الجمعة، 21 مارس 2014

حدث في السابع عشر من جمادى الأولى

 في السابع عشر من جمادى الأولى من سنة 979، الموافق 7 تشرين الأول/أكتوبر 1571، وقعت معركة ليبانتو البحرية بين الأسطول العثماني وأسطول العصبة المقدسة، المكونة من جمهورية البندقية ودولة البابا وملك إسبانيا وملك النمسا، وانجلت المعركة عن خسارة فادحة للأسطول العثماني، ورغم أن المعركة وقعت بسبب غزو العثمانيين لجزيرة قبرص، إلا أن الهزيمة لم تمنع استيلاءهم عليها أو توقف التوسع العثماني في البحر المتوسط، إلا أنها كسرت حاجز الوهم الأوربي أن العثماني لا يقهر، ورفعت من الروح المعنوية لدى شعوب أوروبا في حربها مع الإسلام والدولة العثمانية.
نشبت هذه المعركة في وسط حملة كبيرة قامت بها الدولة العثمانية يقودها السلطان سليم الثاني لإخراج البندقية من شرقي البحر المتوسط، وكانت جمهورية البندقية الصغيرة قد سيطرت على البحر الأدرياتيكي، وكان المسلمون والعثمانيون يدعونه بخليج البندقية، وكان لها وجود قوي شرقي البحر المتوسط قروناً طويلة لأغراض تجارية بحتة، وكانت سياستها تقوم على تغليب المصالح التجارية مع الدول، والبعد عن النزاعات العسكرية، والحفاظ على سفنها وتجارتها من القراصنة والضرائب الباهظة أو المعاملة السيئة في الموانئ لتجارها ومواطنيها، وكانت تسيطر على عدة موانئ في بحار الأدرياتكي وإيجة والمتوسط لترسو فيها سفنها وتتزود بالماء والمؤن إلى جانب التبادل التجاري المنتظم، وكانت سيطرتها على قبرص تدخل في هذا الإطار.
وكانت العلاقات بين البندقية وبين الدول الإسلامية في جنوبي وشرقي المتوسط علاقات قوية منظمة، مبنية على معاهدات دبلوماسية، وبخاصة في الحقبة المملوكية، حيث تورد كتب التاريخ لمحات خاطفة عن بعض السفارات بهذا الخصوص، وهيمنت هذه البلدة الصغيرة وسكانها المكافحين المغامرين على التجارة بين أوروبا وبين الشرق العربي ومن ورائه الهند والصين، وكان لها أسطول تجاري كبير وآخر عسكري لحمايته يصنعان في دار الصناعة بالبندقية، التي لا تزال تحمل الاسم العربي Darsena إلى يومنا هذا.
ونذكر استطراداً أن هذه الجمهورية التي كانت من أغنى بقاع الأرض بفضل تجارتها الواسعة، كانت جمهورية أرستقراطية، تستأثر فيها الطبقة الحاكمة بالحكم والسلطان، مع إنصاف وعدل فيما لا يمس سلطانها بسوء، قال المؤرخ الفيلسوف السويسري سيموند سسموندي في كتابه تاريخ الجمهوريات الإيطالية في القرون الوسطى: كانت البندقية فياضة الحزم والغيرة والطمع، جامدة في مبادئها، راسخة في سلطانها، تقترف باسم الحرية طرفا من أشنع مثالب الاستبداد، مشاكسة غادرة في السياسة، متسامحة مع الفرد، باذخة في الشؤون العامة، مقتصدة في الإدارة المالية، عادلة نزيهة في القضاء، قديرة في إزهار الفنون والزراعة والتجارة، محبوبة مطاعة من الشعب؛ يرتجف النبلاء الذين تمثلهم منها فرقا! ونضيف هنا أن البندقية، خلافاً لجمهورية جنوة الإيطالية أو البرتغال، كانت تضع المصالح التجارية قبل المصالح الدينية أو الاستعمارية، وإن كانت بين حين وآخر قد شاركت في الحملات الأوربية ذات الطابع النصراني، ولكنها شاركت مترددة وبالقدر الذي لا يهدد مصالحها مع الدول الأوربية ومع البابا بخاصة، ولذا كانت مشاركتها في الغالب ذات طابع مصلحي كتوفير السفن لنقل المقاتلين والمؤن.
وكانت قبرص واسطة العقد في ممتلكات البندقية، ضمتها إليها قبل قرابة 80 سنة، وكانت قبرص إلى ما قبل 150 سنة آخر قاعدة للصليبيين في المنطقة، ثم استولى عليها الجنويون مستقلين بها ولما هاجموا الإسكندرية في سنة 825 قام السلطان المملوكي بشن حملة عسكرية أخضعت الجزيرة التي صارت تدفع الجزية لخزاتة السلطان في القاهرة وأصبح ملكها يدين بالولاء للدولة المملوكية، وفي سنة 868 قام الملك جيمس الثاني بتسنم العرش بمساعدة قوة مصرية في سنة 868 وطرد الجنويين من فاماغوستا، وتزوج بنبيلة من البندقية تدعى كاترينا كورنارو، فلما توفي انتقل الملك إلى ابنه الذي ولد بعد وفاته، وكان من الطبيعي أن تستعين الملكة الأم بالبندقيين في إدارة البلاد وتقدم لهم التسهيلات، فازداد نفوذهم في البلاد إلى أن أقنعوها بالتخلي عن الجزيرة لجمهورية البندقية في سنة 894.
وكان القراصنة النصارى المسمون أوسكوكس Uskoks ينطلقون من البحر الأدرياتكي وينهبون سفن الحجاج والتجار المسلمين، ثم أصبحوا خطراً على المواصلات البحرية بين استانبول ومصر التي كانت أغنى ولايات الدولة العثمانية، ورغم أنهم كانوا يدينون بالولاء لإمبراطورية النمسة، إلا أن كونهم في منطقة نفوذ وهيمنة البندقية جعل العثمانيين يعتبرونها مسؤولة عن إيقافهم، وهدد العثمانيون البندقية أنهم سيرسلون قواتهم للقضاء على هؤلاء القراصنة، وكانت البندقية ترفض السماح للأسطول العثماني بدخول الأدرياتيكي وتعتبر ذلك اعتداءً على ممتلكاتها.
ولم يدرك البنادقة الخطر الكامن في استثارة الدولة العثمانية، وهي الدولة العظمى التي غضت النظر عن أن يكون لدولة صغيرة ونصرانية مثل البندقية موانئ استراتيجية في نحر وخاصرة الدولة العثمانية مثل جزر المورة أو البحر المتوسط، وبخاصة أنها كانت قد بدأت فعلاً في تفكيك بعض هذه الموانيء، وكانت أكبر هذه القواعد وأقربها للدولة العثمانية جزيرة قبرص، والتي كانت تشكل شوكة في صدر الإمبراطورية، إضافة إلى ما كانت الجزيرة تشتهر به من ثروات تعود بالضرائب على الخزينة العثمانية.
وجرت معركة ليبانتو في أيام السلطان سليم الثاني الذي تسنم سدة الحكم في سنة 974، بعد والده سليمان القانوني، ولم يكن مؤهلاً ليملأ الفراغ الذي تركه والده من متطلبات العرش وسياسة البلاد، فقد كان ميالاً للذات والنعيم، وما كان ليفلح في إدارة البلاد لولا أن أنعم الله عليه بوجود الصدر الأعظم محمد باشا صقللي، المولود في صُقُل بالبوسنة سنة 910 والمتوفى غيلة سنة 978، وكان صقللي رجل دولة من الطراز الأول، واسع النظر، بعيد الغور، له خبرة بالحرب البحرية حيث كان من قبل قائد الأسطول العثماني، وحاكم مقاطعة الروم، وتزوج بابنة السلطان سليم، وقام صقللي بعقد معاهدات مع النمسا وفرنسا وبولندا وإيران الصفوية حفظت للدولة العثمانية مهابتها ومكانتها بين الدول، وضمنت لها وقوف هذه الدول إلى جانبها أو على الحياد فيما قد يتم من حروب أو نزاعات.
وفي سنة 978=1570 أرسل محمد باشا صقللي الأسطول العثماني شمالاً إلى بحر اليونان والبحر الأدرياتيكي، واستولى على بعض موانئهما، وحاصر ما استعصى عليه منها، وشكل حملة مكونة من 100000 حندي لفتح جزيرة قبرص، فاستولت على ليماسول ثم نيقوسية، ثم حاصرت فاماجوستا وفتحتها بعد قرابة سنة، وأصبحت الجزيرة عملياً في قبضة العثمانيين، وكان العثمانيون متسامحين جداً في اتفاق الاستسلام الذي عقدوه مع حامية فماجوستا، ولكن قام بعض البنادقة بقتل حجاج مسلمين كانوا محتجزين في ثكنة فاماجوستا، فكان رد الفعل العثماني قاسياً جداً، فقد قطعوا رؤوس 5 من قادة البنادقة ثم أتوا بالحاكم العام مارك أنطونيو براجادين الذي أمر بقتل المسلمين فسلخوه حياً ثم حشوا جلده تبناً وساروا به في موانئ الأناضول.
والبنادقة قوم تجار عمليون، أدركوا ألا قِبَل لهم بالقوة العثمانية، وكانوا قد بدأوا اتصالاتهم مع القوى الأوربية التي يمكن أن ينضووا تحت لوائها ويتحالفوا معها لهزيمة العثمانيين، فانضم إليهم البابا بيوس الخامس الذي جمع آنذاك بين السلطة الدينية والقوة الدنيوية فقد كانت له دولة ذات سطوة وعساكر، وانضم إليهم الملك فيليب الثاني ملك أسبانيا، وانضمت إليهم من إيطاليا جمهورية جنوة ودوقيات توسكانية وسافوية وأوربينو وبارما، وفرسان القديس يوحنا من مالطة. وتركت العصبة الباب مفتوحاً لتنضم إليها ألمانية أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة وفرنسة والبرتغال، ولكن ألمانية فضلت أن لا تخرق الهدنة مع استانبول، وكانت فرنسة في حلف مع العثمانيين ضد أسبانيا، ولم يكن لدى البرتغال أية قوات تقدمها فقد كانت مشغولة بحروبها في المغرب في البر ومع العثمانيين في البحر الأحمر وبحر الهند.
كان التحالف في بدايته ضعيفاً، ولوّح البنادقة في البداية بخطر اندفاع العثمانيين واستيلائهم على إيطالية، ولكن ذلك بدا احتمالا جد بعيد، فلم يكن له الوقع الذي أرادوه، فلما وقعت حادثة السلخ والتمثيل، استغلوها وركزوا عليها دون أسبابها في إثارة الرأي العام وتوحيد العصبة حول هدف واحد محدد وهو محاربة الكفار المسلمين دون توقف أو هوادة حتى النصر!
وقررت العصبة المقدسة أن تحشد في مسينا في صقلية أسطولاً لمواجهة العثمانيين في البحر، واكتمل هذا الحشد في أول ربيع الثاني من عام 979، أي بعد قرابة سنة من سقوط نيقوسية بيد العثمانيين، وكانت فاماجوستا على وشك السقوط، فاتجه الأسطول إلى أقرب مواجهة ممكنة للعثمانيين الذين أرسى أسطولهم في خليج باترا قرب ليبانتو، وهي اليوم نافابكتوس Nafpaktos، فكانت هذه المعركة.
وضم أسطول العصبة المقدسة 62100 جندي وبحار، وتكون من حوالي 219 سفينة حربية تدعمها 100 سفينة أخرى، وتكونت السفن الحربية التي كانت تتحرك بالمجاديف من 140 سفينة بندقية، و70 سفينة أسبانية، 12 سفينة تابعة للبابا و9 سفن من رهبان مالطة، وضم كذلك 6 سفن حربية ضخمة تتحرك بالمجاديف والأشرعة، ملئ سطحها بالمدافع الضخمة كذلك،  ورغم ضخامتها التي تجعل مناورتها صعبة بطيئة إلا أن مدافعها كان لها دور حاسم في المعركة.
وعهدت العصبة المقدسة بقيادة أسطولها للأمير دون خوان النمساوي، الأخ غير الشقيق للملك الأسباني، والابن غير الشرعي للأمبراطور شارل الخامس ملك أسبانيا وأرشيدوق النمسا، وكان عمره آنذاك 23 سنة، واستطاع بحماسته وشخصيته واسمه الملكي تشكيل أسطول كفؤ من السفن التي تحت يده رغم تباينها وتناحر قادتها المتناحرين من الأمراء والنبلاء الأسبان والإيطاليين.
وكان الأسطول العثماني يتكون من حوالي 205 سفينة حربية وما بين 35 إلى 68 سفينة حربية أصغر،  وضم 57700 جندي وبحار، وكان يقوده مؤذن زاده علي باشا صهر السلطان ووالي مصر السابق، والمعروف بتدينه وتصوفه، ومحمد سولاق والي الإسكندرية السابق، وعلوج علي حاكم الجزائر، وهو الوحيد المتمرس بحرب البحار، فقد كانت أغلب خبرة القائدين الأولين في الحروب البرية، وهناك بعض الروايات التي تتحدث عن اختلاف في أراء القادة الثلاثة حول خطة القتال، وتعزوه لتباين الخبرة، ويبني عليها بعض المؤرخين رأيه أن لذلك دوراً كبيراً في الخسارة التي تعرض لها الجانب العثماني، وتذكر هذه الرواية أن علوج علي كان مدركاً أن أسطوله هو الأضعف وأن بحارته كانوا منهكين، ولذا فقد أشار باتحاذ موقف دفاعي في خليح ليبانتو، ولكن علي باشا، وهو قائد الأسطول، قرر أن يكون هو البادئ بالهجوم.
وقد تبدو هذه الأرقام متقاربة، ولكن الطرف العثماني كان الأضعف، فقد كان لديه 741 مدفعاً وكان لدى العصبة المقدسة 1344 مدفعاً، وكذلك تشير الروايات العثمانية إلى نقص في عدد الجنود لديهم بسبب قتلاهم وجرحاهم في المعارك التي سبقت، كما أن كثيراً من طواقم السفن المحلية المرابطة في اليونان كان قد عاد إلى بلاده في إجازة الشتاء المعتادة.
تقدم أسطول العصبة في أربعة تشكيلات واشتبك مع الأسطول العثماني في قتال كلاسيكي يتكون من ميمنة وميسرة وقلب ومؤخرة، وفي البداية استطاع محمد سولاق أن يلتف حول ميسرة أسطول البندقية، وأغرق منها عدة سفن وأصيب قائدها أجستينو بارباريجو إصابة مميتة، ولكن سفناً أخرى أفلتت وانضمت إليها سفن هرعت من المؤخرة واستطاعت القضاء على الميمنة العثمانية في فترة وجيزة، وقضي فيها محمد سولاق شهيداً، أما القلب فجرت معركة عنيفة فيه قادها على باشا من على سفينته سلطانة، وكانت خطته نقضي بأن يواجه التفوق الناري للعدو من خلال الصمود حتى تلتف المؤخرة العثمانية بقيادة علوج علي حول طرفي الأسطول المسيحي وتدمره، وتقدم علي باشا رغم القنابل التي لم تتوقف حتى اصطدم بسفينة القيادة الأسبانية ريال وصعد رجاله عليها، ولكن لم يكن لديه العدد الكافي للاستمرار فانكسر واستشهد في القتال، واستولى الأسبان على سفينته وانهار قلب الأسطول العثماني، وأغرقت أو أخذت كل سفنه، وقتل الأسبان على الفور كل من وقع تحت يديهم من رجاله.
ووقعت معركة أخرى بين سفن علوج علي وبين سفن جان أندريا دوريا، ابن أخي الأدميرال الإيطالي الشهير، واستطاع علي في البداية أن يهاجم سفن درويا في الوسط والميمنة، وأن يعطب أو يغرق 15 سفينة وأن يفكك ميسرته، وأن يستولي على سفينة القيادة المالطية ويأخذ رايتها، وأراد علوج بعدها أن ينجد القلب وعلي باشا، ولكن كان أولئك قد طوتهم الكسرة، وأرسل القائد الأسباني ما لديه من سفن لضرب سفن علوج علي، الذي رأى استحالة تغيير الموقف فقرر الانسحاب، وخرج إلى البحر المفتوح مع 30 سفينة، وانجلت المعركة بعد 4 ساعات من القتال بانتصار ساحق للعصبة المقدسة حيث أغرقت 94 سفينة وغنمت 117 سفينة وخسر العثمانيون 30000 قتيل، فيما خسر أعداؤهم 8000 قتيل.
وللأهمية نذكر هنا عجالة سريعة عن ريّس علوج علي، كما تعرّفه المصادر التركية، فهو إيطالي الأصل اسمه جيوفاني جاليني، ولد سنة 925=1519 في قرية في كالابريا في جنوب إيطالية، وأخذ أسيراً وهو في الرابعة والعشرين، واعتنق الإسلام، وأصبح بفضل مقدرته البحرية أحد قادة أسطول ريس درغوث، وترقى حتى أصبح والياً على جزيرة ساموس في بحر إيجة، ثم والياً على الإسكندرية،  ثم طرابلس الغرب، ثم نائب السلطنة في الجزائر، وشارك في معركة ليبانتو وانسحب منها بسفنه وضم إليه السفن الناجية الأخرى، فوصل إلى استانبول ومعه 87 سفينة، وقدم للسلطان الراية المالطية، وأنعم عليه السلطان بلقب كيليج أي السيف، وعينه قائداً للأسطول، وكانت له صولات وجولات حتى أدركته المنية في استانبول سنة 995= 1587ودفن في جامعه الذي يحمل اسمه وبناه المعمار الشهير سنان باشا. والطريف أن كاستِلّا، القرية الإيطالية التي ولد فيها، قد وضعت له تمثالاً في إحدى ساحاتها كأحد أبنائها البارزين.
أثار انتصار العصبة المقدسة في ليبانتو حماسة قائدها الأمير دون خوان لشن مزيد من الهجمات على العثمانيين، ولكن أخاه الملك فيليب كان عاقلاً فكبح جماحه المرة تلو الأخرى، وسمح له بغزو تونس في سنة 980 ولكن العثمانيين استردوها في السنة القادمة، ثم جعله أخوه حاكماً على هولندة التي كانت خاضعة للتاج الأسباني، وبقي يتطلع إلى انتصارات تنتظره، فحلم بغزو بريطانية، وواجهته مصاعب ومتاعب أراحه منها موته سنة 986=1578، ودفن في مدافن النبلاء في الأسكوريال قرب مدريد.
وكان السبب في تعقل الملك فيليب أنه في أيام والده شارل الخامس قبل قرابة 30 سنة، لقي الأسطول الأسباني البندقي بقيادة الأدميرال الجنوي أندريا دوريا هزيمة ساحقة في بريفزيا باليونان أمام الأسطول العثماني الذي قاده خير الدين بارباروسا، ومهد بذلك للهيمنة العثمانية على شرق المتوسط.
ولكن المعركة منحت الأسبان عن جدارة الشرف الذي تطلعوا إليه، وهو أن يكونوا المُدافع الأول عن الكاثوليكية في أوروبة، وهو شرف اعتزوا به وأيدوا من أجله سياسات الملك الدينية والإستعمارية في هولندة وضد بريطانية وألمانية رغم ما جرته عليهم من تكاليف باهظة في المال والأرواح.
أعطى انتصار القوى المسيحية مجداً عظيماً للبابا بيوس الخامس كان في أمسّ الحاجة إليه، فقد جعلته قراراته غير الواقعية على شقاق مع أغلب ملوك زمانه بما فيهم ملك أسبانيا حليفه في العصبة المقدسة، وأعلن البابا أن أكتوبر، شهر الانتصار، شهر الحمد والشكر، ولكنه لم يعش طويلاً ليتمتع بهذا المجد فقد مات بعد المعركة بستة أشهر.
خلد هذا الانتصار أدباء وفنانو ومعماريو أوربا الكاثوليكية، وقد شارك فيها وجرح ميخويل سرفانتس مؤلف قصة دون كيشوت، وكان عمره سنة 24 سنة، وخلدها شاعر أسبانيا الأول في زماته، فرناندو دي هيريرا، المتوفى سنة 1597، في كتاب اسماه حرب قبرص ومعركة ليبانتو البحرية، وفي مسينا التي انطلق منها أسطول العصبة المقدسة تجد في ميدان ليبانتو تمثالاً للقائد دون خوان، وإذا قادتك الرحلة إلى مدينة مارينو الإيطالية الصغيرة الواقعة جنوب شرقي روما بالقرب من كاستل جوندولفو المنتجع البابوي، فستجد في ساحة المدينة نافورة العبيد الأربعة التي أنشئت ذكرى لانتصار ليبانتو، وستجد على الحائط في كنيسة القديس بارنابا درعاً تركياً من أسلاب تلك المعركة.
ويزعم بعض المؤرخين أنه لم تكن لهذه المعركة أية عواقب استراتيجية ملموسة، اللهم نتائجها المعنوية الباهرة، ويستندون في ذلك إلى أن العثمانيين أعادوا بناء الأسطول في زمن وجيز، حتى أن السفير الفرنسي في استانبول كتب إلى دولته بعد 7 أشهر من معركة ليبانتو يقول: إن قائد البحرية العثماني على أهبة الاستعدار ليبحر ثانية مع 200 سفينة كبيرة و100 أصغر، وما كنت لأصدق عظمة هذه المملكة لو أنني لم أر ذلك بأم عيني!
ويستندون كذلك إلى أن البندقية الحريصة على استعادة نشاطها التجاري في أقرب وقت تنازلت عن قبرص للسلطان العثماني في سنة 982=1573، وحتى أسبانيا أدركت أن الوجود العثماني لا يمكن دحره، فوقعت اتفاقية هدنة مع العثمانيين في سنة 988=1580، وينبغي أن نذكر أن العصبة المقدسة انحلت بعد توقيع اتفاق سنة 982 مع البندقية، وبعد أن غيب الموت البابا بيوس الخامس المحرك القوي لهذه الحرب.
ولكن الواقع يقول إن هذه كانت أول موقعة تشتبك فيها الدولة العثمانية مع أكثر من دولتين من الدول الأوربية، فكان هذا الانتصار حافزاً للدول الأوربية على التحالف والتعاون إزاء الخطر العثماني، وخرجت البندقية وقد سلم لها، إلى حين، ما بقي لها من موانئ في شرق المتوسط، وأهمها جزيرة كريت، ورغم أن العثمانيين بنوا الأسطول من جديد إلا أنهم لم يستطيعوا تعويض الخسائر البشرية من البحارة والمقاتلين المتمرسين بقتال البحر، ولذا كان علوج علي، قائد الأسطول، أكثر حنكة من أن يتعرض في معركة كبيرة للأساطيل المسيحية بجنوده المتدربين، وأضحى الأسطول العثماني أكثر تحفظاً وأقل طموحاً في معاركه ومواجهاته.    

 
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer