الجمعة، 28 مارس 2014

حدث في الرابع والعشرين من جمادى الأولى


في الرابع والعشرين من جمادى الأولى من سنة 1337=1919 توفي في القاهرة، عن 65 عاماً، الأديب الفكه والقاضي الأريب، حفني ناصف، أحد رجال الرعيل الأول للنهضة الأدبية في هذا العصر.
ولد حفني بن إسماعيل ابن خليل بن ناصف، ويقال له أيضاً محمد حفني، عام 1273، في بركة الحج في القليوبية شمال شرقي القاهرة، وكان والده قد توفي وهو جنين فكفله خاله وجدته لأبيه.
والتحق حفني ناصف بكتاب القرية حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وأكمل حفظه وهو في الثالثة عشرة من عمره، ثم التحق بالأزهر في سنة 1286= 1869 وبقي فيه 10 سنوات، حفِظ فيها المتون، ودرس فيها التوحيد وعلوم التجويد والتفسير والحديث والفقه الشافعي، والنحو والصرف وعلوم البلاغة، وحصل على إجازة برواية الحديث من الشيخ محمد الأشموني الشافعي المتوفى سنة 1321.
ثم أراد بعدها دراسة العلوم الدنيوية فالتحق بمدرسة دار العلوم، التي تأسست سنة 1289=1872، وهي من أمتن الكليات المصرية في العلوم الأدبية، وخرجت عمالقة كبار في الأدب والشعر والنقد والقضاء والاجتماع، فدرس فيها ثلاث سنوات، درس أثناءها الحساب والهندسة والكيمياء والطبيعة والتاريخ والجغرافيا ووظائف الأعضاء، ومبادئ اللغة الفرنسية، وتخرج منها سنة 1299=1882، وكان ترتيبه الأول في جميع مراحل الدراسة.
ولتفوق حفني ناصف البارز أشركه الشيخ محمد عبده في تحرير مجلة الوقائع المصرية، وهي الجريدة الرسمية المصرية التي أسست سنة 1828، وكانت تنشر كذلك مباحث علمية وأدبية واجتماعية وفلسفية ودينية وقانونية، وكان حفنى وهو الذي درس في الأزهر ثم دار العلوم قريباً من الإمام محمد عبده في جهوده الإصلاحية للنهضة بالأزهر والإحياء الديني، ومن القصص الطريفة عن حفني ناصف أنه لما توفي الشيخ محمد عبده سنة 1323=1905، وقف على قبره ستة من  العلماء والأدباء يرثونه، وكانوا حسب الترتيب: الشيخ أحمد أبو خطوة، حسن عاصم باشا، حسن عبد الرازق باشا الكبير، قاسم بك أمين، حفني ناصف، حافظ إبراهيم.
وقدر الله أن مات الأربعة الأولون بهذا الترتيب، ولاحظ حفني ناصف ذلك يوماً، وكان حافظ إبراهيم قد مرض وجزع أن  يكون أجله قد حان، فأرسل إليه هذه الأبيات حفني يطمئنه:
أتذكـرُ إذ كُنَّا على  القبرِ ستـةً ... نعـدِّدُ آثـارَ الإمـامِ وننـدُبُ
وقفنا بترتيـبٍٍ وقـد دبَّ بيننـا ... ممـاتٌ على وفْقِ الرثـاء مُرَتَّبُ
أبو خطـوةٌ ولَّى، وقَفَّـاه عاصمٌ ... وجـاء لعبدِ الرازق الموتُ يطلبُ
فلبّى وغابت بعده شَمْسُ قاسـمٍ ... وعمّـا قليلٍ نَجْم مَحْياي يغرب
فلا تخشَ هلكاً ما حييتُ وإن أمت ... فما  أنت  إلا خائـف تترقَّـبُ
فخاطر، وقَعْ تحت القطار ولا تخف... ونَمْ تحت بيتِ الوقْفِ وهو مُخَرَّبُ
وخُضْ لُجَـج الهيجاءِ أعزلَ  آمناً ... فإن  المنايا  عنك  تنـأى وتَهربُ
وشارك حفني ناصف وهو طالب في دار العلوم في تمرد عرابي سنة 1298=1881، وكان يلقي الخطب في المتظاهرين وتجمعات الوطنيين، ولا يكتفي بذلك بل يكتب الخطب ويوزعها على خطباء المساجد أملاً في أن يستخدموها في خطب الجمعة ويحرضوا المصريين على الانضمام للتمرد.
وبعد تخرجه التحق بسلك التعليم، ورغم أنه كان الأول في الناجحين فقد ألحقوه مدرساً في مدرسة المكفوفين والبكم، وبقي فيها ثلاث سنوات حقق فيها كثيراً من النجاح مع هؤلاء الطلبة، ولكنه اعتبر ذلك نوعاً من العقوبة المقصودة، فقال:
غلط  الناسُ في عرابي وسامي ... حيث أقصوهما إلى سيلانِ
لم يريدوا بهم عذاباً فهلا ... أرسلوهم للخرس والعميان
وفي سنة 1304= 1886 انعقد في فينّة بالنمسة المؤتمر السابع للمستشرقين، وأرسلت مصر وفداً علمياً للمؤتمر كان حفني ناصف أحد أعضائه وأمين سره، وألقى محاضرة عن لغات القبائل المختلفة في مصر، طبعها في كتاب لدى عودته من المؤتمر بعنوان مميزات لغات العرب وتخريج ما يمكن من اللغات العامية عليها، وفائدة علم التاريخ من ذلك. وبقي حفني ناصف يشارك في مؤتمرات الاستشراق، وقد قدّم في مؤتمر أثينة سنة  1330=1912 بحثاً عن مسقط رأس مارية القبطية، وبحثاً آخر في رقيم عربي من بلاد اليمن.
والتمس حفني إعفاءه من تدريس المكفوفين والبكم، وقال في ذلك قصيدة رفعها لصاحب الأمر، تبين ظرفه ولطفه حتى في الشكوى، ومما جاء فيها:
مولاي دعوة ثاوٍ بين ذي بصرِ ... بغير سمع وسمع غير ذي بصرِ 
نداء مستلفتٍ أنظاركم أملاً ... أن تُلحقوهُ بأقوامٍ ذوي نظرِ 
أشكو إلى عدلكم نفياً أُصبت به ... وما أتيتَ بذنْبٍ غيرِ مغتفرِ 
لم تُستَشَر سفراءُ العلم فيّ ولم ... تدعَ الفنونُ إلى أعمالِ مؤتمرِ 
وبرلمان العلا أعضاؤهُ رفضت ... نفيي ولم ترضَ أحزابُ الهوى ضرري
وأي فائدةٍ في النحوِ أقصد إن ... لم يرتفع بين أربابِ العُلَى خبَري 
وما النتيجة من وزن العَروضِ إذا ... لم يحوِ معناي بيتٌ غير منكسرِ 
وكان حفني ناصف يتمتع ببلاغة عالية في الكتابة والنثر، فاختير لتدريس مادة الإنشاء القضائي بمدرسة الحقوق الخديوية، وكذلك المنطق والبلاغة وآداب المناظرة، فعمل فيها 5 سنوات من سنة 1304=1887 حتى سنة1309=1892، واشترك في أثنائها في ترجمة القوانين المصرية، وكان من طلابه في الحقوق الزعيم الوطني مصطفى كامل، وأمير الشعراء أحمد شوقى حيث درس عليه سنتين، والاقتصادي الكبير طلعت حرب، وغيرهم من أقطاب السياسة والعلم.
وفي سنة 1309=1892 تقدم حفني ناصف لامتحان مسابقة وظائف قضائية، ونجح في المسابقة بتفوق وامتياز، وعين قاضياً في تلك السنة، ومنح البكوية من الدرجة الأولى، ولذا أصبح اسمه حفني بك ناصف، وهو أول الألقاب التشريفية التي كانت سائدة في الدولة العثمانية ثم المصرية، وتنقل حفني بسبب علمه في القضاء في عدة أقاليم ما بين القاهرة وقنا وطنطا، ولما نقل إلى قنا في جنوب الصعيد عقوبة له على مواقفه الوطنية، قال في ذلك قصيدة اشتهرت، منها:
قالوا شخصت إلى (قنا)... يا مرحبا بقنا و (إسنا)
قالوا سكنت السفح قلت: وحبذا بالسفح سكنى
قالوا (قنا) حر فقلت: وهل يرد الحر قنا
ها قد أمنت البرد والبرداء والقلب اطمأنا
ووقيت أمراض الرطوبة واستِراق الريح وهنا
ألقى الهواء فلا أهاب لقاءه ظهرًا وبطنا
وأنام غير مدثر... شيئا إذا ما الليل جنا
قد خفَّت النفقات إذ... لا أشتري صوفًا وقطنا
وفَّرت من ثمن الوقود... النصف أو نصفًا وثُمنا
عش في القرى رأسا ولا... تسكن مع الأذناب مدنا
واربأ بنفسك أن ترى... مستمرئا في العيش جُبنا
واسلُ الأغاني والغواني واسأل الرحمن عَدْنا
وبقي قاضياً 20 سنة إلى سنة 1330=1912، حين خرج وهو في وظيفة وكيل محكمة طنطا الكلية.
وفي أثناء عمله في القضاء، شارك في تأسيس الجامعة المصرية عند تأسيسها سنة 1908، وكان رئيس لجنة الاكتتاب، ثم انتخب أول رئيس لها، ودرَّس فيها، كذلك دعا لتأسيس مجمع اللغة العربية، وشارك في تأسيس نادي دارالعلوم سنة 1322= 1905، وكان النادي يجمع صفوة القوم من الغيورين على اللغة والدين ممن يريدون لمصر الخير وأن تستعيد مجدها الأصيل وريادتها السابقة بين الأمم.
وفي سنة 1326=1908 اجتمع نادي دار العلوم، وكان حفني ناصف رئيسه، وجرى البحث في الألفاظ الأعجمية التي غزت اللغة العربية، وتباحث الحضور وهم نخبة متأدبي مصر وقضاتها وعلماؤها في ذلك، وألقى كلمة مرتجلة في هذا الصدد الحقوقي الكبير ووكيل وزارة العدل أحمد فتحي باشا زغلول، المتوفى سنة 1322=1914، ثم ألقى بعده حفني ناصف كلمة مطولة في اللغة وفنونها وترجمة المصطلحات الجديدة، واتخذ بعدها الحاضرون القرار التالي، وهو تعبير عن الأمل في تأسيس مجمع للغة العربية يتولى معالجة قضاياها وترجمة المصطلحات المستجدة:
يُبْحَثُ في اللغة العربية عن أسماء للمسميات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة، فإذا لم يتيسر ذلك بعد البحث الشديد يستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية، ويستعمل في اللغة الفصحى بعد أن يعتمده المجمع اللغوي الذي سيؤلف لهذا الغرض.
ولم يتأسس المجمع المأمول إلا بعد 19 سنة في سنة 1351 =1932، وأورد هنا بعضاً من كلمة حفنى ناصف رحمه الله تعالى ليتبين فضله وزملائه من مؤسسي النهضة الحديثة، وغيرتهم على اللغة، وحرصهم على الدين، ووقوفهم في وجه التغريب والجهل:
أكثر القائلون بتطبيق سياسة الباب المفتوح على اللغة العربية من ذكر جمود أمتنا واشتغالها عن الجواهر بالأعراض، ووقوفها موقف المستضعفين أمام الأمم الغربية، ونعوا علينا تحرجنا قبول الدخيل في لغتنا، ورمونا بالرجوع إلى الوراء، والنفور من كل جديد، والوقوف عند حدّ ما أماته الزمان، ومخالفة سنة اللغات الحية صاحبة الحركة الدائمة التي قدر أهلها أن ينتفعوا بكل ما خلقه الله، إلى آخر ما أتوا به من القضايا الخطابية؛ بقصد التأثير في أفكار السامعين حتى تخيلوا أن الكَلِمَ الأعجمية واجبة الاستعمال في اللغة العربية حرصاً على الزمن أن يضيع في انتقاء ألفاظ عربية تسد مسدها، وأن قواعد الاقتصاد السياسي تقضي بصرفه في اختراع آلة حربية أو معمل صناعي أو مصرف مالي، ولقد كدت من شدة التأثير أمسك عن الكلام خِيفَة أن أضيع عليكم ساعة يمكنكم فيها اختراع بندقية جديدة، أو آلة للطيران، أو علاج للسرطان.
مسكينة الأمة المستضعفة، لا تدري من أين تُؤْتَى، ولا تعرف لِتأخّرها عِلّة، فتذهب مع كل ذاهب، وتمشي وراء كل حاطب.
ظننا النيل سبب رخاوتها فعدلنا عنه إلى الآبار فما نشطنا، وخِلْنا الأزياء الواسعة مانعتنا عن الحركة فاستبدلنا بها أزياءً ضيّقة فما عدونا، وحسبنا اقتعاد السيارات والدراجات يوصلنا إلى المدنِيَّة فاقتعدنا وما استفدنا، وزعمنا ملاهي التمثيل أقرب سبيل فأبعدتنا، وعددنا المراقص معارج فما عرجنا، وغيرنا العمائم بالقلانس، والدور بالقصور، وظهور الصافنات ببطون العربات فما أخرَجنا كل ذلك عما نحن فيه من الاستضعاف ولا سَمَا بِنَا إلى رقي الألمان والإنكليز واليابان.
إن لارتفاع الأمم وانحطاطها أسباباً خاضَ فيها الحكماء، وأفاض في بيانها العلماء وليس المقام الآن مقام ذكرها، وإن المسألة التي نحن بصددها مسألة نقلية يُرجع فيها إلى كتب اللغة والأدب، وليس لأحدٍ أن يأخذ فيها بالهوى، أو يسترسل مع الوجدان، أو يقتصر فيها على مجرد الاستقباح والاستحسان ... على هذا استقرت اللغة العربية، وتَمّ إحكامها، وحُصِرَتْ مُفْرَدَاتُها الأصلية وقوانينها، وأُبِيحَ استعمال مفرداتها في غير ما وُضِعَتْ له عند الاحتياج بشرط العلاقة والقرينة، وانتهت أدوار التنقيح فيها، فلم يَبْقَ إلا استظهارها، والعمل بها...
ولما قعدت هِمَم الخالفين وانتشر فساد اللغة مادَّةً وقوانينَ رأى فريق من الناس أن يكفونا مؤنة التحصيل؛ فهبوا إلى فتح ثغور اللغة العربية للدخيل من الألفاظ، وطفقوا يحسِّنون صنيعهم بأقيسة خطابية وجدلية لا تغني من الحق شيئًا، فقالوا أولاً: إن العرب أخذوا ألفاظًا من الأعاجم في أطوار تنقيح العربية واستعملها الفصحاء، وورد منها كثير في القرآن والأحاديث فما لنا لا ننشئ مذهبًا خامسًا في التنقيح، وفاتهم أن ما أخذه العرب قليل جدًّا بالنسبة إلى ما نبذوه ونادر بالإضافة إلى مادة لغتهم الأصلية؛ والقليل النادر لا يُقَاسُ عليه ...
وقالوا: إن التعريب أسهل من انتقاء اللفظ العربي، واستعمال الأعجمي أخف على السمع ... وفاتهم أن هذه الصعوبة تزول بعد الاهتداء إلى الكلمة العربية والاصطلاح عليها، والإلحاح في استعمالها لفظًا وكتابة... وإني أذكركم أننا كنا نستعمل كلمة قومسيون وقوميتيه وجرنال وغازيته وأفوكاتو وكوليرا ووابور وقنصل وجنرال، ولما ابتدأ الصحافيون يغيرونها بلجنة وصحيفة ومحامٍ ووباء وقطار ومعتمد كنا نتقززها، فلما ألحوا في استعمالها زال التقزز شيئا فشيئا، حتى عفنا الكلمات الأولى فجازاهم الله عن العرب خيرا. فلِمَ لا يعمل المحدثون من الصحافيين مثل ما عمل الأقدمون؟ ولماذا لا يحذو مترجمو اليوم حذو مترجمي أمس؟ ولِمَ لا نساعد هؤلاء وهؤلاء على أداء ذلك الواجب؟
وبعدُ، فإني لم أفهم للآن وجهًا للتشبث بحب الأعجمي، فإما أن نكون مصابين بمرض الشعوبية، وهو تفضيل العجم على العرب، وإما أن نكون لاستضعافنا مُقلدين كما قال ابن خلدون، وإما أن يكون في طباعنا إخلاد إلى الراحة والسكون؛ فلا نريد أن نعاني أعمالاً جديدة لم نتعودها فتخدعنا هذه الطباع إلى تحسين ما نحن عليه...
وقد نشأ من التساهل في حياطة اللسان العربي أن تطرق الفساد إلى مادته وهيئته، وتولد عنه لسان آخر لا هو بالعربي ولا هو بالأعجمي، وسَمّاه الناس باللغة العامية أو الدارجة، وهو المُسْتَعمَل لهذا العهد في مصر والشام والعراق وجزيرة العرب والمغرب والسودان لا يتكلمون بغيره، وإن كانوا لا يزالون يكتبون بالعربية الفصحى أو ما يقرب منها.
وترى الطفل يتعلم العامية في أقلّ من خمس سنين، ولا يتعلم الفصحى في أقل من عَشْرٍ، والسبب في ذلك ظاهر، وهو أنه في أول أمْرِهِ لا يسمع غير العامية ولا يتكلم بغيرها، فهو أينما سار وحيثما ذهب مُشْتَغِل بها فترسخ في ذهنه رسوخ الإنكليزية في أذهان أطفال الإنكليز، وليس الحال كذلك في إبّان تعلّمه لغة الكتابة، ولو فرضنا صبيًّا نشأ في بلد يتكلم أهله بالعربية الفصحى بالسليقة وبعد سِنّ مخصوص يتعلمون العامية، ويستعملونها في الكتابة فقط لانعكس معه الحال، وتعلم العامية في أقل من عَشْرٍ، فليس من طبيعة اللسان العربي الصحيح شيء من الصعوبة، وإنما هي طريقة التلقين وبيئة التعليم.
وعلى كل حالٍ فالجمع بين العامية والفصحى يستنفد 15 سنة كان يغني عنها خمس لو اقتصر المعلم على إحداهما، ويضيع على كل متعلم عشْر سنين من عمره، فإذا تحققت الآمال، وصار التعليم إجباريًّا؛ فكم تخسر الأمة كل سنة من أعمار أفرادها؟
فإذا أخذنا المعدل السنوي للمواليد وهو 470000 وطرحنا منه معدل وَفَيَات الأطفال إلى سِنّ العشرة، ونفرض أنه النصف، يكون الباقي 235000 نضربه في عَشَرة أعوام، وهي مقدار ما يخسره كل واحد، فتكون النتيجة أن الأمة تخسر في كل عام عمل شخص واحد في 2.350.000 سنة، وبعبارة أخرى يفوتها ربح زراعة 1.275.000 فدان، على فرض أن الفدان يزرعه اثنان، وهي خسارة لا يحسن السكوت عليها (فيا ضيعة الأعمار تمشي سَبَهْلَلاً).
... تُترك العامةُ يتكلمون بما يريدون، وتُدرب التلاميذُ في المدارس على التكلم بالفصحى، ويُحبب إليهم التحاورُ بها كلما اجتمع لَفِيفٌ منهم حتى ترسخ فيهم ملكتها وتملك ألسنتهم دُرْبَتها، ويكون أخذهم بالتمرين تدريجيًّا يطبقونه على ما عرفوه، ويكملون محاورتهم بالعامية فيما لم يعرفوه، وكلما زادت درجتهم في التعليم زادت قوتهم في التطبيق إلى أن تهجر العامية، وتحل الفصحى محلها.
فإذا ضُمّ إلى ذلك مطالعة الصحف والمجلات العربية، وسماع الخطب العلمية في النوادي العربية، والتردد على معاهد العظات، ومشاهد التمثيلات، ومواقف المرافعات، وتعليم الفتيات، واحتذاء أساليب المُنْشِئين، وطبع كتب المبرزين، فإن اللغة العامية تنقرض في أقل من عشرين عامًا، وتخلفها اللغة الصحيحة، ويرجع اللسان العربي إلى عصر مجده وأيام سعده.
ولقد هَمّ المُرَبّي الكبير الشيخ محمد الخضري منذ عشرين سنة بإلزام تلاميذ المدارس بالتكلم بالعربية الفصحى ما داموا تحت نظر معلميهم وأخذ يُعد لهذا الأمر عُدَّته وعتاده، وسألني رأيي في ذلك وكنت معلمًا في مدرسة الحقوق، فقلت له: إن الأمر ميسور، والخطب سهل، فطلب إلىَّ تجربة ذلك قبل أن يصدر الأوامر، فقلت: نعم وكرامة، ولم يَمْضِ شهر حتى دعوته لشهود التجربة مع من شاء من المفتشين، فأَسْفرَتِ التجربة عن نجاح باهر وارتقاء ظاهر، فصمم على إمضاء عزيمته لولا احتجاج فريق من المعلمين؛ بل نفر من العاجزين، بأن التطبيق متعذر قبل حفظ اللغة وإتمام القواعد، ولولا التوكّؤُ على هذه المغالطة لَكانت العامية الآن في خبر كَادَ إن لم تكن في خبر كَانَ.
وبعد تركه لسلك القضاء عمل حفني ناصف كبيراً لمفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف، وظل بها حتى أحيل إلى التقاعد سنة 1333= 1915 لبلوغه سن التقاعد وهي 60 سنة، وقبل أن يترك العمل بقليل قال هذه الأبيات:
برزتُ في سحرِ البيـانِ وشابَ فيه مفرقي
فقضيتُ عمري في البلاغة سابقاً لم أُلحـقِ
فاتَ الكثيرُ من الحيـاةِ وقلَّ منها ما بقي
وفي سنة 1333=1914 تولى السلطان حسين كامل الحكم، وكان رجلاً خبيراً عاقلاً حازماً، وفي أيامه أحالت وزارة المعارف المصرية إلى حفني ناصف تطبيق رسم المصحف الشريف الذي تريد طباعته على رسم مصحف الإمام عثمان بن عفان، وعاونه في هذا العمل أحمد السكندري والشيخ مصطفى العناني، وأراد السلطان أن يمنحه رتبة الباشوية فاعتذر عن قبولها، تواضعاً منه ومعرفة بقدره الذي تضيق به الرتب، كيف وهو القائل:
وبالخلائق تمتاز الخلائق لا ... بشارةٍ تجعل المعلوم مجهولا
لو لم يخَلْ ربُّها جهلَ الرجالِ به ... ما احتاج منها على معناه تدليلا
وما الكمال بموقوف على سِمة ... ما أوسعت قط أهل النقص تكميلا
ولم يقدر لهذا المصحف أن يصدر إلا في أيام الملك فؤاد سنة 1342، وعرف باسم مصحف الملك فؤاد، ويتسم بحرفه الجميل وتنسيقه الهادئ، لكونه لم يلتزم توزيع الأجزاء والربعات على عدد محدد من الصفحات، فكان عدد الكلمات في كل صفحاته متساوياً، فهو أروح للنظر وأسلس في القراءة.
ونشبت الحرب العالمية الأولى في سنة 1332=1914 فأدرك حفني ناصف ما ستحمله من كوارث على البلاد التي كانت تأن تحت وطأة الاحتلال البريطاني، فقال:
عسى الله يُلقي في الأعادي خصومةً ...فتُشغل عنا أو يخف لظاها
وإلا فإنا هالكون ضرورةً ... وأين قوانا من عظيم قواها

ولما اشتدت الحرب وصارت مصر تدفع الثمن في أمر لاناقة لها فيه ولا جمل، قال:
سنلقى اليوم أهوالاً شداداً ... فتنسينا الذي كنا لقينا
وكانت في الحياة لنا ظنونٌ ... وها قد صار مصرعُنَا يقينا
وفي سنة 1335 احتفلت الجمعية الخيرية الإسلامية بمرور 25 سنة على تأسيسها، فقال في ذلك قصيدة تبين فلسفته الاجتماعية المبنية على الإسلام، ومما جاء فيها نحو الطبقة الفقيرة والزُراع:
خلُّوا سواعدَهم تمتدّ ناشطةً ... زرعاً وصُنعاً وتطريقاً وتعدينا
وعلِّموهم على قدر استطاعتكم ... مبادىءَ العلم والأخلاقَ والدينا
فالعلم يرشدهم، والخُلق يسعدهم ... والدين يُقصي عن النفس الشياطينا
تَلقَى على كلِّ نفسٍ من مهابته ... في السرّ والجهر شرطيّاً وقانونا
إن خان صاحبَه الحظُّ استكان له ... وقال أمرٌ قضاه ربُّنا فينا
كم أظهر العلْمُ من  أطفالهم علمَاً ... فرداً وأخرج كنزاً كان مدفونا
اللهَ فيهم فحرثُ الأرضِ في يدهم ... يبدون مِن سرّها ما كان مكنونا
وهُم قيامٌ على الأنعامِ سائمةً ... وهُم طُهاةٌ  ونُسّاج وبانونا
لهمُ يدٌ كلَّ يومٍ في مرافقنا ... فلْتجْرِ مِن فوقِ أيديهم أيادينا
فبادروا بزكاة المال إنّ بها للنفس والمال تطهيراً وتحصينا
ألم ترَوا أن أهل المال في وجلٍ ... يخشّون مصرعهم إلا المزكينّا
فهل تظنونَ أن الله أورثكم ... مالاً لتشقوا به جمعاً وتخزينا
أو تقصروه على مرضاة أنفسكم ... وتحرموا منه معتَّراً ومسكينا
ما أنتمو غير قُوّام  سيسألكم ... إلهكم عن حساب المستحقينا
أنتم خلائفه في الأرض ألزمكم ... أن تَعْمُروها وتفتنّوا الأفانينا
ولن تنالوا نصيباً من خلافتهِ ... إلابأن تنفقوا مما تحبّونا
ثم يعاتب الأغنياء المقصرين الممسكين:
أليس جرماً على الإسلام أنّ له ... في مصرَ أكثر من عشرٍ ملايينا
ضَنّوا على مُعْوِزيهم بالقليل فلم ...  يصّدقوا غير ألفٍ  أو يزيدونا
لحفني ناصف مؤلفات قيمة كان لها وقع كبير في حينها، منها كتاب حياة اللغة العربية، في تاريخ الأدب العربي، والذي ألفه ودرّسه لطلبة الجامعة المصرية، وجمع ابنه مجد الدين ناصف شعره، في ديوان سماه شعر حفني ناصف، وفي سنة 1304 إلى سنة 1309 اشترك حفني ناصف مع عدد من أساتذة اللغة في تأليف كتب مدرسية للمدارس الابتدائية والثانوية، أسموها الدروس النحوية، وألفوها على الطريقة الحديثة بعيداً عن المتون والشروح والمختصرات، وتتكون كل مجموعة من عدة أجزاء، واعتمدتها وزارة المعارف العمومية وشيخ الأزهر محمد الأنبابي. وفي سنة 1310 أخرج مع مجموعة من الأساتذة كتب دروس البلاغة التي لقيت القبول كذلك وكانت تدرس في المدارس الثانوية، وفي سنة 1328=1910 صنف كتاب القطار السريع لعلم البديع، وهو مختصر في علم البديع، ألفه تحقيقاً لرغبة بعض طلاب مدرسة الحقوق.
وفي سنة 1918 أصيب حفني ناصف بشلل جزئي، ثم شفي وعاد إلى مراجعة المصحف الشريف الذي تطبعه وزارة المعارف، ولكنه فجع بوفاة ابنته مَلَك الملقبة باحثة البادية في محرم من سنة 1337= تشرين أول/أكتوبر سنة 1918، وحضر حفلَ تأبينها في الجامعة المصرية محمولاً لفرط ما أصابه من ضعفٍ وهمٍّ ومرض، حتى إذا وقف حافظ يرثيها قال:
وتركتِ شيخَكِ لا يَعِي ... هل غابَ زيدٌ أو حَضَر
ثَمِلاً  تُرَنِّحُـه الهمُومُ إذا تَمايلَ أو خَطَـر
كالفَرْعِ هزَّتـهُ  العواصفُ فالتوى ثم انْكَسَر
وعندما أنشد حافظ ذلك بكى حفني بك، وحملوه وهو يبكي، ولم يعش بعدها سوى بضعة أيام ثم لحق بابنته في يوم الثلاثاء 24 جمادى الأولى سنة 1337، الموافق 25 شباط/فبراير 1919.
أما ابنته، وكبرى أولاده، مَلَك حفني ناصف، الملقبة بباحثة البادية، المولودة سنة 1304=1886، فقد عملت بعد تخرجها في سنة 1322 في التدريس، واتجهت للنهوض بالمرأة المصرية، وأسست اتحاد النساء التهذيبي، وتزوجت أحد أثرياء الفيوم وهو الوجيه الفاضل عبد الستار بن حمد الباسل، الذي كان سليل أسرة عربية صميمة، محافظاً على الزي العربي، يرتدي الشملة البيضاء والطربوش المغربي، وتوفيت وعمرها 32 سنة.
وقد أربت شهرة البنت على شهرة والدها، وذلك لأنها كان رائدة النهضة النسوية في مصر، وقد قامت بذلك متأثرة بما أحرزه الغرب من تقدم على صعيد صحة الطفل وتعليم المرأة، ولكنها كان تدعو إلى ذلك على أسس تراعي الإسلام وتحترم التقاليد، كما يتبين لكل من قرأ مقالاتها وأشعارها، فقد رفضت التبرج وحثت على الفضيلة من خلال الالتزام الديني، ويكفى أن نشير أن السيد محمد رشيد رضا نشر لها في مجلة المنار وأثنى عليها وكتب عنها بعد وفاتها، وهذا مقتطف من محاضرة لها في النساء نشرتها المنار:
تخرج بعض نسائنا عن حدود الأدب والشرع زعمًا باتباع (المودة)، ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين (المودة) والخلاعة، فإن لبست المرأة آخر الأزياء في بيتها فما عليها في ذلك من حرج، ولكن إذا أظهرت زينتها للمارة وظلت تتلكأ وتضحك، فتلك هي الخلاعة الشائنة...
لاحظت شيئًا غريبًا في الفتيات، وهو أن الفتاة التي تتبرج وتتأنق مغالية في إظهار محاسنها وغناها، تريد بذلك أن يُعجب بها الخاطبون والخاطبات، هي التي تتأخر دائمًا في الزواج، وإن تزوجت فبرجل أقل مما كان يُنتظر لمثلها، وهو عقاب طبيعي للمتبرجات، لأن الرجل مهما أعجبه شكل الخليعة وكلامها، فهو لا يود أن يقتنيها لنفسه اعتقادًا أن ما أعجبه منها ظاهر لغيره أيضاً، ولو فطنت الفتيات إلى أن أول شرط يشترطه الرجل في امرأته خاصة هو الحشمة والترفع عن البهرجة، لما تأخرن لحظة عن الإقلاع عما زعمنه يقربهن في أعين الراغبين في الزواج، وهو في الحقيقة يبعدهن وينفر الرجال منهن، لست بذلك أدعو النساء إلى التقشف أو البعد عن الزينة فليس لي أن أحرم ما حلل الله، ولأن في الزينة للمرأة بعض السعادة ولزوجها كذلك ولكن غرضي الاعتدال في الزينة إلى عدم الخروج عن المعروف.
وإلى جانب ملك، رُزِق حفني ناصف بستة أولاد، جلال الدين، ثم مجد الدين الذي سار على خطة والده في الأدب وصار أستاذاً في جامعة القاهرة، وجمع شعر والده في مجلد، وتوفى سنة 1395=1975، ثم حنيفة، ثم عصام الدين الذي درس علوم الطبيعة وله مقالات في العلوم والأحياء، وله قصة تتناول العلاقة بين الفلاح المصري وصاحب الأرض، اسمها عاصفة فوق مصر، ثم الطبيب صلاح الدين، ثم الطبيبة الجراحة كوكب المولودة سنة 1905 والمتوفاة سنة 1999.
نختم، وقد أطلنا، بحادثة وقعت لحفني ناصف مع الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، المولود سنة 1298=1881 والمتوفى سنة 1356=1937، ورواها الأديب الكبير محمد سعيد العُريان، وهي تدل على خلق حر ترفع عن السفاسف واستقام على العدل والإنصاف، وتشجيع المواهب والفضلاء، ولنلاحظ أن الرافعي كان في سن أولاد حفني ناصف، قال الأستاذ العريان ما مختصره:
نشر الرافعي مقالة سنة1322=1905، صنف فيها شعراء العصر إلى طبقات، فجعل الطبقة الأولى منهم على الترتيب: الكاظمي، والبارودي، وحافظ، والرافعي، والطبقة الثانية على الترتيب: صبري، وشوقي، ومطران، وغيرهم من الشعراء وجعل آخرهم وذيلهم حفني ناصف!
وكان الرافعي يعمل في محكمة طنطا ولا يلتزم بساعات العمل الرسمي، بل ينهي ما يوكل إليه من أعمال على خير وجه ثم يترك العمل، وعرف ذلك منه رؤساؤه وقبلوه، وجاء المحكمة رئيس جديد فاشتكى عليه إلى وزارة الحقانية، يبلغها أن في محكمة طنطا كاتباً أطرش، لا يحسن التفاهم مع أصحاب المصالح على شدة اتصال عمله بمصالح الجمهور، وهو مع ذلك كثير التهاون بنظام المحكمة ومواعيد العمل ولا يخضع للرأي، وطلب الرئيس في آخر كتابه إقالة الرافعي من الخدمة.
وأرسلت وزارة الحقانية مفتشها لتحقيق هذه الشكوى، وكان المفتش هو حفني ناصف، ولم تكن بين الرافعي وحفني ناصف صلة ما إلى هذا الوقت إلا تلك الكلمة القاسية التي كتبها الرافعي بأسلوبه اللاذع عن شعراء العصر، وجعل فيها حفني ناصف ذيّل الشعراء.
وجاء حفني ناصف إلى الرافعي فحيا وجلس، وبسط أوراقه ليحقق، وقال الرافعي: قل لهم في الوزارة: إن كانت وظيفتي هنا للعمل، فليؤاخذوني بالتقصير والخطأ فيما يُسند إليّ من عمل؛ وإن كانت الوظيفة: تعال في الساعة الثامنة، واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل، فلا عليّ إن تمردت على هذا التعبد! قل لهم في الوزارة: إنكم لا تملكون من الرافعي إلا هذين الإصبعين ساعات من النهار!
واستمع الأديب الشاعر إلى حجة الأديب الشاعر، ثم طوى أوراقه، وحيا صاحبه ومضى، فلما كان في خلوته، كتب تقريره إلى وزارة الحقانية يقول: إن الرافعي ليس من طبقة الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود، إن للرافعي حقاً على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية، إن فيه قناعة ورضى، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه، فدعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، واتركوه يعمل ويفتنّ ويبدع لهذه الأمة في آدابها ما يشاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش الرخيّ في غير هذا المكان!
وبلغ التقرير وزارة الحقانية، وانطوت القضية، وصار تقليداً من تقاليد المحكمة من بعد أن يغدو الرافعي ويروح لا سلطان لأحد عليه، وله الخيرة في أمره؛ ولكنه مع ذلك لم يهمل في واجبه قط، ولم ينس يوماً واحداً أنه في موضعه ذاك بحيث يرتبط به كثير من مصالح الجمهور.
وثم تولى حفني القضاء في محكمة طنطا فتقاربا وتوثقت بينهما أواصر الود؛ وكانت طنطا في ذلك الوقت حلبة من حلبات الشعر والأدب؛ فلا يمضي أسبوع حتى يقدم إليها أديب أو شاعر لزيارة الشاعرين: حفني والرافعي، فيقوم للشعر سوق ومهرجان.
ثم يروي الأستاذ العريان عن الأستاذ الأديب جورج إبراهيم، صديق الرافعي وصفيُّه منذ حداثته، قال: لقد كانت الصلة بين الرافعي وحفني أكثر مما يكون بين الأصدقاء، وكانا يتزاوران ويجتمعان كثيراً، وكنت أغشى مجلسهما أحياناً، فكنت أرى حفني يتواضع للرافعي ويتصاغر في مجلسه، على مقدار ما يتشامخ الرافعي ويتكبر ويدعي الأستاذية، حتى ليرى له الرأي في القضايا التي لم يدرسها حفني بعد، فلا يحكم فيها إلا بما حكم الرافعي!
رحمة الله على تلك الأنفاس.
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer