الجمعة، 14 مارس 2014

حدث في العاشر من جمادى الأولى

 في العاشر من جمادى الأولى من سنة 791، أعاد الملك الظاهر برقوق الخطبة بالقاهرة للخليفة العباسي المتوكل على الله، بعد أن بقي قرابة ست سنوات معزولاً محجوراً، والمتوكل على الله هو أبو عبد الله، محمد، ابن أبي بكر المعتضد بالله، ابن سليمان المستكفي، ابن أحمد العباسي، من خلفاء الدولة العباسية الثانية بمصر، وأحد أطول خلفائها مدة، دام في الخلافة 45 سنة.

وكان الملك الظاهر برقوق، المولود سنة 738، قد انتزع السلطنة من الملك الصالح سنة 784، وتسمى بالملك الظاهر، وكان أول من بايعه الخليفة المتوكل على الله، ولكنه ما لبث فيما يبدو أن طمح إلى السلطنة، فتآمر لقتل الظاهر برقوق مما أدى إلى عزله في منتصف سنة 785.
فقد وشى أحد الأمراء للسلطان برقوق أن الخليفة قد أشركه في مؤامرة يدبرها مع عدة أمراء لقتل الملك الظاهر وتولية نفسه، وقال إن الخليفة طلبه وقال له: هؤلاء ظَلَمة، وقد استولوا على هذا الملك بغير رضائي، وإني لم أقلد برقوقاً السلطنة إلا غصباً، وقد أخذ أموال الناس بالباطل، ودعاه للقيام لله تعالى ونصرة الحق. وكانت المؤامرة تقضي أن ينقض المتآمرون على السلطان ويقتلوه عند نزوله من القلعة إلى الميدان للعب بالكرة.
وجمع الملك المتآمرين وحقق معهم، فأقر بعضهم بما نمى إليه، ونفى الخليفة كل ما قيل، فأمر الظاهر برقوق بسجنه في برج الحية بقلعة الجبل، وعين محله ابن عمه عمر بن إبراهيم بن الحاكم بأمر الله العباسي، الذي لُقِب بالواثق بالله، ثم مات الواثق سنة 788 فعين محله أخاه زكريا ولقب المستعصم بالله، واستمر في الخلافة وبقي المتوكل محبوساً جتى أفرج عنه برقوق في 2 جمادى الأولى من سنة 791.
وكان من شعراء ذلك الوقت شهاب الدين ابن العطار، أحمد بن محمد بن علي الدنيسري، المولود سنة 746 والمتوفى سنة 794،  وكان شاعراً مكثراً ينظم في ما يجري من أحداث معبراً عن الرأي العام، فلما سُجِنَ الخليفة، واستهجن ذلك الناس وتعاطفوا مع المتوكل على الله، قال شهاب الدين ابن العطار:
أبشر أمير المؤمنين فما جرى ... أقوى دليل أن عزك سرمد
لا تختشي فيد العدا مغلولة ... ويد الخلافة لا تطاولها يد
وما كان الخليفة المتوكل ليخرج من سجن برقوق، لولا حركة تمرد بدأ بها الأمير يلبُغا الناصري في حلب، وكان من جملة مآخذها على السلطان برقوق أنه خلع الخليفة الشرعي وسجنه، وضيّق برقوق في البداية على الخليفة السجين ومنع عنه الناس، ولكن لما انضمت دمشق إلى التمرد، بدا لبرقوق أن يستل أحد عناصر النقمة عليه، فاستدعى في منتصف ربيع الأول من سنة 791 شيخَ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني إلى مسجد داخل القلعة، واستدعى الخليفةَ المتوكل على الله من محبسه، فقام إليه وتلقاه، وأخذ في ملاطفته والاعتذار إليه، وتحالفا، ومضى الخليفة إلى موضعه، فبعث إليه السلطان عشرة آلاف درهم، وعدة بُقج فيها صوف وثياب سكندرية وفرو، قيمتها نحو ألف دينار، فبعث الخليفة بجزء وافر من ذلك إلى شيخ الإسلام، وإلى والي القلعة.
ولما قوي تمرد يلبغا أفرج برقوق عن الخليفة المتوكل، في الثاني من جمادى الأولى، وأرسل إليه أميرين من الأمراء الكبار، فأحضراه إلى السلطان فقام إليه وتلقاه وأجلسه، وأشار إلى القضاة فحلَّفوا كلا منهما للآخر، فحلفا على الموالاة والمناصحة، وخلع السلطان على الخليفة، وأركبه فرساً شهباء بسرج وكنبوش وسلسلة ذهب، فركب ونزل من القلعة إلى داره، وركب معه الأمراء والقضاة، ونشرت على رأسه الأعلام السود، في موكب جليل إلى الغاية، وفرح الناس به فرحاً عظيماً، ولم يبق أحد حتى خرج لرؤيته فكان يوماً مشهوداً، وأُعيدت إقطاعاته ورواتبه، وأُخلي له بيت بالقلعة ليسكنه، فنقل إليه حرمه، وسكنه، وصار يركب وينزل لداره، ويسير حيث شاء، من غير ترسيم، إلا أنه لا يبيت إلا بمنزله من القلعة.
ولم تكن هذه أول مرة يخلع فيها السلطانُ الخليفة، فقد خلع معز الدولة البويهي الخليفة المستكفي في بغداد سنة 334، بل لم تكن أول مرة يُخلع فيها المتوكل على الله، فقد خُلع لفترة وجيزة في سنة 779! ولذلك قصة:
وكان الخليفة المتوكل على الله، المولود في القاهرة بعد سنة 740، قد بويع بالخلافة في سنة 763بعد وفاة أبيه بعهد منه، وسارت الأمور بهدوء حتى أراد الأمير الكبير أينبك أن يخلع الملك المنصور علي بن الأشرف، وأن يجعل في السلطنة الأمير أحمد بن الأمير يلبغا العمري، فرفض ذلك المتوكل على الله وتعلل بأنه ابن أمير وليس من بيت الملك، وأبى ذلك تماماً، فسبه الأمير أينبك، وقال له: ما أنت شاطر إلا في اللعب بالحمَام، والاشتغال بالجواري المغنيات، والضرب بالعود. ونهره، وأمر به فأخرج منفياً إلى قوص، فنزل خارج القاهرة ريثما يتجهز للسفر، وفي اليوم التالي ومن الغد طلب أينبك ابن عم الخليفة المتوكل نجمَ الدين زكريا بن إبراهيم ابن الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وخلع عليه، واستقر به في الخلافة عوضاً عن المتوكل على الله، ولقبه بالمعتصم بالله، من غير مبايعة، ولا خلع المتوكل من الخلافة نفسه، وبات الناس في قلق، وعلى تخوف من اختلاف الأمراء وتقاتلهم، واستمرت الأزمة 20 يوماً، وأعيد بعدها المتوكل للخلافة.
وهنا يجدر أن نذكر شيئاً عن الملك المنصور علي ووالده الملك الأشرف شعبان، فقد تولى الملك الأشرف شعبان الحكم سنة 764 وعمره 10 سنوات، ولما اتفق الأمراء على سلطنته أحضروا الخليفة المتوكل على الله والقضاة الأربعة فبايعوه، وفي آخر سنة 778 كان الملك الأشرف في العقبة عندما تمرد عليه بعض أمرائه وكسروه فهرب للقاهرة، وجاء الأمراء المتمردون إلى الخليفة المتوكل على الله، وكان أيضاً في صحبة السلطان الملك الأشرف وقالوا له: يا أمير المؤمنين تسلطن ونحن بين يديك. فامتنع الخليفة من ذلك، وقال: بل اختاروا من شئتم وأنا أولِّيه.
ومن غرائب الصدف أن يقع تمرد في القاهرة في نفس الوقت، وأشاع المتمردون أن السلطان الأشرف قد قتل في العقبة، ونادوا بتنصيب ابنه وولي عهده الطفل علي، وعمره حوالي 7 سنوات، وأرادوا بذلك استمالة الناس إليهم، فقد كان الملك الأشرف محبوباً لعدله وحسن إدارته وفطنته، ولما وصلت أيديهم إلى الملك الهارب قتلوه، وما عاد أمامهم مناص من تنصيب ابنه، فاستدعوا الخليفة المتوكل على الله والقضاة وجددوا البيعة للملك الطفل، على أن يكون الأمير أيبنك البدري هو الوصي عليه والمدبر لأمور المملكة، فما كان منه بعد بضعة شهور إلا أن أراد خلع الملك المنصور وتولية غيره فعارضه الخليفة المتوكل على الله، فخلعه وعين ابن عمه كما رأينا.
ثم دارت الدائرة على الأمير أينبك وقتله الأمراء بعد أيام، وما لبث الملك المنصور أن توفي بالجدري سنة 783، فاتفق الأمراء على تعيين أخيه الكبير واسمه أمير حاج أو حاجي ولقبوه بالملك الصالح، وكان عمره حوالي 9 سنوات، على أن يكون الأتابك برقوق أتابك العساكر ومدبر الممالك لصغر سن السلطان، فبايعه الخليفة، وحلف له الأمراء وباسوا يده، وخلع على الخليفة المتوكل على الله خلعة جميلة، وجرت قراءة مرسوم الخليفة بتعيين الملك في حضور الخليفة والقضاة والأمراء والعساكر، وعند فراغ القراءة أخذ كاتب السر التقليد وقدمه للخليفة، فعلَّم عليه بخطه.
وكان من المحتم أن يقوم برقوق بتقوية مركزه واستمالة الأنصار ثم أن يخلع الملك، وهكذا تسلطن برقوق في رمضان سنة 784، وجرت بيعته في اجتماع ضم الخليفة المتوكل على الله والقضاة وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، وخطب المتوكل على الله خطبة بليغة، ثم بايعه على السلطنة وقلده أمور المملكة، ثم بايعه من بعده القضاة والأمراء.
وفي سنة 785 جرى ما ذكرناه حول المؤامرة التي بلغت الظاهر برقوق، فأمر بسجن المتوكل، حتى أفرج عنه في سنة 791 بعد أن اشتد أزر التمرد الذي قاده الأمير يلبغا الناصري في بلاد الشام.
ونعود للتمرد الذي امتد حتى دق أبواب القاهرة بعد أسبوع، وشارك الخليفة المفرج عنه حديثاً في ترتيبات السلطان للدفاع عن القاهرة ورفع معنويات سكانها، فقد خرج في 6 جمادى الأولى على فرس مع الأمير سودون الشيخوني نائب السلطة، وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، فكان الموكب للخليفة وبجانبه شيخ الإسلام وبين يديه النائب والحجاب والقضاة والأعيان، وداروا، ورجلٌ على فرس أمامهم يقرأ من ورقة، أن السلطان قد أزال المظالم، وهو يأمر الناس بتقوى الله، ولزوم الطاعة، وأنا قد سألنا العدو الباغي في الصلح، فأبى وقد قوي أمره، فاحفظوا دوركم وأمتعتكم، وأقيموا الدروب على الحارات والسكك، وقاتلوا عن أنفسكم وحريمكم. فتزايد خوف الناس وقلقهم، وشرعوا في عمل الدروب وشراء الأقوات، والاستعداد للقتال والحصار، وكثر كلام العامة وانتقاصهم للدولة، وتجمع الزعر والدُعَّار ينتظرون قيام الفتنة، لينتهبوا الناس.
وانضم إلى تمرد يلبغا الناصري كثير من الأمراء أرسالاً، وعلى رأسهم الأمير تمر بغا الأفضلي المعروف بمنطاش، وحشد السلطان برقوق قواته ومعه الخليفة المتوكل، واشتبك مع جيش يلبغا الناصري ثم انهزم أمامه واختفى، ثم أُخِذَ وأرسل منفياً إلى الكرك في 22 جمادى الآخرة وبقي فيها معززاً مكرماً.
ولما اختفى الملك الظاهر برقوق سار الأمير منطاش في اليوم التالي إلى القلعة، وأخذ الخليفة المتوكل وعاد به إلى الأمير يلبغا الناصري، فقام إليه وتلقاه، وأجلسه بجانبه، وقال له أمام الأمراء: يا مولانا أمير المؤمنين ما ضربت بسيفي هذا إلا في نصرتك! وبالغ في تعظيمه وتبجيله، وحضر القضاة والأعيان، ثم قام الخليفة إلى خيمة أعدت له، والقضاة إلى خيمة أخرى، واجتمع الأمراء للتشاور في أمر من يتسلطن، واستقر الحال على إعادة الملك الصالح في الملك، فأُجلس على تخت الملك، وغيَّر لقبه إلى الملك المنصور.
ولم تمض شهور حتى وقع الخلاف بين بين الأمير يلبغا الناصري وبين الأمير منطاش، فأرسل يلبغا الخليفةَ المتوكل على الله إلى منطاش يسأله في الصلح وإخماد الفتنة، فذهب الخليفة إليه وكلمه في ذلك، فأبى وقال: والله ما أرجع عنه حتى أقتله أو يقتلني! فعندئذ هجم عليه يلبغا بجنوده وجرت بينهما وقعة انجلت عن انكسار يلبغا، فقبض عليه منطاش وحبسه بالإسكندرية مع عدة من أصحابه من أعيان الأمراء، وأرسل منطاش إلى الكرك رسولاً يأمر بقتل الظاهر برقوق ليصفو له الجو.
ولكن أمير الكرك رفض تنفيذ الأمر وأخرج السلطان برقوق من السجن، واجتمع حوله عدد من مماليكه من الأمراء كان منطاش ويلبغا قد نفوهم إلى الشام، وتتابع المنضمون إلى برقوق فاتجه إلى دمشق وناوشها، وخرج منطاش بالسلطان الملك المنصور حاجي والعساكر المصرية لقتال الملك الظاهر برقوق، ومعه الخليفة المتوكل والقضاة، ، والتقوا في أول سنة 792 في شقحب جنوبي دمشق، وكانت الكسرة على الملك الظاهر برقوق، وهرب الأمير كمشبغا الحموي نائب حلب، فتبعه منطاش هو يظن أنه برقوق، واستمر كمشبغا متوجهاً إلى حلب، وهو لا يعلم ما وقع من بعده.
وبقي مع الملك الظاهر نحو 200 مملوك، انحاز بهم إلى تلة، فرأى منها الملك المنصور والخليفة المتوكل والقضاة، فاتجه إليهم واحتوى عليهم وعلى أثقالهم من غير أن يقاتله أحد، ثم تراجع إليه بعض أمرائه وعسكره وجماعة من أمراء الجيش القادم من مصر لمقاتلته، فعادت القوة إلى معسكره، ورجحت كفته.
وتنازل الملك المنصور لبرقوق عن المملكة، وقام الخليفة المتوكل بمبايعته ثم بايعه القضاة والأمراء، ولما رجع منطاش ليقضي على برقوق، كانت الكسرة على منطاش فعاد وتحصن بدمشق، فأراد الملك الظاهر أن يتبعه، فمنعه من ذلك أعيان دولته وقالوا له: أنت سلطان مصر أم سلطان الشام؟ امض إلى مصر واجلس على تخت الملك، فتصير الشام وغيرها في قبضتك! فصوب الملك الظاهر هذا الرأي، وسار من وقته بمن معه من الملك المنصور والخليفة والقضاة إلى جهة الديار المصرية، ودخل القاهرة في صفر 792، واستقبل الناس موكبه بالفرح والسرور، وكانت العادة أن تعطى الزينات لمماليك دار السلطان فأمرهم بتركها للعامة الذين نثر عليهم الذهب والفضة.
ولما وصل برقوق اصطبل القلعة استَدعى الخليفةَ المتوكلَ على الله وشيخ الإسلام وقضاة القضاة وأهل الدولة، فجددوا له في الاصطبل عقد السلطنة والتفويض من الخليفة، فشهد بذلك القضاة على الخليفة ثانياً، وأفيضت التشاريف الخليفتية على السلطان، ثم أفيضت التشاريف السلطانية على الخليفة، وركب السلطان من الإصطبل، وصعد القلعة، وتسلم قصوره، وجلس برقوق على تخت الملك سلطاناً من جديد، وأرسل برقوق بالإفراج عن الأمير يلبغا الناصري وغيره من الأمراء من سجن الإسكندرية، وجرد جيشاً لقتال منطاش والقضاء عليه وجعل على رأسه الأمير يلبغا الناصري.
ولم يتعرض السلطان برقوق بعدها للخليفة بسوء، بل أمضى بقية أيامه معززاً مكرما، ولكن على هامش الأحداث، قال المقريزي في السلوك في أحداث سنة 801: أهلَّ هذا القرنُ التاسع وخليفة الوقت أمير المؤمنين المتوكل على الله، وليس له أمر ولا نهي ولا نفوذ كلمة، وإنما هو بمنزلة واحد من الأعيان، وسلطان الديار المصرية، والبلاد الشامية، والحرمين الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد برقوق بن أنص أول ملوك الجركس.
وفي شوال من سنة 801 توفي السلطان برقوق بعد مرض دام 10 أيام، ولما شعر السطان بقرب منيته، استدعى الخليفةَ المتوكل والقضاة وسائر الأمراء، فحدثهم في العهد لأولاده. فابتدأ الخليفة بالحلف للأمير فرج ابن السلطان أنه هو السلطان بعد وفاة أبيه، ثم حلف بعده القضاة والأمراء، فلما تم الحلف لفرج، حلفوا أن يكون القائم بعد فرج أخوه عبد العزيز، وبعد عبد العزيز أخوهما إبراهيم، وأسند برقوق إلى عدد من الأمراء مناصب يتولونها في دولة ابنه القادمة، ووجعل الخليفة المتوكل ناظراً على الجميع.
ومات برقوق تاركاً وراءه من الذهب ألف ألف دينار وأربعمئة ألف دينار، ومن الغلال والنقود والأعسال والسكر والثياب وأنواع الفرو ما قيمته ألف ألف وأربعمئة ألف دينار. ومن الجمال نحو خمسة آلاف جمل، ومن الخيل نحو سبعة آلاف فرس، وبلغت رواتب مماليكه في كل شهر نحو تسعمئة ألف درهم فضة، وبلغت عدة مماليكه خمسة آلاف مملوك.
وتمت البيعة للملك فرج الذي لُقِب بالملك الناصر، واجتمع كبار الأمراء وسائر أمراء الدولة، واستدعوا الخليفة وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام البلقيني، فلما اكتمل الجمع، أحضروا فرج بن السلطان الملك الظاهر برقوق، وخطب الخليفة، وبايعه بالسلطنة، وقلده أمور المسلمين، وأحضرت خلعة سوداء فأفيضت على فرج، وركب بشعار السلطنة، ولبس الخليفة تشريفاً جليلاً.
وكان من المحتم أن يقع النزاع بين الأمراء للاستئثار بالنفوذ في وجود ملك عمره 10 سنين، ولذا استقل أمير دمشق بها فيما يشبه العصيان، وبدأت سلسلة طويلة من النزاعات بين الأمراء المحيطين بالسلطان، ويدعون الخاصكية، وبقية الأمراء الكبار، وهي نزاعات قتل فيها أمراء وسجن آخرون، وكان للخليفة المتوكل دور جيد، ذو نتائج متواضعة، في محاولة تسكين هذه الفتن والإصلاح بين المتناحرين المتنافسين.
وفي ربيع الأول سنة 808 اختفى السلطان فرج فجأة بعد أن ملَّ من سيطرة الأمراء عليه وخاف على نفسه من المؤامرات التي لا تتوقف، فاجتمع كبار الأمراء ومعهم الخليفة المتوكل على الله والقضاة الأربعة، وتكلموا فيمن ينصبوه سلطاناً، حتى اتفقوا على سلطنة الأمير عبد العزيز بن الملك الظاهر برقوق، لأنه ولي عهد أخيه في السلطنة حسبما قرره والده الملك الظاهر برقوق قبل وفاته، فاستدعوه إليهم من الحريم، وهو فتى قد ناهز الحلم، فعهد إليه الخليفة أبو عبد الله محمد المتوكل على الله بالسلطنة، ولقبوه الملك المنصور عز الدين.
توفي الخليفة المتوكل على الله في رجب من سنة 808، وتولى الخلافة بعده ابنه المستعين بالله العباس، بعهد من أبيه سنة 808، وهو شاب دون العشرين، ثم جمع بين الخلافة والسلطنة في سنة 815، كحل وسط بين الأمراء بعد مقتل الملك الناصر فرج، على أن يكون الأمير شيخ المحمودى نائبه، ثم مالبث شيخ أن خلعه وتسلطن هو في سنة 816، وسجنه في الإسكندرية وتوفي بها سنة 833.
توفي المتوكل على الله عن ثروة عريضة ومال واسع، وهو أول من اتسعت أحواله من الخلفاء العباسيين في مصر، وخلف المتوكل على الله 10 أبناء و7 بنات، وتولى الخلافة بعده خمسة من أولاده، أولهم المستعين، ثم تلاه أخوه المعتضد بالله داود، المولود سنة 755، وبويع بالخلافة سنة 816، واستمر بها حتى وفاته سنة 845، فتلاه أخوه المستكفي بالله سليمان، المولود سنة 792، وبويع له بالخلافة سنة 845 واستمر بها حتى وفاته سنة 855، فتلاه أخوه القائم بأمر الله حمزة، المولود سنة 791، وبويع له بالخلافة سنة 855، واختلف مع الملك الأشرف إينال فخلع منها سنة 859 وسجن بالإسكندرية حتى توفى بها سنة 862، ثم يوسف المستنجد بالله، المولود سنة 798 والذي تولى الخلافة سنة 859 إلى وفاته سنة 884.
هذه صورة من صور الخلافة في قعر انحدارها اختياراً ومساراً، يعينه السلطان المتحكم، وهو لا حل له ولا عقد، لا يجاب ولا يسمع، ولا يفكر في رأي له فيتبع، ليس لهم من الخلافة إلا اسمها ولقبها، وقد يتبرك بالخليفة بعض سلاطين الأقاليم، ويرسلون إليهم أحياناً يطلبون تقليداً بالسلطنة، فيكتبون إليهم تقليداً ويعهدون إليهم بالسلطنة عهداً.
ولا يفوتنا أن نذكر حدثين وقعا في خلافة المتوكل وإن لم يكن له يدٌ فيها: تمييز الأشراف أو السادة من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن تكون لهم علامة خضراء في عمائمهم، أمر بذلك الملك الأشرف في سنة 773، وفي سنة 785 أمر محتسب القاهرة المؤذنين أن يقوموا عقب الأذان بالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم.


 
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer