رصاصات لا يعرف من بدأ بها فاندلعت معركة انجلت عن هزيمة القوة العراقية ومقتل 33 من جنودها.
وزادت هذه الواقعة في تأجيج المشاعر الشعبية، وتصورها الرأي العام مؤامرة بريطانية للرجوع عن استقلال العراق والسيطرة عليه من جديد، فجردت الحكومة قوة ترأسها بكر صدقي الذي كان قد عاد قريباً  من دورة الأركان في بريطانية، وأرسلتها إلى شمال العراق لتمشيط جبال بيخير في شمالي الموصل وبلدة سميل في دهوك من الانفصاليين الآشوريين، فقامت هذه القوات بمهاجمة المتمردين الآشوريين والقضاء على تمردهم في 4 أيام، ولكنها كذلك هاجمت المدنيين وقتلت المئات منهم، كما شجعت بعض الأكراد والبدو واليزيديين على نهب الممتلكات الآشورية، دون مراعاة للأعراف العسكرية أو التعاليم الإسلامية.
ثم وقع تمرد آخر قام به بعض الشيعة في جنوب العراق، وقمعه كذلك بكر صدقي، فأصبح نجم الرأي العام العراقي، ورجل العراق القوي.
وكانت الاضطرابات في جنوب العراق لا تكاد تتوقف منذ الاستقلال، وكانت دوافعها غير سياسية، فتارة تكون للحصول على مخصصات مالية أكثر لمشاريع في هذه المناطق المهملة أو لوجهائها، وتارة أخرى تكون للحصول على عدد أكثر من المناصب، ولكنها وقعت ضحية بريئة لصراع الأقطاب في بغداد، فدفعت ثمناً غالياً لذلك.
واتخذ الملك غازي بعد توليه الحكم عدة سياسات أغضبت بعض المتنفذين من الشيعة، فقد أقر سياسة التجنيد الإلزامي لبناء جيش عراقي قوي يليق ببلد كالعراق بإمكانياته البشرية والمادية والطبيعية، وزاد في الإنفاق على تجهيز الجيش وتسليحه، وكذلك رفض الملك غازي سياسة المحاصصة الطائفية التي كان بعض زعماء الشيعة من خارج بغداد يرغبون أن تسير الحكومة عليها، فيزدادوا بها نفوذاً وجاهاً بين أتباعهم.
وفي سنة 1934 عين الملك الشاب  رئيساً جديداً للوزراء هو رئيس الديوان الملكي علي جودت، المولود سنة 1886، وسلك جودت سياسة تهدف إلى إحكام سيطرته على الملك الشاب واستبعاد من ينافسه على ذلك من السياسيين وعلى رأسهم ياسين الهاشمي وحكمت سليمان وبكر صدقي، وفي سبيل حكم العراق حكماً مطلقاً قام جودت بحل مجلس النواب الذي كان يقف في وجه طموحه وأجرى انتخابات جديدة جاءت بنواب موالين له.
ووجد معارضو جودت في بعض القبائل الشيعية في منطقة الفرات الأوسط أداة طيعة جاهلة يستغلونها للضغط على الحكومة في سبيل الوصول إلى أهدافهم وغاياتهم الشخصية، فحرضوها على التمرد المسلح ورفعوا سقف مطالبهم حتى وصلوا إلى إسقاط الوزارة، بحجة أن جودت يريد إسقاط الملكية وإقامة حكم دكتاتوري، وبسبب هذا التحريض اندلعت الاضطرابات في منطقة الديوانية في عيد الفطر من عام 1353= كانون الثاني/يناير 1935، ولكن الحكومة استجابت لبعض من مطالب المحتجين فعاد الهدوء، وكلف الملك ياسين الهاشمي بتشكيل وزارة جديدة كان رشيد علي الكيلاني وزير داخليتها، وكان من أول قراراته نزع سلاح القبائل المتمردة تحقيقاً لهيبة الدولة، وأثار هذا القرار تمرداً مُسلحاً في صفوف هذه القبائل وبخاصة بعد أن اعتقلت الحكومة أحد المحرضين من أتباع محمد حسين آل كاشف الغطاء، عالم الدين الشيعي في النجف.
وقامت الحكومة العراقية بإعلان الأحكام العرفية في مناطق التمرد، وقام الفريق بكر صدقي بنشر الجيش العراقي في مناطق القبائل المتمردة، وقصفها سلاح الجو العراقي بالطائرات، وفي غضون بضعة أسابيع قضى بكر صدقي على تمرد القبائل الشيعية، ثم ما مضت بضعة شهور حتى أطلت الفتنة برأسها من جديد، وقتل في أحداثها 90 جندياً كما أسقطت طائرتان لسلاح الجو العراقي، فعاد بكر صدقي ونشر الجيش العراقي في منطقة الاضطرابات، وعقد المحاكم العرفية، وبدأ في تنفيذ أحكامها الصارمة من شنق في الساحات العامة، ومصادرة أملاك وسجن، فخمدت الفتنة بعد أن راح ضحية رخيصة لها عدد من العراقيين عسكريين وأهالي، وارتفع نجم بكر صدقي أكثر فأكثر.
وكان الملك الشاب غازي بن فيصل بن الحسين، المولود سنة 1912، يشعر بأن رئيس وزرائه ياسين الهاشمي، المولود سنة 1882،  ينظر إليه نظرته إلى ابن صغير له، يحوطه برعايته ويكبح جماحه، فتملل بهذه الوصاية وتاقت نفسه إلى الانطلاق، ولم يكن هذا خافياً على رجال الحكومة ومنهم الفريق بكر صدقي، فوجد في هذا التململ طريقه إلى تحقيق طموحه ليصبح رجل العراق الأول.
وكانت شعبية وزارة ياسين الهاشمي قد تدنت، واشتد الصراع بينه وبين والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط وزارته، وكان قطب هذه المعارضة حكمت سليمان وزير المالية الأسبق، وكان صديقاً لبكر صدقي فاتفقا على إسقاط وزارة الهاشمي ولو بقوة انقلاب عسكري.
وبدأ بكر صدقي من موقعه كقائد للفرقة العسكرية الثانية في تجميع الأعوان من داخل الجيش، وانضم إليه الفريق عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الأولى، والعقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية، والطيار الخاص للملك، وأحكموا أمورهم بكتمان شديد فخفي على الاستخبارات العسكرية أمرهم، وباتوا ينتظرون الظروف المواتية للقيام بانقلابهم، وكانت مناورات الخريف السنوية التي يجريها الجيش عام 1936 فرصة مناسبة، وساعدت الظروف الانقلابيين، فقد سافر بمهمة إلى خارج العراق الفريق طه الهاشمي رئيس أركان الجيش وشقيقُ ياسين الهاشمي رئيس الوزراء، وأناب عنه الفريق عبد اللطيف نوري، فصار الجيش عملياً في قبضة المتآمرين، وهكذا تم الانقلاب في 13 شعبان  1355=29 تشرين الأول/أكتوبر 1936.
في الساعة 8:30 من صباح ذلك اليوم حلقت في سماء بغداد 3 طائرات حربية يقودها العقيد محمد علي جواد وألقت ألوف المنشورات التي احتوت على البيان الأول للانقلاب، ومما جاء فيه:
أيها الشعب العراقي الكريم
لقد نفذ صبر الجيش المؤلف من أبنائكم من الحالة التي تعانونها من جراء اهتمام الحكومة الحاضرة بمصالحها وغاياتها الشخصية دون أن تكترث لمصالحكم ورفاهكم، فطلبنا إلى صاحب الجلالة الملك المعظم إقالة الوزارة القائمة، وتأليف وزارة من أبناء الشعب المخلصين برئاسة السيد حكمت سليمان الذي طالما لهجت البلاد بذكره الحسن، ومواقفه المشرفة، وبما أنه ليس لنا قصد في هذا الطلب إلا تحقيق رفاهكم، وتعزيز كيان بلادكم، فلا شك في أنكم تعاضدون إخوانكم أفراد الجيش ورؤسائه في ذلك، وتؤيدونه بكل ما أوتيتم من قوة، وقوة الشعب هي القوة المعول عليها في الملمات .
وأنتم أيها الموظفون، لسنا إلا إخوان وزملاء لكم في خدمة الدولة التي نصبو كلنا إلى جعلها دولة ساهرة على مصلحة البلاد وأهلها، عاملة على خدمة شعبكم قبل كل شيء، فلابد وأنكم ستقومون بما يفرضه عليكم الواجب الذي من أجله لجأنا إلى تقديم طلبنا إلى جلالة ملكنا المفدى لإنقاذ البلاد مما هو فيه، فتقاطعون الحكومة الجائرة، وتتركون دواوينها، ريثما تؤلف الحكومة التي ستفخرون بخدمتها، إذ ربما يضطر الجيش، بكل أسف، لاتخاذ تدابير فعالة لا يمكن خلالها اجتناب الأضرار بمن لا يلبي هذه الدعوة المخلصة مادياً وأدبياً .
بكر صدقي العسكري، قائد القوة الوطنية الإصلاحية.
في الوقت الذي كانت الطائرات تلقي بيان الانقلاب، استقل حكمت سليمان سيارته وتوجه نحو القصر الملكي حيث سلم رئيس الديوان الملكي رستم حيدر  المذكرة التي وقعها الفريقان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، والتي حددا فيها مهلة 3 ساعات للملك غازي لإقالة وزارة ياسين باشا الهاشمي.
وكان الفريق جعفر باشا العسكري، المولود سنة 1302=1855، وزير الدفاع في وزارة الهاشمي، وهو عسكري عثماني عراقي مخضرم، وسياسي عريق، وحقوقي خبير، تولى وزارة الدفاع في أول حكومة وطنية في العراق، ثم صار رئيس وزرائه، وحاول العسكري مُدِلاًّ بأسبقيته وسابقته أن يثني بكر صدقي عن انقلابه، فاتصل به وأبلغه أنه آت لمقابلته في مقره في بعقوبة وأنه يحمل رسالة من الملك غازي، فاهتبلها بكر صدقي فرصة للتخلص من جعفر العسكري، فهو  صهر نوري السعيد أحد أعمدة السياسة في العراق، ووزير الخارجية آنذاك، والمقرب من الإنكليز، فأرسل إليه بضعة ضباط اعترضوه وأنزلوه من سيارته وقتلوه، وينقل الأستاذ الزركلي في الأعلام  أن مجلة بريطانية العظمى والشرق قالت عن مقتله: إن الرجل الذي عجز الإنكليز والأتراك عن قتله في الحرب الكبرى مات مقتولا بأيد عربية!
ولم يكن أمام الملك غازي سوى أن يكلف حكمت سليمان بتشكيل وزارة جديدة، فصدرت الإرادة الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساءً، وتولى بكر صدقي منصب رئيس أركان الجيش بدلاً من طه الهاشمي الذي أحيل على التقاعد، وقام مؤيدو الانقلاب بمظاهرات تأييد له، كان على رأسها محمد صالح القزاز وهو من الشيوعيين المعروفين، والشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وطالبت بإصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين وإطلاق حرية الصحافة وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وإزالة آثار الماضي والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب وضمان حقوقه وحرياته وتقوية الجيش ليكون حارساً أميناً لاستقلال البلاد، ولم تقتصر المظاهرات على العاصمة فقط، بل امتدت إلى سائر المدن الأخرى.
وخوفاً من أن يلقى نفس المصير هرب نوري السعيد من العراق، بمساعدة من السفارة البريطانية فيما يقال، وأوعز حكمت سليمان لياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني بالخروج من العراق ففعلا ذلك، ولولاه كانا في عداد المقتولين، ولم يطل العمر بياسين حلمي بن السيد سلمان الهاشمي، فقد أدركته المنية في منفاه بلبنان سنة 1937 ودفن في دمشق، وخسر العراق أحد أعظم ساسته في العصر الحديث، يقول عنه الأستاذ الزركلي في الأعلام: ألّف أول حزب سياسي في العراق، وانتخب عضوا في المجلس التأسيسي عن بغداد، وتقلد رئاسة الوزارة مرتين، وضع في أولاهما قانون الانتخاب وجمع أول مجلس للأمة، وفي الثانية نفذ قانون التجنيد الإجباري، وزود الجيش بثلاثة أسراب من الطيارات، وأنشأ معملاً لصنع الذخيرة، وباشر بإنشاء معامل لصنع البنادق والرشاشات وعتاد المدافع، ووضع اتفاقية الحلف العربي مع المملكة العربية السعودية واليمن، وأحكم الصلات مع مصر... كان واسع أفق التفكير، هادئ الطبع، قليل الكلام، حازما، مسموع القول في بلاد الشام والعراق وسواهما، وكان وهو في المعارضة حكيما كحكمته وهو في مقعد الحكم.
وبعد الانقلاب تمت لبكر صدقي السيطرة على مقدرات البلاد، وأصبح الحاكم الفعلي للعراق، فاتخذ أتاتورك قدوة في البطش والتنكيل، وكان يشبهه في التهتك والاستهتار، وأحاط نفسه بمئات من الماجنين العابثين الذين كانوا يصولون ويجولون في الملاهي ويعبثون بأعراض الناس ويرهبون النساء والأطفال، وكل ذلك بعلم سيدهم وموافقته، فقد أطلق يد هذه الطغمة في أعراض الناس وأموالهم مقابل أن تتعقب الأعداء والمعارضين والتجسس عليهم، بل وأن تقضي على الخطرين منهم.
ثم أجرى بكر صدقي انتخابات برلمانية في آخر سنة 1355= أول سنة 1937، رتب فيها قوائم المرشحين من المؤيدين له، وجاءت النتيجة كما أراد، وأصبح يمتلك ظهيراً قانونياً لبقائه سيد الموقف من دون منازع، ولكن ذلك ما كان ليتم في هدوء ويسر في بلد مثل العراق، فبعد شهرين من الانتخابات قامت في صفر 1356 حركة عصيان في لواء الديوانية، وبعده بشهرين ثارت قبائل السماوة، وقمع بكر صدقي الثورتين بالشدة التي رأيناها من قبل، ولكن بعض الوزراء ممن كانوا مع حكمت سليمان كره أن تكون عليهم التبعات وفي أيدي العسكريين مقاليد الحكم، فاستقال أربعة منهم مستنكرين إهراق الدماء في البلاد والسير بها نحو الهاوية، ولم يلق بكر صدقي صعوبة في أن يجد غيرهم من الطامعين النفعيين.
ورغم تشكك عدد من المؤرخين فإن الأرجح أنه لم تكن لبريطانية يد في انقلاب بكر صدقي، فقد كانت تريد أن تكون في العراق حكومة مدنية صديقة مستقرة تحظى بتأييد أغلب السكان، وذلك لتأمين مصالحها الاقتصادية في العراق وبخاصة النفط الذي كانت المصالح البريطانية، ممثلة في شركة أسميت شركة النفط التركية، تحتكر استخراجه، ولم تكن علاقات بكر صدقي مع بريطانية جيدة، وبخاصة عندما أفقدته تصرفاته الدموية التأييد الشعبي الذي أحرزه في البداية، ولذا اتجه بكر صدقي لتحسين علاقاته مع حكومة أتاتورك في تركية ومع ألمانية الهتلرية التي كانت في إبان عنفوانها، ووجهت له الحكومة التركية الدعوة لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 آب 1937، فقرر تلبية الدعوة، وأن يزور ألمانية بعد تركية، تلبية لدعوة من الحكومة الألمانية التي كانت شديدة الاهتمام بالعراق، نكاية ببريطانيا، ورعاية لمصالحها الاقتصادية والصناعية في دولة بدأت تجنى ثمرات النفط وأمواله.
وغادر بكر صدقي بغداد في 9 آب بالطائرة واصطحب معه العقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية، وحطت طائرتهما في الموصل في طريقها إلى أنقرة، وفي يوم 4 جمادى الآخرة 1356 الموافق 11 آب/أغسطس كان جالساً في مطار الموصل مع العقيد محمد علي جواد والمقدم الطيار موسى علي يتجاذبون أطراف الحديث، تقدم نحوهم نائب العريف عبد الله إبراهيم التلعفري، وهو من أكراد الموصل، ليقدم لهم المرطبات، وكان يخبئ مسدسا تحت ملابسه، فصب على رأسه رصاصه فقتل في الحال، ثم قتل محمد علي جواد قائد القوة الجوية، وألقي القبض على القاتل ولم يعرف بالضبط إن كانت العملية من تدبير صغار الضباط أم كبارهم، ونقل جثمان صدقي ورفيقه بالطائرة إلى بغداد، حيث شيع إلى مثواه الأخير تشييعاً رسمياً، وسار في مقدمته الوزراء وكبار الضباط والأعيان والنواب والسفراء، واستقال حكمت سليمان بعد ذلك بأسبوع، وعاش حتى توفي، عن 75 سنة، في بغداد سنة 1384= 1964.
بعد حادثة اغتيال بكر صدقي  بأسبوعين كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في مجلة الرسالة مقالة بعنوان: حوادث العراق وذيول الانقلاب العسكري، قال فيها:
كان في العراق ما خفنا أن يكون، وجاءت الأنباء بأن بكر صدقي باشا رئيس أركان الحرب في الجيش بوغت في مطار البصرة وهو يتهيأ للسفر إلى تركيا برصاصات أطلقها عليه جندي، وهمَّ قائد القوة الجوية بأن يدفع عن صديقه فلحق به، ولقي حتفه مثله، فحملت الجثتان في طيارة إلى بغداد حيث دفنتا، وأبى الجندي الذي اغتالهما أن يفضي بشيء عن بواعثه على هذه الجريمة؛ وأرجحُ الآراء أن الاغتيال سياسي، وأنه إحدى نتائج الانقلاب العسكري الذي قام به المرحوم بكر صدقي باشا في العام الماضي، والذي عصف بالوزارة الهاشمية وشرد رجالها، والذي كان من ضحاياه المرحوم جعفر باشا العسكري وزير الدفاع يومئذ.
وفي الأنباء الواردة عن الحادث الجديد أن الجندي الذي أردى بكر صدقي كان يصيح وهو يفرغ رصاصته في صدره: يا لثارات جعفر! وسواء أصح هذا أم لم يصح، وكان الرجل قد أطلق هذه الصيحة أو لم يطلقها، فإن المحقق أن الأمر أمر انتقام، وأنه بعض رد الفعل لذلك الانقلاب العسكري المفاجئ الذي أحدثه بكر صدقي، فقد كان للوزارة الهاشمية أنصارها ولرجالها شيعتهم، وللعهد الجديد خصومه؛ وبعيد أن يكون الجيش كله - بأجمعه - قد رضي عما وقع، وارتاح إلى التدخل لقلب وزارة وإقامة أخرى، وسره أن يغتال جعفر العسكري ويدفن حيث لا يدري أحد، وأن يكون قتلته معروفين ولا يسألون عما اجترحوا؛ وغير معقول أن يكون الشعب العراقي قاطبة حامداً شاكراً، قانعاً، راضياً مطمئناً، فإن هذا مطلب عسير، وغاية لا تنال؛ ومتى بدأت تجيز لنفسك أن تقتل، وأن تستخدم القوة بعد إحكام التدبير في الخفاء، في تحقيق مآربك - كائنة ما كانت - فقد أجزت هذا لسواك، وأغريتهم بأن يحتذوا مثالك ويقتاسوا بك؛ ومتى أمكن أن يأتمر جانب من الجيش بوزارة، فإن من الممكن أن يأتمر جانب آخر منه بوزارة غيرها، لأن الأصل - والواجب - أن يبقى الجيش بمعزل عن السياسة والأحزاب والوزارات، وألا يعرف إلا وطناً يدافع عنه ويذود عن حقيقته حين يدعى إلى ذلك، فإذا زججت به مرة واحدة في السياسة، فقد أغرقته في لجها المضطرب إلى ما شاء الله؛ وعزيز بعد ذلك أن تصرفه عنها وأن ترده إلى الواجب الذي لا ينبغي أن يعرف سواه.
وهذا هو الذي خفناه وأشفقنا على العراق منه يوم حدث الانقلاب العسكري في العام الماضي، وإنا لنعرف للوزراء الحاليين كزملائهم السابقين وطنية وغيرة وإخلاصاً، ولم يكن جزعنا لأن وزارة معينة ذهبت وأخرى جاءت، فما نفرق - ولا ينبغي لنا أن نفرق - بين أحد منهم، وإنما خفنا على العراق عاقبة اتخاذ الجيش أداة لإسقاط حكومة وإقامة أخرى، فإن الحكم ليس من شأن الجيش بل من شأن الساسة والنواب والأمة، وكل دولة تحرص على إقصاء الجيش عن كل ما له صلة بالسياسة ودسائسها ومكايدها ومناوراتها وخصوماتها، اتقاء لما يفضي إليه اشتغاله بذلك من الشقاق وتفرق الكلمة وتوزع الولاء والمؤامرات والفتن والهزاهز.
وقد صح ما توقعناه مع الأسف وخسرت العراق اثنين من رجال الحرب مشهورين بالاقتدار والحزم، وقد وكان المرحوم ياسين باشا الهاشمي يُكْبِر المرحوم بكر صدقي باشا ويوقره ويعرف له قدره، ولكن بكر صدقي أخطأ مع الأسف، فجرَّ الجيش إلى ميدان كله شر وفساد، وكان هو الضحية الأولى لخطئه.
ولا نعرف ماذا انتوت حكومة العراق أن تصنع، ولكنا نرجو ألا تجمح مع أول المخاطر؛ ولا شك أن التحقيق واجب، وأن عقاب الجاني فرض؛ غير أن الأمر يحتاج إلى الاعتدال والحكمة وبعد النظر أكثر مما يحتاج إلى البطش والتنكيل، ولا خير في مثل ما جاء في بعض الأنباء من أن الوزارة العراقية تريد أن تشتت شمل أنصار العهد السابق جميعاً، فإن أنصار الحكم السابق لا ينقصهم التشتيت، وكل ما يؤدي إليه ذلك هو تعميق الهوة وإيغار الصدور، وإغراء النفوس بالانتقام وأخذ الثأر، والعراق اليوم أحوج ما يكون إلى الصفاء والسكينة ليتيسر له أن يستأنف النهضة التي صدها الانقلاب العسكري، أو جعلها على الأقل أبطأ وأقصر خطوات مما كان يرجى أن تكون، وليتسنى له أن يؤدي واجبه للقضية العربية التي عنيت بها وزارة السيد حكمت سليمان عناية مشكورة، ولا سبيل إلى شيء من ذاك إلا بعد أن يستقر الأمر على حدود مرضية، في الظاهر والباطن أيضاً، لتخلو النفوس من دواعي النقمة، وتتصافق الأيدي على العمل المشترك لخدمة الأمة، ولا يكون هذا إلا بالتفاهم والتراضي والتعاون، لا بالبطش والتنكيل، وقد جربت الوزارة السليمانية القوة والتشتيت، ولسنا نراهما أجديا عليه فتيلاً. نعم كانت البلاد ساكنة، ولكنه سكون ظهر الآن أنه يستر شراً عظيماً، ومتى آثرتَ الضغط والحجْر، فقد ألجأت الناس بكُرههم إلى العمل في الخفاء والتدبير في السر، والنفاق في الجهر، ولسنا نعرف أن اجتناب الاعتدال أثمر غير هذا.
ومن سوء الحظ أن بلادنا فقيرة في الرجال، فكل من تفقد، خسارة لا تعوض. وفق الله العراق ورجاله، وسدد خطاهم وألهمهم الحكمة والرشاد.
ومازلنا؛ تاريخنا يعيد نفسه!

 


 

 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer