الجمعة، 7 مارس 2014

حدث في الثالث من جمادى الأولى



في الثالث من جمادى الأولى من عام 808 توفي في القاهرة، عن 65 سنة، كمال الدين الدَمِيري، محمد بن موسى بن عيسى، العلامة الفقيه الأديب، صاحب كتاب حياة الحيوان. والدميري نسبة إلى دميرة، وهي قرية في دلتا نيل مصر تابعة لمركز طلخا في محافظة الدقهلية، قال في تاج العروس: ودميرة كسفينة: قريتان بمصر بالسَّمنُودية، القبلية والبحرية، وقد يضاف إليهما بعض الكفور فيطلق على الكل الدمائر.
ولد الدميري في القاهرة سنة 742، وتزخر تلك الحقبة بكثير من الملقبين بالدميري من فقهاء ووزراء وقضاة، ولكن لا توجد أية دلالة على صلته أو صلة أسرته بهم، ويبدو أنه كان من أسرة عادية لم تتصف بطلب العلم، ويدل على ذلك أنه ابتدأ حياته عاملاً في الخياطة، ثم اتجه لطلب العلم وهو في العشرين أو قبلها بقليل، ولأن الأصل أن يبدأ طالب العلم في سن أبكر من ذلك، فإننا نجد كتب التراجم تشير إلى أنه تكسب بالخياطة ثم اتجه للتعلم.
وكان والده قد سماه كمالاً، وبذلك كان يكتب بخطه في كتبه، ثم تسمّى محمّداً، وكأنه رأى أن في ذلك تزكية للنفس أو تسمياً بما يليق بالله تعالى وحده.
أخذ الدميري عن مشايخ زمانه فلازم كثيراً الشيخ بهاء الدين السبكي، أحمد بن علي، المولود بالقاهرة سنة 717 والمتوفى بمكة سنة 773، وانتفع منه الدميري، وكان السبكي إلى جانب عمله قاضيا، يدرس الفقه بجامع ابن طولون ويتولى الخطابة والوعظ به، ويدرس الفقه بالمدرسة المنصورية، كما تولى قضاء العسكر وإفتاء دار العدل ودرس الشافعية بالشيخونية، وكان معروفاً بالتقوى والورع ويكثر الحج والعمرة، وقد وافته المنية في جوار بيت الله الحرام.
وأخذ عن الشيخ العلامة اللغوي المحقق، جمال الدين الإسنوي، عبد الرحيم بن الحسن، المولود سنة 704 والمتوفى سنة 772، وكان شيخ الشافعية ومفتيهم، وله اشتغال في أصول الفقه والفقه والعربية، وقد درس عليه أغلب علماء الديار المصرية، ولذا أغلب تصانيفه شروح لكتب الفقه الشافعي التي كتبها غيره، وقد وصفه أحد معاصريه فقال: أوحد زمانه، وشيخ الشافعية في أوانه. وولي الإسنوي الحسبة ووكالة بيت المال، ثم اعتزل الحسبة. ولما صنف الإسنوي كتابه التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، مدحه الدميري بأبيات، فكتب له الشيخ جمال الدين الإسنوي، وأثنى عليه ثناء كثيراً.
وأخذ كذلك علم الحديث عن الحافظ العراقي، عبد الرحيم بن الحسين، المولود سنة 725 والمتوفى سنة 806، وهو محدث الديار المصرية آنذاك وعلم من أعلام علم الحديث والرجال، وأخذ كذلك عن سراج الدين ابن الملقن، عمر بن علي، المولود سنة 723 والمتوفى سنة 804، وكان من أكابر العلماء بالحديث ولافقه وتاريخ الرجال، وسمع الدميري المسند من علاء الدين العرضي الدمشقي، علي بن أحمد، المولود سنة 677 والمتوفى سنة 764.
وأخذ عن عالم مكة وقاضيها وخطيبها كمال الدين النويري، محمد بن أحمد، المولود بمكة سنة 722 والمتوفى بها سنة 786، انتهت إليه رياسة فقهاء الشافعية بالحجاز، واستمر في القضاء 23 سنة، وانتفع الناس به وحدث بكثرة من مسموعاته. وأخذ عن جمال الدين اليافعي المكي، عبد الله بن أسعد، المولود في عدن سنة 698، والمتوفى سنة 768 بمكة المكرمة، وهو مؤرخ متصوف شافعي، له كتاب مرآة الجنان، وعبرة اليقظان، في معرفة حوادث الزمان، وأشار إليه الدميري عدة مرات في حياة الحيوان ووصفه بشيخنا الإمام العارف بالله.
ودرس الدميري الأدب واللغة على الشاعر برهان الدين القيراطي، إبراهيم بن عبد الله الطائي، المولود سنة 726 والمتوفى بمكة مجاوراً سنة 781، والذي اتسم بالتقوى والعبادة مع قوله الشعر وتدبيجه النثر، وأورد له الدميري بعض نظمه في كتابه حياة الحيوان، وأخذ الدميري العربية والنحو عن الإمام النحوي الكبير ابن عقيل، عبد الله بن عبد الرحمن، المولود سنة 694والمتوفى سنة 769، وصاحب الشرح المشهور على ألفية ابن مالك.
ولما صار الدميري في مقام أن يدرس، وأُذِنَ له بالإفتاء والتدريس، باشر بعض الدروس في مساجد القاهرة، فدرس الحديث بالخانقاه الركنية التي بناها الأمير ركن الدين بيبرس، وكان يعظ الناس في جامع الظاهر بيبرس بالحسينية، وكانت هذه غاية ما تولاه من مناصب، لأنه لم يسع لتقلد القضاء مخالفاً بذلك كثيراً من معاصريه من العلماء والفقهاء، ولم يغير زيه ليتميز بكونه من كبار العلماء، وهذا يدل على تواضع وفضل في النفس والشيم.
وقد درس على الدميري أغلب من طلب العلم في القاهرة ومكة المكرمة، وصار هو في مقام من يمنح الإذن بالإفتاء لطلبة العلم، ولا حاجة لتعدادهم أو ذكر أسمائهم، ونكتفي بالإشارة إلى واحد منهم لما في ذلك من لمحة نادرة عن شخصية الدميري، فقد درس الحديث على الدميري الشهاب الحجازي، شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري الخزرجي الشافعي، المولود بالقاهرة سنة 790، والمتوفى سنة 875، فقد واظب هذا الشاب على حضور شرح ابن ماجه والمقامات والعربية، وكان الكمال ينوه بنجابة تلميذه وقوة ذكائه وحافظته، وكان إذا فات التلميذ شيء من الدرس يقول الدميري:  نعيد للشيخ الصغير!
وكان الدميري صاحب عبادة دائمة لا يفتر لسانه عن تلاوة القرآن الكريم، وله أذكار يواظب عليها، وعنده خشوع وخشية وبكاء عند ذكر الله سبحانه، وكان كثير الصيام، يكاد يسرده مع أنه كان في صباه أكولاً نهماً، وتذكر عنه كرامات، وإخبار بأمور مغيبات وكان يخفي هذه الكرامات فإن أظهرها أحالها على غيره يسندها إلى المنامات تارة، وإلى بعض الشيوخ أخرى، وغالب الناس يعتقد أنه يقصد بذلك الستر والبعد عن الشهرة والرياء.
وكان الدميري حريصاً على الحج والعمرة والمجاورة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكانت أول زيارة له للحرمين سنة 762، وكان في كل مرة يمكث بضع سنين، وتزوج إحدى زوجاته من مكة المكرمة، وهي فاطمة بنت يحيى بن عياد الصنهاجية المكية، وهو زوجها الثالث، وولدت له عدة أولاد وكانت تقيم بمكة وهو بالقاهرة، ثم زارته سنة 783 ومكثت فيها 3 سنين ثم عادت إلى مكة المكرمة وتوفيت فيها سنة 816، وولدت له ابنتين هما أم سلمة وأم حبيبة وابناً اسمه عبد الرحمن، وتزوج ابنتيه أخوين عالمين كانت في أسرتهما إفتاء الأحناف في مكة المكرمة هما جمال الدين محمد وجلال الدين عبد الواحد ابنا إبراهيم بن أحمد المرشدي، ولأم حبيبة رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار أسباط الدميري فينا بعد من علماء مكة المرموقين.
وكان من معاصري الدميري وأصدقائه المؤرخ العلامة تقي الدين المقريزي، أحمد بن علي المولود سنة 766 والمتوفى سنة 745، وقال عنه في كتاب درر العقود الفريدة: صحبته سنين، وحضرت مجلس وعظه مراراً لإعجابي به، وأنشدني وأفادني، وكنت أحبه ويحبني في الله، لسمته وحسن هديه، وجميل طريقته، ومداومته على العبادة، لقيني مرة فقال لي: رأيت في المنام أني أقول لشخص لقد بعد عهدي بالبيت العتيق، وكثر شوقي إليه، فقال: قل لا إله إلا الله، الفتاح العليم، الرقيب المنان. فصار يكثر ذلك فحجَّ في تلك السنة، رحمه الله وإيانا ونفعنا به.
ترك الدميري لنا عدداً من المؤلفات أغلبها شروح جرياً على عادة علماء ذلك الزمان، منها النجم الوهاج لشرح المنهاج، شرح به كتاب منهاج الطالبين في فروع المذهب الشافعي للإمام النووي ، وابتدأ فيه من حيث انتهى شيخه الأسنوي، وانتهى من في سنة 786، وجاء شرحه في أربعة مجلدات، ضمنها فوائد مما استفاده من شيخه السُّبكيّ وفوائد كثيرة من قبله، خارجة عن الفقه، ويستشهد به كثير من المصنفين ممن جاؤوا بعده
وللدميري باع طويل في الأدب واللغة، اختصر كتاب الصفدي: الغيث الذي انسجم شرح لامية العجم  للطغرائي، وله كتاب في شرح المعلقات السبع، وكتاب غاية الأرب في كلام حكماء العرب، وكتاب الجوهر الفريد في علم التوحيد، وقد وصفه هو بأنه  كتاب مهم عمدة في هذا الشأن، لا يستغني عنه طالب، وهو في ثمان مجلدات ضخمة جداً.
وللدميري في فقه الشافعي أرجوزة طويلة فيها فروع غريبة وفوائد حسنة، اسمها رموز الكنوز، وله شرح على سنن ابن ماجه أسماه الديباجة في شرح سنن ابن ماجة، كتب مسودّته وبيّض بعضه، ولكنه مات قبل تحريره، ومن الطريف أن الشاعر أبو البقاء الأنصاري الطاهري، محمد بن إبراهيم، المولود سنة 748 والمتوفى سنة 830، وكان مزّاحاً قال له عابثاً: سمه بعثرة الدجاجة!
وأشهر كتبه على الإطلاق كتاب حياة الحيوان، وهو كتاب موسوعي ذكر أنواع الحيوان مرتبة على الأحرف البجدية، وذكر ما ورد حول هذا الحيوان في كتاب الحديث والأدب وغيرها، ويذكر من خصائص الحيوان وصفاته أشياء كثيرة مع استطراد من شيء إلى شيء، وتعزو بعض المصادر إلى الدميري قوله إنه جمعه من 560 كتاباً و199 ديوان شعر، وهو قول ليس موجوداً في نسخ الكتاب التي راجعتها، ويتبين فضل الدميري وسعة اطلاعه، في هذا الكتاب الذي كتبه وهو شاب، عمره 31 سنة، بعد أن انتهى من طلب العلم ودخل مرحلة التأليف والتدريس، كما يتبين أسلوبه في ذكر كل ما يتعلق بالحيوان المذكور، من حديث وفقه وتاريخ وأدب ولغة وطب وتعبير الأحلام.
وكان كتاب حياة الحيوان من الكتب التي شاعت وأقبل عليها الناس في زمانه، مثلما يقبلون اليوم على مشاهدة - لا قراءة - غرائب الطبيعة وعالم الحيوان، ولذا نسخت منه نسخ كثيرة بعضها مزين بالصور الجميلة، موجودة في مراكز المخطوطات في أنحاء العالم، واختصره بعض المصنفين وأضاف إليه آخرون، وأثار الكتاب اهتمام الكولونيل أتمارام ساداشيف جايكارJaykar ، الهندي المولود سنة 1844 والمتوفى سنة 1911، والذي كان جراحاً في الجيش البريطاني في مسقط بعُمان منذ سنة 1878 إلى قريب من وفاته، فترجم قرابة نصفه إلى الإنجليزية لطرافة موضوعه في سنتي 1906 و1908، ولعل الكتاب جعله من بعدها يهتم بالحيوان حيث قام بتعريف وتصنيف عدد من الحيوانات التي تتوطن عمان، وصار جايكار يسمي نفسه بالمسقطي.
ومن المناسب أن نستعرض شيئاً من هذا الكتاب الموسوعي، يقول الدميري في مقدمة كتابه بعد حمد الله والصلاة على رسوله:
وبعد، فهذا كتاب لم يسألني أحد تصنيفه، ولا كلفتُ القريحة تأليفه، وإنما دعاني إلى ذلك أنه وقع في بعض الدروس، التي لا مخبأ فيها لعطر بعد عروس، ذكر مالك الحزين والذيخ المنحوس، فحصل في ذلك ما يشبه حرب البسوس، ومزج الصحيح بالسقيم، ولم يفرق بين نسر وظليم، وتحككت العقرب بالأفعى، واستنت الفصال حتى القرعى، وصيروا الأروى مع النعام ترعى، وقضوا باجتماع الحوت والضب قطعاً، واتخذ كلٌ أخلاق الضبع طبعاً، ولبس جلد النمر أهل الإمامة، وتقلدها الجميع طوق الحمامة.
والقوم إخوان وشتى في الشيم ... وقيل في شأنهم: اشتدي زِيَم
وظن الكبير أنه أصدق من القطا، وأن الصعوة كالفاختة غلطاً، وصار الشيخ الأفيق كذات النحيين، والمفيد ذو التحقيق كالراجع بخفي حنين، والمقيد كالأشقر تحيراً، والطالب كالحباري تحسراً، والمستمع يقول: كل الصيد في جوف الفرا، والنقيب كصافر يكرر: أطْرِق كَرا، فقلت عند ذلك في بيته يؤتى الحكم، وبإعطاء القوس باريها تتبين الحِكم، وفي الرهان سابق الخيل يرى، وعند الصباح يحمد القوم السرى، واستخرت الله تعالى وهو الكريم المنان، في وضع كتاب في هذا الشان، وسميته حياة الحيوان، جعله الله موجباً للفوز في دار الجنان، ونفع به على ممر الأزمان، إنه الرحيم الرحمن، ورتبته على حروف المعجم، ليسهل به من الأسماء ما استعجم.
وثم نورد ما ذكره الدميري عندما تحدث عن الطاووس، مثالاً على مادة الكتاب مع اختصار صفحتين أو ثلاث، قال رحمه الله:
الطاووس: طائر معروف وتصغيره طويس، بعد حذف الزوائد، وكنيته أبو الحسن وأبو الوشي، وهو في الطير كالفرس في الدواب، عزاً وحسناً، وفي طبعه العفة وحب الزهو بنفسه والخيلاء والإعجاب بريشه وعقده لذنبه كالطاق، لاسيما إذا كانت الأنثى ناظرة إليه.
والأنثى تبيض بعد أن يمضي لها من العمر ثلاث سنين، وفي ذلك الأوان يكمل ريش الذكر ويتم لونه، وتبيض الأنثى مرة واحدة في السنة اثنتي عشرة بيضة وأقل وأكثر، ولا تبيض متتابعاً ويسفد في أيام الربيع، ويلقي ريشه في الخريف كما يلقي الشجر ورقه، فإذا بدا طلوع الأوراق في الشجر طلع ريشه، وهو كثير العبث بالأنثى، إذا حضنت، وربما كسر البيض ولهذه العلة يحضن بيضه تحت الدجاج، ولا تقوى الدجاجة على حضن أكثر من بيضتين منه، وينبغي أن تتعاهد الدجاجة بجميع ما تحتاج إليه من الأكل والشرب، مخافة أن تقوم فيفسده الهواء.
والفرخ الذي يخرج من حضن الدجاجة، يكون قليل الحسن، ناقص الخلق وناقص الجثة، ومدة حضنه ثلاثون يوماً، وفرخه يخرج من البيضة كالفروج كاسياً كاسباً، وقد أحسن الشاعر في وصفه حيث قال:
سبحان مَنْ مِنْ خلقه الطاووس ... طيرٌ على أشكاله رئيس
كأنه في نقشه عروس ... في الريش منه ركبت فلوس
تشرق في داراته شموس ... في الرأس منه شجر مغروس
كأنه بنفسج يميس ... أو هو زهر حرم يبيس
وأعجب الأمور أنه مع حسنه يتشاءم به، وكأن هذا، والله أعلم، أنه لما كان سبباً لدخول إبليس الجنة، وخروج آدم منها، وسبباً لخلو تلك الدار من آدم مدة دوام الدنيا، كرهت إقامته في الدور بسبب ذلك.
حكي أن آدم لما غرس الكرمة، جاء إبليس فذبح عليها طاوساً، فشربت دمه فلما طلعت أوراقها، ذبح عليها قرداً فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسداً فشربت دمه، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيراً فشربت دمه، فلهذا شارب الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة، وذلك أنه أول ما يشربها وتدب في أعضائه، يزهو لونه ويحسن كما يحسن الطاووس فإذا جاءت مبادي السكر لعب وصفق ورقص، كما يفعل القرد فإذا قوي سكره جاءت الصفة الأسدية، فيعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه ثم يتقعص كما يتقعص الخنزير، ويطلب النوم وتنحل عراقوته.
فائدة
طاوس بن كيسان فقيه اليمن كان اسمه ذكوان، فلقب بطاوس لأنه كان طاوس القراء والعلماء. وقيل: اسمه طاوس وكنيته أبو عبد الرحمن، كان رأساً في العلم والعمل، من سادات التابعين أدرك خمسين صحابياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع ابن عباس وأبا هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن الزبير، وروى عنه مجاهد وعمرو بن دينار وعمرو بن شعيب، ومحمد بن شهاب الزهري وآخرون.
توفي طاوس وهو ابن بضع وسبعين سنة حاجاً بمكة، قبل يوم التروية بيوم، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، وهو أمير المؤمنين، وذلك في سنة ست ومائة. وحج أربعين حجة وكان مجاب الدعوة.
الحكم
يحرم أكل لحم الطاووس لخبث لحمه، وقيل: يحل لأنه لا يأكل المستقذرات واللحوم، وعلى الوجهين يصح بيعه إما لحل أكله، وإما للتفرج على لونه. وقد تقدم في الصيد، أن أبا حنيفة قال: لا يقطع سارق الطيور لأن أصلها على الإباحة، وخالفه الشافعي ومالك وأحمد.
الأمثال
قالوا: أزهى من طاوس وأحسن من طاوس. قال الجوهري: وقولهم: أشأم من طويس، هو مخنث كان بالمدينة، قال: يا أهل المدينة توقعوا خروج الدجال ما دمت حياً بين ظهرانيكم، فإذا مت فقد أمنتم، لأني ولدت في الليلة التي مات فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وفطمت في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، وبلغت الحلم في اليوم الذي قتل فيه عمر، وتزوجت في اليوم الذي قتل فيه عثمان وولد لي في اليوم الذي قتل فيه علي.
الخواص
لحم الطاووس عسر الهضم رديء المزاج، وأجوده الحديث ينفع المعدة الحارة، وسلقه قبل طبخه بالخل، يدفع ضرره، وهو يولد كيموساً غليظاً يوافق الأمزجة الحارة. وقد كرهت الحكماء لحوم الطواويس وقالوا: إنها أغلظ لحوم جميع الطيور وأعسرها انهضاماً، ويجب أن يذبح ويبيت مثقلا ويطبخ وينضج، ويمنع منه أصحاب الترفه والرفاهية، فإنه من أغذية أصحاب الرياضة.
قال ابن زهر، في خواصه: إن الطاووس إذا رأى طعاماً مسموماً، أو شم رائحته فرح ونشر جناحيه ورقص، وبان منه السرور، ومرارته إذا سقي منها المبطون بالكنجبين والماء الحار أبرأه. ونقل عن هرمس، أن مرارته إذا شربت بخل نفعت من لدغ الهوام، لكن قال صاحب عين الخواص: قالت الحكماء، وأطهورس: إن مرارة الطاووس، إن سقي منها إنسان جن، قال وقد جربته. وقال هرمس: إن خلط دم الطاووس بالأنزروت والملح وطلي به القروح الرديئة الرطبة، التي يخاف منها الأكلة، أبرأها. وزبله، إن طلي به الثآليل قلعها، وعظامه، إذا أحرقت وسحقت وطلي بها الكَلَف أبرأته بإذن الله تعالى.
التعبير
الطاووس تدل رؤيته على التيه والعجب بالحسن والجمال لمن ملكه، وربما دلى رؤيته على النميمة والغرور والكبر والانقياد إلى الأعداء، وزوال النعم، والخروج من النعيم إلى الشقاء، ومن السعة إلى الضيق، وربما تدل رؤيته على الحلي والحلل، والتاج والأزواج الحسان والأولاد الملاح. وقال المقدمي: الطاووس في المنام، امرأة عجمية ذات مال وجمال، لكنها مشؤومة الناصية. والذكر من الطواويس ملك أعجمي، فمن رأى أنه يواخي الطواويس، فإنه يواخي ملوك العجم، وينال منهم جارية نبطية. وقال ارطاميدورس: الطواويس في الرؤيا تدل على أقوام صباح الوجوه، ضحاك السن. وقيل: الطاووس امرأة أعجمية غير مسلمة والله أعلم.
والكتاب مع ذلك مشحون بالخرافات السائدة والأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، وبالرُقى والفوائد المجربة التي لا أصل لها في شرع أو عقل، ومنها على سبيل المثال قوله: إذا دخل إنسانٌ على من يخاف شره فليقرأ قوله تعالى ﴿كهيعص و﴿حم عسق، وعدد حروف الكلمتين عشر، يعقد لكل حرف إصبعاً من أصابعه يبدأ بإبهام اليد اليمنى ويختم بإبهام اليد اليسرى، فإذا فرغ عقد جميع الأصابع، وقرأ في نفسه سورة الفيل فإذا وصل إلى قوله: ﴿ترميهم كرر لفظ ترميهم عشر مرات، يفتح في كل مرة إصبعاً من الأصابع المعقودة، فإذا فعل ذلك أمن شره، وهو عجيب مجرب.
وهنا يحتار المرء هل هذا مما صنفه الدميري أم هو من الزيادات التي طرأت على الكتاب بعده، وتقول بعض المصادر بأن المؤلف جعل كتابه نسختين كبرى وصغرى، وتتضمن الكبرى زيادات منها ما هو خارج عن خطة الكتاب مثل استعراض تاريخي من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلافة المستكفي الذي بويع سنة 845، وأنا أرجح ذلك وأعتقد أن الصغرى هي الأولى والتي يشير الدميري في آخر كتابه أنه انتهى من مسودتها سنة 773.، ذلك إنه يقول في مادة وحش: هكذا أفادنا هذه الفائدة شيخنا الحافظ العلامة زين الدين بن عبد الرحيم العراقي رحمه الله وأحسن إليه. والحافظ العراقي قد توفي سنة 806، فمعنى هذا أنه قد راجع الكتاب مرة أو مرات حتى وفاته سنة 808، ولكنه أبقى على إشارة انتهائه من المسودة في سنة 773.
ونبني على هذا أن نستبعد أن يكون الاستعراض التاريخي الذي يبلغ قرابة 100 صفحة من عمل النميري لأنه ينتهي في سنة 845، أي بعد وفاته بثلاثة عقود، وأن نرجح أن تكون كثير من الفوائد والاستطرادات التي يحفل بها الكتاب، والتي لا محل لها من الإعراب، ولا موضع لها في خطة الكتاب، من عمل المؤلف كلها أو جلها، لا من عمل النساخ، وهذا يتعارض مع ما ذكره شمس الدين السخاوي، محمد بن عبد الرحمن، المولود سنة 831 والمتوفى سنة 902، في ترجمته للدميري في كتاب الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع، فقال: وله فيه زيادات لا توجد في جميع النسخ، وأتوهم أن فيها ما هو مدخول لغيره، إن لم تكن جميعها، لما فيها من المناكير.
ولعل تبرير ما أميل إليه يكمن في أن يكون الدميري قد صنف كتابه أولاً وخرج به على الناس، فلما صار له هذا القبول والإقبال عليه، قرأه على طلبة العلم في مجالس، دخل فيها الاستطراد وصار الحديث فيها ذو شجون، أما كون هذه الزيادات خارجة عن خطة الكتاب أو لا تليق محتوياتها الخرافية بمكانة الدميري العلمية، فإنني أشير أن الاستطراد سمة من سمات الدميري في تصانيفه، فنجده في أرجوزته الفقهية يورد 14 بيتاً تحوي الأفعال المبنية للمجهول ، وهو في مؤلفاته الأخرى يورد الغرائب كذلك، ثم إنه في كتاب حياة الحيوان يعزو بعض هذه الغرائب لمشايخه، ولذا يصعب أن نقول إنها من إضافات النساخ. ويؤيد هذا كثيراً ما أورده السخاوي في كتاب النجم الساطع في ترجمة المؤرخ تقي الدين ابن فهد المكي الشافعي، محمد بن محمد، المولود سنة 787 والمتوفى بمكة سنة 871، فقد قال: وأفرد زوائد الكمال الدميري من النسخة الأخيرة بحياة الحيوان على النسخة الأولى إلى غيرها.
ومن الطريف أن الدميري في اختصاره لشرح الصفدي على لامية العجم للطغرائي يقول في خطبة الكتاب: وقد شرحها أوحد زمانه، وفريد أوانه، الشيخ صلاح الدين الصفدي، سقى الله ثراه، وجعل الجنة مأواه، شرحا تُضرب أباطُ الإبل فيما دونه، وتقف فحول الرجال عنده ولا يعدُونه، والتزم أن يذكر فيه ما سمع فوعى، وما جمع فأوعى، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من فوائده وفرائده إلاّ أظهرها، ولا نكتة بديعة من لطائف معناه إلاّ وفي ذلك الكتاب سطّرها، ولله درّه، فقد أودعه فوائد جمة، ومسائل مهمة ... غير أنه ينتقل فيه من علم إلى علم، ومن نكتة إلى نكتة، ومن غريبة إلى غريبة، وكأنه تمسك بقول القائل:
لا يُصلِح النَفسَ إذْ كانَت مُدبرةً ... إِلّا التَنَقُّلُ من حالٍ إلى حالِ
وللدميري بعض النظم على عادة الفقهاء، ومن ذلك قوله:
بمكارم الأخلاق كن متخلقاً ... ليفوح ند شذائك العطر الندي
واصدق صديقك إن صدقت صداقة ... وادفع عدوك بالتي فإذا الذي
ولما سافر إلى دمشق، شمس الدين بن العمري، محمد بن عبد الله، المولود نحو سنة 760 والمتوفى سنة 829، كتب إليه الدميري وهو بدمشق رسالة جاء فيها:
الصالحية جنة ... والصالحون بها أقاموا
فعلى الديار وأهلها ... مني التحية والسلام

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer