الجمعة، 4 أبريل 2014

حدث في الأول من جمادى الآخرة


في مستهل جمادى الآخرة من السنة الثالثة للهجرة، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بن حارثة على رأس سرية من 100 فارس، ليعترض قافلة لقريش خرجت إلى الشام، فلحق بهم على ماء تدعى القَرَدة، موضع من أرض نجد بين الرَبَذة والغمرة، واستولى على الأموال، ونجا منه كبار القوم، وتسمى هذه السرية سرية القَرَدة.
أما تحديد موقع هذه السرية، فقال الباحث المقدم عاتق بن غيث البلادي في كتابه المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية: واختلف المتقدمون في ضبط القَرَدة، فقيل: القِرْدة. وقيل: القَرْدة. وأجمعوا على أنه ماء بنجد أو بين المدينة والشام مما يلي نجدا، وهذا الماء على طريقٍ تمرُّ من مكة إلى الشام جاعلة المدينة يسارها، وهذا يعني أنه في المنطقة الواقعة شمال شرقي المدينة، لأن مياه هذا الطريق معروفة حتى يصل إلى نخل، ثم تفترق الطرق، ويبدو أن هذه هي الطريق التي تجعل خيبر يسارها أيضا وتمر بسَلاح المعروفة اليوم بالعِشاش، على مرحلة شمال خيبر.
وكانت قريش بعد هزيمتها في بدر في رمضان من السنة المنصرمة، تخاف أن تسلك قوافل تجارتها طريق الشام المعتادة لقربها من المدينة، وهي الطريق التي تسير شمالاً موازية لساحل البحر الأحمر، ولأنه كان من المؤكد أن رسول الله سيتعرض لها ويستولي عليها، فقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تضييق موارد قريش المالية التي تساعدها على الحشد والاعتداء، وكان أهم تلك الموارد تجارتها مع بلاد الشام، ونجحت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتضررت قريش ومواردها المالية تضرراً بالغاً، فقد كانت تعيش من كون مكة المكرمة مركزاً للتجارة الوسيطة بين الشام وبين اليمن والحبشة، وكانت لها رحلات تجارية منتظمة إلى الشمال في الصيف وإلى الجنوب في الشتاء، وهي التي امتن الله عليهم بها في سورة قريش بقوله: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
وبحثت قريش عن بدائل أخرى لتعود تجارتها إلى سالف عهدها، وعقدت مجلساً ضم أثرياءها وأشرافها لمناقشة الأزمة التي بدأت تحيط بها، فقال أحد أثرى أثريائها؛ صفوان بن أمية بن خلف الجمحي: إن محمدا وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه؛ لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعوهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟! وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا، ونحن في دارنا هذه ما لنا بها نفاق، إنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى أرض الحبشة.
وكان المجلس يضم أحد رؤوس الكفر في قريش ومن المستهزئين المذكورين؛ الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزى بن قصي، وكان قد قُتل له أولاد ثلاثة في موقعة بدر، فقال الأسود لصفوان: فنكِّب عن الساحل، وخذ طريق العراق. قال صفوان: لست بها عارفا. قال أبو زمعة: فأنا أدلك على أخبرِ دليل بها يسلكها، وهو مغمض العين، إن شاء الله. قال: من هو؟ قال: فرات بن حيان العجلي، من بكر بن وائل، قد دوخها وسلكها. قال صفوان: فذلك والله.
فأرسل إلى فرات فجاءه فقال: إني أريد الشام وقد عور علينا محمد متجرنا، لأن طريق قوافلنا عليه، فأردتُ طريق العراق. قال فرات: فأنا أسلك بك في طريق العراق، ليس يطؤها أحد من أصحاب محمد - إنما هي أرض نجد وفياف. قال صفوان: فهذه حاجتي، أما الفيافي فنحن شاتون، وحاجتنا إلى الماء اليوم قليل.
فاستأجره صفوان ليكون دليلهم في الرحلة، وتجهز صفوان بن أمية، وأرسل معه أبو زمعة بثلاثمئة مثقال ذهب ونُقْر فضة، أي فضة مذابة، وبعث معه رجالا من قريش ببضائع وخرج معه عبد الله بن أبي ربيعة وحُويطب بن عبد العُزى في رجال من قريش، وخرج صفوان بمال كثير، نقر فضة وآنية فضة وزن ثلاثين ألف درهم، وخرجوا على طريق العراق باتجاه ذات عِرق.
وقدم المدينة نعيم بن مسعود الأشجعي، وهو على دين قومه لم يسلم بعد، وكان يأتي بني النضير ويصيب من شرابهم، وذلك قبل أن تُحرَّم الخمر، فنزل على كنانة بن أبي الحقيق في بني النضير فشرب معه وشرب معه سليط بن النعمان بن أسلم، فتحدث نعيم بن مسعود بقضية العير وخروج صفوان بن أمية فيها وما معه من الأموال، فخرج سليط بن النعمان من ساعته فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر القافلة.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بن حارثة في مائة راكب فاعترضوا لها فأصابوا العير، وأفلت أعيان القوم وأسروا رجلا أو رجلين، وقدموا بالعير على النبي صلى الله عليه وسلم فخمَّسها، فكان الخُمس يومئذ قيمة عشرين ألف درهم، وقسَّم ما بقي على أهل السرية.
وكان في الأسرى دليل قريش فرات بن حيان، فأتي به المدينة، وكان الناس أحنق شيء عليه، لأنه كان نذير قريش إلى قافلة أبي سفيان في غزوة بدر، ثم شارك في القتال فجُرح وأُسر، ثم أُفلت على قدميه هارباً، وكان بين فرات بن حيان وبين أبي بكر رضي الله عنه علاقة طيبة، فقال له أبو بكر: أما آن لك أن تقصر؟ قال: إن أفلت من محمد هذه المرة لم أفلت أبدا. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: فأسلِم. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فأطلق سراحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال شاعر الرسول حسان بن ثابت رضي الله عنه يتهكم على قريش:
دعوا فَلَجات الشام قد حال دونها... جَلادٌ كأفواه الـمَخَاض الأوارِكِ
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم... وأنصارِه حقاً وأيدي الملائك
إذا سلَكتْ للغَور من بطن عالج... فقولا لها ليس الطريق هنالك
فإن نلق في تطوافنا والتِماسِنا... فرات بن حيَّانٍ يكن رَهنَ هالك
وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده... يُزَد في سوادٍ لونُه لونُ حالك
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة... فإنك من غُرِّ الرجال الصَّعالِكِ
والفلجات جمع فَلَج وهي العين الجارية، والمخاض الأوارك النوق الحاملة لتي أكلت شجر الأَرَاك فدميت أفواهها.
ويقال إن فرات بن حيان أجابه يتهمه بالنُوك وهو الحمق:
أبوك أبو سوء وخالك مثله ... ولستَ بخير من أبيك وخالكا
يصيب وما يدري، ويخطي وما درى ... وكيف يكون النَوك إلا كذالكا
وكانت هذه أول سرية يجعل فيها رسول الله زيد بن حارثة أميرها، وسيرسله في 6 سرايا أُخر، آخرها غزوة مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة حيث سيستشهد فيها.
وزيد بن حارثة بن شراحيل الكعبي صحابي تبناه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرّم التبني، وكان يدعى من قبل زيد بن محمد، وكان قد استُرِقَّ وهو غلام يافع في غارة على قبيلة أهل أمه في طيء ، وبيع في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة رضي الله عنها بأربعمئة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبته له. وكان أبوه حارثة بن شراحيل قد حزن كثيراً لفقده وأخذ يبحث عنه في أحياء العرب، وقال حين فقده:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحيٌّ فيُرجى أم أتى دونه الأجل
فو الله ما أدري وإن كنت سائلا ... أغالك سهلُ الأرض أم غالك الجبل
فحج ناس من كلب فرأوا زيداً فعرفهم وعرفوه، فانطلقوا فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه، فخرج حارثة وكعب أخوه بفدائه، فقدما مكة فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عبدك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قالوا: زيد بن حارثة، فقال: أو غير ذلك؟ ادُعوه فخيِّروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء. قالوا: زدتنا على النِصف. أي أنصفت وزيادة.
فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم هذا أبي وهذا عمي، قال: فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما. فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم. فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية؟! وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم إني قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحِجر فقال: اشهدوا أن زيداً ابني؛ يرثني وأرثه. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا، فكان يدعى زيد بن محمد، حتى نزلت السورة من آية الأحزاب ﴿ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هو أَقْسَطُ عِنْدَ الله فصار يقال له من جديد زيد بن حارثة ونُسِب كل رجل من قريش إلى أبيه.
ولما دعا رسول الله إلى الإسلام كان زيد من أوائل من أسلم، وفي رواية أول من أسلم، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدراً وما بعدها من الغزوات، واستخلفه الرسول على المدينة مرتين، ثم أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة الثامنة للهجرة لمواجهة الروم أميراً على 6000 من المسلمين، فاستشهد في غزوة مؤتة وهو ابن 50 سنة أو نحوها، إذ كان أصغر من الرسول بعشر سنين.
وكان زيد حبيباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: أنت مولاي مني وإلى، وأحب الناس إلي. ولم يذكر أحدٌ من الصحابة في القرآن باسمه إلا هو، وآخى الرسول بينه وبين حمزة بن عبد المطلب وبينه وبين أُسيد بن حضير الأنصاري رضوان الله عليهم أجمعين، ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بعد عمرة القضاء، تبعتهم ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم. فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بيدها، وقال لفاطمة عليها السلام: دونك ابنة عمك حملتها، فاختصم فيها عماها علي وجعفر وزيد بن حارثة، فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي. وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي. فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال الخالة: بمنزلة الأم، وقال لعلي: أنت مني وأنا منك، وقال لجعفر: أشبهت خَلقي وخُلُقي وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا.
وزوّج رسولُ الله زيداً مولاته وحاضنته أمَ أيمن فولدت له أسامة بن زيد، ثم زوجه زينب بنت جحش ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، ولما طلق زينب زوَّجه الرسول أم كلثوم بنت عقبة أخت عثمان بن عفان لأمه، وذلك أنها هاجرت إلى المدينة بعد صلح الحديبية، وخطبها الزبير بن العوام، وزيد بن حارثة، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، فاستشارت أخاها لأمها عثمان بن عفان، فأشار عليها أن تأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فأتته، فأشار عليها بزيد بن حارثة، فتزوجته، ثم طلقها زيد وتزوج درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، ثم طلقها وتزوج هند بن العوام أخت الزبير.
وأما قائد قافلة قريش صفوان بن أمية بن خلف، فوالده أمية بن خلف صاحب بلال ومن صب عليه العذاب حتى يكفر، وقتله بلال في غزوة بدر، وكان صفوان من زعماء قريش في غزوة أحد، ولما رأى الرسول ما فعلوه من تمثيل بالقتلى دعا عليه وعلى أمثاله من زعماء قريش وقال: اللهم العن أبا سفيان! اللهم العن الحارث بن هشام! اللهم العن صفوان بن أمية! فأنزل الله قوله في سورة آل عمران: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فأسلموا، وحسن إسلامهم.
وكان صفوان متزوجاً من عاتكة أخت خالد بن الوليد، فأسلمت يوم فتح مكة، وهرب نحو البحر ليركب إلى اليمن، فجاء ابن عمه عمير بن وهب بن خلف الجمحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله أن يؤمنه، وقال: إن صفوان بن أمية سيد قومي قد خرج هارباً منك ليقذف بنفسه في البحر ، فأمنه يا رسول الله، فإنك قد أمنت الأحمر والأسود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدرك ابن عمك فهو آمن.  قال: يا رسول الله أعطني شيئاً يعرف به أمانك، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي! أذكرك الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتك به. فقال: ويلك اغرب عني لا تكلمني، قال: فداك أبي وأمي! أفضل الناس، وأبر النّاس، وأحلم الناس، وخير الناس؛ ابن عمتك، عزُّه عزُّك، وشرفُه شرفُك، وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم. فرجع به معه إلى مكة فوقف على رسول الله وكلمه على رؤوس الناس وهو على فرسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزل أبا وهب. فقال: لا والله لا أنزل حتى تبين لي! إن هذا يزعم أنك قد أمنتني؟ قال: صدق، قال: فاجعلني في ذلك بالخيار شهرين. قال : أنت بالخيار أربعة أشهر.
وكان ابنه يعلى وابنته بُسرة  زوجة المغيرة بن ثابت قد أسلما قبله، وبايعت ابنته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي خالة الخليفة الأموي مروان بن الحكم وجدة الخليفة عبد الملك بن مروان. وقد أكرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ناداه، وهو مشرك،  بكنيته على عادة العرب في التبجيل.
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوازن بحنين، أرسل إلى صفوان بن أمية يستعيره دروعاً وسلاحا عنده، فقال صفوان: أطوعا أم كرها؟ فقال: بل طوعا؛ عارية مضمونة. فأعاره الدروع والسلاح الذي عنده، وخرج صفوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر فشهد حنينا والطائف وهو كافر، وظهر منه ميل إلى معسكر الإسلام والمسلمين، ذلك إن المسلمين انهزموا أول الأمر فجعل أبو سفيان بن حرب يقول: غلبت والله هوازن، وصرخ كلدة بن الحنبل وهو مع أخيه لأمه صفوان بن أمية: ألا بطل السحر اليوم. فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يرُبَّني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
ثم نصر الله دينه والمسلمين، وهزم المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا أدرع صفوان. ففقدوا من دروعه دروعا،  ورد الرسول إلى صفوان ما استعاره، وقال له: إن شئت غرمناها لك، فقال: لا، أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله.  وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ المؤلفة قلوبهم، ومنهم صفوان بن أمية؛ أعطاه مئة من النَعم ثم مئة ثم مئة، قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
وأسلم صفوان وحسن إسلامه، وقيل له: إنه من لم يهاجر هلك، ولا يدخل الجنة إلا من هاجر، فجاء ابنه يعلى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اجعل لأبي نصيبا في الهجرة فقال: بل أبايعه على الجهاد، فقد انقضت الهجرة. فأتى يعلى إلى العباس فقال: يا أبا الفضل، ألست قد عرفت بلائي؟ قال: بلى، وما ذاك؟ قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي ليبايعه على الهجرة، فأبى. فقام العباس معه في قميص ما عليه رداء فقال: يا رسول الله أتاك يعلى بأبيه لتبايعه فلم تفعل؟! فقال: إنه لا هجرة اليوم، قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنه، فمد رسول الله يده فقال: قد أبررت عمي ولا هجرة. وقال صفوان بن أمية: يا رسول الله إنهم يقولون إن الجنة لا يدخلها إلا من هاجر، قال: لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا.
ورغم أن صفوان بقي على الشرك، فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين امرأته عاتكة، وامرأته آمنة بنت أبي سفيان التي أسلمت كذلك، وبين إسلامهما وإسلامه شهرين أو ثلاث، وكان لديه 6 أو  8 زوجات، فلما أسلم أمره رسول الله أن يمسك أربعاً ويطلق الباقيات.
وبقي صفوان بن أمية على ثرائه في قريش، ففي أيام عمر اشترى منه داراً بأربعة آلاف دينار، وتوفي رضي الله عنه في سنة 35  أيام مقتل عثمان رضي الله عنه، وبينما كان ابنه عبد الله بن صفوان يدفن أباه أتاه راكب، فقال: قُتِل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فقال: والله، ما أدري أي المصيبتين أعظم: موت أبي، أم قتل عثمان؟
أما دليل قريش فرات بن حيان، فحسُنَ إسلامه، وفَقِهَ في الدين، وصار مقرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما فتح الله على رسوله خيبر وأعطى المؤلفةَ قلوبهم، لم يعطه رسول الله إكراماً له لا استخفافاً به، ومنحه أفضل عطية عندما قال فيه: إن منكم رجالاً لا أعطيهم شيئاً أكِلُهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيان. وأعطاه فيما بعد أرضاً باليمامة، وقد روى عن رسول الله بضعة أحاديث منها سؤاله للرسول عن حلف كان في الجاهلية على نصرة المظلوم وإعانة الضعيف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تسأل عن حلف لخم وتميم؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: لا يزيده الإسلام إلا شدة.
وهاجر فرات بن حيان إلى المدينة، وتذكر كتب السيرة أنه قد شارك في حصار الطائف، ولما خرج مسيلمة الكذاب على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في السنة الحادية عشرة للهجرة، أرسل رسول الله ثلاثة رجال إلى الصحابي الجليل ثُمامة بن أُثَال في بني حنيفة باليمامة ليقاتل مسيلمة ويقضي على تمرده، وهم أبو هريرة وفرات بن حيان والرَجَال بن عُنْفُوة، وقال: ضرس أحدكم في النار مثل جبل أُحد! فما زال فرات وأبو هريرة خائفين من أن يكون قد عناهما، ثم ارتد الرَجَال  وانضم إلى مسيلمة، فاطمأنا وسجدا لله شكراً.
ولما تولى الخلافة أبو بكر رضي الله عنه، وارتدت كثير من أنحاء جزيرة العرب، ارتدت ربيعة في البحرين، وهي الأحساء اليوم، فرجع إلى المدينة أبان بن سعيد عامل رسول الله على البحرين، وأرسل أبو بكر محله العلاء بن الحضرمي من المدينة في ستة عشر راكبا، ومعه فرات بن حيان العجلي دليلا، وكتب أبو بكر كتابا للعلاء بن الحضرمي أن ينفر معه كل من مر به من المسلمين إلى عدوهم، فسار العلاء فيمن تبعه منهم وقاتل المرتدين وقمعهم.
شارك فرات بن حيان في فتوح الشام مع خالد بن الوليد، ثم تنازل عنه خالد للمثنى بن حارثة ليشارك في فتح العراق، وكان من قواده وخليفته على الجيش، ثم قاتل مع سعد بن أبي وقاص، وشهد القادسية، وكان من قادة الجيش الذي فتح تكريت سنة 16، ثم في سنة 20 جعله عمر رضي الله عنه مع هند بن عمرو والياً على الجزيرة الفراتية بعد أن عزل عياض بن غنم، ونزل فرات بن حيان الكوفة، وابتنى له داراً فيها في بني عجل، وتوفي فيها، وكان له عقِبٌ صالح فيها.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer